الانتفاضة تفتح المجال للحزب العمالي
اسماء اغبارية زحالقة
2005 / 10 / 25 - 10:12
ماذا يقول الشارع في قرار "ماحش": "من يطلب التحقيق يتوقع العدالة، ولكن دولة اسرائيل التي لا تعطيني مكان عمل ولا تعترف بحقوقي، لا يمكنها ان تعطيني العدالة"؛ الانتفاضة كسرت الوضع المشوه الذي تأسس على وهم اوسلو، وفتحت بذلك المجال لطرح فكرة الحزب العمالي، كبديل تقدمي واقعي.
اسماء اغبارية
ابدا لم تكن الفجوة بين القيادات والجماهير العربية اكبر مما بدت عليه يوم الذكرى الخامسة لانتفاضة اكتوبر 2000. خيبة امل القيادات من دائرة التحقيق مع الشرطة "ماحش" التي قررت اغلاق ملف الانتفاضة دون تقديم لوائح اتهام، تعكس حجم توقعات كانت غير واقعية. وهو ما يفسر فشل القيادات في تجنيد الجماهير للمظاهرة التي نُظّمت في اعقاب هذا القرار في 25/9 بالقدس. فالقيادات كما يبدو كانت في واد، والجماهير التي لم تتوقع من الدولة إنصافا، كانت في واد آخر.
لكتابة المقالة كان لي حديث مع ف.أ. يتيح اطلالة على المناخ الجماهيري. ف. (28 عاما) واحدة من الجماهير الغفيرة التي لم تشارك في الذكرى، استغربت اولا من مجرد طرح السؤال عن عدم المشاركة في سخنين، وردت بسؤال: "ولماذا لا تسألين عن عدم مشاركتي في رام الله فهناك قُتل ولا يزال يُقتل الآلاف، وليس 13؟ ولكن رام الله لا تحيي اية ذكرى، لان سقوط الشهداء فيها اصبح امرا طبيعيا، اما هنا فقد توهم البعض انهم مميزون لانهم مواطنون".
واضافت ف.: "ان مجرد المطالبة بالتحقيق يشير الى تناقض في المواقف: المطالبة بالتحقيق تعني انك تعتبر نفسك مواطنا، بينما انت خرجت للشارع في اكتوبر لتقول انه لا فرق بينك وبين اخوتك في فلسطين. قدمت 13 شهيدا اضافة لآلاف الشهداء الذين قدمهم اخوتك في فلسطين. وكان المفروض ان تثكل ابناءك بصمت، كما صمت هؤلاء. المطالبة بالتحقيق، ناهيك عن التعويض، جاءت لتقول اننا شيء آخر، وبذلك نكون قد ادرنا ظهرنا لاخواننا الفلسطينيين".
عن لجنة التحقيق تقول ف.: "من يطلب التحقيق يتوقع العدالة، ولكن دولة اسرائيل التي لا تعطيني مكان عمل ولا تعترف بحقوقي، لا يمكنها ان تعطيني العدالة. لا يمكن للدولة ان تنصف العرب ابدا، لان دمنا يبقى عربيا، وهي لا تفرق بين عرب 48 وعرب 49 او 67. قتل ال13 كان امرا طبيعيا، وكذلك اغلاق ملف الانتفاضة دون لوائح اتهام. الامر غير الطبيعي هو ان يتم معاقبة المذنبين. ولكن لم ولن يحدث ان يدفع يهودي ثمن قتل عربي في هذه البلاد".
كانت هذه لغة الحديث قبل اوسلو، وعادت لتكون كذلك بعد الانتفاضة. اما ما كان في السنوات السبع بين اوسلو 1993 وبين الانتفاضة 2000، فكانت فترة غشاوة القتها على العيون وعود حزب العمل بالسلام والمساواة والانتعاش الاقتصادي. من كل هذا الكلام المعسول لم يتحقق الا التفوق لاسرائيل، والذل والبطالة والفقر للعرب. فخرج العالم العربي عن بكرة ابيه، تعبيرا عن النقمة والاستياء من كل شيء: من اسرائيل وامريكا، من السلطة الفلسطينية والقيادات المحلية والانظمة العربية.
الاحساس بالخديعة كان عميقا، فالفلسطينيون مدوا يدهم للسلام، ورفعوا اغصان الزيتون، وفي اسرائيل صوتوا في شبه اجماع لحزب العمل، مرة بيرس ومرة براك الذي وعد ب"دولة للجميع" والمواطنة. ومع هذا لم يتلقوا سوى الاستهتار والاذلال، ثم القتل بدم بارد.
الانفجار جاء بحجم التوقعات والاوهام بان الصهيونية غيّرت وجهها، وان للقدس سلام آتٍ. لم تكن الهبة هبة قومية ولا اسلامية، بل كانت تعبيرا محليا لهبات شهدها العالم ترفض النظام العالمي الجديد الذي فضل الاقلية على حساب الاغلبية. لقد كانت تلك هبة عفوية بلا قيادة ولا برنامج. بل اكثر من ذلك كانت تعبيرا عن الفراغ القيادي والنضالي، ولو كان هناك نضال شعبي متواصل لما وصلت الامور للانفجار الدموي.
في سنوات اوسلو خرجت النضالات الجماهيرية من الموضة، واستبدلتها القيادات العربية بالتحالفات الاستراتيجية مع حزب العمل في البلديات والهستدروت والعمل البرلماني. وكانت النتيجة ان تحسن الوضع الاقتصادي للشريحة المتوسطة العربية، في حين تدهور وضع الاغلبية العمالية.
قبل الانفجار بقليل، دخلت موضة جديدة: تصريحات متطرفة ضد الدولة من تكسير عظام الشرطة، الى توسيع حيز المقاومة الى تغيير نشيد "هتكفا". التحريض ساهم في دفع الناس الى الشوارع، ومن غير قصد انفلتت الامور من عقالها.
مقاطعة الجماهير لانتخابات رئاسة الحكومة في شباط 2001، التي ادت لسقوط براك وصعود شارون، كانت اكبر تعبير عن الرفض الشعبي لسياسة التحالف الاستراتيجي مع حزب العمل. وبدل اجراء مراجعة للذات، طالبت القيادات العربية بلجنة تحقيق بهدف احتواء غضب الشارع وتنفيسه. وسياسيا لا تزال تصر على تحالفاتها مع حزب العمل، ودعمت اخيرا شارون في خطة الانفصال عن غزة.
وكانت النتيجة ان الجماهير العربية عادت لنفس المرحلة التي سادت الخمسينات، دون هوية، دون قيادة، دون برنامج ودون طريق. وامّحت فترة النضال التي ميزت ايام السبعينات والثمانينات، والتي بلغت ذروتها في يوم الارض عام 1976.
في تلك الفترة تمكنت القيادات وعلى رأسها الحزب الشيوعي والجبهة من توجيه الطاقات الجماهيرية لنضال شعبي تقدمي. المجزرة التي سقط فيها ستة شهداء وُظّفت لرفع هذه المطالب ولم يطالب احد بلجان تحقيق، بل وُثّقت الاحداث في "الكتاب الاسود" وتمت تربية الاجيال على الحقائق. لم يؤمن احد، لا قيادةً ولا جماهير، بان الدولة يمكن ان تنصف العرب.
الحقائق في يوم الارض وفي اكتوبر 2000 كانت واضحة، معروف القاتل والمقتول. الفارق ان الجماهير في يوم الارض لم تبحث عن الاشتباك، بل كانت لها مطالب التصدي لمصادرات الاراضي، والاهم انه كانت لها قيادة نظمتها للاضراب العام. السلطات هي التي بحثت عن الصدام والدم.
اما في انتفاضة اكتوبر فلم تكن لا قيادة ولا مطالب، وكانت الجماهير هي التي بحثت عن منفذ لتفجير غضبها الكامن، وبحثت عن الصدام عندما أغلقت شارع وادي عارة الرئيسي وشلت الدولة، فكانت كمن يخلع عن نفسه ثوبا ليس ثوبه، ثوب المواطنة. وجاء رد الدولة بالمثل. الطرفان كسرا قوانين اللعبة، وازال الرصاص الحي القناع نهائيا عن لعبة المواطنة.
الفراغ القيادي ادخل عنصرين للساحة: الاول، حزب التجمع ممثلا بالمجتمع المدني وعلى رأسه جمعية "عدالة" التي دفعت بقوة باتجاه تشكيل لجنة تحقيق رسمية، على اساس مطلب المواطنة والمساواة. والثاني، الجناح الشمالي للحركة الاسلامية بزعامة رائد صلاح، وهذا طرح بدل المواطنة شعارا آخر لا يقل عزلة عن الواقع وهو "الاقصى في خطر"، الذي يقترح الانفصال عن المواطنة والارتباط مباشرة بالعالم الآخر.
كِلا الشعاران، المواطنة والاقصى، بعيدان عن هموم الشارع الحقيقية التي تتعلق بمصادر العيش اولا وقبل اي شيء. المشترك للشعارين انهما غير قابلين للتحقيق. ومن هنا فهما يزيدان في احباط الشارع ولا يفتحان آفاقا ملموسة واقعية لتحسين اوضاعه.
حزب دعم الذي اضطر ان ينشق عن الجبهة في 1992 بسبب رفضه سياسة التحالف مع حزب العمل، اضطر للنشاط في جو من الجزر الوطني، مما اعاق التقدم في بناء الحركة الجماهيرية. وتعتبر الانتفاضة منعطفا كسر الوضع القائم الذي تأسس على التعايش والسلام الكاذب والعلاقة مع السلطة الفلسطينية الفاسدة واعتبر امريكا الطريق الوحيد للتقدم، مما منع اي مجال للنشاط الثوري.
الفترة التي سبقت الانتفاضة كانت انحرافا عن الخط الوطني الثوري. وجاءت الانتفاضة حركة تصحيحية، وإن كانت مشوهة، لوضع مشوه لا اقل. الجو الجديد اتاح لنا طرح فكرة الحزب العمالي، كبديل تقدمي واقعي يقترح اعادة رص الصفوف على الاساس الجديد الذي ابرزته الانتفاضة: الاساس الطبقي، الذي باتت تنقسم حسبه الشعوب بوضوح: عمالا ورأسماليين.
التقدم في نشاطنا النقابي البديل ترجم الى فتح فرعين جديدين في ام الفحم وكفر قرع بالاضافة للناصرة والقدس الشرقية. وتبقى المهمة الاساسية الترويج لفكرة الحزب العمالي، اي حاجة العمال بان يكون لهم حزب خاص بهم. ولا شك ان هذا يستدعي اعادة بناء ثقة الجماهير بنفسها وبقدرتها على تحقيق التغيير. لان عدم وجودها في سخنين هو اشارة الى عدم ثقتها بان النضال الجماهيري يمكن ان يؤثر، وهو الثمن الذي ندفعه جميعا، والذي يجعل المهمة اصعب ولكنها تبقى الطريق الوحيدة للخروج من المستنقع والتقدم الى الامام.