|
كريم الملاّ- سردية الاختلاف ونبض الائتلاف
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 4949 - 2015 / 10 / 8 - 22:36
المحور:
الادب والفن
كريـــــــم المــــلاّ سردية الاختلاف ونبض الائتلاف د.عبد الحسين شعبان يوم اتّصل بي الصديق كريم الملاّ سررت كثيراً، لأنه مرّ بظرف صحي عصيب، وهذا يعني أنه تجاوز حدوده الخطرة، وثانياً عندما أعلمني أن ابنته الدكتورة "شهد" تنوي إصدار كتاب عنه، وطلبت من بعض أصدقائه كتابة ذكرياتهم عنه ومعه، بمن فيهم من القوى السياسية والتيارات الفكرية الأخرى، وكان قد أدرج اسمي ضمن قائمة الشخصيات التي يمكنها المشاركة في هذه المبادرة، وقلت مع نفسي ما كنت أردّد دائماً "الاختلاف لا يفسد في الودّ قضية"، وفي نهاية المطاف لا يصحّ الاّ الصحيح، ولعلّ ما يبقى هو المعيار الإنساني، وهو بالنسبة لي فوق كل اعتبار، وحسب الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس "الإنسان مقياس كل شيء". I تعارف وتفاوض وصداقة كانت علاقتنا التعارفية قد بدأت قبل 17 تموز (يوليو) 1968 ووصول حزب البعث إلى السلطة، ولكنها توثّقت وتعمّقت بعد ذلك، وخصوصاً خلال لقاءاتنا المستمرة في فترة التفاوض بين اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية الذي كنا نمثّله لؤي أبو التمن وأنا، وبين الاتحاد الوطني لطلبة العراق الذي مثله كريم الملاّ ومحمد دبدب وآخرين (والإسمان الرسميان للاتحادين هما اللذان درجنا على استخدامهما). ولعلّ استحضار كريم الملاّ الصديق والسياسي والمهني والإنسان، بعد نحو خمسة عقود من الزمان تتطلّب العودة إلى ظروف العراق في تلك الفترة، وخصوصاً العلاقات بين الشيوعيين والبعثيين، وهي علاقات بقدر ما اتّسمت بالصراع والحدّة ومحاولات الإلغاء والاستئصال، كان فيها الكثير من جوانب التلاقي والقربى السياسية كالعداء للامبريالية والصهيونية والنضال من أجل التحرر والتقدم الاجتماعي وبعض المشتركات الآيديولوجية، ناهيكم عن بعض عناصر التشابه التنظيمي المعروف باسم "المركزية الديمقراطية"، والتنفيذ اللاّشرطي للقرارات، حسبما هو المصطلح الشيوعي، وخضوع الهيئات الدنيا للهيئات العليا والأقلية للأكثرية، الذي اصطلح عليه بعثياً، باسم " نفّذ ثم ناقش" في إطار تنفيذ قرارات القيادة، وأساس ذلك كتاب لينين: ما العمل؟ الصادر في العام 1903، والذي تأثّرت به معظم الأحزاب الشمولية، من التوجهات القومية إلى التنظيمات الإسلامية، وبالطبع يقع في المقدمة منها الأحزاب الشيوعية والماركسية والاشتراكية. وبقدر نقاط التقارب والالتقاء، كان هناك نقاط اختلاف وتعارض شديدة، فكرية وسياسية، ناهيكم عمّا حملته من منافسة في الكثير من الجوانب العملية المشروعة وغير المشروعة. يمكن القول إن هذه الأحزاب جميعها هي أحزاب تندرج ضمن الوصفة اللينينية للتنظيم ذو الضبط الحديدي وشبه العسكري، وبهذا المعنى فإنها تنظيمات منحازة ضد المارتوفية نسبة إلى يوليوس مارتوف الثوري الروسي وزعيم المناشفة الذي وقف ضد فلاديمير لينين زعيم البلاشفة.، والذي كانت صيغته أقرب إلى تيار واسع وعريض، ومن المفارقة إن هذا الموديل جاء وقته بعد نحو قرن من الزمان، لاسيّما بعد انهيار تجارب البلدان الاشتراكية وانتشار قضايا التعددية والاعتراف بالتنوّع وحق الاختلاف وحرية التعبير، بما فيها تعدّد الأصوات داخل الحزب أو التيار الواحد. ولعلّ الأحزاب الشمولية بنسختها الشيوعية أو البعثية- القومية أو الإسلامية أضحت بالتدرّج، وخصوصاً عند الوصول إلى السلطة أو الاقتراب منها، أحزاباً ستالينية قلباً وقالباً في التوجّه والتنظيم وعبادة الفرد، بغضّ النظر عن آيديولوجياتها وأهدافها السياسية، لاسيّما الاستئثار بالحكم ونزعة الانفراد بالسلطة واحتكار العمل السياسي والنقابي والاجتماعي والثقافي، وخصوصاً إذا كان الوصول إليها بطريق غير ديمقراطي وليس عبر صندوق الاقتراع، الأمر الذي يبرّر التمسّك بها، بالأوامرية والتعليمات البيروقراطية وأساليب القمع والتضليل، وفي ظروف العمل السري، كان مبرر الخوف من اختراقات العدو والحذر من الإندساس وغير ذلك من الذرائع التي تعطي مسوّغات لتحوّل التنظيمات إلى أدوات مطيعة بزعم وحدة الإرادة والعمل وتنفيذ القرارات، ولكن ذلك بغض النظر عن الأهداف يؤدي إلى التسلّط وانحسار قاعدة الديمقراطية على حساب المركزية الصارمة والضبط الحديدي. وهكذا لا بدّ من انسجام الوسيلة مع الغاية، فكما هي الشجرة من البذرة، فالوسيلة من الغاية على حدّ تعبير المهاتما غاندي. II محطات: الفصل والوصل وما بينهما الحديث عن كريم الملاّ يتطلب الوقوف عند بعض المحطات التي جمعتنا، وخصوصاً ونحن على مدى عدّة أشهر كنّا نلتقي يومياً تقريباً لمناقشة مسألة الاتفاق البعثي- الشيوعي في إطار الحركة الطلابية العراقية، بهدف توحيدها وتأطيرها على برنامج موحد مهني وحقوقي، يستهدف إجراء إصلاحات حقيقية في إطار الجامعة وتعزيز التعاون بين الأطراف الطلابية لتأكيد ديمقراطية التعليم ، وصولاً لتأسيس كيانية طلابية موحّدة، أرادها البعثيون تحت اسم "الاتحاد الوطني لطلبة العراق"، بل أصرّوا على ذلك، وأردناها شراكة يتم الاتفاق على شروطها وأبعادها والمراحل التي تتطلبها، سواء على شكل جبهة طلابية مهنية ونقابية، أو علاقة تعاون وتنسيق، أو كيان موحد جامع يضم الاتحادين، لدرجة يمكن أن يتطوّر ليصل مع القوى الأخرى الكردية والقومية العربية، إلى إتحاد واحد في إطار الأهداف المشتركة. وكانت نزعة الوحدانية إلى جانب الشرعية سائدة في الوسط السياسي والنقابي، والكل مأخوذون بها، وخصوصاً من هو قريب من السلطة بادعاء التمثيل أو الشرعية لهذا القطاع أو النقابة أو الاتحاد أو الجمعية، لتصل المسألة إلى الزعم بتمثيل الطبقة وصولاً إلى تمثيل الشعب، كل الشعب. لكننا مع رغبتنا الصادقة في التوصل إلى اتفاق رفضنا على نحو قاطع القبول بفكرة احتواء اتحاد الطلبة، لينضوي تحت خيمة الاتحاد الوطني تحت مبررات إنهم قادوا الثورة (الانقلاب) وتحمّلوا مشقة ذلك، وهم الآن يمسكون بالسلطة، وبالتالي فهم من باب الحرص يريدون مشاركتنا (بما نستحق) وبما يرتّبه ميزان القوى في إطار برنامج كدنا نتفق على 80% من خطوطه العريضة، لكن ذلك لم يحصل وهو ما استغرق فيه الحوار نحو عام ونيّف، وكانت النتيجة المعروفة المزيد من الصراع والتباعد، حين استخدمت السلطة آلتها الأمنية لضرب اتحاد الطلبة والحزب الشيوعي، على أمل تفكيكهما أو إضعافهما ومن ثم معاودة الكرّة لتحالف تكون قوته الأساسية حزب البعث والاتحاد الوطني والسلطة، وهو ما حصل بالفعل. لم تقتصر علاقتي بكريم الملاّ على تلك الفترة، فبعد ملاحقات واعتقالات في العام 1970 شملت الوجه الطلابي الشيوعي المعروف عضو الوفد المفاوض لؤي أبو التمن والممنوح عضوية شرف من الاتحاد الوطني في مؤتمره الذي انعقد بعد الانتخابات الطلابية العام 1969، اضطررتُ إلى مغادرة العراق والذهاب للدراسة العليا في تشيكوسلوفاكيا لنيل الدكتوراه عبر مسيرة طويلة، من الكويت إلى الشام ومنها إلى بيروت فاسطنبول وصوفيا، وصولاً إلى براغ، بعد أن تعذّر وصولي في الوقت المناسب إلى روستوك (ألمانيا الديمقراطية) حيث كنّا نقيم فعّالية لتنظيمات الخارج الطلابية. وكنت قد تخرّجت من جامعة بغداد في وقت سابق، ولكنني انتدبتُ للعمل في هذا القطاع لفترة غير قصيرة بسبب الحاجة وانقطاع الخبرة التي سببها ذهاب الغالبية الساحقة من تنظيمات الطلبة مع القيادة المركزية العام 1967. وخلال زيارته المتكررة إلى براغ تواصلت علاقتنا سواء بحضور مشترك مع الأخ د. مهدي الحافظ للقاءات في اتحاد الطلاب العالمي، أو خلال لقاءات خاصة، سواء بحضور أصدقاء من الاتحاد الوطني أو بدونهم، وكما كان يقول عنها الملاّ أنها امتدادات لحوارات بغداد الجميلة على اختلافاتنا وتقاطع مواقفنا أو تقاربها أحياناً. ووجدت في كل مرّة أكون قريباً من كريم الملاّ أشعر بدرجة صراحته ووضوحه، وأستطيع القول بعد هذه السنوات وما حصل للعراق من قمع وويلات وحروب وحصار واحتلال، أنه كان إيجابياً ومرناً ومتفهماً لظروف الغير ولأوضاعنا تحديداً، كما وجدت لديه فروسية حتى في الاختلاف، وأخلاقاً عالية تنمُّ عن حسن تربية، وتلك مسائل أذكرها الآن للتاريخ، علماً بأن ظروف العمل والعلاقات كانت قاسية وحدّية أحياناً، وهي أكبر من الرغبات الشخصية، لاسيّما عندما يكون فريق في موقع السلطة وآخر في خارجها. III براغ وعبد الرحمن الملاّ خلال وجودي في براغ وقبيل إنهاء دراستي بفترة اتصل بي عبد الرحمن الملاّ (لا أتذكّر رتبته العسكرية لكنني أظن أنه كان مقدّماً) وكان قد وصل إلى براغ واستقر فيها، لتسلّم مسؤولية الملحقية العسكرية، وأبلغني أنه شقيق كريم الملاّ، وسألني فيما إذا احتجت إلى شيء أو تسهيل مهمة أو معاملة، فإنه سيكون جاهزاً. واتفقنا على لقاء حين قبل دعوتي على الغداء بعد أن أصرّ على دعوتي هو، حيث كنت طالباً وهو موظف كما برّر حينها، لكنني حسمت الأمر للقاء باشتراط قبول دعوتي التي لبّاها شاكراً، وتكرّرت لقاءاتي معه في السفارة العراقية عند مراجعاتي معاملات تخصّني أو تخص الطلبة ومشاكلهم، حيث كنت ألتقيه، سواءً بالمرور عليه أو مصادفة، وأحياناً أتصل به مسبقاً لإبلاغه بأنني سأزور السفارة، فإذا كان موجوداً فيمكنني اللقاء به لغرض التواصل الإنساني. وبالمناسبة كان السفراء الذين اختيروا من أفضل السفراء وأكثرهم تفهّماً لمشاكل الطلبة، وخصوصاً تواصلهم مع الشيوعيين وأقول ذلك كقراءة ارتجاعية للماضي، علماً بأنني كنت لفترتين رئيساً لجمعية الطلبة العراقيين، إضافة إلى مسؤوليتي الحزبية. وعلى ما أتذكر أن السفراء الذين كانوا خلال وجودي في براغ هم: محسن دزئي وأعقبه نعمة النعمة ثم جاء عبد الستار الدوري الذي سبق له أن عمل ملحقاً ثقافياً، وكانت العلاقات معهم جميعاً على أحسن ما يرام. وجدت في عبد الرحمن الملاّ وقد رحل عن دنيانا سريعاً، قلباً كبيراً ومودّة صادقة ومنزّهة عن الغرض والهوى، وأخبرني في إحدى المرّات أنه يريد أن يعاملني كما يعامل كريم الملاّ شقيقه، وأنه بغضّ النظر عن أي شيء وأي اعتبار وأية مواقع وأية انتماءات حزبية، فإنه مستعد لتقديم أية تسهيلات، وعليّ أن أقبل ذلك، وهو الممنون كما يقول، وأبلغني أن هذه توصية خاصة من كريم الملاّ الذي كنت متأكداً من صدق نواياه الشخصية تجاهي مع تباين المواقف السياسية وأحياناً حراجتها، وهو ما كنت أشعر به، خصوصاً بتضايق لوجود شخص آخر معنا في المفاوضات، وهو حسن المطيري، ولاسيّما بعد أن عرفناه وشخّصنا من يكون المدعو "فيصل"، وهو "الملازم فيصل" أحد المسؤولين في قصر النهاية، لكنني كنت أشعر أنه كان مفروضاً عليه، حيث كان ملتزماً بما تقرّره القيادة القطرية، وأنا كذلك بما تقرره اللجنة المركزية، مع وجود هوامش للاجتهاد أحياناً، في ظروف المعرفة الميدانية والتفصيلية. ولعلّ حادثة طريفة حصلت مع عبد الرحمن الملاّ، وهي تتعلق بإرسال والدي عزيز شعبان مبلغاً من المال لي (خمسة آلاف دولار حينها) لشراء سيارة وشحن حاجياتي الشخصية وشراء بعض المستلزمات الضرورية، وكان قد أرسل المبلغ بواسطة أخي حيدر عبر صديق له وهو ابن أحد رفاقنا الذين استشهدوا العام 1963، لكن الشاب الذي حمل المبلغ طمع به ووصل إلى براغ لبضعة ساعات وسأل عني، ثم قيل لي أنه سافر إلى برلين. وظل الشاب نحو ثلاثة أشهر يتردّد بين برلين وبراتسلافا ودمشق، يشتري ويبيع بالسيارات، وأنا انتظره لغرض ترتيب أمور عودتي، وصادف أن سألني عبد الرحمن الملاّ خلال مراجعتي السفارة لتصديق شهاداتي الدراسية عن عودتي، فأخبرته إن ما يعطّلني هو هذا السبب، وحاول إقناعي بالاتصال بالسفارة في يوغسلافيا لحجزه أو الاتصال بالعراق للإخبار عنه، ولكنني أقنعته بأنه سيعيد المبلغ وأنا متأكد من ذلك، وقد يكون هناك من أغراه بالاسترزاق، ولكن كيف أستطيع إقناعه هذه المرّة، بعدم قبول المبلغ المذكور أو ما يوازيه لحين وصول المبلغ الأصلي، وقد بذلت جهداً مضنياً بذلك، ووعدته بأنه إذا لم يصل المبلغ خلال شهر ، فإنني سأسلّم ما يعادل المبلغ في بغداد إلى من يكون من جانبه، على أن أستلم منه ذلك، ولحسن الحظ فبعد ثلاثة أيام جاء الشاب معتذراً وخجلاً ومعه المبلغ كاملاً، واتصلت به لأخبره بذلك. وهناك حادثة أخرى طريفة، فقد التقينا عنده مع الصديق المحامي محسن العذاري، الذي كان يزور السفارة أيضاً، ابراهيم فيصل الأنصاري رئيس أركان الجيش السابق، وقد عرّفنا عليه، ولا أدري إن كان العذاري يعرفه قبل ذلك، وعندما خرجنا العذاري وأنا أصرّ الأنصاري على إيصالنا بسيارته، ولا أدري ما الذي حصل فقد شن هجوماً لاذعاً ضد الشيوعيين وصل إلى الشتائم ودون سبب يُذكر، ولكنني لم أنبس ببنت شفة ولم أعلّق، وكنت أنتظر أن أعرف السبب، وبادر العذاري، فقال له ألا تعرف عبد الحسين شعبان والتفت إلى الخلف، وقال له إنه شيوعي، وحاول الأنصاري الاعتذار مبرّراً أن الموضوع يتعلّق بالجيك وليس بالعراقيين، وأنه يعرف بعض الشيوعيين وأنه لم يقصد بذلك الاستفزاز، وقلت له بأدب لست ضد أن تختلف مع الشيوعيين، ولكن ضد أن تشتمهم وتتهمهم بهذه الطريقة، وأصرّ الأنصاري على دعوتنا للغداء لتصحيح الموقف ومعالجة الأمر، فاعتذرنا. IV حوارات في مجالين في حوار أجراه معي الصحافي العراقي توفيق التميمي ونشره في جريدة الناس (24 حلقة) حاول استفزاز الذاكرة بهدف الكشف عن بعض مخزونها، باستذكار أحداث وقضايا والتوقّف عند أسماء ومحطات، كجزء من الصراع السياسي والفكري الذي عاشته الحركة الوطنية العراقية، وكل في مجاله، ولأنه إعلامي تمرّس في علاقة متينة مع الحرف وتصادق مع الكلمة محاولاً تطويعها للبوح والكشف عن مكنونات لا التاريخ فحسب، بل النفس البشرية، فقد توقّف عند محطة مبكّرة من علاقاتي السياسية، وخصوصاً مع القوى الأخرى، حيث كنت رئيساً لوفدين مفاوضين، الأول – مع الاتحاد الوطني لطلبة العراق والثاني، مع الجمعية العراقية للعلوم السياسية، حيث كنت أمثل الحزب فيها بعد انقلاب 17 تموز (يوليو) العام 1968، وذلك استمراراً للمباحثات بخصوص تأسيسها قبل نحو عام من حدوث الانقلاب وباتفاق بين القوى المختلفة وخصوصاً البعث لاسيّما جناح البكر – صدام الذي كان قويّاً في هذا القطاع وقسم من جناح سوريا والحركة الاشتراكية العربية والحزب الديمقراطي الكردستاني (جناح المكتب السياسي الذي كان له حضور في هذا القطاع بحكم دور طيب محمد طيّب وصلاح عقراوي وآخرين). وكانت العلاقة الأولى مع محمد محجوب الذي أعدم العام 1979، ولكنها توسعت وتطورت مع زهير يحيى الذي كان مسؤولاً عن وزارة الخارجية ثم مدينة الثورة وبعد أن أصبح مسؤولاً للموصل تواصلت العلاقة مع طه الحديثي ومجبل السامرائي ونجم عنها اتفاق تحالف ضم حزب البعث والحزب الشيوعي وجناح المكتب السياسي للحزب الوطني الديمقراطي (جناح ابراهيم احمد- جلال الطالباني) والحركة الاشتراكية العربية. ولعلّ العنوان الذي اختاره التميمي للقسم الرابع من الكتاب الذي ضمّ هذه الحوارات ومعها حوارات أخرى إضافية، حمل اسم: أحلام وأوهام- اتحاد الطلبة والاتحاد الوطني: صراع الأضداد وحوارها. أما عنوان الكتاب الأساسي فهو " المثقف في وعيه الشقي – حوارات في ذاكرة عبد الحسين شعبان". وعلى الرغم من تركة الماضي الثقيلة للحركة الوطنية، فقد قرّر الحزب الشيوعي الاستجابة لمطلب حزب البعث بإجراء حوار، عسى أن يتم التوصّل إلى جبهة وطنية موحّدة، كنّا نريدها واسعة وتضم مختلف الأطراف السياسية، بما فيها الحركة الكردية حيث كان شعارنا يومها: الديمقراطية العراق والحكم الذاتي لكردستان. وكان حزب البعث يريد الاتفاق مع كل قوة على انفراد ليتمكّن منها في محاولة لتقريب جهة وإبعاد أو إقصاء جهة أخرى، وهو ما حصل، فحين اتفق مع الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك) بقيادة الملاّ مصطفى البارزاني في بيان 11 آذار (مارس) العام 1970 الشهير أبعد الآخرين من القوى الكردية، وشن هجوماً شديداً ضد الحزب الشيوعي. وعندما انفرط التحالف مع حدك، واقترب الحزبان الشيوعي والبعثي ووقعا لاحقاً الجبهة الوطنية والقومية التقدمية (جوقت) في 16 تموز (يوليو) 1973 بعد القضاء على حركة ناظم كزار التي كادت أن تطيح بتحالف البكر – صدام في 30 حزيران (يونيو) 1973، وهكذا كانت الدينامية مستمرة بإقصاء قوة وتقريب أخرى. واعتبرنا حينها أن القضاء على "مؤامرة" ناظم كزار قد يفتح الطريق أمام تعاون وطني بناء، وذلك بعد تجربة عام ونيّف من استيزار عامر عبدالله ومكرّم الطالباني، وتجربة تأميم النفط، الخطوة الوطنية التقدمية الراديكالية الهائلة في 1 حزيران (يونيو) 1972، وتوقيع معاهدة الصداقة والتعاون مع الاتحاد السوفييتي في 9 نيسان (ابريل) العام 1972، وإصدار قوانين العمل والضمان الاجتماعي العام 1970، وقانون جديد للاصلاح الزراعي العام 1969 والاعتراف بألمانيا الديمقراطية في 1 أيار (مايو) 1969 العام، وقبلها إطلاق سراح المعتقلين وإعادتهم إلى أعمالهم (على الرغم من أن الفترة ذاتها شهدت اعتقالات وأعمال تعذيب ولاسيّما في قصر النهاية شملت مختلف القوى من الحزب الشيوعي بجناحيه، وخصوصاً القيادة المركزية والقوى القومية العربية بما فيها جناح حزب البعث السوري والحركة الكردية). لكننا اعتبرنا تلك مرحلة مضت ولا بدّ من تصفية مخلّفاتها مع فشل مؤامرة ناظم كزار والتوجّه لحلحلة التحالف بالاتفاق على الجبهة، لدرجة إن مهمة تصفية "الجيب العميل" كما كان الحكم ينعت بها الحركة الكردية، شملت مشاركتنا بها وتحمّس لها بعض ملاكاتنا، تعبيراً عن حسن نية القيادة إزاء التحالف، وهو ما حاولناه منذ طرح مشروع ميثاق العمل الوطني في أواخر العام 1971 وما بعده، وكنّا قد استبشرنا خيراً بعد اتفاق 11 آذار (مارس) لعام 1970 مع الحركة الكردية، لكن آمالنا في قيام تحالف واسع يضم القوى الوطنية جميعها أو أغلبيتها الساحقة خابت، وظلّت السلطة تقدّم خطوة وتؤخر أخرى، وتتحالف مع قوة سياسية وتنحّي قوة أخرى جانباً، لكن ذلك لا يعني أن بعض القوى الأخرى لا تتحمل مسؤولية ما وصلت إليه العلاقة بين القوى الوطنية، لاسيّما بتداخل بعض العوامل الخارجية. V عروض وعقبات أقول ذلك الآن وكنّا كطلبة شيوعيين أو ممثليهم على الأقل، قد أجلّنا اللقاء والحوار والتفاوض مع الاتحاد الوطني ثلاث مرّات، الأولى عندما هوجم احتفالنا في ساحة السباع بمناسبة ثورة اكتوبر الاشتراكية (الذكرى الحادية والخمسين) (7 نوفمبر/1968) وسقط ثلاثة شهداء و12 جريحاً وتم اعتقال 42 مشاركاً (بينهم طلبة). والثانية حين كدنا أن نحدّد الموعد بعد أن عرفنا من خلال الحديث أن الطرف الثاني (أي الاتحاد الوطني) سيمثله الشاعر حميد سعيد، ولكننا فوجئنا باسم ناظم كزار قبل أن يتولى مديرية الأمن العامة فوجدنا حجة للاعتذار بالتأجيل، ولكن اللقاء تحقق مع كريم الملاّ، وحضر حميد سعيد معنا أحد الاجتماعات. وقد اعتذرنا عن حضور الاجتماع مع ناظم كزار تحت مبرّر، نبلّغكم بالموعد والتفاصيل في وقت لاحق، وذلك نظراً للتاريخ الدموي للرجل ولحساسية الموقف بالنسبة لنا، لاسيّما على المستوى الشخصي. والثالثة تحدّد موعد اللقاء، ولكننا طلبنا تأجيله نظراً لإعدام مطشر حواس يوم 6/1/1969 لاتهامه بالصدام المسلح ضد عناصر تابعة للسلطة، علماً بأن كان على ملاك القيادة المركزية، وهو شقيق كريم حوّاس الذي اعتقل في قصر النهاية لاحقاً وتم تعذيبه على نحو شديد. أسوق هذه التواريخ لحساسيتنا ولدقة المشهد السياسي العراقي، لاسيّما في هذا القطاع الحيوي آنذاك، لكننا نحن من بادر إلى طلب اللقاء بواسطة عزيز حسون عذاب بعد صدور القانون رقم 97 لعام 1969 بخصوص تأسيس "الاتحاد العام لطلبة العراق" كما ورد اسمه ولتنظيم الانتخابات الطلابية. وكنّا قد اعتبرنا ذلك القانون يحتوي على أسس صالحة للحوار مع تحفظاتنا على الكثير من النقاط التي وردت فيه، وكان اللقاء من طرف الاتحاد الوطني برئاسة كريم الملاّ وعضوية عصام البصّام وحضر عزيز حسّون عذاب وأنا من اتحاد الطلبة، وكنّا قد أبلغنا صباح عدّاي من الحركة الاشتراكية العربية بموعد اللقاء فحضر أيضاً. ليس هناك ما نذيعه من إفشاء سرٍّ إذا قلنا أن نظرتنا كانت سلبية للاتحاد الوطني لطلبة العراق، الذي كنّا نعتبره انشقاقاً في الحركة الطلابية العراقية ممثلة في بداية الأمر باتحاد الطلبة العراقي العام الذي تأسس في 14 نيسان (أبريل) العام 1948، ثم أصبح اسمه اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، وحيث أجريت انتخابات طلابية كانت أقرب إلى أجواء الحرية التي جاءت بها الثورة في عامها الأول، ففازت قائمة الاتحاد المدعومة من الحزب الشيوعي، الذي كان انعطاف الشارع نحوه كبيراً وحاول هو الهيمنة على المنظمات المهنية والاجتماعية والنقابات والاتحادات، الأمر الذي خلق ردود فعل سلبية إزاءه واتحدت غالبية القوى المخلوعة والمحسوبة على ملاك العهد الملكي أولاً ثم المعارضة لحكم قاسم ضدّه، وخصوصاً عندما اندلع الصراع القومي البعثي- الشيوعي إزاء قضايا داخلية وعربية، منها الموقف من مسألة الوحدة العربية أو الاتحاد الفيدرالي، وهما شعاران عاطفيان رفعهما المتصارعون، بل احتربوا ونزفوا دماً لتأكيد وجهة نظر كل منهم وتخطئة الآخر واتهامه. VI مراجعة للتاريخ كان شعار البعث ومعه القوميون يدعو للوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، ولاسيّما بعد زيارة ميشيل عفلق إلى العراق مباشرة بعد ثورة العام 1958، وتدريجياً ارتبط شعار الوحدة العربية بتذييل يدعو لإسقاط الشيوعية "وحدة ، وحدة عربية فلتسقط الشيوعية"، أما شعار الحزب الشيوعي فكان يدعو للاتحاد الفيدرالي والصداقة السوفييتية، وتدريجياً كان الإقصاء سائداً تحت عناوين "لا حرّية لأعداء الحرية" "ولا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية" وبالطبع، فنحن من نحدّد من هم أعداء الحرية وأعداء الديمقراطية، إلى أن سرى الشعار المدوّي " ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة"، مثل النار في الهشيم كما يقال، تاركاً بصمة الاستئثار والعزل، وللأسف فإن الطرفين وضعا أهداف جبهة الاتحاد الوطني التي تأسست العام 1957 وهيأت للثورة، على الرف، مقدّمين ما هو ثانوي وظرفي وطارئ ومؤقت على حساب ما هو ستراتيجي وبعيد المدى وثابت ودائم. ولم يكن ميدان الطلبة سوى انعكاس ومرآة لما يحصل في الوسط السياسي. وزاد الأمر الانحيازات السياسية، فالبعث والحركة القومية اندفعت ضد حكم الزعيم عبد الكريم قاسم وعملت على الإطاحة به بتشجيع ودعم من قيادة الجمهورية العربية المتحدة، والرئيس جمال عبد الناصر، سواء في حركة الشواف (الموصل) في 8 آذار (مارس) 1959 أو في محاولة رأس القرية (بغداد) لاغتيال، الزعيم قاسم، أو غيرها من الحركات والتمرّدات وصولاً لانقلاب 8 شباط (فبراير)1963، في حين اندفع الحزب الشيوعي، ومعنا القوى الكردية في بداية الأمر للذود عن قاسم مستخدمين أداته الحكومية لقمع الآخرين، غير موفّرين على الشارع الشحن والاستعداء ضد الآخرين في موجة ارهاب فكري وسياسي، وتوّجت بصدامات مسلحة في الموصل 8-9 (آذار/مارس) 1959 وارتكابات وحشية من جانبنا،خصوصاً ما سمّي بمحكمة الدملماجة وإعدام 17 متهماً خارج القضاء والذي أدّى إلى انفراط آخر حبّة في سلسلة التقارب الوطني بين القوى السياسية. ثم بأعمال إرهابية حصلت في كركوك في 14-15 تموز (يوليو) 1959، وحاول قاسم دمغنا بها بالكامل عندما وصف الشيوعيين بالفوضويين في خطابه بكنيسة مار يوسف ببغداد، وأثارت تلك الأحداث حنق التركمان ضدنا وضد حدك، ولكن ذلك لا يعفي مسؤولية القوى الأخرى بما فيها شركة النفط والقوى الخارجية في التحريض والتأليب والاندساس، الأمر الذي جعل الصدام أمرٌ يومي وقائم ويتحيّن كل بالآخر الفرص للانتقام والثأر، وهو ما حصل بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963 حين انفتح العنف على مصراعيه ليشمل عشرات الآلاف، لاسيّما بصدور بيان رقم 13 القاضي بإبادة الشيوعيين، وشملت حملة المداهمات والتعذيب في مقرّات الحرس القومي العديد من القوى والتيارات الوطنية.
الكوسك في جانب آخر من الصراع كان تشكيل الاتحاد الوطني لطلبة العراق في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 1961 وعلاقته لاحقاً إلى منظمة الكوسك " الندوة الطلابية العالمية" اليمنية والمشبوهة بتعابير الصراع آنذاك، زيادة في التباعد والاحتراب، خصوصاً وكان اتحاد الطلبة قد نظم في بغداد العام 1960 المؤتمر السادس لاتحاد الطلاب العالمي واختير ممثلاً عنه أميناً عاماً للاتحاد العالمي نوري عبد الرزاق، الأمر الذي جعل الصراع يتسم بالحدّة زادها تحريم اتحاد الطلبة وملاحقة أعضائه بعد العام 1963، بل إن الكثير من أعضائه تعرّضوا للتعذيب في مقرّات الحرس القومي واستشهد عدداً من قياداته وكوادره، بمشاركة من أعضاء الاتحاد الوطني. لقد كان تأسيس الاتحاد الوطني لطلبة العراق مقدمة للاطاحة بحكم قاسم، حين أعلن إضراباً طلابياً عاماً، لم يكن سوى البروفة الأولى لجس نبض السلطة والحركة الوطنية وردود فعلهما إزاء تحرّك من هذا النوع.وبالطبع فقد كنت مثل غيري من الطلبة الشيوعيين والاتحاديين ضد الإضراب، الذي اعتبره الحزب الشيوعي عملاً سياسياً تآمرياً للاطاحة بالسلطة الوطنية والإجهاز على ما تبقى من منجزاتها. ولا أذيع سرًّا الآن إذا قلت كما ذكرت لمحاوري التميمي أنني كنت قلقاً، فمن جهة نحن ضد قاسم وسياساته الداخلية، باستثناء الشحنات الإيجابية، التي كنّا نضعها بشكل عام في ميزان السياسة السلبية، مثلما كنّا نخضع ذلك لمعيار آخر نعتبره إيجابي وهو سياسته الخارجية، لهذا السبب لا نريد الإطاحة بقاسم، وكان شعارنا آنذاك:كفاح، تضامن، كفاح، الذي هو إحدى مفارقاتنا، وتلك مسألة لم أكن استوعبها ضمن وعي وتجربتي المحدودة آنذاك. وعندما استعدت المشهد لاحقاً مع تبادل المواقع، فقد كان الحزب الشيوعي بجناحيه، لاسيّما القيادة المركزية، تريد الاطاحة بحكم عبد الرحمن عارف، ونظمنا إضراباً شاملاً في كلية الزراعة، ثم امتدّ إلى كلية التربية وكلية الاقتصاد، ليشمل لاحقاً جامعة بغداد بأسرها (أواخر العام 1967- وأوائل 1968) وتصدّت لنا السلطة بالرصاص في حينها، وخصوصاً في كلية التربية، وسقط عدد من الجرحى وانتظمت الغالبية الساحقة من الحركة الطلابية في مسيرة احتجاجية ضمّت نحو عشرة آلاف طالب، وتقدّمت بمذكرة إلى رئاسة الجامعة حملت مطالب مهنية تتعلّق بالمنحة والأقسام الداخلية والتعيينات ما بعد التخرج وغيرها، لكن حزب البعث وجناحه الطلابي الاتحاد الوطني، وقفا ضد الإضراب وحاولا كسره بالقوة، علماً بأن القوميين العرب والأكراد وجناح سوريا لحزب البعث كانوا جميعاً مع الإضراب وشاركوا فيه مشاركة غير قليلة. المهني والسياسي استعدت ذلك والعلاقة بين المهني والحقوقي من جهة، وبين السياسي والحزبي من جهة ثانية، فلاحظت هيمنة الثانية بصورة تكاد تكون مطلقة على الأولى لدى البعثيين والشيوعيين والآخرين على حد سواء، لضعف الثقافة الحقوقية والمهنية من جهة ولشدّة الصراع السياسي وسخونة العلاقات الدائرة بين الأطراف السياسية، الأمر الذي يضعف إلى حدود كبيرة الاستقلالية والمهنية والجانب الحقوقي، ويطغى الصراع السياسي والتوجّه الآيديولوجي، بحيث تصبح هذه المنظمات واجهة للحزب، وخصوصاً للاتجاهات الضيقة فيه، وهي غالباً ما تجد لها أرضية خصبة من جانب الصقور. إذا استعدت اليوم موقفنا العام 1962-1963، فأعتقد من الناحية المهنية أنه لم يكن صحيحاً، لاسيّما الوقوف ضد الإضراب، حتى وإن كنّا نعرف مسبقاً أهدافه السياسية، لكن بعض المطالب النقابية كانت مشروعة وصحيحة، وكان لا بدّ من المشاركة فيه وقطع الطريق على القوى الأخرى، ولاسيّما حزب البعث والاتحاد الوطني لقيادته، وأعتقد إن قيادة الحزب حاولت في الأسابيع الأخيرة ما قبل الإنقلاب فتح خطوط مع الآخرين، لكن التباعد كان واسعاً والاختلاف تناحرياً. وقد نجحت قيادة البعث والاتحاد الوطني في مشروعهما للاطاحة بحكم قاسم، أي بتوظيف ما هو نقابي لخدمة ما هو سياسي، من جانب حزب البعث، لكن حزب البعث والاتحاد الوطني أخطأ كثيراً بالوقوف ضد إضراب الطلبة العام 1967-1968 وقاد ذلك إلى عزلتهما، لاسيّما ما قيل من تواطؤ مع حكم عبد الرحمن عارف، وخصوصاً بالوقوف ضد المطالب النقابية الطلابية. الفارق بيننا وبين البعثيين هو أننا قدّمنا أنفسنا وخدماتنا للآخرين (الدفاع عن قاسم) دون أن يُطلب منّا، في حين أنهم قدّموا خدماتهم تحضيراً لانقلاب عسكري في المرتين الأولى عام 1963 والثانية عام 1968، وفي المرتين دفعنا الثمن باهظاً، حتى وإن كان موقفنا مبدئياً من الناحية السياسية، فإن العمل المهني والنقابي يحتاج إلى مرونة وتواصل والبحث عن المشتركات مع الآخرين، بما فيها في النقابات الصفراء على تعبير لينين. وإذا كانت مفاوضات الجمعية العراقية للعلوم السياسية قد نجحت بعد تواصل دام ثلاثة أشهر ونيّف حيث مثّلنا فيها نعمان شعبان وصديق آخر، انتمى إلى حزب البعث لاحقاً، وكانت الأمور يسيرة، وحصل لقاء مع الرئيس أحمد حسن البكر الذي بارك التعاون، فإن المفاوضات مع الاتحاد الوطني لم تنجح، وكانت شاقة ومضنية، وكانت حجج الطرفين قويّة ومؤثرة. وأقول اليوم لو لم تتدخل قيادة حزب البعث لكان من المحتمل أن نصل مع كريم الملاّ ومحمد دبدب إلى اتفاق، لأنهما اتّسما بشيء من المرونة، وكنّا نشعر بذلك، لأن ما كان يأتي من قيادة البعث، كان كريم الملاّ يقول: هذا رأي القيادة ولا نستطيع مخالفته أو دعونا نتفق قبل أن أذهب غداً إلى القيادة التي قد تغيّر حتى مشروع مقترحاتنا وهو ما كنّا نعتبره في حينها نوعاً من الابتزاز أو التأثير السيكولوجي على مسار الحوار، ولعلّ تعنّت القيادة البعثية ومحاولاتها إملاء شروطها يعود لأسباب تتعلق بالصراع ومراكز القوى وتوازنها، وهو ما سآتي عليه لاحقاً. وكنت قد ذكرت في كتابي عن عامر عبدالله " النار ومرارة الأمل- فصل ساخن من فصول الحركة الشيوعية " أن لقاءً كان قد حصل في المجلس الوطني بحضور عبد الخالق السامرائي وعبدالله السلّوم السامرائي ومن جانبنا عامر عبدالله ونوري عبد الرزاق، ودخل عليهما شاب أنيق يلتقيان به لأول مرة، وأصرّ على الجلوس قرب الباب ورفض الكرسي الذي اختاره له عبد الخالق السامرائي، وقام الأخير بتعريفه لعبدالله ولعبد الرزاق، باعتباره الرفيق أبو عدي، ولم يلفت انتباههما بادئ الأمر ولم يتحدث على مدى أكثر من ساعة، وقبيل اختتام جلسة الحوار، خاطب المجتمعون: نحن نريد جبهة ستراتيجية، فإما أن نتفق على التفاصيل ونكون بمركب واحد، وإما لا حاجة لنا باتفاق مؤقت أو ظرفي، ولا نريد اتفاقاً تؤيدوننا به بهذه الخطوة وتعارضوننا بخطوة أخرى. نريد اتفاقاً شاملاً ونتحمل مسؤوليته بصورة مشتركة، وإلاّ فلا حاجة لذلك، وغادر الغرفة، وعرفنا لأول مرّة أنه صدام حسين، والحديث هنا لنوري عبد الرزاق. وللتاريخ أقول أننا منذ أن ابتدأت العلاقات مع كريم الملاّ لاحظنا نزعة مرنة وغير متشجنة وقابلية على التفهم، بل ورغبة حقيقية في التوصل إلى اتفاق ( طبعاً بشروط الحكم وتوازن القوى)، ويشاركه في ذلك محمد دبدب، لكن وجود حسن المطيري في الوفد المفاوض معهم كان أشبه بلغم اكتشفناه بعد اجتماعين من خلال الصديقين طيب محمد طيب وفاضل رسول ملاّ محمود (الذي اغتيل مع عبد الرحمن قاسملو في فيينا في العام 1988 واتهمت الحكومة الإيرانية بذلك) .
VII فخ في مقهى كان اللقاء الرسمي الأول الذي تم بين اتحاد الطلبة والاتحاد الوطني قد انعقد في مقهى رعد في شارع أبو نواس، بناء على اقتراحنا وحضر من جانب الاتحاد الوطني كريم الملاّ – رئيس الوفد وعصام البصّام /كلية الصيدلة، وصباح عدّاي (من الحركة الاشتراكية) وعزيز حسون عذاب (من الحزب الشيوعي- اتحاد الطلبة وعبد الحسين شعبان رئيس الوفد)، وقد أبلغنا صباح عدّاي بموعد اللقاء كما أبلغنا الملاّ الذي رحّب كثيراً، واعتبر موقفنا إلتزاماً سياسياً بالحركة الاشتراكية. وعند احتدام النقاش وكنتُ أمسك ببيان كنّا قد أصدرناه في حينها وكان كريم الملاّ قد أخرجه من جيبه تضمّن اعتراضات وانتقادات على السياسة الأُحادية التمييزية للاتحاد الوطني، وكنت أناقش فيه الملاّ بخصوص الأقسام الداخلية والقبول الجامعي، والدراسات العليا، والبعثات، والحريات النقابية وغيرها، وإذا بالمقهى يطوّق من جميع الجوانب، وكان أحدهم قد تقدّم منّي ووضع المسدس الذي يخفيه تحت جريدة فوق رأسي وسحب البيان من يدي وطلب هوّياتنا. كان عدد الذين طوّقوا المكان نحو 25 شخصاً، ولم أعرف كيف أجيب سوى أنني وجهت الكلام إلى صاحب المسدس قائلاً: لدى الأستاذ كريم، وقد انفعل كريم الملاّ جداً، وسأله بحدّة من الذي أرسلكم فقال له: أعطني هوّيتك ودون سؤال، وعندما فتش الملاّ عن هوّيته وجدها وكان مكتوب فيها "مجاز بحمل السلاح بأمر من مجلس قيادة الثورة- التوقيع شفيق الدراجي (أمين سرّ المجلس- كما أطلعني عليها حسبما أتذكّر). وبعد أن إطّلع رجل الأمن ومن معه على الهوّية خاطب كريم الملاّ: قائلاً عفواً سيدي، واستمرّ الملاّ يلحّ عليه من أرسلكم، إلى أن أجاب: ملازم أمن عبدالرزاق- وأردف بالقول: الاتصال جاءنا من مركز البتاوين، وهذه الإخبارية كانت بهدف إلقاء القبض على اجتماع شيوعي، فأجابه الملاّ :نحن نتفاوض مع رفاقنا الشيوعيين، ثم انسحب رجال الأمن وبعد انسحابهم خاطبني الملاّ: لقد رفضتم الجلوس معنا في مقرّاتنا، ونحن نعلم أنه حتى ليس لديكم مكان للاجتماع، فجئنا إلى المقهى وحصل ما حصل، تصوّر أنني لو نسيت هوّيتي ماذا ستقولون؟ ألستم ستشكّون أننا نصبنا لكم كميناً، قلت له وما زال الشك قائماً، وهو أمرٌ وارد، لكنه قد لا يكون من طرفك! ثم قرّرنا عقد اجتماعاتنا لاحقاً بعد ابلاغ قيادة الحزب الشيوعي في مقر الاتحاد الوطني وكان هذا رأيهم، لطالما أننا نتحاور ومعروفون لديهم، ومن الجدير بالذكر أن مجلة الصياد اللبنانية حينها نشرت أن لقاءات شيوعية تجري في عدد من مقاهي أبو نواس وسمّت منها "مقهى رعد" ومقهى الربيع بالتحديد، تلك التي كنّا نرتادها، مساءً، إضافة إلى مقهى "زناد" و"عارف آغا" و"الشابندر" و"البرازيلية" وهذه كانت أماكن للقاءاتنا ظهراً أو عصراً، أما المواعيد فكانت معظمها في الشوارع العامة وفي مواقف الباصات وفي بعض الصيدليات أو المكتبات. زهير يحيى أما ما يتعلّق الجمعية العراقية للعلوم السياسية فقد توصلنا إلى اتفاق مع حزب البعث، حيث كان يفاوض عنهم حامد الجبوري لجلسة واحدة، وفيما بعد محمد محجوب، ومجبل السامرائي لاحقاً، ولعلّه أول اتفاق حصل بعد 17 تموز (يوليو) والذي ساعد في انضاج الاتفاق والتوصل إلى نتائج إيجابية، مردّه إيجابية السامرائي ومرونته، وقبل ذلك الأجواء التي وفّرها زهير يحيى القيادي البعثي الذي كان صديقاً شخصياً لي، وكان متفهماً ويرغب في تقديم كل شيء للوصول إلى اتفاقات مع الشيوعيين، لكنه للأسف الشديد، كان هو الآخر أحد ضحايا العسف والصراعات الداخلية، وتوفّي في ظروف غامضة بعد عزلة مريرة، وكان قد اختير عضواً احتياطياً في قيادة حزب البعث في المؤتمر القطري الثامن العام 1974. وبودي التوقف عند زهير يحيى فعندما حدث انقلاب 17 تموز (يوليو) كان زهير يحيى عضواً في قيادة فرع بغداد، ثم أصبح مسؤولاً عن وزارة الخارجية، ثم مسؤولاً عن تنظيمات مدينة الثورة (الصدر حالياً) وبعدها مسؤولاً عن الموصل، ثم انقطعت أخباره المباشرة عنّي، وكنت قد عرفته قبل 17 تموز بنحو سنتين، وكنّا نناقش أوضاع العراق، يوم كان عائداً من لندن وأكمل دراسته معنا، وكان مثقفاً ومنفتحاً ومعتدلاً، وكانت همومه عراقية وأكبر من حزب البعث، وأعتقد أنه من المخلصين لقضية اللقاء الشيوعي – البعثي، لاسيّما بتوجهاته اليسارية، وقد طلب مني قبل 17 تموز (يوليو) أن يعرف موقف الحزب الرسمي من إحتمال استلام حزب البعث السلطة بالتعاون مع آخرين، وهل لديه استعداد للتعاون معه، قبل أو بعد ذلك وقلت لهم أظن أن قنوات أخرى أهم منّي لمعرفة رأي الحزب، لكنه طلب مني شخصياً، وكتبت رسالة إلى المكتب السياسي أعلمه بذلك وجاء الجواب سلبياً، أو قلْ مشروطاً بشروط قبل الوصول إلى السلطة ، لكنه بعد الوصول إلى السلطة تغيّر الموقف. رصاص في ساحة السباع دعاني زهير يحيى على العشاء في مطعم سميراميس (في الكرادة) واتفقنا على ذلك، وحصل اللقاء بعد 4 أيام من احتفالنا بساحة السباع، حيث تم إطلاق الرصاص كما ورد ذكره وكان صادق جعفر الفلاحي يلقي كلمته. وكان معنا في اللقاء: أحمد سعود الذكير، وعبد الحسن الحاج راهي الفرعون، وسمير الشيخلي (كان لا يزال آنذاك طالباً)، ومجبل السامرائي، ومالك العاني، وأعتقد ان زهير يحيى في تلك الفترة كان مسؤولهم جميعاً أو مشرفاً عليهم. وعاتبتهم بشدّة على ما حصل في ساحة السباع قائلاً أهذا هو الطريق للجبهة كما تقولون؟ ومن المسؤول عن ذلك: أليس صدام التكريتي؟.. وعلى الرغم من أنه أدان العمل الإجرامي كما أسماه، ولعلّ الأحياء ما يزالوا يتذكّرون ذلك اللقاء، لكنه رفض أية علاقة لصدام حسين بالحادث، وحاول إلصاق التهمة ببقايا أجهزة نظام عارف ومعاداة الشيوعية والتصدّي لأي عمل معارض. وعندما أخبرته بأننا كنّا قد بلّغنا قيادة البعث وأخذنا موافقة مبدئية بعدم التصدّي لنا، أجاب مهما كانت المسؤولية، فليس هناك قرار حزبي بضرب الشيوعيين، بل بالعكس، لاسيما بتمييز جماعة اللجنة المركزية عن جماعة عزيز الحاج، الذي كانوا يناصبونه مثلما يناصبهم العداء، لكن ذلك لم يقنعني بالطبع وهو ما ذكرته له وللحاضرين، وأعتقد أن جبار كردي وستار كردي المتهمان الأساسيان بإطلاق النار والقتل، كانا يعملان في جهاز خاص، هو إمتداد لجهاز حنين أو"العلاقات العامة" السرّي الذي تم تأسيسه بعد 17 تموز (يوليو)، وهذا الجهاز كان بإشراف صدام حسين ومعه سعدون شاكر ومحمد فاضل وناظم كزار وعلي رضا باوه وآخرين. وعلى الرغم من اعتقالهما لفترة بسيطة فقد تم إطلاق سراحهما، ثم دبّرت لهما عمليات اغتيال على الطريقة المعروفة، والمهم اختفى كل أثر لهما، ولم تتم الإشارة إلى التحقيقات بخصوص تلك الجريمة. لا أنسى ما نقله لي زهير يحيى من اندساس لأحد الأشخاص الذي كان قد تقدّم برسالة للحزب عن طريقي، ولكنه تم إلقاء القبض عليه وهو محسوب على القيادة المركزية، لكنه أطلق سراحه بعد 17 تموز (يوليو) أو قبيلها بأيام، وكان على اتفاق للعمل مع الأمن براتب قدره 15 دينار شهرياً. أخبرني بالمعلومات الكاملة قائلاً:لعلّ من واجبي ألاّ أخبرك، فأنتم ما زلتم خصومنا، ولست راغباً بشيء، لكنني من جانب الوفاء للصداقة الشخصية فقط، وعليك أن تتصرف بالطريقة التي تراها مناسبة، سواءً بإبلاغ الحزب أودون إبلاغه، لكن تأكّد يا فلان أن الشخص المعني يعمل لحساب الأمن، ثم قال يعمل لحسابنا الآن، فنحن الحكومة، لكن ذلك يشعرني بالحرج إزاء الصداقة. وكان قد أخبرني على انفراد أنه بعد 17 تموز كلّف بقراءة بعض الملفات في الأمن (الخاصة ببعض جماعتهم ممن عليهم بعض الشكوك) لكنه من باب الفضول قرأ فايلات بعض الأصدقاء، ومن ضمنهم فايلي، ووجد اللغم المشار إليه. وعندما كنت أستمع إليه، قال لي لا أريد منك جواباً، فأنتم أعرف بمثل هذه الأمور، وكنّا قد وضعنا علامة استفهام قبل ذلك حول الشخص المعيّن، وبرّرنا عدم ضمّنا له لأسباب فنّية وظروف خاصة، ثم بالتدريج قطعنا صلته الاتحادية، التي بقيت معي، وكانت صلته الحزبية مقطوعة، باستثناء علاقته بي. أسوق ذلك الآن لأن العلاقات السياسية تردّت إلى حدود لا أخلاقية لاحقاً ليس بين القوى السياسية بعضها مع بعض، بل حتى داخل الحزب الواحد، لدرجة أن البعثي يخاف من البعثي أكثر مما يخاف من الآخرين، وراجت عمليات كتابة التقارير و"كسر الرقاب" كما يقال، وهي عادة الأنظمة الشمولية جميعها، خصوصاً بوصولها إلى السلطة، حيث تصل الأمور إلى درجة مريعة، لكنها في العراق وفي ظروف التخلّف والبداوة والقروية والشكوك المستحكمة، كانت صارخة، وأدّت إلى تدمير المجتمع العراقي، حين أصبح الأخ يخاف من أخيه، والأب من إبنه أوإبنته والزوج من زوجته، وأعتقد أن الجميع يعرفون قصصاً مثيرة عن ذلك، وهناك أمثلة فاقعة، لاسيما ما حصل في مجزرة العام 1979 "المؤامرة المشهورة" والمعروفة بمجزرة قاعة الخلد والتي أودت بثلث القيادة القطرية وتم تنفيذ حكم الإعدام بـ 22 بعثياً وحكم على 33 منهم بعقوبات غليظة، وروى لي بعضهم (فارس حسين وغسان مرهون) قصصاً أقرب إلى الخيال عن التعذيب، ولم يخرج منهم في العام 1983، أي بعد أربع سنوات، سوى 17 شخصاً، أما البقية الباقية فقد فارقت الحياة في السجن. وقد رويت ما يوازي ذلك تحت عنوان ليلة السكاكين الطويلة بخصوص عدد من الحوادث المشابهة التي حصلت في العديد من الأحزاب والقوى الفاشية أو الشيوعية أو غيرها. سافرت خلال فترة المفاوضات وعشية الانتخابات الطلابية (الجامعية) إلى براغ ومنها إلى كراكوف (بولونيا) لحضور مؤتمر تحضيري لميلاد لينين(الذكرى المئوية) وحلّ محلي إضافة إلى لؤي أبو التمن، حميد برتو وهو من القيادات الطلابية البارزة ووجه وطني واجتماعي، وقد عرفّناه بإسم " أبو رياض" خلال الجلسة المشتركة التي حضرناها سويّة وبهدف التعارف، وظل حسن المطيري بعد عودتي وسفر حميد برتو إلى براغ يسأل عن أبو رياض. جدير بالذكر أن الذي قام لاحقاً بتعذيب لؤي أبو التمن في قصر النهاية هو حسن المطيري، وحين كان معصوب العينين ومعلّقاً، وكان يسمع أحياناً صوت حسن المطيري ويستطيع أن يميّزه عن غيره، مثل سالم الشكرة، لأنه كان يجلس معه وجهاً لوجه لأكثر من عام ونيّف في المفاوضات، وكان محمد دبدب رئيس الاتحاد الوطني لاحقاً قد استذكر في حوار تلفزيوني معه العلاقات الايجابية التي جمعتنا وهو أمرٌ صحيح تماماً، لكن هذا الوجه السلبي والقمعي واللاأخلاقي ساد بالتدريج وغلب على كل شيء، بما فيه على البعثيين أنفسهم الذين أصبح بعضهم من ضحاياه، بينهم الصديق محمد دبدب. وأتذكّر في أحد اللقاءات مع الاتحاد الوطني بعد بيان 11 آذار (مارس) 1970 وبحضور كريم الملاّ أنني كنت أحمل في جيبي أسماء المعتقلين من الطلبة والشبيبة الذين اعتقلوا وهم يخطّون على الجدران شعارات تؤيد اتفاقية 11 آذار (مارس) 1970، أو يعبّرون عن ذلك بطرق مختلفة، بينهم محمد حسن السلامي وفلاح خضير الصكَر وآخرين، وطلبت من كريم الملاّ المساعدة في إطلاق سراحهم، وكانوا عشرة أسماء، وعندما وضعت القائمة على الطاولة كانت بين الملاّ وحسن المطيري، الذي دسّ أنفه وحرّك كرسيّه ليقرأ من في القائمة، وربما كانوا من ضحاياه، وبادرت إلى القول ليطلّع عليها الاستاذ حسن " أبو فلاح"، واستخدمت اسمه الصريح لأول مرّة بدلاً من " فيصل" وسألني الملاّ لماذا، قلت له لأنه قريب من أبو حرب (المقصود ناظم كزار) وهنا ضحك الجميع، وبعد خروجنا علّق لؤي أبو التمن ونحن نمشي من مقر الاتحاد الوطني، إلى حيث أترك سيارتي، أعتقد أنه بدأ يتشهّى تعذيبنا، وحصل الأمر فعلاً مع لؤي أبو التمن بعد أسابيع قليلة. فشل مزدوج! لقد فشلت مفاوضاتنا على الرغم من اتفاقنا على برامج جيّد تضمّن نحو 80 % من مطالبنا وقد تمسك البعث باسم " الاتحاد الوطني لطلبة العراق" وإلغاء اسم " اتحاد الطلبة" مع أخذ ورد حول النسب، وكان اقتراح كريم الملاّ أن يكون المجلس التنفيذي من 27 عضواً (الرئيس منهم ولنا نائب الرئيس أو السكرتير العام) وهكذا يكون للأكراد وحسب الصلاحيات (وكانوا يقصدون جماعة المكتب السياسي- جلال الطالباني- ابراهيم أحمد) في حين كنّا نقول أنهم لا يمثلون جميع الكرد، فهناك الملاّ مصطفى البارزاني (الحزب الديمقراطي الكردستاني)، لكنهم يعتبرونه "عميلاً" حتى عشية بيان 11 آذار (مارس)، وعلى الرغم من وجود مفاوضات معه، وكنّا نسعى إلى صيغة متوازنة، مع أنها غير ممكنة. وأستطيع أن أقول الآن من باب النقد الذاتي، بأن الصيغة التي كنا قد اقترحناها، غير واقعية أيضاً، وهي بقدر ما يأخذ البعثيون من حصة فهي حصتنا، وبقدر ما يأخذ القوميون الأكراد من حصة، يعادلها حصة القوميين العرب (الحركة الاشتراكية)، علماً بأن مقترح كريم الملاّ كان ينص أن يكون لهم 12 ولنا 8 و5 للكرد و2 للقوميين العرب، وهكذا حصل التباعد، الذي كرّسه الموقف من الانتخابات التي أجريت العام 1969. وفي حين قلنا أنها انتخابات مزوّرة واستخدمت فيها مختلف الأساليب لكي تكون نتائجها لصالح الاتحاد الوطني، الذي "فاز" بالإجماع تقريباً في الثانويات والكليات التي جرت فيها منافسة، علماً بأن الغالبية الساحقة من المدارس الثانوية والمعاهد والكليات الجامعية لم تجر فيها الانتخابات، طبقاً لقانون انتخابي غريب يقوم على نظام القائمة، وإذا ما انسحب أحد أعضاء القائمة (إقرأ أُجبر أو اعتقل أو لم يحضر) فإن القائمة كلّها تسقط، وهكذا فإن الانتخابات من وجهة نظرنا كانت تعني فوز قائمة الاتحاد الوطني بطريقة أقرب إلى التزكية، وهو ما حاولنا استعراضه في تقرير مفصل بالوقائع والأسماء والتواريخ وأرسلناه إلى اتحاد الطلاب العالمي وإلى العديد من الاتحادات والمنظمات الطلابية. في حين كان الاتحاد الوطني يرى أن فوزهم أمر طبيعي، لأنهم قريبون من السلطة والسلطة حققت منجزات كبرى باعترافنا وبالتالي، فإن القاعدة الطلابية اتجهت نحوهم وحيث المكتسبات التي حصلت عليها، وكانوا يطالبوننا بسحب تقريرنا، والإقرار بنتائج الانتخابات مع إمكانية إجراء تسوية بضم بعض كوادرنا إلى الاتحاد الوطني، وهو ما كنّا نرفضه قبل الانتخابات، وبالطبع بعدها أيضاً، وجرى تدريجياً التشبّث من جانب الاتحاد الوطني أكثر من السابق بما سمّي بالتمثيل والشرعية وبدت قياداته أكثر تشدّداً وغروراً وتعصّباً، وهو ما انعكس على كادره القيادي وكان قرارهم أنهم سوف لا يتعاملون معنا كمنظمة قائمة، بل كطلبة شيوعيين. طلبت من كريم الملاّ يوم 20 آذار (مارس) 1970 الاتفاق على شعارات موحّدة في مسيرة بمناسبة بيان 11 آذار (مارس) وتلك التي كان من المفترض أن تخرج في اليوم التالي، وذلك بطلب من الحزب، واعتذر بقوله أن رأي القيادة هو أننا لا نسمح لأي تنظيمات طلابية أخرى بعد الانتخابات. ثم دعا كريم الملا إلى استراحة لعشرة دقائق وخرجنا كما هي الطريقة المعتادة للتدخين، وأخبرنا لؤي وأنا، أنه إذا خرجنا في التظاهرة ، فهناك قرار سياسي بضرب أية مجموعة خارج الحزبين الحليفين (البعث وحدك)، وانتهى اللقاء، الساعة الحادية عشر مساءً وكان هناك من ينتظر منّا رأياً، وأبلغنا الحزب بذلك، وكان قرار الحزب أننا سنخرج في المسيرة باسم الحزب الشيوعي صباح غد وبمناسبة عيد نوروز، وفي صباح اليوم التالي تجمعنا في ساحة الميدان وأول خبر تلقيته هو استشهاد محمد الخضري (أبو عادل) والخبر الثاني إن ما نقلناه للحزب بدأت ملامحه تتضح حيث تجمعت حولنا مجموعة وقامت بفصل القيادة عن القاعدة ووجهت ضربة لنا. لا تفريط ولا إفراط أعتقد أن لؤي أبو التمن وأنا كنّا لا نريد التفريط باسم إتحاد الطلبة، وكان "خط آب" (أغسطس) العام 1964 الذي اعتبر يمينياً وتصفوياً بمصطلحات تلك الفترة نصب أعيننا، لذلك لم نرغب في أن يسجّل في تاريخنا بأن حلّ اتحاد الطلبة كان على أيدينا أو بموافقتنا، أو ضمن مسؤوليتنا. ولعلّ صورة الإرهاب الذي ساد كانت شاملة ضد الآخرين بمن فيهم أعضاء الحزب الشيوعي سواءً القيادة المركزية أو اللجنة المركزية، حيث قتل تحت التعذيب عدداً منهم مثل صالح العسكري وأحمد محمود الحلاّق وسامي محمد علي وشعبان كريم ومتّي هندو وعزيز فعل ضمد وآخرين، وخلال المفاوضات أعدم الطالب مطشّر حوّاس وقتل في منطقة الأهوار أزهر صالح الجعفري وسامر مهدي واختطف عبد الأمير سعيد الكادر العمالي وقتل، كما قتل ستار خضير عضو اللجنة المركزية، واختطف محمد الخضري يوم 20 آذار (مارس) العام 1970 ورمي بالقرب من بلد وجثته مطرّزة بالرصاص وهو ما تمت الإشارة إليه، فضلاً عن آخرين، حيث شملت عمليات الاغتيال عبد الكريم مصطفى نصرت من حزب البعث المؤيد لسوريا وفؤاد الركابي أحد مؤسسي حزب البعث وأمينه العام السابق في داخل السجن واعتقال المئات منهم ومن قوى سياسية أخرى. لعلّ هذه الأمور كانت محبطة لنا وتشكّل حاجزاً نفسياً لقبول الاتفاق، كما أن قيادة الحزب كانت تعتبر بعض مواقفنا متشدّدة، وهذا صحيح قياساً لما كانت تريده هي أو تسعى للوصول إليه، وإذا أردت اليوم استعادة ذلك الواقع، فيمكن أن أقول أننا لم نمتلك ستراتيجية واضحة، فإذا كنّا قد قررنا التحالف، فكان الأمر يقتضي المرونة، أما إذا اخترنا غير التحالف، فكان يمكن التشدّد، لكنه لم يكن لدينا ستراتيجية بهذا الخصوص، في حين أنّ ستراتيجية السلطة هي تطويع الجميع وإضعافهم والتحالف مع كل حزب أو مجموعة بصورة منفردة وأحداث شرخ بين المجاميع السياسية، فإضافة إلى جماعة المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني (ابراهيم أحمد- جلال الطالباني) التي كانت متحالفة مع السلطة ضد حزب البارتي (البارزاني)، وبعد الاتفاق مع البارتي في اتفاقية 11 آذار (مارس) 1970 استبعد الطالباني وجناحه السياسي وأغلقت صحيفة النور، مثلما شنّت السلطة هجوماً ضد الحزب الشيوعي، وعندما تحالفت مع الحزب الشيوعي كانت العلاقة قد ساءت مع البارزاني والحزب الديمقراطي الكردستاني وهكذا! في العام 1975 أبلغت السلطات الحاكمة قيادة الحزب الشيوعي بتحريم العمل بأي تنظيم مهني أو نقابي غير مرخّص، وطلبت منها حل المنظمات الديمقراطية التي تحت توجيهها مثل اتحاد الطلبة ورابطة المرأة والشبيبة الديمقراطية، والاّ سيتعرّض منتسبوها لعقوبات غليظة، مثلما سيتعرض لهذه العقوبات كل من يقبل زمالة من جهة أجنبية أو محلية دون أن يبلّغ عن مصدرها وتصل العقوبة إلى 15 عاماً. وتحت مبرّر الحفاظ على الجبهة الوطنية واستجابة للحزب الحليف اضطرت قيادة الحزب إلى إصدار تعليمات بتجميد المنظمات الديمقراطية وهناك من بالغ في اندفاعه هذا، علماً بأن الغالبية الساحقة من منتسبيها كانوا ضد هذا القرار، حين أبلغ المنظمات العالمية، بضرورة قبول ممثلي الاتحاد الوطني بدلاً من اتحاد الطلبة، وكذا الحال بالنسبة للمنظمات الأخرى، لكنه عاد بعد نحو عامين ونيّف يتلمّس أية إمكانية لاستعادة مواقعنا القديمة التي تخلّينا عنها بأنفسنا وطوعاً. أظن أن هذه السياسة أضرّت بالاتحاد الوطني ذاته وبحزب البعث مثلما أضرت باتحاد الطلبة والحزب الشيوعي بل بالعراق ككل وبقضية التقدّم والتحرّر، فسياسة الالغاء والإقصاء والتهميش كانت تجاوزاً على الواقع ومحاولة للوي عنق الحقيقة قسراً، خصوصاً وأن المجتمع العراقي يمثل تنوّعاً فكرياً وسياسياً واجتماعياً وقومياً ودينياً، لابدّ من مراعاته وأخذه بنظر الاعتبار، وهو الأمر الذي على الجميع إدراكه بعد هذه التجارب المريرة والفاشلة، في السابق والحاضر.
صدّام التكريتي كان كريم الملاّ كلّما تحتدم الأمور يؤشر لي ألا تدخّن، ويناولني أحياناً حبّة "يوسف أفندي"، ونقول باللهجة العراقية (اللالنكي) فنخرج إلى الحديقة، وكان إحساسي أنه لا يريد أن يتحدّث بكل شيء بحضور حسن المطيري، كما أنني كنت عندما أريد أن أسأله بخصوص أمر محرج أدعوه للتدخين وقد يكون لاعتقادي أن كل شيء كان مسجّلاً، فنخرج لعشرة دقائق أو نأخذ استراحة لبعض الوقت. وأتذكر إنه تحدّث معي على انفراد في الحديقة وخارج الاجتماع الرسمي، قائلاً إذا لم توافقوا على الاتفاق كاملاً بما فيه النسب والمواقع القيادية، فسوف تقوم القيادة بتعديلها وأمامكم اليوم فقط فرصة أخيرة، لأنني سأذهب غداً للقاء بهم، وعندما سألته بمن ستلتقي: هل بعبد الخالق السامرائي أو عبدالله السلوم السامرائي أو صلاح عمر العلي، أجابني بعد ذكر كل اسم كلاّ: قال سألتقي بأبي عدي " الرفيق صدام" قلت له هل تقصد أن صدام التكريتي هو المسؤول عن هذا الملف، قال نعم وهو الذي يتابع معي التفاصيل، وكنت في هذا أستعيد قولاً لزهير يحيى، الذي قال أن من تقصده وراء الجهاز الأمني أو وراء ضرب المتظاهرين في ساحة السباع، هو أكبر مما تعتقد، وتلك ليست مهماته، أيقنت أن صدام حسين هو رجل الدولة الأول وهو الممسك بكل شيء، وكان قد بدأ بالكتابة عن " الصلابة المبدئية والمرونة التكتيكية" في جريدة الثورة، فعرفنا أنه يمسك بجهاز الثقافة أيضاً، يومها تردّد أنه أصبح نائباً للرئيس البكر، وظلّ اسمه دون صفته القيادية لفترة من الزمن، حتى شاع الخبر. وبالمناسبة فقد التقيت بصدام حسين مرتين ولكن على نحو عابر، الأولى خلال الإضرابات الطلابية العام 1967-1968، والثانية في يوم 22 نيسان (ابريل) العام 1970 في السفارة السوفيتية، التي كانت تقيم احتفالاً بالذكرى المئوية لميلاد لينين، وكنت متوجهاً من الحديقة إلى الممر، فدخل هو وثلاثة أوأربعة خلفه، وتقدّم إلى مصافحتنا أنا وصبّاح عدّاي الذي كان يحضر معي الاحتفال مع خمسة من أصدقائنا، وبادر لسؤالنا كيف الأحوال، فأجابه صباح عدّاي الذي كان يعرفه بخير. وفي اليوم التالي حضر كريم الملاّ وأبلغنا رأي قيادتهم بشأن النسب وهي على النحو الآتي: حزب البعث 14 مقعداً والباقون جميعهم 13 مقعداً وليتفقوا بينهم. وهذا قرارهم الأخير، ولعلّ مثل هذا القرار لم يكن وراءه سوى صدام حسين، الذي شعر ضرورة عدم التراخي أو المرونة، وظلّ باستمرار يعتقد أن الشدّة والحزم وجعل الآخرين أمام الأمر الواقع هي السياسة التي ينبغي أن تتخذ بحق الغير، وهو ما طبّقه باستمرار، لاسيّما عندما أزاح أحمد حسن البكر وانفرد بالسلطة، فصفّى ما بقي من هوامش، بل عمل على إلغاء حزب البعث لصالح الأجهزة والتشكيلات الخاصة التي أخضعها جميعاً لهيمنته، وللعائلة التي سيطرت على كل شيء وتماهت مع الدولة، لا على المستوى السياسي فحسب، بل على المستويات الاقتصادية والثقافية والإعلامية والرياضية والسياحية وغيرها. وكان من أكثر الأصدقاء الذين لهم معرفة بهذه التفاصيل وكان يزوّدني بها باستمرار هو صباح عدّاي القيادي في الحركة الاشتراكية، وهو أحد الوجوه البارزة وقد تعرّض للاعتقال داخل كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ولكنه هرب وحوصرت الكلية، واضطر إلى عبور السياج عندما حلّ الظلام، وبعد يومين وكنت حينها خريجاً، اتصل بي ودلّني على مكان اختفائه في شارع المحيط بالكاظمية. وبعد نحو عامين من هذه الحادثة وكانت بعض الأمور قد سوّيت مع الحركة الاشتراكية وتم إطلاق سراح أمينها العام عبدالاله النصراوي، وعدد من القياديين، وفتحوا حواراً معهم، اعتقل صباح عدّاي وعذّب في قصر النهاية وكان ناظم كزار شخصياً حاقداً عليه، إضافة إلى حسن المطيري. التمثيل الخارجي ولعلّ واحدة من المشكلات التي كانت تواجهنا هي التمثيل الخارجي، فقد كان ممثل اتحاد الطلبة سكرتيراً عاماً لاتحاد الطلاب العالمي (د. مهدي الحافظ) وكان علينا أن نتخلّى عن هذا التمثيل، وبالطبع فالحافظ لا يروق لهم، وكان قد نظّم حملات تضامن ضد الارهاب في العراق في وقت لاحق، وكان هذا مزعجاً لهم، كما أن تنازلنا عن موقعنا الدولي محرج أمام الآخرين الذين منحونا هذا الموقع وأقصد "السوفييت"، بحكم القربى الآيديولوجية، وليس بالإمكان التنازل عنه لحساب قوى أخرى، وهو ما قرروه في المؤتمر العاشر لإتحاد الطلاب العالمي المنعقد في شهر كانون الثاني (يناير) العام 1971 في براتسلافا، وقد حضرته مع وفد ضمّ ناظم الجواهري وعدنان الجلبي وخليل الجزائري، كما حضر نوري عبد الرزاق باعتباره أميناً عاماً سابقاً، إضافة إلى د. مهدي الحافظ ممثل الاتحاد في اتحاد الطلاب العالمي، وكان السوفييت قد قرّروا آنذاك استبدال العراق بالسودان، لاسيما بصعود دور السودان بعد انقلاب جعفر النميري 1969، فتقرر أن يكون الأمين العام فتحي الفضل بدلاً من مهدي الحافظ، ولم يكن ذلك بمعزل عن الدور الجديد للعراق وعلاقاته مع بعض الدول الاشتراكية، لاسيّما الاتحاد السوفيتي، خصوصاً بتقديم مصالح الدولة على سواها من المصالح، وهي مسألة باتت معروفة ومألوفة. ولا بدّ لي من الإشارة هنا إلى موقف كريم الملاّ الذي لم يعارض بقاء التمثيل الخارجي تحت قيادتنا ولو لحين، لكنه تحفّظ على مهدي الحافظ حينها، والسبب هو اعتقادهم بأنه من المتشددين ضد البعثيين، وقال يمكنكم تعيين أي زميل محلّه ونحن نوافق. VIII التعدّدية أعود إلى مسألة التعددية في الحركة الطلابية، والموقف منها ففي العام 1963 تم تحريم اتحاد الطلبة والتجأ إلى العمل السري، وهذه المسألة لم تدعنا التفكير بشكل سليم في قضية التعدّدية والتنوّع والرأي الآخر، لاسيّما في ظل الصراع المحتدم، وكانت تثير الكثير من الالتباس والغموض والإبهام في صفوفنا ولدى قيادة الاتحاد تحديداً، وبعد فوزنا الساحق في انتخابات آذار (مارس) العام 1967 وحصولنا على 84 % من الأصوات و76% من المقاعد، بدأنا أكثر انفتاحاً وثقة بالنفس مثلما هي تجربة الإضراب الطلابي أواخر العام 1967 وأوائل العام 1968، خصوصاً بعد انشقاق مجموعة عزيز الحاج (القيادة المركزية) التي كان الاتحاد من حصتها الأكبر، ولعلّ الغالبية الساحقة من التنظيمات الحزبية الطلابية كانت معها. وبالمناسبة فإن تجربة الإضراب الطلابي سبقت الاحتجاجات الطلابية في فرنسا العام 1968 وفي ألمانيا لاحقاً وبعض بلدان أوروبا، وهو ما أشار إليه الكاتب والروائي العراقي فاضل العزاوي، في كتابه المهم " الروح الحيّة- جيل الستينات". هكذا بدأ يتبلور تدريجياً في قيادة الاتحاد فكرة مفادها أن الاتحاد هو الأكثر تمثيلاً وشرعية عن تطلعات وآمال الطلبة، وليس الممثل الوحيد والشرعي، كما كنّا نقول في أواخر الخمسينيات وحتى منتصف الستينيات، وعلى أقل تقدير، فنظرتنا منذ كونفرنس العام 1965 الطلابي بدأت تأخذ شكلاً أكثر رحابة وانفتاحاً، وكانت مناسبة الانتخابات الطلابية العام 1967 فرصة مهمة للاتصال بالقوى الأخرى بهدف التحالف معها، لكن الأمر لم يحصل باستثناء مجموعة صغيرة لكنها متميّزة، وأعني بها "المنظمة العمالية" التي كانت قد تشكلت العام 1964 على هامش انشقاق في حزب البعث وحملت اسم الكادحين العرب قبل انقلاب العام 1963 وتبنّت الماركسية، وكان أبرز قياداتها قيس السامرائي ودرع غزّاي وطارق الدليمي ومزهر المرسومي وصادق الكبيسي، وقد إنضوت هذه المجموعة تحت قائمة اتحاد الطلبة العام في انتخابات العام 1967، ولكن بعد انشقاق القيادة المركزية إلتحقت معظم قواها بها، باستثناء قيس السامرائي الذي إلتحق بالمقاومة الفلسطينية وأصبح أحد أبرز قيادات الجبهة الديمقراطية حتى الآن. وفي أواخر الستينيات شجّعنا الحركة الاشتراكية على تأسيس تنظيم طلابي مهني، وكان بإسم " جبهة الطلبة التقدميين" كما شجّعنا جماعة علي صالح السعدي حزب العمال الثوري العربي لتأسيس تنظيم طلابي مهني، وقد شرعوا بذلك، وكان محمد سليمان هو صلة الوصل معنا، وقد اضطر إلى الهرب إلى سوريا، لكن الأحداث المتسارعة واجهت الجميع، بشن حملة ملاحقة جديدة ضد الحزب الشيوعي واتحاد الطلبة والحركة الاشتراكية العربية وحزب العمل الاشتراكي العربي (فؤاد الركابي وهاشم علي محسن) وحزب العمال الثوري العربي (جماعة السعدي وسعدي محمد صالح، وكان من قياداته قبل هذا التاريخ محسن الشيخ راضي وهاني الفكيكي وآخرين) . وعلى الرغم من إقرار الإتحاد الوطني لاحقاً بقبول التعددية، لكنه ظلّ متمسكاً بوحدانية التنظيم وشرعيته، ويسعى ضمن أطروحاته لاحتواء الآخرين في إطار الاتحاد الوطني، أو أنه ينسجم مع السلطة في تحريم العمل خارج إطاره. انتخابات ونتائج لكن المشكلة الأكبر والمسألة الأهم التي واجهت اتحاد الطلبة بعد بدء المفاوضات بينه وبين الاتحاد الوطني في أوائل العام 1969 هي قيام الحكومة بشن حملة جديدة ضد اتحاد الطلبة، خصوصاً بعد عدم التوصل إلى اتفاق لتوحيد المنظمتين وبعد النتائج التي تمخضت عنها انتخابات عام 1969، التي تم الطعن فيها من جانب " اتحاد الطلبة"، خصوصاً التقرير الذي تم نشره بشأن الانتخابات، وقد قابلت الحكومة والاتحاد الوطني الذي يؤيدها ويشكل جزءًا من تركيبتها، اتحاد الطلبة بسخط شديد واتخذت إجراءات قاسية بحقّه طالت عشرات من أعضائه بمن فيهم عضو مكتب السكرتارية والوجه المعروف لؤي أبو التمن، حيث كان المؤتمر الأول للاتحاد الوطني الذي انعقد بُعيد الانتخابات في خريف عام 1969 قد منح عضوية شرف لـ 28 "مناضلاً طلابياً" كما أسماه القرار، بينهم 20 من البعثيين و4 من الأكراد و4 من قادة اتحاد الطلبة لدورهم في الحركة الطلابية كما جاء في القرار وهم نوري عبد الرزاق وماجد عبد الرضا ولؤي أبو التمن وعبد الحسين شعبان. ولم تكتفِ الحكومة العراقية بممارسة الضغط على قيادة الحزب الشيوعي بعد بيان 11 آذار (مارس) العام 1970 وتوجيه حملة ضد أنصاره وبخاصة الطلبة، فإنها مارست ضغطاً عربياً ودولياً على العديد من المنظمات والاتحادات والحكومات وبخاصة الدول الاشتراكية السابقة لحملها على الاعتراف بالاتحاد الوطني والتعاون معه. والجدير هنا أن أذكر أن وفد قيادة اتحاد الطلاب العالمي الذي زار بغداد بُعيد الانتخابات قد تعرّض للضغط هو الآخر فاضطر كجمن ممثل ألمانيا الديمقراطية إلى تغيير تقريره بضغط من سفارة ألمانيا الديمقراطية في بغداد حيث كان العراق قد اعترف بألمانيا الديمقراطية في أيار (مايو) العام 1969. لكن اتحاد الطلاب العالمي أخذ بتقرير فتحي الفضل (السودان) وباتفاق مع د. مهدي الحافظ ممثل الاتحاد في IUS آنذاك، الذي طعن بنتائج الانتخابات، وقد التقينا سرًّا بالوفد الذي جاء كبعثة لتقصي الحقائق في أحد بيوت بغداد الجديدة، وتم تنظيم اجتماع خاص له مع سكرتارية اتحاد الطلبة واجتماع آخر خاص بممثلين عن القائمة التقدمية الديمقراطية (التي دخلت انتخابات العام 1969)، وخلال بقائهما في بغداد كنّا حميد برتو وأنا على اتصال دائم بهما، وأتذكّر أننا اصطحبناهما إلى سينما سميراميس لمشاهدة أحد الأفلام. جدير بالذكر أن مقرّ القائمة التقدمية الديمقراطية التي خاضت الانتخابات كان في مقهى عزيز قرب مقهى شط العرب في بغداد، التي ضجّت باللقاءات حتى تم استبدالها إلى مواقع أخرى، خصوصاً وقد أصبح أمرها مريباً. وكنّا قبل ذلك قد أعددنا لانعقاد المؤتمر الرابع في بستان يعود إلى أحد أعضاء مكتب السكرتارية طه صفوك في الراشدية في 28/12/1968 وساهم فيه 58 مندوباً، والذي أكّد أن مظهر التعددية يعني الإقرار بوجود أكثر من منظمة طلابية، وهي نتاج الواقع السياسي والاجتماعي والقومي للحركة الوطنية وامتداداتها في الوسط الطلابي، كما أكّد على وحدتها ووحدة الأهداف المهنية والنقابية، ابتداءً من التنسيق وصولاً إلى برنامج عمل وطني وديمقراطي، وندّد المؤتمر باحتكار العمل الطلابي. وعقب ذلك وبسبب بعض التغييرات والتطورات انعقد الكونفرنس الرابع (المجلس الاتحادي) في 10/10/1969 في جزيرة أم الخنازير وحضره 44 مندوباً، وناقشنا فيه القانون رقم 97 وموضوع الانتخابات الطلابية وتقرّر المشاركة فيها بصورة منفردة أو بالتعاون مع القوى الأخرى، سواءً مع الاتحاد الوطني في حالة الوصول إلى اتفاق أو مع قوى أخرى خارج وهو ما حصل. وإذا كان " اتحاد الطلبة" قد بدأ ينفتح على التيارات الأخرى بفعل ضرورات موضوعية وتطور ذاتي وإن كان بطيئاً جداً، الاّ أن التيارات الأخرى (القريبة من الحكم) وبخاصة تيار الاتحاد الوطني بدى أكثر انغلاقاً من الفترة الأولى للمفاوضات، وخصوصاً بعد الانتخابات مباشرة، وسعى لاحتكار العمل وادّعاء تمثيل الحركة الطلابية العراقية برمتها لاسيّما بعد اتفاقه مع اتحاد طلبة كردستان الذي تحالف معه بعد اتفاقية 11 آذار (مارس) عام 1970. وللأسف فإن نزعة احتكار العمل لم تقتصر على العراق العربي، بل شملت كردستان أيضاً، من جانب الحزب الديمقراطي الكردستاني، ولعلّ ذلك جزء من الثقافة السائدة آنذاك، تلك التي يقرّ الجميع بأنها كانت أحد أسباب وصولنا إلى ما نحن عليه، وقد دفع الجميع أثماناً باهظة جرّاء نزعات احتكار العمل السياسي والغرور وادّعاء الأفضليات ومحاولات تهميش الآخرين أو إقصائهم أو عزلهم، وبالطبع فإن الذي في موقع السلطة والقرار هو غيره في موقع الاختلاف أو المعارضة، وهو الفارق بين الحاكم والمحكوم، وبين السلطة والمعارضة. غياب وحضور منذ أواسط السبعينيات لم ألتق كريم الملاّ، فقد تنقّل بين الوزارة والسفارة، ولكنني التقيت محمد دبدب بعد عودتي إلى العراق،واستقبلني الرجل على أحسن ما يرام وعرض عليّ أية مساعدة أحتاج إليها، لكن الوضع السياسي كان قد ساء وتدهورت العلاقات بين الشيوعيين والبعثيين وازدادت نزعة التمركز والتفرد والإقصاء لدرجة أنها لم تكتفي بالحلفاء الشيوعيين، بل شملت كادرات بعثية وهو ما حصل بعد العام 1979، وكان دبدب هو الآخر من ضحايا تلك الموجة. وبعد احتلال العراق في العام 2003 وعودتي إلى بغداد، ألقيت محاضرة في الجامعة المستنصرية التي احتفلت بعودتي وقامت بتكريمي، وكان بين الحاضرين محمد دبدب ومحسن الشيخ راضي وآخرين من البعثيين والقوميين، ومن الجهة الأخرى حضر الرفيق كاظم فرهود ونايف الحسن وسلمان الحسن وعشرات من الشيوعيين، وكان أول كلمة نطقت بها أنني سعيد بزيارة بغداد بعد غياب طويل، لكنني كنت سأكون أسعد وأكثر اطمئناناً وراحة بال لو أن المحتلين غير موجودين في بغداد، لأن وجودهم يكّدر المزاج والضمير والوجدان العراقي. بعد الاحتلال وكنت أحضر مؤتمراً في الجزائر، فإذا بي أجد كريم الملاّ أمامي في الفندق، وفرحت وفرح كثيراً، وتركنا أمور السياسة والقيل والقال والشغب المألوف، وانصرفنا للحديث عن العائلة والاستقرار والصحة والمزاج وأمور الدنيا الأخرى، ولم نتحدث بالسياسة قط، لكن ذكرياتنا وذاكراتنا كانت على الطاولة، حيث نستعيد هذا الموقف وذلك التعليق وغياب هذا الصديق أو ذاك، وقد سألني الملاّ بحرارة تلك الأيام عن لؤي أبو التمن، وكما قال لي حين عاتبته في براغ عن اعتقاله أنه متألم لذلك، وهو حاول لكن آذاناً صمّاء كانت تواجهه، وفهمت حينها أنه كان معارضاً لاعتقال أي منّا، لكن الأجهزة هي الأجهزة ،ولم يكن بالإمكان تخطّي الأمور الأمنية التي أصبحت مع مرور الأيام لها الأولوية على كل شيء، وعلى الجهاز الحزبي الامتثال إليها، لأنها حسب بعض التوجهات " تعرف شغلها". لعلّ شخصية حسّاسة مثل كريم الملاّ سيكون ألمها كبيراً ، خصوصاً إذا كانت لا تستطيع أن تردّ أذى عن صديق أو رفيق أو تعيد حقاً له أو تدفع عنه باطل، ومثل هذا الأمر عاشته جميع التجارب الشمولية، وهناك فروق كبيرة بين الحزبي والسياسي وبين المهني والسياسي وبين المبدئي والوظيفي، وأظن في ذلك جزء من معاناة كريم الملاّ الذي عاش مثل غيره الكثير من الإزدواجية، لعدم الانسجام بين الخاص والعام، وبين الوظيفي والإنساني. كان كريم الملاّ سياسياً، أكثر مما هو حزبي، وكان مهنياً ونقابياً، أكثر مما هو سياسي، وكان أقرب إلى المثالية أكثر مما هو إلى الواقعية، وكان له عالمه الخاص الذي كثيراً ما يتعارض مع العام، ولذلك تكسّرت أحلامه وتبدّدت آماله، فلم يستطع أن يقف إلى ما لا نهاية بين الضحية والجلاد، كان إنساناً له رأي وصاحب وجهة نظر وقد ساهمت ثقافته ودراسته لمدة من الزمن في ألمانيا من تشذيب الكثير من ملامح شخصيته، فأصبح أكثر رقّة وسلاماً. لم يكن كريم الملاّ انتهازياً أو انتفاعياً، لهذا ظلّ يشعر أكثر من غيره بمعاناة الآخرين ومراراتهم وعذاباتهم، لأنه كان يبحث عن الحقيقة، بل ينقب عنها ولو بإبرة خياطة في مواجهة جبل قاهر !.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جوهر الأزمة العراقية
-
جدلية الثقافة والوعي
-
علي كريم: أول الفلسفة سؤال!
-
مفارقات السياسي والأكاديمي
-
ورطة العبادي
-
الحرب الباردة الجديدة
-
بصمة حقوق الإنسان
-
الفساد والحوكمة والتنمية
-
تظاهرات العراق: من أين لك هذا؟
-
فن الضحك والسخرية في أدب أبو كَاطع
-
رصاصة الفراشة وصورة «إسرائيل»
-
الديموغرافيا والجيوبوليتكا.. «المعجزة اليهودية الثانية»
-
موسم استحقاقات العدالة.. ماذا بعد محاكمة حبري؟
-
قانون التمييز والكراهية.. رسائل إلى العالم
-
قتل المسلمين.. مسألة فيها نظر
-
ماذا بعد ال«لا» اليونانية؟
-
«النووي الإيراني».. هزيمة أم انتصار؟
-
الثقافة واليسار والتبديد
-
المثقف وفقه الأزمة – ما بعد الشيوعية الأولى /ح 16
-
السياسة .. الوجه الآخر للحرب
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|