فلسفة إعادة بناء الحداثة
هشام عمر النور
2015 / 10 / 8 - 23:06
مع بدايات القرن العشرين بدأ يطغى الوعي بأزمة الحداثة وبأن مشروعها انتهى إلى نقيض ما وعد به؛ فمع منتصف القرن انتهت آمال الإنسانية في السيطرة على الطبيعة إلى تهديد الحياة نفسها، ووعد الحداثة بالتحرر إلى سيطرة منظمة وهيمنة كلية. واستجاب تياران فلسفيان لتهديد الأزمة بالقضاء على حلم الإنسانية وطموحها في الحرية والعدالة؛ تيار كان يرى أن مشروع الحداثة قد وصل إلى نهايته بإرتباط العقلانية التي يقوم عليها بالقمع والسيطرة وأنه قد حان الوقت لتجاوز هذه العقلانية وللتأسيس الفلسفي لما بعد الحداثة، وتيار آخر رأى أن مشروع الحداثة لم ينجز بعد ومع إقرار هذا التيار بأن العقلانية التي قام عليها المشروع قد أدت إلى القمع والسيطرة إلاّ أنه رأى أن هذه العقلانية لم تكن سوى واحدة من العقلانيات العديدة الممكنة ومن ثم فإن علينا إعادة بناء الحداثة على أسس فلسفية جديدة ببناء عقلانية تعددية ومركبة تحقق للإنسانية آمالها وطموحاتها. التيار الأول هو تيار ما بعد الحداثة والتيار الثاني هو تيار النظرية النقدية. وهذا المقال يحاول أن يعرض الأسس النظرية والفلسفية لمحاولة إعادة بناء الحداثة على خلفية علاقة النظرية النقدية بما بعد الحداثة. وهو يعرض هذه الأسس النظرية والفلسفية مستخلصة من نقد النظرية النقدية للحداثة في جانبين: جانب أساسها المعرفي، أي تنوير القرن الثامن عشر والذي صار عند النظرية النقدية عقلانية أداتية ولذلك فإن هذا الجانب يختص بنقد التنوير ونقد العقلانية الأداتية، ونقد شرط تحققها المتمثل في تفكير الهوية، وهذه الأخيرة تبدو السمة الأبرز في التمييز بين الحداثة وما بعدها. أما الجانب الآخر فيتعلق بنقد الحداثة من جهة أحادية عقلانيتها الأداتية ليصل إلى العقلانية التواصلية كعقلانية تعددية ومركبة. الجانب الأول يستلهم من النظرية النقدية عند هوركهايمر وأدورنو وعملهما المشترك "ديالكتيك التنوير" الذي صار أحد كلاسيكيات الفلسفة والنظرية النقدية على نحو خاص بينما الجانب الثاني يستلهم هابرماس وعمله الضخم في نظرية الفعل التواصلي.
التنوير والأسطورة: نقد التنوير كأساس معرفي للحداثة
لا يمثل التنوير فترة زمنية معينة وإنما يعني سلسلة من الإجراءات الذهنية والعملية تتمثل في نزع التفكير الأسطوري والسحري والرؤية الدينية للعالم واستبدالها بالتفكير العلمي. ونزع السحر عن العالم يعني تحديداً نزع الحيوية عن مادته وتفكيك الأساطير وإحلال المعرفة محل الوهم. وقد هدف التنوير دائماً إلى تحرير الإنسان من الخوف وتأسيس سيادته. ومع ذلك فقد كانت نتائج التنوير كارثة على الإنسانية. فمع التنوير سادت فكرة لدى الفلاسفة تقول بالتطابق بين عقل الإنسان وطبيعة الأشياء، وهي فكرة طابعها بطريركي: فالعقل الإنساني، الذي تجاوز الأسطورة، سيطر على العالم، الذي تم نزع السحر عنه. وصارت المعرفة والسلطة متطابقتان. فالإنسان يريد أن يعرف من الطبيعة ما يسمح له بالسيطرة عليها وعلى الإنسان الآخر. نتج عن ذلك، وعلى الرغم من التنوير، القضاء على أي أثر من الوعي بالذات. وهذا يعني أن النوع الوحيد من التفكير، الذي كان صلباً بدرجة تكفي لتحطيم الأسطورة، كان تفكيراً محطماً للذات. ولم تعد الحقيقة مرتبطة بالإشباع وإنما بالعمل. وصار ما هو حقيقي يتكون في الفاعلية والعمل وفي إكتشاف الموضوعات العينية التي لم تكن معروفة لتسهيل حياة الإنسان وتزويدها بما هو أفضل. بما يعني أنه يجب ألاّ يكون هنالك غموضاً، مما يعني في الحقيقة أنه ليست هنالك رغبة في الكشف عن الغموض،[1] فالعلم لم ولن يكتمل في يومٍ ما ولذلك لا بد أن يكون هنالك دائماً غموض، والرغبة المجردة في نفيه هي في الحقيقة رغبة في التغاضي عنه.
وفي الطريق من الأسطورة إلى الماكينات، فقد التفكير عنصر التأمل الذاتي، وأصبحت الميكانيكا اليوم تعوق الإنسان حتى حينما تغذيه. لقد تحول تقدم الماكينة إلى تقدم ميكانيكية السيطرة. وتضمن التأقلم مع سلطة التقدم تقدم السلطة؛ وكل زمن جديد يشهد هذا التراجع لا يشير إلى إخفاق التقدم وإنما إلى نجاحه، طبقاً للتنوير. إن لعنة التقدم الذي لا يُقاوم هي أنها أيضاً تراجع لا يُقاوم.[2]
لقد تخيل الإنسان في التنوير أنه يمكن أن يتحرر من الخوف إذا لم يعد هنالك شيئاً غير معروف. وطبقاً لذلك تحددت مسيرة تفكيك الأسطورة، أي مسيرة التنوير. فالتنوير هو الخوف الأسطوري وقد انقلب جذرياً. فمسيرة المعرفة في التنوير لم تكن غير تركيب الحيوي في غير الحيوي، فيصبح بذلك غير حي، وهو معكوس الأسطورة التي تركب غير الحيوي في الحيوي، فيصبح بذلك حياً. فالمذهب الحيوي يجعل للموضوع روحاً بينما المجتمعات الصناعية تموضع أرواح البشر. والمحايثة الخالصة للوضعية المنطقية، التي هي نتيجتها النهائية، ليست أكثر من تابو كلي. فهي تحرّم وجود شيئاً خارجها لأن محض فكرة الخارجية هي مصدر للخوف. ونتيجة لذلك فإن الإنسان يعرّف نفسه فقط كشئ، كعنصر ثابت، كنجاح أو فشل. والمحدد الأساسي له هو حفظ الذات، والإقتراب الناجح أو الفاشل من موضوعية وظيفته والنماذج القائمة لها.[3] وإذا كان التنوير قد هدف إلى تحرير الإنسان من القوى الأسطورية فهو قد استبدل هذه القوى القديمة بأسطورة جديدة هي الأشياء كما هي موجودة في ذاتها لكي يبرر طبقاً لذلك لنوع جديد من الخوف. الخوف من مغادرة الدائرة السحرية للوقائع، الخوف من المجهول، إن كراهية غير المعروف قد ماثلت بين الأنا الحديثة ومقابلها القديم. لقد وعد التنوير الذات بالسيطرة فسيطر عليها بلا رحمة وبدون شفقة. لقد أصبح التنوير كارثةً بسبب الفائض في ذات الخصائص التي جعلت منه شيئاً عظيماً.[4]
لقد أفضى التنوير إلى ذات وموضوع يفتقدان إلى الفاعلية. فالأنا المجردة التي تقوم بتسجيل الملاحظات وبالتنظيم ليس هنالك شيئاً أعلى منها وفي مقابلها غير المادة المجردة، التي هي بدورها لا تمتلك أي خصائص نوعية غير كونها أساس إمتلاك هذه الخصائص. وما يبدو أنه انتصار للعقلانية الذاتية بخضوع كل الواقع للصورية الذاتية قد تم دفع ثمنه بخضوع العقل وطاعته للمعطى المباشر. إنما تم التخلي عنه هو منهج المعرفة وإدعاؤها الكلية: فهم المعطى بما هو كذلك؛ وليس فقط تحديد العلاقات الزمانية المكانية المجردة للوقائع التي تسمح بإمساكها؛ وإنما على العكس إدراكها كسطح، كلحظات توسط مفاهيمية لا تمتلئ إلاّ كتطور لدلالتها الإنسانية والتاريخية والاجتماعية. إن وظيفة المعرفة لا تتكون في محض الفهم والتصنيف والحساب وإنما في النفي المحدد لكل مباشرة. إن صورية العلم وهي صورية عددية، والعدد هو الوسط الذي تعمل فيه، هي أكثر الصور تجريدية عن المباشرة، ولذلك فهي تربط الفكر بقوة إلى محض المباشرة. وبسبب هذه الصورية العددية ترتبط المعرفة بالتكرار، ويصبح الفكر مجرد تكرار فارغ. وهكذا يعود التنوير إلى الأسطورة. فالأشكال الأسطورية جوهرها هو الواقع كما هو: فالتكرار والمصير والسيطرة على الالم تنعكس كحقيقة خالية من الأمل. فالصورة الأسطورية المحملة بالدلالة ووضوح الصيغ العلمية يؤكدان معاً على خلود الواقع، بينما تمنع محض الوجود الخالص وبساطته المعبّر عنه كمعنى. إن الأسطورة والعلم يجعلان الجديد يبدو وكأنه محدد من قبل، وطبقاً لذلك فهو القديم نفسه. فالمعرفة، وليس الوجود، هي التي بدون أمل؛ فهي تقترب من الوجود، في رمزيها التصويري والرياضي، بوصفه مخططاً وتخلده بوصفه ذاك.[5]
وتخلى الانسان في مسيرته إلى العلم الحديث عن المعنى. والعقل الذي صيغ من قبل بالفكر والمفاهيم أصبح الآن يشير إلى المنهج فقط، غير عابئ بالمتميز نوعياً وفردياً، ولا يتمتع بالحساسية للمتعدد والعيني، ولا يحتمل التقاليد والتاريخ بقدر عدم احتماله للدين والميتافيزيقيا والفلسفة. إن سيطرة منطق الخطاب على المجال المفاهيمي تميل إلى أن تصبح سيطرة في الواقع. فالتنوير يهدف إلى تصنيف كل ما هو عيني تحت ما هو عام، وإلى استبدال المفهوم بالصيغ القانونية، والأسباب والدوافع بالقواعد والاحتمالات. وظل السبب يمثل المفهوم الفلسفي الوحيد الذي ما زال يلعب الدور الرئيسي في النقد العلمي. وأصبح العلم يشتغل بعيداً عن الجوهر والخواص النوعية والنشاط والمعاناة والوجود، التي أصبحت جزءاً من الميتافيزيقيا. وكل ما لا يتلائم مع قواعد الحساب أصبح مشكوكاً فيه بالنسبة للتنوير. وهو يعترف فقط بما يستطيع أن يحيطه بالوحدة كوجود وكواقعة: ونموذجه المثالي في ذلك النظام أو النسق الذي ينتج منه كل شئ. وهو أمر لا تختلف فيه العقلانية والتجريبية، رغم اختلافهما في فهم المبادئ إذ تظل بنية الوحدة العلمية كما هي. فبغض النظر عن الاتجاه الفلسفي للعالم الفيزيائي فإنه يتبع نفس الإجراءات في المعمل التي يتبعها غيره. هذه الوحدة العلمية تعتمد على المتعين والمستمر، أي أنها معادية للامتعين والانقطاع. وتم إختزال تعددية الأشكال إلى الوضع والترتيب، والتاريخ إلى الوقائع، والأشياء إلى المادة. وأصبح العدد قاعدة التنوير؛ والمنطق الصوري المدرسة الرئيسية لوحدة العلم، فقد وفر لمفكري التنوير المخطط الذي يجعل العالم قابلاً للحساب. وهي نفس المساواة الإسطورية بين العدد والوجود (الفيثاغورية) أو بين العدد والأفكار (في كتابات إفلاطون الأخيرة)، وهي نفس المساواة التي تسيطر في عالمنا المعاصر على تبادل البضائع وعلى مفهوم العدالة؛ فالمساواة محور العدالة كما هي محور الحساب. وهنالك تطابق حقيقي بين العدالة الحسابية والتوزيعية من جهة والحساب والنسب الهندسية من جهة أخرى. المجتمعات المعاصرة يحكمها مفهوم المساواة، فهي تجعل المختلف قابلاً للمقارنة برده إلى كميات مجردة. إن ما لا يمكن رده إلى أرقام، وفي نهاية الأمر إلى الواحد، يصبح وهماً بالنسبة إلى التنوير؛ وتستبعده الوضعية المنطقية إلى الآداب والفنون. وأنتهى الأمر إلى لوغوس في مقابل الأشياء والكائنات الحية. وأصبح التنوير شمولياً. فكل مقاومة روحية يواجهها تزيد من قوته. مما يعني أن التنوير يتعرف على ذاته حتى في الأسطورة. ومهما كانت الأساطير التي تميل لها المقاومة، فحقيقة كونها حججاً في معارضة العقلانية تجعلها تستخدم نفس الأسس التي تقوم عليها العقلانية، وبذلك تندغم فيها. وتحولت الأسطورة إلى تنوير والطبيعة إلى محض موضوعية. ودفع الإنسان ثمن تزايد سلطته على الطبيعة بالإغتراب عن ما يمارس سلطته عليه. فهو يعرفها بمقدار قدرته على استغلالها، فتحولت ممكناتها إلى غاياته. وانكشفت طبيعة الأشياء، كأساس للسيطرة عليها، وكأنها نفس الشئ دائماً. وكونت هذه الهوية وحدة الطبيعة. وسقطت تعددية الخصائص النوعية ضحية لهذه الوحدة. بينما السحر لم يكن يقوم على هذه الوحدة بل كانت تتغير أقنعته طبقاً للأرواح المختلفة. ففي السحر تمثيل محدد، أي جزئي. فالأنواع لا تستغرق الأشياء وإنما تمثلها الأخيرة جزئياً، ولذلك فهي نماذج غير محددة وغير خاصة؛ أي أن الأشياء تحافظ على اختلافاتها النوعية على الرغم من تمثيلها لنوعٍ ما. هذا الوضع انتهى مع العلم الحديث. وتحجر الموضوع العلمي. وقمعت العلاقة الوحيدة، بين الذات المانحة للمعنى والموضوع المفتقد للمعنى، العلاقات المحتشدة بين الموجودات. العلم والسحر يلتقيان في كونهما يتبعان أهدافاً ولكن السحر يحققها بالمحاكاة لا بالإغتراب عن الطبيعة، وبدون أن يتأسس على سيادة الأفكار؛ فحيثما لا يكون هنالك تمييزاً جذرياً بين الواقع والأفكار لا تجد الأخيرة تقييماً أعلى في مقابل الواقع.[6]
وكما تحولت الأسطورة إلى تنوير فإن التنوير يتحول بصورة متزايدة إلى أسطورة؛ فمبدأ المحايثة وتفسير أي حادث باعتباره مجرد تكرار، الذي يرفعه التنوير ضد الخيال الأسطوري هو نفس المبدأ اللذي تقوم عليه الأسطورة. فقانون القدر في الجزاء هو أن يعيد خلق ما كان موجوداً وبدون شفقة. ومن ثم تتم مساواة ما كان مختلفاً.[7] ويرفض هوركهايمر وأدورنو هذا التصور الساكن للتاريخ، لأنه يستبعد أي أمل في تحرر تقدمي للذات من الطفولة الأبدية للمجتمع والطبيعة معاً.[8] وللدلالة على هذا الترابط بين الأسطورة والتنوير فإن هوركهايمر وأدورنو يستخدمان الأوديسة في (ديالكتيك التنوير) ويعلق أدورنو بعد ذلك بأنه ليس هنالك عملاً أدبياً أكثر فصاحة من الأوديسة في الشهادة على هذا الترابط، مشيراً إلى أن الأوديسة نصاً جوهرياً في الحضارة الأوروبية.[9] لقد سبق هوركهايمر وأدورنو جينولوجيا فوكو، التي وضعت جنباً إلى جنب الممارسات الحديثة وما قبل الحديثة وكذلك المعارف والمؤسسات لتضئ بطريقة أفضل معالم الحاضر، وقاما بوضع الحاضر والماضي، الأسطورة والتنوير، جنباً إلى جنب بقراءتهما للأوديسة كميل طبيعي للحداثة وبقراءتهما للتطورات التاريخية الحديثة كعودة للبربرية القديمة. إن ملحمة الأوديسة الأسطورية ملحمة معقلنة، فهي ملحمة عن انتصار العقل الإنساني وقدراته على قوى الظلام الأسطورية التي تحاول منع أوديسيوس من العودة إلى دياره. ومن جهة أخرى فإن تنصيب التنوير لنفسه كآخر مطلق للأسطورة يتوّجه كأسطورة جديدة. إن "ديالكتيك التنوير" يهز الثقة بتقدم العقل وبتفوق منجزاته الثقافية الحديثة بوضع العقل والأسطورة جنباً إلى جنب. وفي مستوى آخر فإن الأوديسة، في قراءة هوركهايمر وأدورنو لها، تعكس تناقض طبيعة العقل الإنساني وسلطته. فسلطة أوديسيوس على سفينة العودة لم تكن فقط بسبب قدراته العقلية وإنما أيضاً بسبب وراثته للقب الملكي، أي أن سلطته تتأسس في الأسطورة والتنوير معاً. هذه التوأمة بين العقل والأسطورة تسم أيضاً البنيات الحديثة للهيمنة الإقتصادية والسياسية. ومع ذلك فتحت ضغط الظروف تنازل أوديسيوس كملك وتولى عجلة قيادة السفينة كخبير ممارساً سلطته بأسم عقلانية هدفها الحفاظ على الذات. وبفضل هذا الإنتصار للعقل، فإن أوديسيوس والأنظمة السياسية الحديثة توّجت أسطورة العقل.[10] لقد قرأ هوركهايمر وأدورنو الأوديسة كبورتريه ما قبل تاريخي للحداثة، تبدو فيه الملحمة كمقابل تاريخي ــــــــ فلسفي للرواية وأوديسيوس كنموذج للفرد البرجوازي.[11] لقد حقق أوديسيوس التوتر الجسدي المحسوس بين الرغبة في التحرر من قوى الطبيعة والرغبة في التراجع إلى لذة ما قبل عقلية بنفس الطريقة التي يصالح بها البرجوازي الحديث بين العمل واللذة من خلال التأمل في الفنون.[12]
نقد العقل الأداتي:
المشابهة بين الأسطورة والعقل الأداتي تقوم في عدم تمييز كل منهما في رؤيته للعالم بين مجالات نشاطه المختلفة ولذلك فإن كليهما يحتاج إلى عقلنة. إن الدعوة التي ابتدرها الرائد بيكون للسيطرة على الطبيعة بواسطة المعرفة العلمية قد تحولت في مجرى تطور التنوير إلى سيطرة على الإنسان نفسه، ولذلك أصبح من المهم تحويل المعرفة كسيطرة إلى المعرفة كتفكيك لهذه السيطرة، وهو موقف يطابق موقف نيتشة، وهو أحد القلائل بعد هيجل الذين أدركوا ديالكتيك التنوير فهو لايتعاطف مع السيطرة ويحدد غاية التنوير في جعل الأمراء ورجال الدولة يدركون بوضوح زيف كل ما يفعلونه ولكنه وفي نفس الوقت يدرك أن التنوير كان دائماً أداة في أيدي المستخدمين للدولة.[13] إن الفهم الوضعي والعقلاني للتنوير لم يكن متنوراً بدرجة كافية، لأنه صاغ عقلاً أسطورياً أكثر من كونه عقلانياً بسبب قمعه لعلاقة هذا العقل بالأسطورة والتقليد بدلاً من التفكير فيها؛ إذ أن الأسطورة نفسها نوعاً من العقلانية، طريقة لتنظيم العالم وترتيبه وتصنيفه والسيطرة عليه. إن معظم إنسانيات التنوير كانت غير إنسانية.[14] وهو ما صار إليه أمر الفهم الوضعي والعقلاني للتنوير.
لقد وعد التنوير في بداياته بالفضيلة المدنية وحب الإنسانية، إلاّ أن فلسفته لم تقمهما على أساس كافي فانتقلت إلى السلطة والتراتب كفضيلتين، بينما كانت تعدهما في السابق ضمن الأكاذيب. ولكن التنوير لا يمتلك حججاً حتى ضد هذا الانقلاب. فالحقيقة الخالصة ليست لهما ميزة تفضلها على اختلاط الأمور، ولا العقلنة على التناسب بين هذه الأمور، إذا لم يثبتا فائدة عملية في نفسيهما. ومع تكون العقل إلى الحد الذي تصبح فيه وظيفته المثلى هي وظيفة الرمز للعمليات المحايدة، فإن النظرية نفسها تصبح مفهوماً لا يمكن إدراكه، والتفكير يصبح له معنى فقط حينما يتم الاستغناء عن المعنى. وبمجرد اتمام تقييد التنوير ـــــــــــــ الذي يصارع من أجل إضعاف أي نظام يتحول إلى نظام قمعي ــــــــــ بنمط الانتاج السائد فإنه يكون قد ألغى نفسه.[15] إن من يهتم بالتنظيم الإنساني للعالم لا يمكن أن ينظر إلى سلطة أعلى. ولذلك فإن التساؤل حول ما يجب فعله بالسلطة في المجتمعات التي إدعت مثل هذا التنظيم يفترض الوجود المستمر لما يجب أن يزول: سلطة استخدام قوة عمل الآخرين. وإذا كان المجتمع في المستقبل سيعمل من خلال إتفاق حر وليس من خلال السلطة المباشرة أو غير المباشرة، فإن نتيجة هذا الإتفاق لا يمكن التنبؤ بها نظرياً.[16] ولذلك فإن استمرار وجود السلطة في المجتمعات التي إدعت مثل هذا التنظيم الإنساني ينفي طابعها الإنساني وينتقل بها إلى التراتب والقسر، أي إلى نقيض مشروعها ومشروع التنوير.
إن انتصار المنهج العلمي وإمتداده وسيطرته على كل مجالات الحياة أدّى إلى انهيار قيم التحضر بسبب الاتساع غير المسبوق للبربرية. ومن ثم وكنتيجة للكشف عن بنية العقل الصوري كبنية للسيطرة تم التشكيك جذرياً في قيمة العلم والمنطق معاً وبذلك اصبح مفهوماً المنطق الذي تمت به التوأمة بين التنوير والأسطورة.[17] وهو ما انتهى إلى إثبات أن السيطرة موجودة حتى في ما يبدو أنه أشكال منهجية محايدة من العقلانية الحديثة، وأن السيطرة القديمة المحضة هي أيضاً شكل من أشكال العقلانية. هذه القراءة تتيح القول بأن العقلانية مشتبكة بطريقة أو أخرى بالسيطرة الاجتماعية والسيطرة على الطبيعة، وأن العقل يجب ألاّ يكون كذلك. مما يقود إلى إخفاء السيطرة جزئياً، ومع ذلك فإن هذا التشابك لا يجعلنا فقط قادرين على تخيل إمكان التحرر من هذه السيطرة، وإنما يجعلها ممكنة. إن أيّ تمثيل للسيطرة يصفها كعملية لا عقلانية خالصة إنما يعبّر عن عقلانية مشوشة. فليست هنالك سيطرة لا تتحقق بواسطة عقلانية ما. ولذلك فإن السيطرة الخالصة لا يمكن تعريفها؛ وحتى السيطرة، التي نقر باشتباكها بالعقل، هي أيضاً، لا يمكن عقلها كلياً طالما أنه ليس هنالك عقلانية خالية من السيطرة.[18] وإذا كانت فلسفة التنوير تدعو إلى استخدام العقل في كل شئ، فإن الدعوة هذه المرة إلى استخدام العقل في مجال جديد هو نقد العقل نفسه لأنه قد تم استخدامه كبنية اجتماعية للسيطرة والقمع.[19]
الكشف عن الجانب المظلم من الحداثة بمتابعة نتائج التنوير بدلاً عن محاولة إلغاء هذا الجانب بالاعتماد على أنه لا ينسجم مع المشروع يؤدي إلى التسليم بأن العقل الصوري ليس أكثر إقتراناً بالأخلاق من اللاأخلاق؛ وإنكار ذلك يؤدي إلى حماية الوحدة التي لا فكاك منها بين العقل والجريمة، بين المجتمع المدني والسيطرة. إن عدم قدرة العقل على استخلاص أية حجة جوهرية ضد الجريمة يقتل الكراهية التي يشعر بها التقدميون تجاه نيتشة والمركيز دي صاد. إن تعلق العقل بالسلطة يكون بقدر تعلق تحقق الفعل بها، وطالما أن التنوير لا يأخذ في الحسبان هوية المستخدم للعقل، فإن هذا الارتباط يكشف عن الأهداف المادية كسلطة للطبيعة على العقل، كتآكل للقواعد التي يضعها العقل لنفسه، فالعقل وبفضل صوريته يكون في خدمة أية مصلحة طبيعية. ويصبح التفكير وسطاً عضوياً خالصاً وبسيطاً، ويعود إلى الطبيعة. ولكن بالنسبة للحكام، يصبح الإنسان مادة، شأنه في ذلك شأن الطبيعة ككل، مادة للمجتمع. حتى هذا الضعف أمام الطبيعة صار أيديولوجيا للمسيطرين على المجتمع تطور سيطرتهم الاجتماعية، فبدعوى المخاطر التي يواجهونها يتم تعزيز مكانتهم وتعظيم أرباحهم. وهو ما أكده الإقتصاد البرجوازي فيما بعد فيما يسميه بمفهوم المخاطرة، فقد جعل من المخاطرة برأس المال والتي تتضمن احتمال الفشل مبرراً أخلاقياً للربح.[20]
إن خطاب التنوير للتحرر يخفي نقيضه، ولا يختلف الأمر إذا ما كان هذا الخطاب يرتبط بالخطاب شبه العلمي للعلاج السيكولوجي أو الجسدي أو الإجتماعي. إن العقل لا يكشف فقط عن جوانب من أنفسنا والعالم من حولنا ولكنه أيضاً يحجبنا عمن نكون وعما نفعله، فهو يستعبد بقدر ما يحرر ويزودنا بالسيطرة بقدر ما يسيطر علينا. وبقدر ما يقيم الكلام العقلاني التواصل إلاّ أنه يشكل حاجزاً أمام هذا التواصل. لقد انجزت كفاءة العلم الحديث ووظيفيته وتقدمه ــــــــ الطبيعي والاجتماعي معاً ـــــــــ وضوحاً وشفافية في الوصف أدّت إلى استبعاد أو إسكات عناصر التجربة المختلفة والمتعددة والمتنوعة والتي لا تنسجم مع مخططها التفسيري البسيط. التنوير يعد بالحرية من قوى الطبيعة ومع ذلك يستعبدنا لطبيعة ثانية (في شكل الضرورة الاقتصادية والتقنية والبيروقراطية)؛ وهو يمنحنا القوة لتشكيل عالمنا وهوياتنا ومع ذلك يكشف عن عجزنا وجهلنا. والجهاز الاقتصادي وفّر للإنسان ما لم يحصل عليه من قبل ولكن الإنسان إختفى أمام هذا الجهاز الذي يخدمه. لقد جلب التنوير وبطريقة متناقضة التحرر والاستعباد، الحرية والقيود، الشفافية الواعية بذاتها والجهل المعتم بما نفعله في أنفسنا وفي العالم وفي الآخرين.[21] إن السيطرة مرض أصاب العقل بسبب أنه تأسس في التنوير على رغبة الإنسان في السيطرة على الطبيعة، وأن شفاءه من هذا المرض يعتمد على رؤية طبيعة هذه الرغبة لا على معالجة أعراضها.[22] وهذا لا يعني رفض معايير العقل بما هو كذلك. فنقد العقل هو نقد ذاتي، يظل العقل فيه وفياً لنفسه:[23] "فإذا كنا نعني بالتقدم الذهني والتنوير تحرير الإنسان من الخرافة والإعتقاد في القوى الشريرة، في الجن والشيطان، وفي القدر الأعمى ــــــــــ بإختصار، تحرير الإنسان من الخوف ـــــــــــــ فإن إنكار ما يعرف حالياً بالعقل هو أعظم خدمة يمكن أن يؤديها العقل."[24]
ويضفي التنوير هذا الطابع المتناقض للعقل على المعرفة نفسها. فإذا كان جوهر التنوير هو النضج ــــــــــ وفقاً لكانط ـــــــــــ وما يعنيه من استقلال لعقل الفرد وتفكيره واستخدامهما دون الاعتماد على أي شخص آخر، فإن الأكاذيب يمكن أن تصير حقيقة من خلال هذه القواعد الذاتية، وبذلك يغدو العقل عقلاً ذاتياً. ولكن ولكي يدرأ الخوف من الأكاذيب فإن التنوير، بل وأي شكل من أشكال الحقيقة، يصبح صنماً، أي متعالياً؛ مما يعني ــــــــــ وعلى حد قول نيتشة ـــــــــ أن متنوري هذا العصر الحديث، المعاديين للميتافيزيقيا، الذين لا إله لهم، ما زالوا يأخذون نارهم من الشعلة التي يوقدها إيمان يعيش منذ آلاف السنين ـــــــــــ الإعتقاد المسيحي (والذي هو اعتقاد أفلاطون أيضاً) بأن الإله هو الحقيقة وأن الحقيقة إلهية. ومن ثم فإن العلم يخضع أيضاً للنقد الميتافيزيقي. فإنكار الإله يحتوي على تناقض غير قابل للحل، تناقض يلغي المعرفة نفسها.[25] وهكذا تغدو المعرفة في التنوير ملتبسة بنقيضها فهي من جهة ترفض الميتافيزيقيا والتعالي ولكنها ومن جهة أخرى لا تستطيع أن تربط الحقيقة بالعقل الذاتي فيتجلى احتمال تحولها إلى إكذوبة.
إن تناقض عقل التنوير، الذي أصبح بيناً الآن، لا يمكن أن يكشف عنه العقل نفسه إلاّ إذا توفرت للعقل القدرة على التأمل الذاتي التي تمكّنه من النقد الذاتي. هذه القدرة يتوفر عليها العقل بسبب التناقض الحاد بين العقل والطبيعة، وبسبب أن فكرة الحقيقة ما زالت قابلة للإدراك في هذه المرحلة من التغريب الكامل. وهي قدرة تصبح ممكنة بتحقيق سمات الفاعلية والإنتاجية والتخلي عن فكرة المصير وعدم القابلية للتغيير والضرورة التي تستخدم كحجة لإنتاج المعاناة. وبذلك يمكن للعقل أن يتعرف على معقوليته من خلال تأمله في العالم المعتل كما انتجه ويعيد انتاجه الإنسان؛ وفي هذا النقد الذاتي سيبقى العقل وفياً لذاته بالحفاظ على مبدأ الحقيقة.[26] ولكنها حقيقة لا تنتمي إلى العقل الذاتي، وبالتالي ينفتح إمكان تحولها إلى أكذوبة، ولكنها أيضاً ليست حقيقة متعالية أو موضوعية، وبالتالي تسلب العقل القواعد التي تجعل منه عقلاً. الحقيقة هذه المرة حقيقة تذاتية intersubjective تنتمي إلى ما يتكون بين الناس في نشاطهم ومعارفهم.
إن الفشل في إعادة بناء العقل وفي تأسيس نقد المجتمع، أدى إلى الوقوع في تناقض لا مفر منه؛ إما تفسير التصالح الكلي كوحدة للمتماثل وغير المتماثل في الطبيعة والروح (كما فعل هيجل) أو وضع نظرية للمحاكاة للإحاطة بأصل العقل الأداتي من خلال قدرته على المحاكاة، ومن ثم هزيمة الغرض من النقد.[27] لقد فشلت محاولات نقد الحداثة الأولى في التعرف على أي شكل من أشكال الخطاب غير خطاب العقل الأداتي. وأفضل دليل على هذا الفشل هو أن هذه المحاولات لم تستطع الخروج من خطاب العقل الأداتي حين أرادت أن تطرح بديلاً له، فكلما فعلته هو أن تميز بين العقل الذاتي والعقل الموضوعي ضمن ذات الخطاب. فالعقل الذاتي هو الذي يعنى بالوسائل، وهو السائد في الثقافة الغربية، بينما العقل الموضوعي، أي العقل البديل، هو الذي يعنى بالغايات.[28] وفشلت هذه المحاولات في التعرف على الممارسة الخطابية التي تكمن فيما بعد العقل الأداتي، وأعني بذلك الممارسة اللغوية التي تحمل الإمكان التواصلي.[29] وتعود أحد أسباب هذا الفشل إلى ما يسميه هابرماس بالتناقض الأدائي Performative contradiction إذ أن العقل لا يمكن أن يتم نقده في كليته بدون أن تكون هناك فكرة ما عن العقل تفلت من هذه الأداتية الكلية.[30]
نقد تفكير الهوية أو الديالكتيك السلبي:
يفترض العقل الأداتي نموذج فلسفة الذات التي تقوم على العلاقة بين الذات والموضوع وهي علاقة لا يمكن أن تنشأ بدون افتراض هوية لكل واحد من طرفيها. وافتراض الهوية وحضورها الميتافيزيقي في مشروع الحداثة أحد أهم الأسباب لسيادة العقلانية الأداتية وبعدها الأحادي في المعرفة والوجود، ومن ثم سيادة السيطرة، وغلبة الأحادية على التعددية، والتماثل على الإختلاف، والمحافظة على التغيير. ولذلك تتطلب فلسفة إعادة بناء الحداثة في أحد أهم جوانبها نقد تفكير الهوية، وهو ما يعرف عند أدورنو بالديالكتيك السلبي. الهوية أحد أهم وأبرز السمات التي يقوم عليها مشروع الحداثة الكلاسيكي ولذلك نستطيع القول بأن الطابع الأساسي لما بعد الحداثة طابع يمتاز من الهوية بالاختلاف، وهما معاً صارا عنوانين للحداثة وما بعدها بحيث أصبحت أية مقابلة بين الحداثة وما بعدها هي في حقيقة الأمر مقابلة بين الهوية والاختلاف.
الهوية هي تطابق الشئ ـــــــ في ـــــــــ ذاته مع مفهومه، وهي أمر بعيد المنال ومستحيل، ولكن هذا لا يعني أنه يجب الإستغناء عن تفكير الهوية لأنه وببساطة لا يمكن التفكير بدون تحديد الهوية. فكل تعريف هو تحديد للهوية. وما نستطيع فعله هو أن ننظر من خلال مبدأ الهوية، أن نتجاوزه بالنقد، وهذا هو بالضبط ما يشكل الديالكتيك السلبي، وهو يعني أن نفكر تفكير اللاهوية. فاللاهوية هي الغاية السرية لتحديد الهوية. إن كل تعريف يقترب من موضوعه بإعتباره غير متماثل، وحين يضع علامته عليه، يسعى في حقيقة الأمر لأن يحصل على علامة من موضوعه. والخطأ الأساسي الذي يقع فيه التفكير التقليدي هو أنه يجعل من الهوية هدفاً له. واللاهوية تتضمن الهوية؛ فكون أن الشئ غير متماثل مع مفهومه إنما هو شوق المفهوم للتماثل مع الشئ. إن التفكير الديالكتيكي يريد أن يقول ما هو الشئ بينما تفكير الهوية يريد أن يصنف الشئ أو أن يحدد الفئة التي هو نموذج لها أو ممثل ـ ومن ثم فإن تفكير الهوية يريد أن يحدد ما هو ليس بذاته. ولذلك نجد أن الديالكتيك هو تجربة الفكر المكررة لعدم قدرته على تحديد هوية اللاهوية. هذه التجربة لم تصبح ممكنة بفضل هوية الهوية واللاهوية ـ كما هو الأمر عند هيجل ـ وإنما صارت ممكنة بفضل لا هوية الهوية واللاهوية، أي بسبب عدم تماثل الهوية واللاهوية. إن التفكير الديالكتيكي يعتمد على عنصر غير ديالكتيكي لكي يظل ديالكتيكياً.[31] ويترتب على ذلك أن الرابطة التي نشاهدها في أية قضية مباشرة، والتي تتضمن المطابقة بين الموضوع والمحمول، وهو أمر قد يكون صحيحاً، لا يمكن أن تكون حقيقية على نحو كلي لأن صحتها تعتمد على استبعاد الخواص الأخرى للموضوع. إن تفكير الهوية يسعى لمعرفة موضوعه عن طريق حاصل جمع تصنيفاته الصحيحة. ومن ذلك يتضح أن ما يبدو مباشراً أو مستقلاً على نحو كلي إنما يتحقق في الواقع بالتوسط لأنه يعتمد في هويته على عنصر مختلف منه، به تتحقق هذه الهوية. إن أية علاقة للمفهوم مع الموضوع غير متحققة تاريخياً لن يكون لها معنى كفكرة.[32] وهو ما لخصه هيجل في أنه ما من محاولة للإشارة إلى العيني المحسوس يمكن أن تحرر نفسها بالكامل من المقولات الكلية. مما يعني أن هيجل قد أنصف ما لا يمكن رده إلى الهوية الصورية بكشفه عن اعتماد أية هوية على عنصر لا ينتمي إليها.[33] وهكذا أصبح تحديد الهوية شرطاً لإمكان الحياة التاريخية الطبيعية ولحفظ الذات الانسانية.[34]
إن تفكير الهوية ليس مجرد تفكير خالص في ذاته طالما أن التفكير يتضمن علاقة محددة مع سياقه الاجتماعي ومن ثم يتضمن شيئاً أكثر من أفكاره. إن تفكير الهوية يعبر عن إهتمام خاص بالسيطرة، وهو إهتمام يشاركه فيه التنوير بسبب إطاره الصوري ولكنه وفي نفس الوقت يعارضه بسبب البرنامج الذي يسعى التنوير لتحقيقه. إن السيطرة على الطبيعة الداخلية والخارجية التي تؤسس للعقل الذاتي، تؤسس أيضاً لهوية المفهوم والشئ، لأنه وبدون هذه الهوية لا يمكن أن توجد السيطرة والقوة الضروريتان للذاتية. إن العقل الذاتي وتفكير الهوية ينشآن ويتواجدان مع نشأة ووجود الكائن الإنساني. ولكن هذا لا يعني أن يتم نسبة السيطرة وتفكير الهوية إلى أسس أنثربولوجية قائمة على إنتاج النوع لنفسه في التاريخ من خلال العمل. إننا نستطيع أن نتتبع تاريخ السيطرة من بدايات النوع الإنساني إلى وقتنا الراهن دون أن يعني هذا أن للسيطرة أساساً أنثربولوجياً أو أنه لا يمكن إزالة الأشكال المتطرفة منها وإقتصارها على ما هو ضروري اجتماعياً، إذا سلمنا بأن لها أساس أنثربولوجي. لقد بدأت السيطرة مع إنقسام العمل إلى يدوي وذهني وخضوع الأول للثاني.[35] وقد تبدى هذا في سيطرة الروح وتبرير امتيازها بالقول بأنها مبدأ أول وأصلي وببذل الجهد لمنع طرح التساؤلات حول هذا القول.[36]
إن تفكير الهوية وبتعبيره عن التساوي بين المفهوم ومفهوم مادة ـــــــــ الموضوع يصبح وعياً تصنيفياً يضع العيني تحت الكلي، ويمسك بواقعة المباشرة مستقلةً عما يمكن أن يحدث خلال تحققها بالفكر المفاهيمي. وتعبّر صورية الرياضيات عن هذا النوع من التفكير بطريقة تجريدية، وتشمل من خلال العلم كل نشاط التفكير الإنساني بما في ذلك الأيديولوجيا الوضعية في الحياة اليومية. وتعتقد المعرفة أنها من خلال مفهومها تستطيع إخضاع الوجود لنفسه ومن ثم تسيطر عليه من أجل نفسه، ولكنها كلما تفعل ذلك كلما تصبح أكثر عمى عن العملية التي يتحقق بها هذا الوجود لوعي التنوير نفسه. ومن ثم فإن مثل هذه المعرفة تستسلم وهي عمياء للطريقة التي تبدو بها الأشياء، وتصير هويتها في المباشرة، مما ينكر أية إمكانية لتغيير الترتيبات الاجتماعية والسيطرة التي انتجت هذه المعرفة.[37] وتصير بذلك مادية دوغمائية لا تخلو من ميتافيزيقيا رغم إدعائها نقيض ذلك. ففي إدعاء المباشرة أو النفاذ إلى الترانسندنتالي المعطى نجد أنفسنا مدعوون للاعتقاد بفاعلية في بعض المعلومات أو في إطار للمعلومات لا يمكن مساءلتها. كما نجد أنفسنا نفكر بطريقة خاطئة في معرفتنا بهذه المعطيات كمعرفة سلبية خالصة، فيتوقف بحثنا ببساطة عند هذه المعطيات. وهذا أمر يدعو إلى إبراز إلتقاء الميتافيزيقيا مع المادية بدلاً عن محاولة التغلب عليها. إن مفهوم الوقائع الخالصة الذي تتبناه الوضعية يمثل النقطة التي تقف عندها النظرية من التفكير. ليس هنالك وقائع خالصة؛ ليس هنالك وقائع يمكن تمثلها بدون توسط المفاهيم. ومع ذلك فإن هذا ليس سبباً لاعفاء التفكير عن الحاجة الدائمة للتصادم مع المتعين التاريخي والاجتماعي.[38]
تاريخ الفكر تاريخ ملتبس فهو تاريخ يتزايد فيه الشك بشأن أية مزاعم بالنفاذ إلى ما يقع خارج الفكر، ومن ثم يصف أي فكر يعتمد على هذه المزاعم بالشاعرية والخيال. وبذلك تحول الفكر نفسه إلى "سياق محايثة خالصة"، جوانية خالصة، لم يبق شيئاً خارجها. وتحول التنوير، عن طريق عملية العقلنة الجذرية هذه، عائداً إلى التفكير الأسطوري. وليتحاشى هذا التفكير تهمة الذاتية فقد حدد مهمته بنسخ ما هو موجود، وحصر نفسه في الوقائع. ولكن الشكية التي نشأت كرد فعل مشروط بالتنوير قادته عملياً إلى الزعم بأن أي موضوع هو في الواقع مجرد تخيل للذات. إن القول بأنه لا يوجد شيئاً يمكن أن يقف خارج الفكر حوّل العالم إلى قضية تحليلية ضخمة، ومن ثم أصبح الفكر غير قادر على فهم ما يعتمد عليه، وغير قادر على تخيل أنه كلياً غير كافي بذاته.[39] والأهم من ذلك أن المظهر الغريب والعدائي للأشياء والآخرين ـــــــــ آخر الذاتية غير المتماثل ــــــــــ يجب أن يتحول إلى متماثل إذا كانت الذات يجب أن تسيطر على نفسها. ويعمل العقل الأداتي على تنظيم الأنا من خلال ضبط عقلاني أداتي مطلوب للسيطرة على الآخر. إن تقدم العقل الأداتي الذي يعمل على بقاء الذات يجب أن يعامل الآخر وغير المتماثل إما بتحويله إلى متماثل وعقلاني، وبالتالي مشابهاً لذاته، أو بتركه كما هو غريباً وعدائياً ولا عقلانياً، وبالتالي مقموعاً كلا وجود: إن أي شئ يجب أن يخضع لعقل ذاتي ومحدد للهوية. وهذا يعني أن هناك تضحية من الذاتية من أجل الذاتية: إن النساء والرجال يدفعون لأجل سلطتهم المتزايدة مزيداً من القمع الاجتماعي والنفسي.[40] إن شعار فكر التنوير القائل بأن "لا شئ يبقى خارج الفكر"، أي أن الفكر لا يمكن أن يحده شئ، يصبح عند تطبيقه على "مجتمع التبادل" أنه ليست هناك قيمة يمكن أن تقاوم معادلتها ومساواتها بقيمة تبادلية. ومن ثم لا يبق شيئاً لا يصير جزءاً من مجتمع التبادل. وتماماً مثلما تحوّل الفكر إلى جوانية خالصة تعجز عن فهم ما تعتمد عليه، كذلك يصير المجتمع فيعجز عن فهم ما يعتمد عليه. فيصبح المجتمع مفهوماً وغير مفهوم. ولذلك فإن على علم الاجتماع ألاّ يتبنى لا الفرضية القائلة بأن المجتمع مفهوم ولا الفرضية القائلة بأن المجتمع غير قابل للفهم فكلاهما دوغمائي بذات القدر.[41]
ومن ثم فإن هنالك ضرورة لصياغة التجربة بحيث تصبح مادية ومفهومية معاً، وهو الحل الذي صاغه كانط ولكن تكتنفه بعض المشكلات بسبب تمييز كانط بين "التفكير" و"المعرفة". فالشكل الخالص للحدس بدون أي محتوى ليس فقط لا يمكن معرفته وإنما أيضاً لا يمكن التفكير فيه. كما أن التفكير الذي هو ليس تفكيراً في أي شئ لن يكون فقط فارغاً، كما يقول كانط، أي منحصراً في الاستخدام المنطقي دون التركيبي، وإنما أيضاً أعمى، أي ليس تفكيراً على الأطلاق، أي يفتقد للاستخدام المنطقي والتركيبي معاً. وإذا كانت المقولات التي حددها كانط هي شروط لامكانية التجربة فإن العكس بذات القدر يكون صحيحاً: فالمقولات نفسها أصبحت ممكنة بالتجربة التي من المفروض أن توفر المقولات شروط إمكانها.[42] إن الفصل بين مجال الفكر ومجال الحواس أضر بهما الأثنين معاً. فحصر التفكير في التنظيم والإدارة، التي يمارسها الحكام من القياصرة إلى أكثر المديرين تواضعاً اليوم، يتضمن بالضرورة تقييد الأمور العظيمة طالما أن المسألة لم تعد مجرد استغلال الأمور الصغيرة. وأدى هذا الفصل إلى أن يعيش النضج الفائق للمجتمع إلى الجانب عدم النضج الذي يتصف به الذين تتم السيطرة عليهم. فكلما أصبح الجهاز العلمي والإقتصادي والاجتماعي، الذي تحقق خدمته لنظام الإنتاج انسجاماً وتوافقاً للجسد، أكثر تعقيداً ودقة، كلما أصبحت التجارب التي يوفرها أكثر فقراً.[43] صحيح، أننا لا يمكن أن نعيش بدون تمايزات، ومع ذلك فإن "الحياة لا تعيش" عندما تصبح هذه التمايزات أقطاب استبعادية وتراتبيات منظمة.[44] وطبقاً لذلك فإن هذه المقولات لا يمكن أن تكون ثابتة، بل بالضرورة يجب أن تتغير بتغير التجربة. إن المفاهيم الخالصة للفهم لا يمكن أن توفر بنفسها معرفة بالموضوعات. هذا الامتناع عن الميتافيزيقيا هو نفسه تمت صياغته صياغة دوغمائية بسبب الادعاء بلا تاريخية شروط إمكان التجربة.[45] وكل ما سبق يمثل الحقيقي واللا حقيقي في تجربة كانط. فهي إشارة حقيقية للإفراغ التاريخي الحقيقي لتجربتنا.[46] إن التفكير النقدي في فلسفة كانط النقدية على هذا النحو ليس تراجعاً عن التفكير النقدي، فهو لا ينتقد العقل الخالص فقط وإنما ينتقد فكرة "المفهوم الخالص" و"الحدس الخالص".[47] إن التفكير غير الخالص هو الذي يحرر التفكير النقدي من قيود المنهج الترانسندنتالي.[48] بحيث يمكن إعادة صياغة التجربة لتصبح مادية ومفهومية معاً، وهما عنصران لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض.[49]
الديالكتيك لا يمكن أن يصير منهجاً أو صورة للعالم.[50] فالديالكتيك ليس تقدماً ببساطة، وإنما عمل للوراء أيضاً للكشف عن الافتراضات التي يحتويها ما يبدو أنه مباشر ويقيني. وهو ما استخدمه هيجل للكشف عن أن ما يبدو منطقاً خالصاً وتحديدات حسية هو في الواقع مرتبط بنماذج المعرفة السياسية والاجتماعية والثقافية. إن النظر إلى أكثر القضايا أولية يتطلب بالضرورة النظر إلى شروط إمكانها، وهي شروط ليست ترانسندنتالية فقط وإنما أيضاً تجريبية ـــــــــ تاريخية. ولا يكمن التفكير الديالكتيكي في تطهير التفكير من تحديد الهوية الخاطئ وإنما يكمن في التعرف على عدم كفاية أي تحديد هوية. أما المعنى الثاني فيحدد الكيفية التي يعمل بها الديالكتيك، الذي هو ليس منهجاً أو صورة للعالم، بدون الإدعاء بأن الفكر والوجود يتطابقان في نهاية الأمر. أي أن يعمل من خلال النقد المحايث،[51] الذي يتحاشى النقد الكلي بحصر نفسه في تناقضات موضوعه دون تجاوزها إلى أي شروط أخرى، هذه التناقضات التي يكشف عنها النقد المحايث هي وحدها القادرة على الإشارة لما يتجاوز الموضوع إلى ما بعده. إن تحاشي الكلية والتركيب الهيجليان أدى إلى إعادة الإعتبار للعيني والمفرد، وإلى النقد الجذري للكلي والمفهوم العام.[52]
إن الديالكتيك لا يحتاج إلى الخوف من تهمة الهوس بفكرة ثابتة عن الصراع الموضوعي فيما هو ثابت أصلاً؛ إذ أنه ليس هنالك شيئاً ثابتاً في كلٍّ غير ثابت. ومفاهيم الأزمة في الفلسفة علامة على مسائل غير محلولة موضوعياً، وليس معرفياً فقط.[53] ولذلك فإن الغياب المقصود للمعيارية والوضوح هو محاولة لعدم صياغة المستقبل دوغمائياً والرغبة في إيجاد العالم الجديد من خلال نقد العالم القديم. وأن مهمة الفكر هي المساهمة في تحقيق الوعي الذاتي في الصراع، أي أن يوضح التفكير نفسه لنفسه، أن يوضح معنى صراعه ورغباته، وفي قيامه بذلك سيتحقق أن العالم يحلم بشئ يمكن أن يكتسبه فقط إذا أصبح واعياً به.[54] هذا التفكير النقدي يتناقض داخلياً مع السلطة القامعة التي ترافق تفكير الهوية لأنه يبحث عن الوعي بما يخضع لسيطرة أخرى غير سيطرته هو، أكثر من بحثه عما يقمعه بإدعاء الهوية معه، أي المعرفة.[55] إن علينا أن نعي ما هو مقموع في الموضوع ولكن دون أن نعرفه. إن الديالكتيك السلبي لا يهدف إلى حل تناقضات المنطق وإنما يهدف إلى مصالحة التضاد في الواقع. هذه الغاية لا يمكن خدمتها بفرض عدم تناقض صوري أو وهمي، وإنما تتم خدمتها بالكشف عن الكيفية التي يعتمد بها التناقض المنطقي على تجربة التضاد وكيفية تواجده فيها. إن التناقض المنطقي يشهد على التضاد التاريخي ـــــــ الطبيعي. وأية محاولة لتجاوز هذا المظهر الشكي باتخاذ موقف ثابت ستكون محاولة أيديولوجية تخفي هذا التضاد الحقيقي بدلاً من أن تكشف عنه.[56]
لقد صارت الكلية ـــــــ التي ترتبط بها الهوية ــــــــ زائفة لا بمعنى خطأ التشديد الفلسفي على الكلية وإنما بمعنى أن هذا التشديد لا ينفصل عن التحول الذاتي المتزايد للمجتمع إلى الكلية. وبهذا المعنى فإن الكلية يمكن أن تكون زائفة ولكنها على أية حال واقعية. ووفقاً لذلك يجب أن نفهم تشديد هيجل الفلسفي على الكلية فهماً تاريخياً باعتباره خلاصة لنقد التنوير للمصالح الاجتماعية الخاصة. ولكن لحظة الحقيقة في هذا التشديد تم تزييفها فيما بعد حين صارت الكلية انتاجاً ذاتياً مطلقاً. هذا النقد للكلية يطرح نفس السؤال الذي طرحه نقد الهوية: كيف يكون الديالكتيك ممكناً بدون افتراض هوية الفكر والوجود في نهاية الأمر؟ إن الديالكتيك يكون ممكناً بالنفي المحدد determinate negation ، فالنفي لا يترك الفكر مع العدم، أي لا يكون نفياً مجرداً، وإنما يكون نفياً محدداً، نفياً لشئٍ ما.[57] والحجة المشهورة القائلة بأن الإفتراضات النسبية تفترض على الأقل مطلقاً واحداً ــــــــــ هو بالتحديد صحتها هي نفسها ــــــــــــ ومن ثم فهي تناقض نفسها، حجة متهافتة لأنها تخلط النفي العام لمبدأ ما مع وضع النفي لنفسه للعمل كإثبات، بدون إعتبار للفروق الخاصة في الحالة والدور لكليهما.[58] النقد الفلسفي نفي متزايد بقوة ورافض لأن يصالح نفسه مع الإيجابي لأن هذا سينتج وهماً جديداً، إذ أن المفهوم يسعى دائماً إلى معرفة اللامتماثل لكي يتطابق مع الشئ وينتج هوية جديدة. وهذا يعني أن التأمل الديالكتيكي ليس نفياً ذاتياً كلياً للذات المفكرة لأن الذات تصبح واعيةً لما هو حقيقي فيها ولما هو زائف؛ ولذلك فهو نفي محدد determinate negation ولكن ما تزال قوة التفكير المفاهيمي هي التي تقوم به.[59]
السلبية هنا لا تشير إلى اللاوجود وإنما إلى شئ ما موجود، ويجب ألاّ يكون، أي يجب أن يُنفي. إن السلبية إشارة إلى الوجود السلبي للتفكير التماثلي والسيطرة التي تلازمه وتجعله ممكناً. إن غاية التفكير السلبي، في هذا المعنى، ليست الشكية اللامحدودة التي تنفي أي محتوى إيجابي مهما كان، وإنما هي نفي هذا الوجود السلبي. فليس مهمة التفكير السلبي أن يحمي نفسه، بل مهمته أن يحقق نهاية السلبية. إن السلبية ــــــــــ كما هو الفكر عند هيجل ــــــــــ مصححة لذاتها ولكن يجب أن نضيف إلى ذلك أن هذا التصحيح الذاتي غير مضمون. وهكذا نحصل على المفهومين الأوليّين للديالكتيك السلبي: أنطولوجيا الحالة الخاطئة للأشياء والوعي المتسق للاتماثل. وتعني السلبية شيئاً مختلفاً لكل واحد منهما.[60] بالنسبة للأول فإن السلبية في "الحالة الخاطئة للأشياء" تشير إلى ما لا يجب أن يكون. وطبقاً لذلك فإن الديالكتيك يعتمد على لحظة غير ديالكتيكية بتجاوزه لذاته إلى الميتافيزيقيا. وهي لحظة لا يمكن التخلص منها بسبب رفع اللامتماثل إلى المطلق. بينما بالنسبة للثاني فإن اللاتماثل ليس في ذاته سلبياً إلاّ إذا نظرنا إليه من موقع التفكير التماثلي. إن السلبية هي عمل التفكير. والإيجابية هي حيث يتوقف التفكير، حيث يركن للراحة.[61] السلبية تعبّر عن وجهة النظر القائمة على موقف الخلاص، عن إمكانية تحقق المجتمع المتصالح. فالفلسفة الوحيدة التي يجب أن نمارسها بمسئولية في مواجهة اليأس هي محاولة تأمل كل الأشياء كما تبدي نفسها من موقف الخلاص. فالمعرفة ليس لها غير ضوء الخلاص تسلطه على العالم؛ وكل ما عدا ذلك ــــــــ في المعرفة ـــــــــــ هو محض إعادة بناء وتكنيك.[62] وموقف الخلاص هذا ليس موقفاً غائياً وإنما هو موقف يتأسس سلبياً كمنظور ممكن. إن الحقيقة تلوح في النفي المحدد لما هو زائف. ولذلك فإن موقف الخلاص لا يصير موقفاً وإنما ديالكتيكاً، هو المعنى المتماسك للاهوية. فهو لا يبدأ بإتخاذ موقف وإنما ينساق إليه التفكير، بالضرورة، نتيجة لعدم كفايته.[63]
الآمال في تغيير المجتمع لا تعتمد على مفاهيم التقدم والتطور والقوانين التاريخية وإنما على النقد غير المساوم للحاضر. إن الأمل في ظروف أفضل ــــــــ إذا لم يكن وهماً ــــــــــ لا يعتمد على ضمان هذه الظروف والتأكد من ديمومتها ونهائيتها وإنما يعتمد على فقدان الاحترام لكل ما هو متجذّر بقوة في المعاناة العامة.[64] إن اللحظات الجسدية تخبر معرفتنا بأن المعاناة يجب ألاّ تكون، وأن الأشياء يجب أن تكون مختلفة.[65] وتحدث المعاناة بأشكال مختلفة: الاستغلال والسيطرة والعبودية والخوف واللاعقلانية ...إلخ. وهي في كل أشكالها علامة موضوعية على ما لا يجب أن يكون، وهي تذكرنا بإستمرار بالمهمة التي ما زال علينا القيام بها: تغيير العالم. إن نفي المعاناة هي اليوتوبيا المادية الممكنة إذ أن إمكانيات الحاضر للإنجاز الاجتماعي تتجاوز توقعات كل الفلاسفة ورجال الدولة الذين تصوروا مجتمعاً إنسانياً حقيقياً.[66] إن مجتمع الإنسان الحر مجتمع ممكن، أي قابل للتفكير. لأن متطلباته المادية موجودة في الإنجازات التقنية للمجتمع الحالي ولأن هنالك بعداً سرياً يوتوبياً موجود في مفهوم التنوير للعقل طالما أنه يحتوي على الكلية الحقيقية. العقل كذات ترانسندنتالية يكون فكرة الحياة الإنسانية الاجتماعية الحرة التي ينظم فيها الإنسان نفسه كذات كلية ويتغلب على التناقض بين العقل الخالص والعقل التجريبي في التضامن الواعي للكل. وهذا هو ما يمثل الكلية الحقيقية: اليوتوبيا.[67]
فلسفة إعادة بناء الحداثة: من فلسفة الذات إلى فلسفة اللغة
فلسفة إعادة بناء الحداثة يتم إنجازها ضمن أفق التحول من نموذج فلسفة الذات إلى نموذج فلسفة اللغة؛ وهو تحول يجري في المنعطف اللغوي الذي مرت به كل الفلسفة فأسس لما بعد حداثتها. ومع ذلك فإن الانعطاف اللغوي في النظرية النقدية أدّى بها إلى نقيض ما توصلت له ما بعد الحداثة فتمسكت بالعقلانية ولكن بعد أن صارت على يدها تعددية ونقدية بينما رفضتها ما بعد الحداثة، واعتبرت مشروعها امتداداً للتنوير وتجاوزاً نقدياً لمآلاته وإخفاقاته وإعادة لبنائه في ضوء نموذج وأسس جديدة بينما هدمته ما بعد الحداثة وحاولت تجاوزه نهائياً بإدانته بوصفه مشروعاً قمعياً ذا طابع كلي وشمولي، لأن العقل الذي يقوم عليه هو كذلك. وفي إعتقادنا أن السبب في ذلك هو أن النظرية النقدية تجاوزت نقدياً الأسس القديمة لمشروع التنوير في ضوء نموذجه الجديد الذي تقوم عليه عقلانيته الجديدة، بينما فشلت ما بعد الحداثة في تأسيس نموذج جديد للفلسفة، لذلك جاء نقدها ومحاولتها لتجاوز مشروع التنوير ضمن نموذجه التقليدي، نموذج فلسفة الذات، ولهذا لم تستطع إلاّ هدمه وتبني نقيضه، وذلك بإلغاء أحد طرفي العلاقة بين الذات والموضوع مع بقاء الإفتراض الذي يقوم عليه النموذج وهو أن أساس أية معرفة يعتمد على طابع العلاقة بينهما. هذا يقودنا إلى استنتاج أنها لم تفلت من قبضة ما تحاول تجاوزه تجاوزاً نهائياً. أما لماذا نجحت النظرية النقدية في إقامة نموذج جديد للفلسفة اعتماداً على الإنعطاف اللغوي الذي تم تحت تأثير تطور الدراسات اللغوية الذي بدأه دي سوسر بينما فشلت ما بعد الحداثة في تقديم أيّ نموذج جديد اعتماداً على ذات الانعطاف فهذا يعود لكون أن النظرية النقدية قد تعاملت مع فلسفة اللغة في المستوى التداولي pragmatic ، أي تعاملت مع اللغة ليس كنظام رمزي أو نحوي بل كما هي مستخدمة، أي أن النظرية النقدية تعاملت مع الكلام. وحتى في هذا المستوى لم تنشغل بالجانب التجريبي من التداول وإنما انشغلت بالجانب النظري، بينما استلهمت ما بعد الحداثة فلسفة اللغة في جانبها السيمانطيقي، أي في جوانبها الرمزية والنحوية، فوقعت في التأويل اللامتناهي فأنكرت الحقائق والعقل، الذي صار عندها مجرد نظام، بل وتحول إلى سجن للإنسان.
إن التداولية، والتي هي عنوان المرحلة الأخيرة من تطور النظرية النقدية، تعبّر عن لحظة حاسمة في تطور مشروع الحداثة وتحولها من الحداثة الكلاسيكية إلى الحداثة الجديدة، من نموذج فلسفة الذات إلى نموذج فلسفة اللغة. لقد عبّر الكوجيتو الديكارتي عن لحظة الإبتدار التي أسست لفلسفة الذات وهي ذات اللحظة التي أسست لمشروع الحداثة. ولا نتجرأ على الحقيقة إذا قلنا أن هذه اللحظة كانت من أعلى لحظات التعبير عن مشروع الحداثة وفكرها القائم على فلسفة الذات، أي الحداثة في صورتها الأولى التي تقوم على العلاقة الثنائية بين الفاعل ـ الموضوع. أما التداولية فتتجاوز هذه العلاقة الثنائية لكي تموضع الفاعل ضمن علاقة ثلاثية بين الفاعل ــــــــ اللغة ــــــــــ الموضوع، إذ تمر العلاقة بالعالم من خلال اللغة كما أن الفاعل ليس هو الأنا بل هو عضو مجتمع لغة. ومن ثم فإن التداولية تطرح كوجيتو جديداً: "افكر" تعني حقاً "ابرهن"، أي "أتكلم مع الغير"، و"أقبل المعايير العملية للتواصل"، وكذلك تعني "انتمي إلى مجتمع تواصل" فلا أحد يفكر وحده.[68] هذا الكوجيتو الجديد يعبّر عن الانتقال من الذاتية إلى التذات intersubjectivity. فيتغير مفهوم الفاعل حين نقاربه، لا إنطلاقاً من الفكر، بل إنطلاقاً من التواصل، حينذاك ننظر إليه كمتكلم وكمتحدث، ويتم الإلمام بالقضية التي تخص الآخر إنطلاقاً من المخاطب الذي أتكلم معه والذي أتموضع معه في مجتمع تواصلي. وتصير "أفكر" في الكوجيتو الديكارتي تفكيراً حقيقياً لأنها تعبّر عن ضرورة تداولية، إذ أن تناقضها خاطئ دائماً تداولياً، فالقول "لا أوجد" يناقض مضمون الملفوظ.[69] بينما إتجاهات ما بعد الحداثة ـــــــــ كما أظن ــــــــــ تجاوزت ثنائية العلاقة بين الفاعل ـــــــــ الموضوع إلى علاقة ثنائية جديدة بين الفاعل ــــــــــ اللغة. لقد استبدلت الموضوع/العالم باللغة ولذلك ــــــــــ فيما أظن ــــــــــ لم تنجح في تجاوز نموذج الحداثة الأول، نموذج فلسفة الذات.
ورغم جوانب الخلاف بين النظرية النقدية وما بعد الحداثة وما بعد البنيوية إلاّ أن جوانب الاتفاق بينهما أكثر. فهي تنتمي كلها إلى المشروع النقدي. وجوهر هذا المشروع هو محاولة تجاوز الأسس التقليدية للحداثة كما وضعها عصر التنوير. فهي تتفق على ضرورة تحويل النقد الكانطي للعقل إلى نقد جذري. ويبدأ هذا التحويل الجذري بهدم العقل الخالص، فالعقل دائماً غير خالص، فهو عقل ملتبس بالتاريخ ومنخرط فيه ولا يوجد إلاّ في ثقافة ومجتمع، إلاّ في الممارسة. ولذلك فإن البحث الاستبطاني في محتويات العقل لم يتح له الوصول إلى بنيات هذا العقل. لأنه كان تأملاً ودرساً في عقلٍ خالصٍ. إن البحث في طبيعة العقل ومنظوره وحدوده يجب أن ينخرط في الممارسة. وهذا يتطلب بحثاً تاريخياً اجتماعياً يتخطى الحدود التقليدية للتحليل الفلسفي.[70] لذلك نستطيع القول إن التحول من نموذج الذات العارفة والفاعلة، على أساس هذه المعرفة، إلى نموذج اللغة، أي ما هو قائم بين الناس، هو بالضبط التحول من العقل الخالص إلى عقل موجود في الممارسة. مما أدى إلى هدم فكرة أن المعرفة تقوم على قواعد ومبادئ تأسيسية وهي أحد المبادئ الأساسية في الحداثة التقليدية. فالعقل الذي لا نتعرّف عليه إلاّ في انخراطه في الممارسة هو عقل غير تأسيسي non-foundationalist ورغم أن بنياته وقواعده تتجاوز الوعي الفردي إلاّ أنها ليست متعالية وإنما اجتماعية ثقافية. وأظن أن هذه هي خلاصة نظرية الفعل التواصلي والعقلانية التواصلية عند هابرماس. وهي أيضاً خلاصة ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية مع إختلاف النتائج.
ونفس هذه النتيجة نصل إليها فيما يتعلق بالذات. فما بعد الحداثة وما بعد البنيوية والنظرية النقدية ترفض الصورة الديكارتية عن الذات العاقلة المستقلة التي تواجه عالماً من الموضوعات الذي تسعى لتمثيله للسيطرة عليه. فالذات العارفة والفاعلة هي ذات اجتماعية وتفكيرها وفعلها جزء من مصالحها ومواقفها. ولذلك يجب إزاحة الذات الديكارتية من موقع المركز في العالم الإبستمولوجي والأخلاقي، ليس فقط لهذه الأسباب النظرية، وإنما أيضاً بسبب ما انتهت إليه العقلانية الغربية من إقصاء ونفي واستيعاب للمختلف ليصير متماثلاً.[71] ونظرية الفعل التواصلي واستنادا على فلسفة اللغة لا تزيح هذه الذات المركزية وتستبدلها بالتذات intersubjectivity فقط وإنما تمنح هذه الذات غير المتمركزةdecentered self هوية جديدة، تتفق فيها مع ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية، تثبت فيه الأنا ذاتها من خلال قدرتها على تركيب نفسها من خلال جمع هويات مختلفة كونتها في مواقف مختلفة وتوليفها في انسجام يؤدي إلى تنظيم حياة الأنا في تاريخ واحد وفريد.[72] وهذا يعني أن التعددية فكرة رئيسية في النظرية النقدية تشمل كل ما هو إنساني بما في ذلك هو نفسه. ولكن دون أن تتخلى عن الوحدة وهو ما تختلف فيه مع ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية.
علاقة النظرية النقدية وما بعد الحداثة وما بعد البنيوية بالحداثة في صورتها الأولى تطرح ـــــــــ بالنسبة لنا ــــــــــ فكرة أن هنالك حداثة تقليدية وحداثة جديدة. وهي فكرة يعززها هابرماس بتحديده لأربعة قضايا تميّز الفكر في القرن العشرين، وبالذات الفلسفة، عن التقاليد المبكرة للحداثة وتمثل قطيعة معها. ويجمل هابرماس هذه القضايا في: أولاً، التفكير ما بعد الميتافيزيقي: فقد تراجع في الوضعية المنطقية مفهوم النظرية، الذي كان يسعى ليس لمعرفة العالم الإنساني فقط وإنما الطبيعة أيضاً وبنياتهما الداخلية، وترك للعقلانية الإجرائية لعمليات العلم مهمة تحديد إذا ما كانت جملة ما لها قيمة الحقيقة أم لا. وكذلك الأمر مع هوسرل وهوركهايمر الشابين ومؤخراً البنيويين فقد أخضعوا، كل بطريقته، التفكير الفلسفي لإدعاء العلوم الطبيعية بوضعها النموذجي. والآن نفكّر بطريقة أكثر تسامحاً فيما نعتبره علماً، خاصةً بعد توماس كوهن وكتابه "بنية الثورات العلمية". ثانياً، المنعطف اللغوي: فبينما كانت العلامات اللغوية تعتبر مجرد أدوات للتمثيل العقلي أصبح الآن مجال المعنى الرمزي مجالاً مستقلاً. وحلت علاقة اللغة بالعالم محل علاقة الذات بالموضوع. والعمليات المكونة للعالم انتقلت من الذاتية المتعالية إلى البنيات النحوية. وحلت عمليات إعادة البناء التي يقوم بها اللغوي محل ذلك النوع من الاستبطان الذي لا يمكن أن يفحصه الآخرون. ثالثاً، تعيّن العقل: فبإسم المتناهي والزماني والتاريخاني تم تجريد العقل من خصائصه الكلاسيكية؛ وأصبح الوعي المتعالي متعيناً في ممارسات عالم الحياة وفي المتضمنات التاريخية. رابعاً، أولوية الممارسة على النظرية: فقد تم قلب العلاقة الكلاسيكية بين النظرية والممارسة. وأصبح أساس المعرفة النظرية في الممارسة ما قبل العلمية، وفي تفاعلنا مع الأشياء والأشخاص.[73] وهكذا تجتمع النظرية النقدية واتجاهات ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية في تجاوزها النقدي لمشروع الحداثة وإن كان في إتجاهين مختلفين وبنتائج مختلفة إن لم تكن متعارضة.
أحد أهم نتائج النظرية النقدية أن نموذج فلسفة اللغة في جانبه التداولي مع هابرماس أدّى إلى طرح علاقة جديدة بديلة لعلاقة الذات والموضوع في النموذج السابق وهي التذات intersubjectivity ، أي العلاقة ما بين الذوات. مما أدى إلى استبدال العقلانية الأداتية التي كانت سائدة مع نموذج علاقة الذات والموضوع بالعقلانية التواصلية التي تعبر عن العلاقة ما بين الذوات. فصارت هذه العلاقة هي الأساس للوجود والمعرفة والقيم، ولكن دون أن تستبدل نهائياً علاقة الذات والموضوع أو العلاقة الذاتية subjectivity وإنما جعلتهما جزءاً منها، بل وجزءاً خاضعاً لها. ومع هابرماس صرنا لا نتحدث عن ذات مفردة مستقلة بالمعنى التقليدي بل صار للمسئولية والإستقلال معنيين جديدين. ففي العقلانية الأداتية يكون الأفراد مسئولين حين يتصرفون وفقاً للعقلانية الغائية، التعبير الآخر عن العقلانية الأداتية. فنجاح هؤلاء الأفراد في أفعالهم التي يتدخلون بها في بيئتهم لتحقيق غاية معينة يشير إلى قدرتهم على الاختيار بين بدائل عديدة، كما يشير إلى سيطرتهم على شروط بيئتهم. بينما في العقلانية التواصلية يكون هؤلاء الأفراد مسئولين حين يوجهون أفعالهم ــــــــ كأعضاء في مجتمع تواصلي ـــــــــ إلى مزاعم صحة متفق عليها تواصلياً. ويرتبط بهذين المفهومين المختلفين من "المسئولية" مفهومان مختلفان من "الإستقلال". فكلما زادت درجة تحقق العقلانية الأداتية كلما زاد تحقق الإستقلال من المحددات التي تفرضها البيئة على الأفراد الذين يقومون بأفعال تحقق أهدافاً بعينها. وكلما زادت درجة تحقق العقلانية التواصلية كلما تحقق اتساعاً أكثر في مدى التنسيق غير القسري للأفعال والحلول الإجماعية للنزاعات.[74] هذه العقلانية التواصلية تطرح، كما هو واضح، عقلانية من نوع جديد، عقلانية تتمتع بمزايا وخواص جديدة تجعلها مختلفة عن سابقتها. فهي عقلانية مركبة وتعددية لا تقوم فيها حقائق مطلقة (أو على الأصح حقائقها المطلقة قليلة جداً ولا تعتمد عليها المعرفة الإنسانية) ولا تعتمد على منهج واحد. وتقوم على الفعل الذي يسعى إلى الوصول للفهم مما يجعل التنسيق بين أفعال الأفراد ممكناً، وهو أمر نموذجه يقوم على الإتفاق غير القسري الذي يتم عن طريق المحاججة argumentation ، ويؤدي إلى ظهور ثلاثة أشكال من عوالم الحياة بسبب اختلاف المعايير ومزاعم الصحة والمناهج؛ هي: العالم الموضوعي المشترك والعالم الاجتماعي المشترك والعالم الذاتي والذي تنتمي عناصره إلى التجربة الفردية ولكن يتم التعبير عنها بطريقة مفهومة للآخرين. وهذا يعني أن لكل واحد من هذه العوالم معاييره ومزاعم صحته ومناهجه وعقلانيته وفعل يرتبط به. وهذا ما نعنيه بالضبط بالعقلانية المركبة والتعددية.
نقد العقلنة كتشيؤ أو نقد الحداثة الملتبسة:
من العقلانية الأحادية إلى وحدة العقلانية المركبة والتعددية
وما كان للنظرية النقدية أن تصل إلى هذه العقلانية المركبة والتعددية لولا ماكس فيبر فهو أول من أشار إلى تمايز ثلاثة مجالات ثقافية تطابق الثلاثة عوالم التي أشرنا إليها، بل وجعل من هذا التمايز جوهر عقلنة المجتمع، وبالتالي حداثته. ومشكلة فيبر أنه لم يتصور عقلانية أخرى غير العقلانية الغائية، فهي التي سادت في جميع مجالاته الثقافية وأودت بالحداثة وعقلانيتها إلى نقيض ما تريده، فبدلاً من التحرر انتهت إلى قفص حديدي ــــــــ كما قال فيبر.
يمكننا أن نلخص مشروع الحداثة عند فيبر في العقلانية الغائية. ورغم أنه يميّز بين فئتين من الأفعال، فهو يميز السلوك الأخلاقي عن سائر السلوك العقلي، إلاّ أنه يرى أن عقلانية واحدة تسود كل السلوك الإنساني في طور حداثته. وهي عقلانية قانونها العلمي ومهمة العقل فيها حساب العلاقة بين الوسائل والغايات، وأن الفئتين من الأفعال اللتان تمتازان بالعقلانية تستخدمان الوسائل الملائمة لتحقيق أهدافهما، أي أنهما يستخدمان نفس العقلانية ولكنهما يختلفان في الأهداف؛ فبينما تسعى إحداهما لتحقيق أهداف عقلية مختارة، تسعى الثانية لتحقيق أهداف أخلاقية وإشباع قيم مطلقة. ولذلك فإن تشخيص أزمة الحداثة عند فيبر والتي سنتناولها فيما بعد، والتي اعتمد عليها هابرماس لتجاوز العقلانية الغائية إلى العقلانية التواصلية، يردها إلى مهمة الأختيار المعياري وتدبير وسائل السلوك العقلاني. وهي مهمة بالغة الصعوبة وتفوق طاقة البشر ولذلك يمكن أن تؤدي بهم إلى اللا عقلانية[75] كما حدث لمشروع الحداثة.
إن الإخفاق الرئيسي في تصور فيبر عن عقلنة المجتمع وانتقاله للحداثة هو أن فيبر رغم أنه قد وظّف مفهوماً مركباً للعقلانية إلاّ أن هذا المفهوم ظل غامضاً مما جعل فيبر ينقاد لفكرة ضيقة هي العقلانية الغائية.[76] فكل مركبات العقلانية التي أشرنا إليها عند فيبر تتبع نموذجاً بنيوياً واحداً للفعل هو الفعل العقلاني الغائي أو الفعل العقلاني الأداتي، أي الفعل الذي يتأسس على العقلانية القائمة على اختيار الأهداف واختيار الوسائل التي تحققها. وهذه العقلانية يجمعها فيبر مع العقلانية القيمية، وهي العقلانية التي تلبي الشروط المعيارية وتقوم بالتوحيد والتنظيم وتكمن وراء تفضيل فعلٍ ما، لتكونان معاً العقلانية العملية في كليتها، وتعميمها هو الذي يشكل سلوك الحياة العقلاني ــــــــــ المنهجي،[77] الذي نتج عن العقلنة الأخلاقية للرؤية الدينية للعالم. وهو السلوك الذي يقوم عليه مشروع الحداثة في مجالاته كلها. لقد فرض فيبر الفعل العقلاني الغائي أو الأداتي كنموذج بنيوي تتبعه كل مركبات العقلانية بينما هو ليس إطاراً بنيوياً أو صورياً أو شكلياً بل هو ينتمي إلى مضمون عمليات التدخل في الطبيعة الخارجية، ووفقاً له تنجح هذه العمليات أو تفشل. ولهذا فإن هذا الفعل العقلاني لا يلاءم إلاّ مركب العقلانية المعرفية ــــــــ الأداتية وتطبيقه على مركبات العقلانية الأخرى يؤدي إلى أن تصير مجالاتها وعوالمها نسخ أخرى من العالم الخارجي الموضوعي. إن عقلنة المجتمع تعني عند فيبر انتشار الفعل العقلاني الغائي أو الأداتي وتحويل المجالات الأخرى، والتي هي مجالات فعل تواصلي بالأساس، إلى أنظمة ثانوية للفعل العقلاني الغائي. وإذا تذكرنا أن هذه العوالم والمجالات الأخرى هي العالم الاجتماعي والعالم الذاتي فإن هذا يعني تحويل الناس والعلاقات القائمة بينهم إلى موضوعات أو أشياء أو وسائل وتحويل العلاقات بينهم إلى العلاقات القائمة بين هذه الأشياء، أي ما أصطلحنا عليه بالتشيؤ reification. هذا التشيؤ reification يبدو منسجماً مع فلسفة الذات أو الوعي التي حصرت نظرها في الصلة بالموضوع؛ بينما نقل التحول إلى فلسفة اللغة عند هابرماس النظر إلى الأفعال بين الذوات، نتج عنه تمييزاً أساسياً بين العقلانية الغائية والعقلانية التواصلية بحيث لا يصح أن تحل إحداهما محل الأخرى وبحيث لا يرد الفعل الموجه للحصول على فهم إلى النشاط الغائي أو العكس. فالنشاط الغائي والفعل الموجه للحصول على فهم نوعان أوليّان من الفعل لا يمكن ردهما إلى بعضهما البعض. والفعل الاجتماعي أو التفاعل مركب من هذين النوعين من الفعل.[78] وعندما يغلب على المركب النشاط الغائي يصير الفعل فعلاً استراتيجياً، وعندما يغلب عليه الفعل الموجه للحصول على الفهم يصير فعلاً تواصلياً. والمصير الذي انتهت إليه الحداثة هو تعميمها للفعل الاستراتيجي بحيث تحولت مجالات الفعل التواصلي ــــــــ تماماً كما تصور فيبرـــــــــ إلى مجرد أنظمة ثانوية للفعل العقلاني الغائي، فانتقلت سيطرة الإنسان علي الطبيعة إلى السيطرة على الإنسان نفسه وأصبح العلم الطبيعي نموذجاً لسائر العلوم الأخرى، الإنسانية والاجتماعية. وهذا ما توصّل إليه فيبر عندما صاغ تشاؤمه من تطور الحداثة في مفهومي "فقدان المعنى" و "فقدان الحرية" واللذان استلهمهما فيما بعد لوكاش في مفهوم التشيؤ الذي وسم به المجتمع الرأسمالي.
لقد شخّص فيبر مجتمع عصره، أي المجتمع العقلاني، تشخيصاً نقدياً واستنتج من ذلك أنه مجتمع يعاني فيه الإنسان من "فقدان المعني" و "فقدان الحرية". ويرى فيبر أن هنالك إتجاهين في عمليات إزالة السحر وعقلنة المجتمع أدّيا إلى هذه المعاناة. الإتجاه الأول، تمايز مجالات القيم الثقافية المستقلة والذي كان ضرورياً لبدايات عمليات عقلنة المجتمع إلاّ أنه أدّى بعد ذلك إلى "فقدان المعنى". والإتجاه الثاني، الإستقلال المضطرد للأنظمة الثانوية للفعل العقلاني الغائي والذي هو أحد خصائص تطور المجتمع العقلاني إلاّ أنه أدّى إلى "فقدان الحرية".[79] وكما هو واضح فإن فيبر يستخلص نظرية "فقدان المعنى" من عملية العقلنة الثقافية؛ بينما يستخلص نظرية "فقدان الحرية" من عمليات العقلنة الاجتماعية.[80]
فمع تمايز مجالات القيم الثقاقية المستقلة تم إدراك المنطق الداخلي لكل منها ومن ثم التمكّن من عقلنة النظام الرمزي لكل منها وفقاً لأحد المقاييس المجردة للقيمة، مثل الحقيقة أو الصواب المعياري أو الجمال أو الصدق. إلاّ أن هذه العملية قد أدت من جهة أخرى إلى تفكك رؤية العالم الدينية الميتافيزيقية التي كانت تمنح المعنى للحياة الإنسانية. ونشأ صراع بين مجالات القيم الثقافية المستقلة لم يكن في الإمكان حسمه لغياب أي موقف متعالي إلهي أو كوني تخضع له مجالات القيم هذه. ولم يعد هنالك ما يوحّد هذه المجالات في نظام أو رؤية واحدة، وصارت بذلك الحياة الإنسانية تفتقد إلى المعنى، بل وتخضع لنزاع الأفعال طالما أن الإختلافات بين مزاعم الصلاحية على المستوى الثقافي قد أصبحت على المستوى الاجتماعي توتر بين توجهات الأفعال التي تحولت إلى مؤسسات. هذا الصراع مدمر للمعنى إلى الحد الذي جعل فيبر يصفه بأنه تعددية إلهية جديدة polytheism[81] أو بلغتنا "شرك جديد".
من الجهة الثانية فإن فيبر يعالج "فقدان الحرية" في مجال نظرية الفعل. فبعد أن كانت الأحكام الأخلاقية والإرادة المستقلة للأفراد محددة بمبادئ قيمية هي التي تقوم بمهمة توجيه وإرشاد الأفعال العقلانية الغائية، شهدت هذه الأفعال إستقلالاً مضطرداً وتحويلاً لمجالاتها إلى أنظمة ثانوية تابعة لها إلى الحد الذي أصبحت فيه هذه الأفعال العقلانية الغائية في هذه الأنظمة، مثل الإقتصاد والإدارة، لا تحكمها الأحكام الأخلاقية وإرادة الأفراد إنما تنظمها هذه الأنظمة نفسها (أي تنتظم بيروقراطياً) وفقاً لدوافع نفعية عامة. وهكذا أصبح الأفراد لا يتحكمون في أفعالهم في الأنظمة الثانوية المختلفة وإنما تتحكم فيها البيروقراطية وهذا ما جعل فيبر ينعت مجتمع الحداثة العقلاني بعبارته الشهيرة بأنه "قفص حديدي". وليست هنالك من عبارة يمكن أن تؤدي معنى "فقدان الحرية" بطريقة أكثر دقة من عبارة "القفص الحديدي" لوصف ما انتهى إليه مشروع الحداثة الذي تم بعقلنة المجتمع طبقاً لسيادة نموذج الفعل العقلاني الغائي على أساس من فلسفة الوعي وعلاقة الذات بالموضوع.
لا يتفق هابرماس مع هذه الروح التشاؤمية. فهو يرى أن فيبر قد ارتكب خطأً فادحاً في استنتاجه الأول الخاص بـ"فقدان المعنى". فالتمايز الذي تم بين المشروع العلمي والقانوني والجمالي، الذي هو تمايز بين الأنظمة الثقافية للفعل، تتطور فيه المعرفة الثقافية تحت أحد الجوانب الكلية للصلاحية، ولا يقود بأي حال من الأحوال إلى نزاع بين أنظمة حياة لا مجال لإلتقاءها، فمرجعيتها مجالات قيم ثقافية متمايزة ومستقلة. والخطأ الفادح الذي وقع فيه فيبر هو عدم تفرقته بين هذه الأنظمة الثقافية للفعل والأنظمة الاجتماعية للفعل، مثل الإقتصاد والدولة، والأنظمة الأخيرة تتكون حول قيم عينية محددة، مثل الثروة والسلطة، وفقط مع هذا التحول المؤسسي لأمور قيمية مختلفة تنشأ علاقات تنافس بين اتجاهات لا عقلانية للأفعال. أما عمليات العقلنة التي ترتبط بمركبات العقلانية العامة الثلاثة فهي تتضمن بنيات معرفية مختلفة ولذلك لا ينشأ بينها نزاع، ولكن قد تطرح تساؤلات حول الكيفية التي يتم بها الانتقال من مركب عقلانية إلى مركب عقلانية آخر،[82] والأهم هو السؤال حول قابلية هذه المركبات للوحدة بشكلٍ ما على الرغم من تمايزها واختلافها، لأنه إذا ثبت عدم وجود ما يمكن أن يوحدها فهذا يعني أن "فقدان المعنى" سيظل قائماً. ويجيب هابرماس على السؤال الأخير بأن ما يوفر الوحدة العقلانية لتعددية مجالات القيم الثقافية المعقلنة بفضل منطق كل منها الداخلي هو المستوى الصوري للمعالجة الحجاجية argumentative لمزاعم الصلاحية. فمزاعم الصلاحية تختلف من المزاعم التجريبية لأنه يمكن تجويدها عن طريق الحجج (أو الأسباب). ويوجد ما هو عام ومشترك بين هذه الحجج أو الأسباب وهو قدرتها على توفير دافع عقلاني يقوم عليه الاختبار الجماعي لمزاعم الصلاحية المفترضة. وهذا يعني أن الوحدة القائمة بين مركبات العقلانية الثلاثة العامة هي وحدة تقوم على العقلانية الإجرائية، ولذلك فإن نظرية الخطاب هي التي ستعين أين تتكون هذه الوحدة الحجاجية.[83] ونظرية الخطاب عند هابرماس تقيّم الأفعال التواصلية في ضوء الإجراءات الحجاجية لتؤكد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة قيمة دعاوي الحقيقة والصواب المعياري والصدق الذاتي في هذه الأفعال.[84] ولذلك فهي لا تخرج من تعريف الخطاب ككلية علاقات ذات تسلسل دلالي تشكل إطاراً متماسكاً لما يجب أن يقال وما يجب أن يفعل.[85] وهو ما يستعيد به هابرماس وحدة التعدد الذي صار السمة الأساسية للحداثة، إذا كان عقلاً أو ذاتاً أو غيرهما. هذه العلاقة المتوترة بين التمايز والتكامل تشكل مركز مشروع الحداثة؛ وتحدد ما يجعل المجتمع الحديث مختلفاً عن المجتمع التقليدي، فهو مختلف لأنه وحدة متمايزة.[86]
رغم أن هابرماس يؤسس للعقلانية المركبة والتعددية، إلاّ أنه يولي عناية خاصة لمسألة وحدة العقل. هذه الوحدة هامة بالنسبة له حتى وإن كانت إجرائية، فهي كما رأينا تشكل الأساس الذي يقوم عليه معنى حياة الإنسان، وهي كذلك، كما يرى هابرماس، تبرر الفلسفة كنشاط معرفي ونقدي؛ ولولاها لاندثرت الفلسفة، إذ بها تتعين وظيفة الفلسفة كحارسة للعقلانية. ويرى أن النظر للعقلانية يتجاذبه إتجاهان في الفلسفة: التاريخانية historicism والترانسندنتالية transcendentalism. الأولى تشرط العقلانية بسياقها التاريخي ومن ثم تجعل منها أمراً نسبياً مما يؤدي لفقدانها لأي معايير كلية تستند إليها في تقرير الحقيقة. بينما الثانية تجعل العقلانية تستند على خصائص ذات طابع عام وكلي وبالتالي غير مرتبطة بسياقها التاريخي وهذا أمر كان يجب أن ينتهي بالمعرفة إلى صحتها المطلقة وعدم قابليتها للخطأ، وهو ما يتناقض مع الواقع. ويقترح هابرماس طريقاً ثالثاً تكون فيه للفلسفة غاية توضيح أسس العمليات العقلانية للوصول للفهم وهي ذات طابع كلي لأنها ضرورية؛ وفي ذات الوقت تكون الفلسفة قابلة للخطأ لأن إفتراضاتها الكلية تتطلب تأكيداً في علاقتها بالنظريات التجريبية.[87]
إن قضية "عقل واحد أم متعدّد ومركب" يناقشها هابرماس ضمن ما يسميه بالتفكير ما بعد الميتافيزيقي. فهو يرى أن "الوحدة والتعددية" هي القضية التي حكمت الميتافيزيقيا منذ بدايتها. فمنذ أفلاطون تمثلت الميتافيزيقيا في النظرية التي تجعل من الواحد أصل وأساس أي شئ. هذا الواحد صار يُعرف فيما قبل أفلوطين بمثال الخير أو المحرك الأول أما بعده فقد صار يُعرف بغير المشروط أو الروح المطلق. وفي العقد الأخير من القرن العشرين تجدّدت هذه القضية ولكن في علاقات جديدة. فقد افتقد البعض التفكير التوحيدي للميتافيزيقيا ومن ثم عملوا على تأهيل بعض الرموز الفكرية فيما قبل كانط أو حاولوا العودة إلى ميتافيزيقيا تتجاوز كانط. بينما على النقيض من ذلك رأى البعض الآخر أن أزمات الحاضر تعود إلى بقايا التفكير التوحيدي الذي نجده في فلسفة الذات وفلسفة التاريخ. ومن ثم دعى هؤلاء إلى تواريخ وأشكال حياة متعددة في مقابل تاريخ العالم وعالم الحياة المفردين، وإلى آخرية ألعاب اللغة والخطابات في مقابل هوية اللغة والحوار، وإلى تعدد النصوص في مقابل المعنى المفرد الثابت. وهنالك تياران يعبران عن هذا الإتجاه الذي يتحدث باسم التعددية المقموعة. الأول، الذي يمثله ليوتار ورورتي، التي تعمل على إنقاذ غير المتطابق وغير المتكامل والمنحرف والمختلف والمتناقض والمتنازع والمؤقت والعارض. أما التيار الثاني، الذي يمثله دريدا، فدفاعه عن العارض وتخليه عن المؤسس يفقد خصائصه النقدية والهادمة وتصبح دلالته الوظيفية حماية قوى التقليد، التي لم يعد ممكناً الدفاع عنها عقلانياً؛ والغرض هو توفير الحماية الثقافية لجوانب العملية التحديثية للمجتمع والتي خرجت عن السيطرة، أي أن الإتجاه الأخير ينتهي إلى نقيضه، إلى الدفاع عن السائد والتخلي عن العارض والمؤقت. وحتى التيار الذي يمثله ليوتار ورورتي فإنه يقوم على ميتافيزيقيا سلبية تدور في فلك ما قصدته المثالية الميتافيزيقية بغير المشروط، فالتعددية غير المشروطة لا تختلف عن الواحد غير المشروط، فقط يكون الأول منهما سلبياً بينما الثاني إيجابياً. وهذا يعني أن قضية "الواحد والمتعدد" قضية لا يمكن تبسيطها وحصرها في [مع أو ضد]. ولذلك يقدّم هابرماس بديلاً ثالثاً يركبهما الأثنين معاً، ويجدان فيه خصمهما. هذا البديل الثالث يستخدم فلسفة اللغة لينقذ مفهوم العقل، ولكن العقل الذي ينقذه عقل شكّي وما بعد ميتافيزيقي. إن هابرماس يقدم مفهوماً إجرائياً لعقل تواصلي communicative reason يقصي كل ما يتعلق بالمضمون إلى مجال المؤقت والعارض ولذلك ترى فيه ميتافيزيقيا التفكير التوحيدي عقلاً ضعيفاً لأنه من الممكن التفكير في العقل نفسه باعتباره عارضاً ومؤقتاً. و يتعامل العقل التواصلي كذلك مع ثلاثة أشكال من العالم ولذلك ترى فيه السياقية الراديكالية عقلاً أقوى من اللازم لأنه قد ثبت أن الحدود بين هذه الأشكال الثلاثة المزعومة قابلة للإختراق في الوسط التجريبي للفهم المتبادل. ويحدّد هابرماس ما يريد أن يشير إليه وهو أن وحدة العقل لا يمكن إدراكها إلاّ في تعددية أصواته ـ أي في الإمكان المبدئي للإنتقال من لغة إلى أخرى. كما أن الفهم المتبادل الذي يتحقق إجرائياً فقط، ومؤقتاً أيضاً، يشكل خلفية تنوع أولئك الذين يتواجهون في أية محاورة حتى حينما يفشلون في فهم بعضهم البعض.[88] وهكذا يجمع هابرماس بين الحاجة إلى الوحدة دون أن يقمع التعدّد.
أما موقف هابرماس من الاستنتاج الثاني والخاص بـ"فقدان الحرية" فيبدو لنا أنه يتلخص في رؤيته جانبين لهذا الاستنتاج، أحدهما صحيح بينما الجانب الآخر يعبّر عن الخطأ الأساسي في مشروع فيبر النظري. الجانب الصحيح نجده فيما توصل إليه فيبر من أن الإنسان في مجتمعات الحداثة الراهنة يعاني من غياب الحرية نتيجة لسيادة العقل الأداتي في مجالاتها وأنظمتها الثانوية المختلفة بإنفصال تام عن الخيارات الأخلاقية، أي عن إرادة الناس واختياراتهم. أما الخطأ الأساسي فهو أن فقدان الحرية يبدو عند فيبر وكأنه يعبّر عن جوهر ضروري في الحداثة ومصير لا يمكن تفاديه طالما أن عقلنة المجتمع يترتب عليها بالضرورة سيادة الفعل العقلاني الأداتي في كل الأنظمة الثانوية للمجتمع بحيث يصبح مؤكداً أن تجري الأمور فيها بعيداً عن إرادة الناس واختياراتهم. وبالنسبة إلى هابرماس فإن هذا الاستنتاج خطأ أساسي لأنه باختصار يهدم أهم ما يميز مشروع فيبر النظري، يهدم عقلانيته المركبة وتعدديتها. فلو ارتبط فيبر بخصائص مشروعه النظري لأدرك أن جوهر مشروع الحداثة ــــــــ كما عبّر هو نفسه ــــــــ يكمن في تمايزه وتعدده ولذلك فليس هنالك من سبب يجعل سيادة الفعل الأداتي في مختلف أنظمة مجتمع الحداثة أمر يعبّر عن خصائص ضرورية لهذا المجتمع، بل يعبّر في سيادته الراهنة عن أوضاع عارضة ذات صلة باستراتيجيات السيطرة الاجتماعية. لقد نظر فيبر إلى العقلنة الاجتماعية من منظور العقلانية الغائية. ولم يطبّق المفهوم الشامل للعقلانية الذي أسس عليه بحثه في التقاليد الثقافية على مستوى المؤسسات. فمركب العقلانية المعرفية الأداتية هو الوحيد الذي اكتسب أهمية بالنسبة لعقلانية أنظمة الفعل. وافترض فيبر أن الجانب العقلاني الغائي فقط هو الذي يكوّن الأنظمة الثانوية للإقتصاد والسياسة. هذه المعالجة للعقلنة الاجتماعية من منظور العقلانية الغائية تترك انطباعاً بأن عمليات عقلنة المجتمعات الحديثة ترتبط فقط بالمعرفة النظرية التجريبية وبالجوانب الأداتية والاستراتيجية للأفعال الاجتماعية، وأن العقلانية العملية لا يمكن أن يتم تحويلها إلى مؤسسات بطريقة مستقلة، أي بمنطق داخلي خاص بها إلى نظام ثانوي. بمعنى آخر أن فيبر يعطينا الانطباع بأنه لا يمكن أن يتكون نظاماً ثانوياً في المجتمع بفعل آخر غير الفعل العقلاني الأداتي. وهذا ما يتعارض مع الخصائص الأساسية للعقلنة الاجتماعية لديه.
تاريخية العقل الأداتي والأساس الأنثربولوجي للعقلانية التواصلية:
ولوكاش هو الذي أخرجنا من ضرورة وحتمية سيادة الفعل الأداتي في مشروع الحداثة. لقد جعل فيبر من التشابه البنيوي بين الفعل العقلاني الغائي وأنظمة الفعل الاجتماعي، بالذات في الإقتصاد والدولة البيروقراطية، طابعاً كلياً لعقلنة المجتمع وبهذه الصفة أصبح الفعل العقلاني الغائي شرطاً كلياً لا تاريخي لمشروع الحداثة، بينما ذهب لوكاش إلى تعريف العقلانية تعريفاً أداتياً يستلهم فيه فيبر فحددها بأنها الرؤية المسبقة والحساب الدائم الأكثر صحة لكل النتائج المرجوة[89] إلاّ أنه ربط بين هذه العقلانية الغائية وبين الرأسمالية، أي أن الفعل العقلاني الغائي لم يعد عند لوكاش شرطاً كلياً لا تاريخياً وإنما أصبح يعبّر عن التحقق التاريخي للحداثة وبذلك فتح لوكاش الباب أمام الاحتمالات بأن تكون هنالك تحققات تاريخية أخرى غير العقلانية الغائية أو أن تكون الحداثة الحقيقية ــــــــ لا الحداثة الملتبسة ــــــــــ مركب من العقلانيات وهو ما ينسجم مع أسس التفكير النظري عند فيبر نفسه، وهذا يعني أن إخفاقات الحداثة ونواقصها لم تعد جزءاً ضرورياً من الحداثة كما هي مع فيبر. إن المأثرة الحقيقية للوكاش هي جمعه ماركس وفيبر معاً بحيث استطاع أن يفك الارتباط بين مجال العمل الاجتماعي وسياقات عالم الحياة مما أتاح له أن يتعامل مع كل منهما من جانب مختلف، فتعامل مع مجال العمل الاجتماعي من جانب التشيؤ بينما تعامل مع سياقات عالم الحياة من جانب العقلنة. ويدرك فيبر أن تشيؤ سياقات عالم الحياة يحدث حين ينسق المنتجون تفاعلاتهم بواسطة قيم التبادل بدلاً من تنسيقها بواسطة القيم والمعايير، بإعتبارها الجانب الآخر من عقلنة أفعالهم. وهذا الاستنتاج هو الذي استخدمه هابرماس في بنائه لنظرية الفعل التواصلي ولنظرية الحداثة.
إن محاولة نقد النتائج التي توصلت إليها نظرية الحداثة عند كل من فيبر ولوكاش بنقد العقلانية الأداتية أو العقلانية الغائية ونقد هيمنة الفعل الأداتي على غيره من الأفعال ونقد إعتبار أنه أكثرها عقلانية وبالتالي نقد كونه نموذجاً لهذه الأفعال، يثير من الأسئلة أكثر مما يجيب عليها. فهذا النقد وإن كان يحاول أن يعالج أزمات الحداثة بتوفير إمكان تحقق أشكال تاريخية أخرى من مشروع الحداثة بديلاً للشكل القائم المأزوم إلاّ أن هذا النقد لا يقدّم أيّ تفسير لسيادة العقلانية الأداتية وفعلها على مركبات العقلانية الأخرى وأفعالها، وهذا يعني أنه ليس هنالك مناص من التسليم بأحد الخيارين: خيار فيبر، بالإقرار فعلاً بنموذجية الفعل الأداتي مع تسليمه بمركبات العقلانية الأخرى وبالتالي التسليم أيضاً بأن تشوهات الحداثة نتائج ضرورية للمشروع نفسه، أو خيار لوكاش، بربط تشوهات الحداثة بتحققها التاريخي الرأسمالي. والخيار الأخير رغم كونه يفتح مشروع الحداثة على إمكانات تحقق تاريخية متعددة إلاّ أن ربطه تشوهات الحداثة بالرأسمالية يعني ربطها بنظرية القيمة في المجال الإقتصادي وهذا يترتب عليه تبسيط مفاده أن إلغاء الملكية الخاصة سيؤدي إلى العلاج الجذري لهذه التشوهات. وهذا أمر، فوق أن تطورات العقود الأخيرة من التاريخ الإنساني قد أثبتت خطأه، يفتح مشروع الحداثة على إمكانات غير حقيقية أو بمعنى أدق غير أصيلة، أي لا تنتمي للأساس الأنثربولوجي للمشروع. وهكذا ينغلق الأفق أمام مشروع الحداثة بعدم قدرته على تجاوز أزمته بل وبصيرورة الأزمة جزءاً ضروريّاً من المشروع نفسه، وينفتح فقط أمام ما بعد الحداثة لا بإعتبارها جزءاً من المشروع وإنما بوصفها تخطياً له.
ولذلك فإن اختيار هابرماس الدفاع عن مشروع التنوير والحداثة تتطلب منه القيام بثلاثة مهمات: الأولى، صياغة نظرية للفعل التواصلي لا تقوم فقط على التمايز بين مركبات العقلانية وعوالمها التي ترتبط بها الذات في علاقات مختلفة وإنما أيضاً على التمايز بين أفعالها، بحيث لا يصير الفعل الأداتي نموذجاً لها، بل على العكس يصير تعدّي الفعل الأداتي على أيّ مجال لفعل غيره سبباً في حدوث تشوهات. وعلى هذا الأساس يمكن تفسير تشوهات الحداثة بتعدّي الفعل الأداتي على مجالات الأفعال الأخري، وبالذات على مجالات الفعل التواصلي. والثانية، صياغة العقلانية التواصلية على أساس أنثربولوجي وليس على أساس فلسفة للتاريخ ــــــــــ كما تفعل الماركسية في صياغة نظريتها في الحداثة والتي ربطها لوكاش بعقلنة المجتمع عند فيبرـــــــــــــ بحيث تعتمد على مكونات الإنسان وممكناته وليس فقط على تصوره لما يجب أن يكون. والثالثة، تفسير هيمنة الفعل الأداتي على غيره بحيث يشمل التفسير الإقتصادي دون الإعتماد عليه، أي دون أن يكون أساساً نظرياً للتفسير. وهذا ما فعله هابرماس في نظريته للحداثة التي يفصل فيها بين عالم الحياة والنسق الإجتماعي، وتجعل من هذا الفصل أساساً لفهم الشروط التي هيمن فيها الفعل الأداتي والعقلانية الأداتية.
وصياغة نظرية الفعل التواصلي على أساس أنثربولوجي تمت بأن عزا هابرماس ـــــــ مستعيناً بدوركايم ــــــــ عملية الإنتقال إلى المجتمعات الحديثة إلى ما أسماه بلغونة linguistification المقدس وهي عملية تمت بأن صار الفعل التواصلي يقوم بالوظيفة التعبيرية ووظيفة التكامل الاجتماعي، اللتان كانت تفي بهما الممارسة الدينية الطقسية. فالهوية الجمعية عند دوركايم التي تأخذ شكل الإجماع المعياري تنبني في وسط الرموز الدينية ويتم فهمها في سيمانطيقا المقدس. وبذلك تصبح المدخل المناسب لتتمكن اللغة من إختراق المخزون المعرفي والأخلاقي، وحينها فقط تنتقل اللغة إلى طور اللغة المكتملة كقضايا وقواعد تركيبية ونحوية، أي لغة محكومة بقواعد مما يمهد للإنتقال إلى التفاعل المحكوم بقواعد أيضاً. مما مكن هابرماس من فهم تطور النوع الإنساني على أساس سيمانطيقي.[90] وبذلك نستطيع المقابلة بين عقلنة رؤية العالم الدينية لدى فيبر ولغونة المقدس عند دوركايم باعتبارهما من عمليات تحديث المجتمع التي تقوم على العقلانية؛ والفارق بينهما يكمن في أن الأولى تجرى في مجال الأخلاق بينما تشمل الثانية المعرفي والأخلاقي معاً. ولغونة المقدس أكثر جذرية من عقلنة رؤية العالم الدينية لإنتمائها لما هو أنثربولوجي.
إن الصفة المميزة للوجود الإنساني هي إعادة صياغته لصلته الحسية بالعالم بواسطة استخدام الرموز بحيث تصبح ذات معنى، وأيضاً تكوينه، من وجهة نظر معيارية، لأسلوب الوجود الإنساني الأفضل. وبعبارة أخرى، إن قوة التوسط الرمزي المموضعة تقطع الصلة الحيوانية المباشرة بالطبيعة التي تؤثر في الكائن من داخله وخارجه؛ ومن ثم تخلق مسافة من العالم تجعل الإنسان قادر على السيطرة على تفاعله مع هذا العالم، وعلى التفكير في هذا التفاعل وتأمله.[91] ومن هنا تستمد الرموز في اللغة قوتها التحررية.
هذا يعني تغيير وجهة نظر الفلسفة التقليدية في اللغة، والتي كانت تنظر للغة بإعتبار أنها تمنح الأسماء للموضوعات التي تتمثلها ومن ثم تبني نظاماً من العلامات يسهل التفكير ويجعل تواصل الأفكار ممكناً. ولكن في هذه الحالة، ولأن اللغة وسط يتدخل بين الذات والعالم، فإنها تصير حاجباً بين الإنسان وعالمه. أما وجهة النظر الفلسفية الجديدة في اللغة فتهب اللغة وظيفة كاشفة وتجعل منها قوة منتجة ينكشف العالم من خلالها للذات العارفة. إن إشارة اللغة للموضوعات التي تتمثلها وظيفة هامة، ولكن وظيفتها الأهم والمنتجة والمميزة هي التعبير المفاهيمي عن عالم حالات الأمور الممكنة. فالبنية النحوية للقضايا هي التي تمنح حالات الأمور هذه بنيتها. أي أن اللغة هي التي تمنح المعنى، مما يعنى أن, وجهة النظر الفلسفية الجديدة تقوم بتحويل سيميوطيقي لفلسفة كانط الترانسندنتالية تأخذ فيه اللغة دور المقولات في إنتاجها الترانسندنتالي لعالم الموضوعات؛ ولأن هنالك تعبيرات مفاهيمية متعددة عن عالم حالات الأمور الممكنة فإن هذا يؤدي إلى تكوين عوالم متعددة. وبمجرد أن تنتقل العمليات الترانسندنتالية بين أنظمة رموز متعددة فإن الذات الترانسندنتالية تفقد موقعها المتعالي على العالم التجريبي وتنخرط في عمليات التاريخ وتنقسم إلى لغات تعددية وكذلك ثقافات تعددية.[92] وطبقاً لهذا الدور الذي تلعبه اللغة في تأسيس هذه الكانطية الجديدة نستطيع أن نفهم لماذا صارت لغونة المقدس أمراً عقلانياً. ونستطيع أن نفهم أيضاً التأثير الذي مارسته هذه الفكرة على هابرماس في تأسيسه لنظرية الفعل التواصلي التي تعتمد على قراءة تداولية لفلسفة كانط تمتد بجذورها لهذا التحول اللغوي.
ولكن ولأن هذه القراءة التداولية لفلسفة كانط كانت قراءة نقدية فإنها لم تؤد إلى قيام تداولية ترانسندنتالية وإنما أدت إلى قيام تداولية كلية. فرغم أننا نستطيع أن نرى أوجه شبه بين الفلسفة الترانسندنتالية والتداولية الكلية: فالتعبير "شروط تكوين موضوع التجربة الممكنة" يمكن أن يتطابق معه التعبير "شروط حالة الفهم الممكن"، إلاّ أن الأخيرة تهتم بالوصول إلى الفهم أكثر من اهتمامها بشروط تجربته، الذي يأتي في المرتبة الثانية، بينما الفلسفة المتعالية تهتم بشروط التجربة في المقام الأول.[93] وهو السبب الذي دفع هابرماس للتمييز بين الكلي والترانسندنتالي، فالأول يرتبط عنده بالإجراءات بينما الثاني بالمضمون. والمهم في هذا الأمر أن تأسيس التداولية الكلية عند هابرماس على قراءة تداولية نقدية لفلسفة كانط الترانسندنتالية هو الذي أضفى على اللغة طابعها العقلاني، وبالتالي صار مفهوماً لماذا كانت لغونة linguistification المقدس أمراً عقلانياً.
إن لغونة linguistification المقدس تعني استبدال سلطته تدريجياً بسلطة الإجماع الذي يتحقق في التواصل اللغوي. وهذا يعني تحرير الفعل التواصلي من السياقات المعيارية، التي يحميها المقدس. لقد تمت إزالة سحر المقدس وتفكيك سلطته بلغونـة linguistification الإتفاق المعياري الأساسي، الذي يعمل المقدس على تأمينه. ولقد أطلقت هذه العملية ما يكمن في الفعل التواصلي من عقلانية. إن تزايد سيادة بنيات الأفعال الموجهة للفهم المتبادل، أو كما أسماها هابرماس بلغونة المقدس في دراسته لدوركايم، تعني إنتقال الإنتاج الثقافي، والتكامل الإجتماعي، والتنشئة الإجتماعية للأفراد، من الأسس المقدسة إلى التواصل اللغوي ومن الأفعال الموجهة إلى الفهم المتبادل. وبقدر ما يقوم الفعل التواصلي بالوظائف المجتمعية المركزية، بقدر ما تنوء اللغة بعبء واجب إنتاج الإجماع. وبكلمات أخرى، إن اللغة لم تعد فقط تقوم بنقل وتحقيق الإتفاقات ما قبل اللغوية، وإنما أصبحت تحقق كذلك وبصورة متزايدة إتفاقات نتوصل إليها عقلياً. وهي تقوم بذلك في مجال الخبرة الأخلاقية العملية والتعبيرية وبذات القدر في المجال المعرفي الخاص بالتعامل مع الواقع المموضع. وبهذه الطريقة فهم ميد بعض التطورات كعقلنة تواصلية لعالم الحياة. وهو أمر متعلق، أولاً، بتمايز العناصر البنيوية المكونة لعالم الحياة، والتي كانت مترابطة بقوة في الوعي الجمعي: الثقافة والمجتمع والشخصية، وإنفصالها بعضها عن بعض كبنيات رمزية لعالم الحياة. وهو يتعلق، ثانياً، بالتغييرات في هذه المستويات الثلاثة، والتي يكون بعضها متوازياً وبعضها الآخر متكاملاً: فالمعرفة المقدسة غلبت عليها المعرفة المتخصصة طبقاً لمزاعم الصحة، وهي معرفة تتأسس على العقل؛ وانفصل الأخلاق والقانون عن بعضهما البعض وصارا كليّين؛ وأخيراً، تمددت الفردية مع مطالب متزايدة بالإستقلال وتحقيق الذات. إن البنية العقلانية لهذه الميول تجاه اللغونة يمكن أن نجدها في حقيقة أن استمرار التقاليد، والحفاظ على الأنظمة المشروعة، واستمرار تواريخ حياة الأفراد، أصبحت تعتمد بصورة متزايدة على وجهة النظر التي تعود، حينما تصبح مشكلة، لمواقف القبول أو الرفض لمزاعم الصحة القابلة للنقد.[94]
لقد انتهينا إلى أن عقلنة عالم الحياة بكل نتائجها والتمايزات التي وصلت إليها قد اعتمدت بالأساس على ما سميناه بلغونة linguistification المقدس أو ما سماه ماكس فيبر من قبل بعقلنة الرؤية الدينية الميتافيزيقية للعالم؛ فبالنسبة لهابرماس فمن الواضح أن هذه العقلنة لم تكن ممكنة إلاّ بإعادة البناء الأنثربولوجي لتاريخ النوع الإنساني بحيث تمتد كل جذوره في السيمانطيقا، ومن ثم يصبح من الممكن أن نطابق بين العقلانية وتحويل هذه الجذور إلى لغة مكتملة لها ثلاثة أفعال كلام، تعبّر عن علاقة الفعل التواصلي بالأشكال الثلاثة للعالم، إذ تنطوي عملية التحويل هذه على الشروع في تحقيق العقلانية الكامنة في الفعل التواصلي.
إن العقلانية التواصلية عند هابرماس تقوم ــــــــــ كما هو واضح ـــــــــــ على أن أفعال الكلام تقدّم مزاعم صحة يتم الإجماع حولها تبعاً لحجج بعينها، أي أن النظرية تستند على فكرة الإجماع كأساس لفكرة التواصل والتنسيق بين الأفعال الاجتماعية، وتجعل منها تحققاً لعقلانية كامنة فيما هو أنثربولوجي، أي في الكلام باعتباره من مكونات الإنسان وممكناته. وهو أمر آخر تختلف فيه الحداثة عند هابرماس مع إتجاهات ما بعد الحداثة؛ التي ترى في العقلانية، وبالتالي في الإجماع، السلطة والقوة وإقصاء الآخرين واستبعادهم، ومن ثم فإن هذه الإتجاهات تعتمد التنازع بديلاً للإجماع. ويتخذ الإجماع عندها سمات إرهابية بمعنى سمات إقصاء شريكك خارج لعبة اللغة التي كنتما تلعبانها من قبل أو مجرد التلويح بذلك. وتستند إتجاهات ما بعد الحداثة في ذلك على إنجازات نظرية الفعل اللغوية التي توضح أن الحجج هي أفعال تتضمن قوة محددة ليس لها مكان بين مقولات الصدق أو الكذب أو الصحة بل يتم وصفها بالضعف أو القوة أو الحسم. ولأنها ترفض أية دعوى بالكلية تقر بوجود خطاب يعلو على كل الخطابات ويوحد بينها، وبالتالي يكون أساساً لقوة الحجج أو ضعفها، فإن القوة المحضة هي التي تحدد الحجج. وهو ما يختلف معه هابرماس الذي يعتمد إجرائياً على التداولية الكلية كأساس يعلو كل الخطابات ويوحدها، وبالتالي يكون مصدراً لقوة الحجج أو ضعفها. إن التصور الذي تعرضه إتجاهات ما بعد الحداثة يناقض ذاته بذاته، إذ أن من يؤسس هيمنة الحجج على قاعدة القوة لا يمكن أن يستنكر على الإجماع المهيمن إقصاءه الآخرين واستبعادهم، كما أن إعترافها بتباين الخطابات مع ضرورة الحفاظ على الإجماع كإجراء وليس كأمر له أساس كلي لا يخرج عن كونه إحدى المسلمات الكلية،[95] التي ترفضها إتجاهات ما بعد الحداثة إبتداءً. ولكن، ومن جهة أخرى، فإن هذا لا يعني أن الإجماع عند هابرماس يقصي التنازع. إن الإجماع والخلاف مترابطان بالتأكيد. بل نستطيع القول أنه لا يمكن أن ينشأ نزاع، من حيث المبدأ، إلاّ في وجود سعي حقيقي للإجماع. إذ لو كانت الخطابات تقصد غاية الخلاف لما اصطدمنا بمساجلات حقيقية بخصوص الحجج. وهذا يعني بالنسبة لهابرماس أن النزاع متضمن بالضرورة في الخطاب ولكنه ليس هو المراد منه.[96]
إن إعادة البناء الأنثربولوجية هذه تطلق موقفاً يدعونا للتساؤل مجدداً، فهي تجعل عقلنة عالم الحياة ـ وفقاً لمنطقها ـ أمراً يعتمد على التكامل بين هذا العالم والفعل التواصلي، وهو أمر يبدو وكأنه منسجم مع تطور النوع الإنساني وحياته؛ ومع ذلك فإن ما ينتهي إليه مشروع الحداثة، الذي هو نتاج هذه العقلنة، يتناقض مع هذا التصور؛ فالفعل الأداتي وعقلانيته الغائية هو الذي ساد في هذا المشروع، وأدّى إلى تشوهات تعرفنا عليها عند فيبر. فبدا وكأن الحداثة تتطور بالضد من طبيعتها أو بالتناقض مع أساسها. فكيف حدث هذا؟ محاولة الإجابة على هذا السؤال هي التي تقوم عليها فلسفة إعادة بناء الحداثة وهو ما حاول أن يعرضه هذا المقال.
خاتمة:
يمكن تلخيص نتائج هذه المقالة بتلخيص النتائج المرتبطة بعناصرها الأساسية. فقد بدأت المقالة بنقد الأساس المعرفي للحداثة ألا وهو التنوير مستخلصة النتيجة التي تؤدي إلى مساواة التنوير بالأسطورة مما يؤدي إلى ضرورة تجاوز تنوير القرن الثامن عشر إذا كنا بصدد إعادة بناء مشروع الحداثة. ومن ثم انتقلت إلى نقد العقل الأداتي باعتباره المحتوى الحقيقي للتنوير وما شكل البعد الأحادي للحداثة مبيناً الكيفية التي تحول بها هذا العقل إلى عقلانية للسيطرة والقمع ووبذلك حددت المقالة الأساس التالي الذي يجب تجاوزه في عملية إعادة بناء الحداثة. أما عنصر نقد تفكير الهوية أو الديالكتيك السلبي فقد تناول بالنقد الهوية باعتبارها الافتراض الميتافيزيقي الأساسي الذي تقوم عليه الحداثة وهو افتراض وفر الشروط اللازمة للتنوير وعقله الأداتي ومن ثم للحداثة كمشروع قائم على العقلانية الأحادية والتماثل. ونقد تفكير الهوية يوفر الأساس الفلسفي لمشروع حداثة جديدة يقوم على التعددية والتركيبية والاختلاف. وتنتقل المقالة إلى جزءها الثاني الذي يبين الأسس الفلسفية لإعادة بناء الحداثة وأولها الانتقال من فلسفة الذات إلى فلسفة اللغة وهو انتقال من العلاقة الأساسية بين الذات والموضوع التي تؤسس لمشروع الحداثة الأحادي البعد إلى العلاقة الأساسية بين الذات والذات التي تؤسس لإعادة بناء الحداثة في أبعاد عديدة ومركبة. أما ثاني الأسس الفلسفية فهو الانتقال من العقلانية الأداتية الأحادية إلى العقلانية التواصلية التعددية المركبة وهو انتقال من التشيؤ إلى استعادة عالم الحياة بتواصله الإنساني. والأساس الفلسفي الأخير يتمثل في التجاوز النقدي للعقلانية الأداتية وتحويلها من شرط ضروري وكلي للحداثة إلى كونه مجرد تحققها التاريخي ومن ثم التجاوز النقدي لتاريخيتها باستبدال فلسفة التاريخ التي تقوم عليها بالأساس الأنثربولوجي للعقلانية التواصلية مما يؤدي إلى ربط العقلانية بمكون هام من مكونات الجنس البشري ألا وهو اللغة، وبذلك نستعيد الأمل في مشروع الحداثة كمشروع للتحرر باعتباره تحققاً لمتضمنات أنثربولوجية وليس تحقيقاً لضرورة وحتمية تاريخية.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] Theodor W. Adorno and Max Horkheimer, Dialectic of Enlightenment, translated by: John Cumming, Verso, London and New York, 1997, p. 3-5
[2] Ibid., pp. 35-37
[3] Ibid., p. 16, 28-32
[4] Christopher Rocco, Between Modernity and Postmodernity, Reading Dialectic of Enlightenment against the Grain, in Political Theory, Vol. 22 No. 1, Sage Publications Inc., Thousand Oaks, February 1994, p. 80
[5] Theodor W. Adorno and Max Horkheimer, Op.Cit., pp. 26-28
[6] Ibid., pp. 5-11
[7] Ibid., pp. 12
[8] Max Horkheimer, Eclipse of Reason, Oxford University Press, New York, 1947, p. 133
[9] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, translated by E B Ashton, Routledge, London and New York, 2000, pp. 45-46
[10] Christopher Rocco, Op.Cit., p. 74-75
[11] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 43
[12] Christopher Rocco, Op.Cit., p. 75
[13] Theodor W. Adorno and Max Horkheimer, Op.Cit., pp. 42, 44
[14] Simon Jarvis, Adorno, A Critical Introduction, first edition, Polity Press, Cambridge, 1998, pp. 22-23, 222
[15] Theodor W. Adorno and Max Horkheimer, Op.Cit., p. 93
[16] Adriana S. Benzaquén, Thought and Utopia in the Writings of Adorno, Horkheimer, and Benjamin, in Utopian Studies, Vol. 9 Issue 2, Society for Utopian Studies, Dept. of English, Uni. Of Alaska Anchorage, Anchorage Alaska, 1998, p. 151
[17] Christopher Rocco, Op.Cit., p. 79-80
[18] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 24, 30, 34
[19] د. رمضان بسطاويسي محمد، مرجع سابق، ص 50
[20] Theodor W. Adorno and Max Horkheimer, Op.Cit., pp. 61-62, 87, 117-118
[21] Christopher Rocco, Op.Cit., p. 78-79
[22] Max Horkheimer, Eclipse of Reason, Op.Cit., p. 176
[23] John O Neill and Thomas Uebel, Horkheimer and Neurath: Restarting a Disrupted Debate, in European Journal of Philosophy, Vol. 12, No. 1, Blackwell Publishing, Oxford, April 2004, p. 92
[24] Max Horkheimer, Eclipse of Reason, Op.Cit., p. 187
[25] Theodor W. Adorno and Max Horkheimer, Op.Cit., p. 115
[26] Max Horkheimer, Eclipse of Reason, Op.Cit., p. 177
[27] Christopher Rocco, Op.Cit., p. 73
[28] بكري خليل، الأيديولوجيا والمعرفة، الطبعة الأولى، دار الشروق للنشر والتوزيع، الأردن، عمان، 2002م، ص 236
[29] Sabine Wilker, Adorno and Derrida as Readers of Husserl: Some Reflections on the Historical Context of Modernism and Postmodernism, in Boundary 2, Vol. 16, No. 2/3, Duke University Press, Durham, Winter- Spring, 1989, p. 86
[30] Martin Morris, On the Logic of the Performative Contradiction: Habermas and the Radical Critique of Reason, in Review of Politics, Vol. 58 Issue 4, University of Notre Dame, Notre Dame, Indiana, Fall 1996, p. 745
[31] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 149, 406
[32] Max Horkheimer, Between Philosophy and Social Science, translated by G. Frederick Hunter, Matthew S. Kramer, and John Torpey, with an introduction by G. Frederick Hunter, The MIT Press, Cambridge, Massachusetts, 1995, p. 193
[33] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 165-166, 170
[34] Theodor W. Adorno and Max Horkheimer, Op.Cit., pp.3-44
[35] Martin Morris, Op.Cit., p. 746-747
[36] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 177
[37] Martin Morris, Op.Cit., p. 745
[38] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 65-67, 88, 149
[39] Ibid., PP. 24-25
[40] Martin Morris, Op.Cit., p. 746
[41] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 44-46
[42] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., pp. 386, 391
[43] Theodor W. Adorno and Max Horkheimer, Op.Cit., p. 36
[44] Christopher Rocco, Op.Cit., p. 91
[45] Simon Jarvis, Op.Cit., p. 156
[46] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 389
[47] Simon Jarvis, Op.Cit., p. 159
[48] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 392
[49] Simon Jarvis, Op.Cit., p. 164
[50] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 144
[51] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 166-168
[52] Peter V. Zima, Deconstruction and Critical Theory, translated by Rainer Emig, Continuum, London and New York, 2002, p. 88
[53] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 153
[54] Adriana S. Benzaquén, Op.Cit., p. 159
[55] Martin Morris, Op.Cit., p. 751
[56] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 170-171
[57] Ibid., pp. 172
[58] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 35-36
[59] Martin Morris, Op.Cit., p. 756
[60] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 5, 11
[61] Simon Jarvis, Op.Cit., pp. 212-215
[62] Theodor W. Adorno, Minima Moralia, Reflections from Damaged life, translated by E. F. N. Jephcott, New Left Books, London, 1974, p. 247
[63] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 5
[64] Adriana S. Benzaquén, Op.Cit., p. 159
[65] Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, Op.Cit., p. 203
[66] Max Horkheimer, Eclipse of Reason, Op.Cit., p. V
[67] Adriana S. Benzaquén, Op.Cit., p. 152-153
[68] فرانسواز أرمينكو، المقاربة التداولية، ترجمة: د. سعيد علوش، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1986م، ص 79-80
[69] المرجع السابق، ص 10
[70] Thomas McCarthy, The Critique of Impure Reason: Foucault and the Frankfurt School, in Critique and Power, Recasting the Foucault/Habermas Debate, edited by: Michael Kelly, The MIT Press, Massachusetts, 1994, p. 243-244
[71] Ibid., p. 244
[72] Jurgen Habermas, Communication and the Evolution of Society, translated with an introduction by Thomas McCarthy, Polity Press, Cambridge, 1995, pp. 90-91
[73] Jurgen Habermas, Postmetaphysical Thinking, translated by William Mark Hohengarten, Third printing, The MIT Press, Cambridge, Massachusetts, London, 1996, pp. 6-7
[74] Jurgen Habermas, The Theory of Communicative Action, Reason and The Rationalization of Society, translated by: Thomas McCarthy, Vol. 1, Beacon Press, Boston, 1984., pp. 14 - 15
[75] د. عطيات أبو السعود، الحصاد الفلسفي للقرن العشرين، منشأة المعارف، الأسكندرية، 2002م، ص 67
[76] Jurgen Habermas, The Theory of Communicative Action, Reason and The Rationalization of Society, Op.Cit., p. 143
[77] Ibid., pp. 172-174
[78] Jurgen Habermas, On the Pragmatics of Communication, edited by Maeve Cooke, Polity Press and Blackwell Publishers, Cambridge and Oxford, 2002, p. 220
[79] Jurgen Habermas, The Theory of Communicative Action, Reason and The Rationalization of Society, Op.Cit., pp. 243-244
[80] Ibid., p. 350
[81] Ibid., pp. 244-245
[82] Ibid., p. 250
[83] Ibid., p. 249
[84] Jacob Torfing, New Theories of Discourse, First edition, Blackwell Publishers, Oxford, 1999, p. 96
[85] Ibid., p. 300
[86] Gerard Delanty, Social Theory in a Changing World, Conceptions of Modernity, First edition, Polity Press, Cambridge, 1999, p. 27
[87] Jurgen Habermas, On the Pragmatics of Communication, Op.Cit., pp. 404-407
[88] Jurgen Habermas, Postmetaphysical Thinking, Op.Cit., pp. 115-117
[89] جورج لوكاش، التاريخ والوعي الطبقي، ترجمة: الدكتور حنا الشاعر، الطبعة الأولى، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1979م ، ص 83
[90] Jurgen Habermas, The Theory of Communicative Action, Lifeworld and System: A Critique of Functionalist Reason, translated by: Thomas McCarthy, Vol. 2, third edition, Beacon Press, Boston, 1984, p. 77
[91] Jurgen Habermas, The Liberating Power of Symbols, translated by: Peter Dews, First edition, MIT Press, Cambridge, Massachusetts, 2001, p. 7
[92] Ibid., p. 12-13, 21
[93] Jurgen Habermas, Communication and the Evolution of Society, Op.Cit., pp. 23-24
[94] Jurgen Habermas, The Theory of Communicative Action, Lifeworld and System, Op.Cit., p. 107
[95] مانفريد فرانك، حدود التواصل، الإجماع والتنازع بين هابرماس وليوتار، ترجمة: عز العرب لحكيم بناني، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء وبيروت، 2003م، ص 23- 30
[96] المرجع السابق، ص 109
المراجع:
باللغة الإنجليزية:
1. Adriana S. Benzaquén, Thought and Utopia in the Writings of Adorno, Horkheimer, and Benjamin, in Utopian Studies, Vol. 9 Issue 2, Society for Utopian Studies, Dept. of English, Uni. Of Alaska Anchorage, Anchorage Alaska, 1998.
2. Christopher Rocco, Between Modernity and Postmodernity, Reading Dialectic of Enlightenment against the Grain, in Political Theory, Vol. 22 No. 1, Sage Publications Inc., Thousand Oaks, February 1994.
3. Gerard Delanty, Social Theory in a Changing World, Conceptions of Modernity, First edition, Polity Press, Cambridge, 1999.
4. Jacob Torfing, New Theories of Discourse, First edition, Blackwell Publishers, Oxford, 1999.
5. John O Neill and Thomas Uebel, Horkheimer and Neurath: Restarting a Disrupted Debate, in European Journal of Philosophy, Vol. 12, No. 1, Blackwell Publishing, Oxford, April 2004.
6. Jurgen Habermas, Communication and the Evolution of Society, translated with an introduction by Thomas McCarthy, Polity Press, Cambridge, 1995.
7. Jurgen Habermas, On the Pragmatics of Communication, edited by Maeve Cooke, Polity Press and Blackwell Publishers, Cambridge and Oxford, 2002.
8. Jurgen Habermas, Postmetaphysical Thinking, translated by William Mark Hohengarten, Third printing, The MIT Press, Cambridge, Massachusetts, London, 1996.
9. Jurgen Habermas, The Liberating Power of Symbols, translated by: Peter Dews, First edition, MIT Press, Cambridge, Massachusetts, 2001.
10. Jurgen Habermas, The Theory of Communicative Action, Lifeworld and System: A Critique of Functionalist Reason, translated by: Thomas McCarthy, Vol. 2, third edition, Beacon Press, Boston, 1984.
11. Jurgen Habermas, The Theory of Communicative Action, Reason and The Rationalization of Society, translated by: Thomas McCarthy, Vol. 1, Beacon Press, Boston, 1984.
12. Martin Morris, On the Logic of the Performative Contradiction: Habermas and the Radical Critique of Reason, in Review of Politics, Vol. 58 Issue 4, University of Notre Dame, Notre Dame, Indiana, Fall 1996.
13. Max Horkheimer, Between Philosophy and Social Science, translated by G. Frederick Hunter, Matthew S. Kramer, and John Torpey, with an introduction by G. Frederick Hunter, The MIT Press, Cambridge, Massachusetts, 1995.
14. Max Horkheimer, Eclipse of Reason, Oxford University Press, New York, 1947.
15. Peter V. Zima, Deconstruction and Critical Theory, translated by Rainer Emig, Continuum, London and New York, 2002.
16. Sabine Wilker, Adorno and Derrida as Readers of Husserl: Some Reflections on the Historical Context of Modernism and Postmodernism, in Boundary 2, Vol. 16, No. 2/3, Duke University Press, Durham, Winter- Spring, 1989.
17. Simon Jarvis, Adorno, A Critical Introduction, first edition, Polity Press, Cambridge, 1998.
18. Theodor W. Adorno and Max Horkheimer, Dialectic of Enlightenment, translated by: John Cumming, Verso, London and New York, 1997.
19. Theodor W. Adorno, Minima Moralia, Reflections from Damaged life, translated by E. F. N. Jephcott, New Left Books, London, 1974.
20. Theodor W. Adorno, Negative Dialectics, translated by E B Ashton, Routledge, London and New York, 2000.
21. Thomas McCarthy, The Critique of Impure Reason: Foucault and the Frankfurt School, in Critique and Power, Recasting the Foucault/Habermas Debate, edited by: Michael Kelly, The MIT Press, Massachusetts, 1994.
باللغة العربية:
22. بكري خليل، الأيديولوجيا والمعرفة، الطبعة الأولى، دار الشروق للنشر والتوزيع، الأردن، عمان، 2002م.
23. جورج لوكاش، التاريخ والوعي الطبقي، ترجمة: الدكتور حنا الشاعر، الطبعة الأولى، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1979م.
24. فرانسواز أرمينكو، المقاربة التداولية، ترجمة: د. سعيد علوش، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1986م.
25. مانفريد فرانك، حدود التواصل، الإجماع والتنازع بين هابرماس وليوتار، ترجمة: عز العرب لحكيم بناني، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء وبيروت، 2003م.