|
خطاب التشغيل في المغرب: الهروب بلغات متعددة
عبد الإله بوحمالة
الحوار المتمدن-العدد: 1347 - 2005 / 10 / 14 - 11:14
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
خطاب التشغيل في المغرب خطاب ظرفي ومناسباتي يكتسي في تشكله لبوسات متعددة بحسب الجهة التي تنتجه وبحسب موقعها السياسي وأهدافها الإيديولوجية. فخطاب أحزاب المعارضة حول التشغيل يختلف عن نظيره عند الحكومة كما يختلف عن الخطاب الذي ينتجه المقاولون وأرباب العمل والنقابات والفاعلون الاقتصاديون. ويتأثر هذا الخطاب من جهة أخرى بوضعيات سياسية واقتصادية معينة فهو في السياقات الانتخابية مثلا أشد لغطا منه في سياقات عادية، كما أنه يطفو إلى السطح دائما كموضوع للمزايدات في لحظات الأزمة والتوتر الاجتماعي. ولعل قراءة مسحية لبعض تحققات خطاب التشغيل في المغرب، بمختلف منتجيه، خلال العقدين الأخيرين لا توضح نوعية التعامل السياسي الحاصل مع معضلة التشغيل فحسب، بل هي صورة نموذجية لأساليب الممارسة السياسية برمتها ولنوعية المعالجات التي تقترح عفوا ويتم الانخراط فيها لحل قضايا اجتماعية غاية في التعقيد بدءا من النفس الإنشائي الدعائي والشعاراتي للبرامج الحزبية، إلى سياسة التجاهل والهروب إلى الأمام بالنسبة للقطاع الخاص، وانتهاء بهلامية البرامج الحكومية المنتحلة والمستنسخة، وسياسة الترقيع والمهدئات ودر الرماد في العيون التي تمارسها الدولة في اجتراح حلول لمعضلات اجتماعية مزمنة وكارثية من هذا الحجم. أولا ـ خطاب التملص من المسؤولية: تهيمن عليه مقولة شائعة هي مقولة "الإرث القديم". وتحاول الحكومة من خلاله تصوير فداحة الوضع السياسي والمالي ومستوى الفساد الإداري المستشري كإرث ثقيل ورثته عن الحكومة التي سبقتها وعن كل السياسات الفاشلة التي تم تطبيقها في الماضي. ووظيفة الترويج لمثل هذا الصنف من الخطاب هي التهويل من جسامة المسؤولية الملقاة على عاتق الحكومة والتلويح بفكرة أن الإصلاح يحتاج دائما إلى صبر ووقت. وهكذا يخلق هذا المطلب، الذي يبدو في الظاهر موضوعيا، حالة من الترقب والانتظار الطويل لدى المواطنين قد تمتد لتستغرق فترة حكومية بأكملها، مع العلم أن تصفية هذا الإرث من الفساد الذي تدعيه الحكومات ( كل الحكومات )، يتم غالبا في العتمة بالتسويات والترضيات والتستر على فضائح مالية وتجاوزات إدارية ضخمة ولا يحتكم فيه إلى سيادة القانون ومعاقبة المفسدين قضائيا بنزاهة وشفافية. ثانيا ـ خطاب التعميم والمقارنة مع وجود الفارق: تقدم الحكومة في مثل هذا الخطاب معضلة البطالة وأزمة التشغيل كأزمة عامة عالميا، من خلال المقارنة السطحية بدول أوربية متقدمة، كفرنسا مثلا، باعتبارها نموذجا رائدا للدول التي تحترم فيها حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية. وهذه المقارنات الإسقاطية غالبا ما تقف عند الاحتجاج بوجه واحد يتيم للشبه والتماثل بينما تتعامى عن فروق عديدة كالتفاوت الهائل في مرونة سوق العمل، والقيم السائدة التي تدبر بها اختلالات العرض والطلب، وطبيعة الكتلة المتضررة من البطالة، وعدم السماح بديمومة الحرمان من حق الشغل سنوات طوال كما هو الحال عندنا، والعدل في توزيع الفرص، ناهيك عن الضمان الاجتماعي والتعويض المادي عن البطالة. ثالثا ـ خطاب العجز، أو توبة السحرة: تتذرع الحكومة في عجزها الصارخ عن معالجة معضلة البطالة عامة وبطالة الخريجين من أصحاب الشواهد العليا ( وقد مست شريحة الدكاترة والمهندسين )، بأنها لا تملك عصا سحرية أو خاتم سليمان. ويتكرر هذا الاعتذار المسبق مرارا وتكرارا في كلام الوزراء الذين تناط بهم مسؤولية التشغيل، في الوقت الذي لا يطالب مطالب عاقل في المغرب، بإيجاد حل سحري معجز للمشكل بل يتفق الجميع حول ضرورة ابتكار حلول واقعية حقيقية ومنصفة، تكون قابلة للتنفيذ على الأقل بالشكل الذي تتعهد به في برنامجها الحكومي الذي يفترض أن يكون بعيدا كل البعد عن الأساطير والتهويمات والكرامات. ولعل الترويج لمثل هذا الخطاب المغالط، والإيهام بأن هناك من يضغط على الحكومة من موقع قوة لإيجاد حل فوري ونهائي للمعضلة دفعة واحدة بجرة قلم وتحت ضغط زمني، ترويج يراد منه التبئير الشديد على العيب في لا معقولية "مطلب وهمي غير مقدر للظروف"، وهو مطلب الحل السحري، في محاولة للالتفاف عن اعتراف شجاع بأن العجز هو وليد لعيوب مستتبة في الأداء الحكومي والتركيبات الحكومية الهجينة وفي السياسات والبرامج المرتجلة منذ الاستقلال إلى الآن وليس شيئا آخر، وأن بداية الحل هو القطيعة النهائية مع هذه الأسباب مجتعة. رابعا ـ خطاب المقاولة والتشغيل الذاتي، أو خطاب "الخاتم والعريان": وهذه فكرة تروج لها الحكومة بحماس منقطع النظير إلى درجة تثير الشك والريبة. وهي دعوة أقل ما يقال عنها بأنها خرافية إلى أبعد الحدود وتنم عن جهل بعمق المعضلة وأبعادها، لأن الكتلة المفترض أن تخاطب بمثل هكذا خطاب كتلة غير منسجمة في عمومها ولا تمتلك المؤهلات المادية والتقنية والمعرفية الدنيا التي تؤهلها للانخراط في هذا المجال والنجاح فيه، والأكثر من ذلك أنه لا يتوفر أمامها المناخ الاقتصادي المساعد الذي يمكن يسمح بهذا الانخراط ويحضنه. وإذا استثنينا القلة القليلة التي قد تجد في نفسها الجرأة والمبادرة وفي محيطها ( الأسري بالخصوص )، الدعم المادي والمعنوي لإنشاء مقاولة أو خلق أي فرصة للتشغيل الذاتي عبر مشاريع صغيرة، وهي على كل حال عينة قليلة لا يقاس عليها، فإن توجيه مثل هذا الخطاب الإغرائي للشباب هو دفع قوي به إلى حواف المغامرة ومهالك الاقتراض والديون، وأي فشل ينجم عنه سيكون بمثابة انتحار ثان محقق بعد انتحار أول طويل الأمد من خلال نوعية التعليم الكاسد الذي ظلت الدولة تطرحه في طريق أبناء الشعب من الطبقات الدنيا على امتداد نصف قرن من الاستقلال. إن خطاب المقاولة المسرف في فصاميته واستلابه هو نقل حرفي مشتط وإسقاط متغابي لمظاهر من نموذج مجتمعي متقدم كفرنسا أو أمريكا على مجتمع متخلف لم تتوفر فيه بعد الشروط والتراكمات الموضوعية لنشأة المقاولة الصغرى الموازية التي يروج لها حاليا بنفس القدر من الإلحاح والضبابية. خاصة وأن هذه الأخيرة لا يمكنها أن تزدهر إلا في نظام اقتصادي مستقر تتجاور فيه قيم وآليات التنافسية إلى جانب قيم وآليات التكامل والتعاون والانفتاح، وهذا ما لا يزال غائبا على المجتمع الاقتصادي المغربي الذي يهيمن عليه هاجس الاحتكار والطمر وعلائق الصراع المميت، وتطوقه أغلال الجمود والبيروقراطية وانعدام الثقة. خامسا ـ خطاب الوعود: ويقترن في الممارسة السياسية بالمغرب بلحظتين بارزتين: الأولى هي لحظة الانتخابات، والثانية هي لحظة عرض ومناقشة البرنامج الحكومي. وعلى عكس خطاب العجز والتملص من المسؤولية الذي تهيمن عليه نبرة الاستصعاب والتهويل فإن خطاب التسويف والوعود المعسولة تهيمن علي نبرة الاستسهال والتهوين. وقد جرت العادة في المغرب بحكم التجربة والتكرار ألا يعول بتاتا على مثل هذا الخطاب اللزج لأنه يدخل في إطار الدعاية السياسية التي لا يعتد بها. لكن من بؤس المفارقات أن يمتد هذا الموقف السلبي ليطال البرنامج الحكومي المفترض فيه أنه برنامج عمل منهجي وعقلاني تلتزم الحكومة بتنفيذه وينبغي أن يحظى بنصيب من المصداقية وأن لا يدخل في إطار المزايدات الانتخابية المعروفة. إن خطاب التشغيل بتوظيفه اليوتوبي في الحملات الانتخابية أو بتوظيفه البراغماتي في البرنامج الحكومي جزء لا يتجزأ من خطاب الوعود العام حيث يتماهى سقف الواقع ( خطابيا ولغويا )، مع سقف المتخيل العالي جدا في لحظة وردية عابرة وقصيرة هي بمثابة وعد فردوسي يشمل الجميع، ثم بعد ذلك يعود كل شيء إلى حاله ولونه الحقيقي القاتم. ولهذا الخطاب وظيفة أخرى غير الوظيفة الوعدية هي وظيفة تثبيت حالة السكون والانتظار، عبر إشباع كلامي يستبدل الفعل بالقول على غرار الصيغة التمويهية الشائعة: ـ "تطالبون أن نفعل كذا وكذا.. نعم أنا سأقول لكم.." سادسا ـ الوظيفة العمومية: خطاب التنفير: الهم الكبير لمثل هذا خطاب هو الإفلات من قبضة قراءة حرفية وأحادية لنص دستوري ( الفصل 13 )، يعطي للمواطن حقه كاملا في الشغل كما في التربية، ومن أسر فهم شائع يرتبط فيه بالأذهان معنى الشغل الحقيقي في إطار القانون والضمانات والديمومة بقطاع الوظيفة العمومية، خاصة حينما يتعلق الأمر بفئة الخريجين وأصحاب الشهادات. ويعالج هذا الخطاب الاستماتة في التشبث بهذا المطلب من خلال طروحات متعددة بعضها إملاءات مباشرة من جهات ومنظمات بنكية عالمية. كما يتعلل لذلك بعدم قدرة الإدارة على استيعاب هذا الكم الهائل من الموظفين. في حين يتجاهل الخطاب الذي يروم التنفير من الوظيفة العمومية واستبعادها كحل يطالب به الخريجون العاطلون الأسباب العديدة الأخرى لعدم نجاعة وفعالية الإدارة في المغرب واستشراء الفساد في دواليبها من مركزية وانغلاق وبيروقراطية، ومن فوارق هائلة في الرواتب والتعويضات والامتيازات بين الموظفين على حدي سلم الأجور وخارجه ( وقد وصلت إلى مستويات خرافية عجيبة عند الأطر العليا والمناصب السامية ). بالإضافة إلى بعض الاختلالات الأخرى كظاهرة الموظفين الوهميين والموظفين الأشباح وفساد نظام الولوج إلى الوظيفة العمومية بخضوعه للعلاقات الزبونية والعشائرية والحزبية والوسائط والرشاوى.. وإذا كان مفهوما أن أي مشكلة لا تحل بإضافة أخرى إليها، فإن ما يستعصي على الفهم هو انخراط الحكومات المتوالية في تدبير تعايش مرضي استسلامي مع كل هاته الأدواء من باب كم حاجة قضيناها بتركها. بل الأغرب من ذلك أن بعض هذه المشاكل القديمة التي ظلت تراوح مكانها أصبحت في حد ذاتها حجة جاهزة لتبرير العجز. فإذا كان فساد الإدارة مبررا مقنعا للحرمان من حق الشغل، فإن الديون المتراكمة تبرر فشل التنمية، وتعثر مشاريع التنمية يبرر الفقر، والفقر يبرر الأمية.. وهكذا دواليك. عبد الإله بوحمالة
#عبد_الإله_بوحمالة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من المعارضة إلى المشاركة_تحولات السلوك السياسي الحزبي في الم
...
-
الأحزاب السياسية في المغرب
-
تخلف جهل.. وحضارة جهالة
المزيد.....
-
2nd Day of Works of the 4th World Working Youth Congress
-
Introductory Speech of the WFTU General Secretary in the 4th
...
-
الكلمة التمهيدية للأمين العام لاتحاد النقابات العالمي في الم
...
-
رابط مباشر .. الاستعلام عن رواتب الموظفين في القطاعين المدني
...
-
وفد برلماني سيتفقد المنشآت النووية لمراقبة تنفيذ قانون العمل
...
-
الحكومة الجزائرية تعلن عن تعديل ساعات العمل في الجزائر 2024
...
-
المالية العراقية تعلن عن موعد صرف رواتب المتقاعدين في العراق
...
-
“الجمل” يتابع تطوير شعبة الفندقة بالجامعة العمالية لتعزيز ال
...
-
وزارة المالية.. استعلام رواتب المتقاعدين وحقيقة الزيادة في ا
...
-
وزارة المالية العراقية تحدد موعد صرف رواتب الموظفين لشهر ديس
...
المزيد.....
-
الفصل السادس: من عالم لآخر - من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الفصل الرابع: الفانوس السحري - من كتاب “الذاكرة المصادرة، مح
...
/ ماري سيغارا
-
التجربة السياسية للجان العمالية في المناطق الصناعية ببيروت (
...
/ روسانا توفارو
-
تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة تاريخ أزمات
/ جيلاني الهمامي
-
دليل العمل النقابي
/ مارية شرف
-
الحركة النقابيّة التونسيّة وثورة 14 جانفي 2011 تجربة «اللّقا
...
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
مجلة التحالف - العدد الثالث- عدد تذكاري بمناسبة عيد العمال
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
نقابات تحمي عمالها ونقابات تحتمي بحكوماتها
/ جهاد عقل
-
نظرية الطبقة في عصرنا
/ دلير زنكنة
-
ماذا يختار العمال وباقي الأجراء وسائر الكادحين؟
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|