|
الوجهان
سميرة المانع
الحوار المتمدن-العدد: 4857 - 2015 / 7 / 5 - 16:48
المحور:
الادب والفن
سميرة المانع
الوجهان البناية حديثة في وسط مدينة لندن، تحيط بها العمارات للمؤسسات المالية الضخمة والشركات العالمية ذات الشهرة والباع. تعلو قسما منها، اعلانات النيون الصاخبة في الليل، واكتفت اخرى بالحروف الملونة العادية لابراز اسمها والتنويه به. ليس صعباً ان تستدل مديحة على عنوان دار النشر العربية فقد رأته عدة مرات في الصحف والمجلات، لم يعد هناك الاّ ان تركب القطار التحت ارضي وتلقي نظرة على دليل الشوارع لتكون امامها. الباب الخارجي مفتوح يستقبل الزوار، ولكن ما ان دخلت، حتى وجدته يقود الى لا شيء وانما الى لائحة سُجلت عليها اسماء الساكنين في البناية وبقرب كل اسم جرس كهربائي صغير، نقرته حين قرأت الاسم متأكدة من انه ( دار نشر الليل والنهار العربية الدولية) ، متأنية منتظرة الجواب : مين ؟- سمعت صوتا يسأل وكأنه يخرج من ثقب بالجدار : - انا مديحة السقاف ، لدىّ موعد مع رئيس التحرير الاستاذ " منير ابو سيفين" - تفضلي في الطابق الخامس . المصعد على اليمين . اخذها المصعد كسفينة ، لا تدرى بالضبط مكانها ، وان كانت لها بوصلة تشير للجهات . خرجت منه سالمة . عدد كبير من الناس يروشون في الممرات ، رجال ونساء لا تعرف احداً منهم بالذات ، وان كانت شبه متأكدة ان اغلبهم عرب من بني قومها . كان بعض الرجال قد ربّى له لحية مدببة وآخرون بشوارب كثة سوداء ، نساء يرحن ويجئن بالكعوب العالية والشعر المصفف وحسن الهندام . انتبهت لملابسها وهيئتها البسيطة، ودّت لو تجملت اكثر، لبست حذاءها الجديد. ارادت ان تذهب للحمام كي تعدل من شأنها بعد سفرة الوصول الى المكان والتي استغرقت ساعة ونصفاً فضلا عن التشويش والقلق المرافقين لمن يزور مكانا للوهلة الاولى، او يواجه مسؤولين في اى عمل جديد . سألت احداهن عن مكان دورة المياه فدلتها عليها. تركتها بعد خمس دقائق ، ولم يبق الا أن تسأل عن غرفة رئيس التحرير "منير ابو سيفين" ، طالعت وجهها نظرات عندما سألت عنه ، فاشير لها ان تذهب الى تلك الغرفة في الجهة المقابلة . سارعت للجوء الى الغرفة ، مسيطرة على الاعصاب ، لتواجه بدلا من رئيس التحرير سكرتيرته ، امامها آله طابعة ، تلبس قميصاً حريراً جذاباً ، وفي اذنيها قرطان كبيران على شكل فراشة نايلون ، لفتا نظرها لحركتهما اثناء التحية والكلام . اخبرتها السكرتيرة ، بكل ادب ، ان تجلس على الكرسي ريثما تبلغ رئيس التحرير بنبأ وصولها . قامت من مكانها متجهة الى باب أخر ، عادت منه بعد دقائق ، بعد ان اتمت ما سعت اليه ، مشيرة لها ان تفضلي . دخلت مديحة غرفته بعد أن شُرع لها الباب فبُهرتْ . ما عادت تشعر إلاّ وهي تسير في بهو فسيح انتشرت في ارجائه انواع الاصص بالنبات الاخضر والزهور ذات الالوان ، كما وزعت مقاعد جلدية فخمة سوداء هنا وهناك . وصلت الى منضدته ، بعد ثوان وكأنها تلتقط انفاسها من كثرة الجري ، فوقف مبتسماً مادّاً يده لمصافحتها . كان متوسط الطول ، له رقبة حمراء وعينان عسليتان تترأرآن في محجريهما ، في وجه بيضوي الشكل ، مدبب الاطراف دون عظام تذكر . اجلسها بعد الترحيب على احد تلك المقاعد الوثيرة السوداء فغاصت به كالماء . قبل ان يبدآ بالحديث الجدّي الذي جاءت من اجله ، عرفت ان اوراق القصة البوليسية التي ترجمتها وبعثتها له بالبريد قبل اسابيع ،امامه ، مثلما طلب ناشر المجلة التي يصدرها هنا ، و"منير ابو سيفين " رئيس تحريرها .اختارت هذه القصة اخيراً وهي قصة ( الرجل ذو الساعات ) لاحد كبار كتاب القصص البوليسية في العالم ( كونان دويل ) الانكليزي المعروف ببطل قصصه شارلوك هولمز وتحرياته . لم يعد من شك عندها ، بعد قراءة ما يقرب من الف صفحة متناولة قصص التحريات واحدة واحدة ، انها عثرت على قصة صالحة للترجمة والنشر الى العربية اكثر من غيرها ، ففيها عبرة وحكمة للشباب الذين يضلون الطريق ، بسبب الخمرة والقمار وصحبة اصدقاء السوء ، وما يجر هذا من فساد وجرائم على الفرد والمجتمع على السواء . لم يبق الّا رضى رئيس التحرير "منير ابو سيفين " عنها ، كي تنشر على صفحات المجلة . كان ينظر الى القصة امامه بعمق وتفكير، وجهه مهموم حائر وكأنه في سبيل الحصول على حل لمسألة رياضية ، يقلبها ، يمسكها بيديه الصغيرتين الناعمتين كفأر يمسك جبنة . لم تشأ مديحة قطع افكاره . ارادت ان تتركه وشأنه حتى يقرر هو . رفع رأسه اخيراً : - قصتك المترجمة امامي . انها جيدة ، لكنها غير صالحة للنشر في مجلتنا ، للاسف . اخفتْ هلعها ، وبدا عليها الجهل : - لماذا - فيها كلمات غير صالحة للمجلة - مثل ماذا؟ - كلمات مثل الخمرة ، العاهرة ، القمار ، الجسد . – احقا ! ما تقوله ؟ - طبعا ، انت لا تعرفين نظام النشر عندنا ، هناك تحديد لاستعمال مثل هذه الالفاظ ، فالجماعة حساسون تجاهها خصوصا كلمتي الخمرة والقمار . لم تسأله من هم الجماعة ، لا تحتاج الى ذلك ، فهي تعرف ان المجلة تمول وترسل وتوزع في البلاد العربية ، وقسم من هذه البلاد يُحرم ويُمنع تناول هذه الالفاظ ، يحاول تجاهلها ، التغطية عليها، كالخائف من فضيحة . تقدمت مديحة في جلستها بالمقعد الى الأمام ، خرجت من غطستها الوثيرة قائلة : - القرآن مليء بهذه الالفاظ ، سيكون القرآن في اول قائمة الكتب الممنوعة على حد قولك. - هذا موضوع آخر ، لا نحب الخوض فيه .. المهم، هو ان لا نزعج الجماعة. الجماعة ، الجماعة من هم الجماعة ؟ انهم الحكام ، فكرت مديحة ان " منير ابو سيفين " حريص على وظيفته ، لا بد ان تكون الغنيمة مستحقة الغزو. لا المنضدة الساج ولا البطاقات المطرزة باسمه المخيف بالخط الديواني ، ولا اقلام الحبر الغالية لقادرة على تطمينه وتأمين مركزه . عليه ان يكون خادماً مطيعاً ذليلاً للجماعة الحساسة ، أن يرضيهم ، ويعمل بأوامرهم دون اي احتجاج او نأمة ، ولو امات ضميره وارتكب انواع التضليل والاباطيل والتشويش تجاه الشعب العربي من المحيط الى الخليج . اسرع " منير ابو سيفين" بالافصاح عن امكانية التعاون معها في المستقبل : - فتشي لنا مرة اخرى عن قصة بوليسية خالية من هذه الالفاظ ، وسنعطيك من النقود ما تطلبينه واكثر . - واين اجد هذه القصة البوليسية الخالية من هذه الالفاظ ؟ هل بالامكان وقوع جريمة وتحقيق شرطة من دون هذه الالفاظ ؟انها لُب الجرائم ، لا يمكن ان اجد قصة بوليسية خالية منها ، مستحيل . شرع يطمئنها، يكسب ودّها ، بعد ان شعر " منير ابو سيفين " انها غير راضية : - اخبرك بالمواضيع التي علينا تجنبها بالقصص ، وهي : الجنس ، الدين ، السياسة ، هذه امور نحرص على عدم خوضها ، لانها تسبب المشاكل . - وهل تختفي اذا لم تنشر في قصص مجلتكم ، هل تزول من الوجود ؟ من عقول الناس ؟ ان ما ذكرته هو الذي يشغل اذهان الناس على الدوام ، والمواضيع الاخرى بقايا وذيول ، فلماذا نتجاهلها ؟ ندفن رؤوسنا في الرمال . - طيب ، هي موجودة في الخارج ، وليس في صحفنا ومجلاتنا . أشار بيده الى كومة مجلات وصحف من منشوراتهم ، مكدسة على منضدة بالزاوية ، صفحة الغلاف في معظمها ، لنساء مظهرات محاسنهن ، يبرزن اثداءهن ، مصبوغات الوجه والشعر بالاحمر والاسود والاشقر الذي يشبه الاصفر الرنان . تكاد كل واحدة منهن تقول للرجل: " تعالَ ، هئتُ لك " لم تتمالك مديحة الا ان يعلو صوتها على صوته : - وتتصور انكم قادرون؟ انظر معي لهاته النسوة على غلاف مجلاتكم وبداخلها ، انكم لا تستطيعون الاستغناء عنهّن ، وهن مملوءات بهذه الصفات التي تطلق عليها انت لفظة ، جنس ، انها جزء من الحياة . لم لا نكون صريحين واضحين اصحاء ، ام هل تتصورون اننا اطفال ، لم ولن نصل الى سنّ الرشد والبلوغ . ضحك مستأنساً مواسياً خاطرها : - طيب ، طيب ، انهن مشهيّات ، مقبّلات ، لا بد منهن لجذب القارئ . - ليس هذا فحسب ، وإنما لإثارته ، ووضع الطعم له ثم سحبه ، حرام علينا يا استاذ، سيجن الشباب عندنا ، يكون مشوها معقدا ، من دون شباب الأرض ، هذه طريقة لئيمة ، يا استاذ منير ان نضع الطعام اللذيذ للقارئ العربي المسكين ونطلب منه ان لا يذوقه ، سنزيده نهماً وجوعاً . تأكدت مديحة ان لا مكان لها هنا ، اغلقت الباب ، يئست من العمل بهذه المجلة ، أرادت ان تحرق سفنها كلها معها ، رأت دخاناً وشمت رائحة عطنة . وقفت لتودع " منير ابو سيفين" وبودها صفعه . انتبهت اثناء وداعه ، الى عين واحدة في وجهه كانت ترمش بشدة وحدّة ، تغمز لا على التعيين ، تذكرت ان هذه العين ظلت مستمرة بالغمز منذ ان دخلت عليه الغرفة ، كانت تسرع ، تسرع ، ترجف كلما اشتد الحديث والنقاش معها، اكتشفت بعدئذ ، ان حركتها حركة عصبية مرضيه لا ارادية ، جعلت هذه العين متفاهمة مع صاحبها "منير ابو سيفين" تغمز معه واياه لتضحك على الشعب العربي وحكامه اجمعين . تنفست الصعداء وهي تخرج للشارع المكتظ بالسيارات والناس ، خائفة من البقاء في البناية اكثر ، فتتلطخ يداها وثيابها بالسخام . الساعة تقارب الواحدة ظهراً . المنطقة مأهولة بالموظفين الخارجين من دوائرهم ساعة الغذاء ، بعض يتجه الى مطعم ( ومبي ) بالزاوية ، وآخرون يتزاحمون على الحانات المشكوكة على طول الطريق . فتيات يافعات يتحدثن مع الشباب ثم يدلفن الى المطاعم والمقاهي معا، اصدقاء من الجنسين واقفون على الرصيف يتحادثون ويتضاحكون ، تمنت مديحة لو تعثر على وجه تعرفه ،اشتاقت الى صديقتها عفاف سبق ان التقيتا معا في وسط لندن ، عندما كانت تشتغل مع ( شركة النفط العربية البريطانية ) فتحدثها ، وتشكو لها ما تلاقيه من سوء معاملة عندهم ، فتضحكان ، احيانا ، وتتعجبان من قدرة البشر على الخداع والكذب ، على النفخة والاستعلاء . لا أمل في ان تراها اليوم ، لقد استقالت منذ مدة من الشركة المذكورة وتعمل الان موظفة لتحليل الدم في احد المختبرات والمنطقة بعيدة. سارت مديحة ناظرة هنا وهناك، كالضائعة في لجج البشر السائرين المشغولين ، وفجأة تتوجه اليها عينان ، انهما سوداوان ، الوجه حنطي ، الشعر اسود من بين عشرات الوجوه البيض والشعور الصفر ، والعيون الملونة ، لقد عرفتها " سمية عبد الصمد"، صاحت الاخيرة( مديحة) وهرعت الاخرى لها منادية (سمية) ، تعانقتا في وسط رصيف الشارع . امسكت الواحدة بيد الاخرى لمدة دقيقة ، تستفسران عن بعضهما وعن احوالهما واهلهما في العراق ، اخبرتها سمية انها تشتغل في المكان الذي خرجت منه قبل قليل، كالهاربة ، ولم تصادفها هناك كونها تشتغل في قسم الارشيف ، باعماق احدى الغرف . انها الان في فترة الغذاء ، لديها ساعة فراغ كاملة لها . بدأتا بالتفتيش عن مكان مريح كي تجلسا فيه وتتحدثا . لم تجدا صعوبة تذكر في العثور عليه ، سألتها مديحة متلهفة : - والأن حدثيني ، اين تسكنين ، وماذا جرى ؟ - اسكن في ( ادجور رود )، جئت الى لندن كسائحة سنة 1980 وقامت الحرب العراقية الايرانية ، تأخرت في العودة للعراق ، خفت ان اعود بعدئذ لاسباب كثيرة ، وماذا عنك ؟ - سمعت بوفاة زوجي المرحوم ( نديم ) بالتأكيد ، اهلك جيران أهلي بالعراق ، ولديّ عصام ونزار . الاثنان رجلان الان والحمد لله . عصام طبيب يعمل في المستشفى ونزار ما يزال طالباً في الجامعة . نعيش في منطقة( سيري) قرب النهر . منطقة هادئة منعزلة . - منطقة سكناك بعيدة لمن يعمل في وسط لندن ، يومياً ، ولكنك لا تعملين اليس كذلك ؟ - اشتغلت اثناء السنوات الاولى لنا بلندن ، ثم تركت العمل . خلّف المرحوم نديم تقاعدا لي وللاولاد ، وكانت مواردنا كافية ، اذهب كل سنة الى العراق من اجل شهادة الحياة لراتب التقاعد فاكمل المعاملة وتصلنا النقود الى لندن بشكل من الاشكال . اما الان ، وبعد الحرب ، فلم يعد باستطاعتي الذهاب والخروج من العراق بالسهولة نفسها ، فهناك مشاكل اثناء الخروج ، انت لا تعرفين ، فضلا عن ان مجرد ذكر اخراج نقود والعيش بلندن سيسبب مصائب ودواهي لي ولاهلي ، فالنقود ، كما تعرفين للمجهود الحربي فقط . - طبعا، طبعا، اخراج النقود من العراق، ومنذ القديم، وقبل الحرب، صعب، والآن ، اللّه يستر ، لا افهم لماذا يبخلون على المتقاعدين رواتبهم، فلا يسمحون لهم بالتصرف بها ، وبالطريقة التي يريدونها ، انها حقوقهم وهي حلالهم . - أتريدين ان نكون كما يكون المتقاعدون هنا ، وفي البلدان المتطورة التي تهتم براحة ابنائها وسعادتهم ؟ لدينا جاران عجوزان متقاعدان في ( سيري ) احبا ان يذهبا ويعيشا ، بقية حياتهما ، في اسبانيا لجفاف مناخها . لا تتصورين مدى المساعدة التي قدمت لهما لتحقيق رغبتهما هذه . الان يصلهما راتب التقاعد رأساً على عنوان حسابهما في بنك اسبانيا . نحن لا نزال ننظر للتقاعد على انه هبة من الحكومة ، وليس حقا استحقه الموظف واولاده . اننا لا نزال ننظر للعمل في الدولة كخدمة للاسياد وليس حقا من الحقوق . على اية حال ، ماذا ستأكلين او تشربين ؟ بقيتا تتطلعان الى البوفيه في المطعم الصغير ، تفتشان عن قائمة الطعام على المناضد ، قامتا من مكانهما أخيراً حين ادركتا ان نظام المطعم هو ( اخدم نفسك). سحبتا صينيتين من الزاوية حيث تتكدس الصواني وسارتا باتجاه اواني الاكل . انواع الاطعمة الجذابة من خلف زجاج البوفيه . قالت سمية : - هذا منظره جميل ، احمر ، واخضر ، واصفر ، لا طعم فيه . وهذا ايضا مجرد زرنقة الوان ، لا رائحة ولا نكهة ، اكل انكليز ، جربته قبل ايام . ضحكت وهي تنصح زميلتها، تسيران الواحدة وراء الاخرى وبيديهما الصينيتان ، تنقبان عما يستهويهما ويلذّ لهما . استقرتا اخيرا على ان تأخذا ساندويج فقط مع كوب شاي. - ماذا كنت تفعلين في دار النشر اليوم ؟ - اوه، قصة طويلة . مختصرها المفيد اني ترجمت قصة بوليسية ،حسب اقتراح الناشر عندما رأيته في بيت احدهم ، يوما ، وارسلتها لهم بالبريد المسجل . بعدئذ ، طلب مني رئيس التحرير " منير ابو سيفين " مقابلته للمداولة بالموضوع ، حضرت اليوم وفهمت منه ان القصة غير صالحة للنشر ؟ هل ذكر الاسباب ؟ - فيها كلمات الخمرة والقمار وما شاكل .- انفجرت سمية بالضحك على حين غفلة ، بانت اسنانها واللسان : - اوه ، لقد دستِ على الجرح ، الا تعرفين ؟ - اعرف ماذا ؟ - صاحبنا ( قمرجي ) من الدرجة الاولى ، يقال ان راتبه الضخم الذى يسعى ويحارب ويزّور وينبش ويكسر الرقاب للابقاء عليه ، يصرفه في ليلة واحدة ، فضلا عن ان الآخرين المتسلطين معظمهم مثله . استمرت سمية تكركر ، ناكشة شعرها بيديها للوراء ، وكأنها سمعت احسن النكات . - وما العمل ؟ -لا نقدر على شيء . جاءتنا فلوس النفط وفرحنا بها ، ولكن بعض الرجال ، ونسائهم ايضا ، الذين حصلوا على نقودهم بلا تعب او كدّ قضوا عليها كحام وحيم ، أسمعت بذلك الذي يقول : ( اني املك مائة مليون باون استرليني في البنك فائدتها السنوية عشرة ملايين اصرفها على القحاب ) ، مبررا فعلته ضاحكا مضيفا : ( منها واليها) يعني ان فائدة البنك محرمة بالدين الاسلامي على اعتبار انها كالربا. - لم الاغتراب اذن ؟ - ماذا تفعلين ؟ اعملي عملك كيفما كان وامشي ، انا اشتغل مثلا في الارشيف في دار النشر هذه ، انجز عملي بشكل من الاشكال ، ومع السلامة . ضحكت مرة ثانية وكأن هناك مهزلة تمثل امامها ، مثيرة للضحك لا للبكاء . - هذا اذا كان الامر ممكنا . ولكنني ككاتبة احتاجهم ، اريد تشجيعهم ومعونتهم ، اريد التفاهم معهم على الخطوط الاساسية العامة في الاقل. حسمت سمية الموضوع كله بالقهقهة ، كادت تستلقي للوراء ، تتحرك يداها كالمهبولة امامها ،استهزاء واستغرابا من البراءة المتجسدة قربها : تعيش في ( سيري ) قرب النهر ، كاع ، كع ، كع ، كاع . دفعتها مديحة دفعا الى عالم نقي انيق خال من القاذورات . كانهما فتاتان وجدتا نفسيهما في سفرة في الهواء الطلق على سفوح الجبال ، تتسلقان تارة ، ثم تسقطان لتعاودا الكرة . عندما تمكنت سمية من السيطرة على نفسها من القهقهة ، تساءلت : - ماذا تقولين ؟ أتريدين مساعدة وتشجيعا منهم ؟ ها ، ها ، ها ، عسى الاّ تكوني تحت رحمتهم وفي متناول يدهم . البعض سيلطخك بالاوحال ، يلصق بك تهما ما انزل الله بها من سلطان ، سيغمط حقك ، يأكل نصيبك ، يشوهك ، اللهم الا اذا كانت لديه مصلحة عندك ، سواء اكانت بالجنس او بالنقود ، او انت ممن يلحسون الاقدام ، آنذاك ، يسكت عنك ، يمجدك ، يعشقك ، يتغزل بك وبكتاباتك ، يبحث في معانيها ، يضيف اليها ما ينقصها ، وستظهرين وكأنك جين اوستن او شارلوت برونتي او جورج صاند الآن ، اما ما عدا ذلك فلا تجدين عنده الا خرسا وآذانا صماء . - احسنتِ ما تقولينه وارد. مسحت مديحة فمها بمنديل الورق بعد ان اتمتْ اكل اللفافة ، وكأنها تكفكف دموعها يائسة . شربت الشاي بهدوء وروية متطلعة الى سمية، ابنة جيرانهم وصديقة اختها الاصغر منها بخمس سنوات ، تتذكر، وهما تسرحان شعرهما الطويل معاً امام المرآة ، تتذكر وجه سمية حين يصعد الدم الى وجنتيها اثناء السلام والحديث من شدة الخجل والانفعال . كانت تدرسان معا على سطح منزلهما اثناء الامتحانات صيفا ببغداد ، طموحهما ، ثم التحاقهما بكلية العلوم والآداب. إن لسمية ، الان ، شخصية اخرى ، هازئة ، لا مبالية ، تعض من يقف في طريقها ، هستيرية الضحك . إن لسمية ، الأن ، بالتأكيد ، وجهين ، وهي قادرة على اغتصاب حقها من بين فكوك الذئاب من اجل لقمة العيش . لا تستطيع مديحة ان تكون مثلها ، كان لراتب التقاعد المتواضع المحول من العراق في السنين الماضية قدرة على انتشالها ومنعها، سترها وصيانتها من الغش والنفاق ، اللف والدوران ، او اللعب على الحبال . لا تستطيع ان تظهر الا بوجه واضح صريح واحد . فتشت عن قلم في حقيبتها لتكتب عنوان سمية ورقم تليفونها ، كما تبادلت الاخيرة معها بالعنوان . خرجتا من المطعم بينما كانت الهازئة غاصة بالضحك ، نقّارة ، وان ظلت الواحدة تودع الاخرى بعين ترى وقلب يحزن* . ++++++++++ * الفصل العاشر من رواية ( حبل السُّرة) .
#سميرة_المانع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الخليج
-
قصة : النسوة يتمْلْملنَ
-
الغناء
-
مكنزي
-
العنز والرجال
-
هل تدلني على بيتي ؟
-
الميثاق مرة اخرى
-
ميثاق 91
-
الحرية، الحرية ، من فضلكم
-
قصة ( ما علمتم وذقتم )
-
من دفع للمزمرين ؟
-
المرأة بضاعة وزخرفة
-
هل تدلني على بيتي؟
-
ما قلت وداعا أبدا
-
نساء
-
خروج أديب من قرونه الوسطى
-
ما يقال عن المرأة في الادب العربي
-
الاعتداء
-
العيش في سلام
-
التواطؤ الثالث بالسياسة
المزيد.....
-
مترجمون يثمنون دور جائزة الشيخ حمد للترجمة في حوار الثقافات
...
-
الكاتبة والناشرة التركية بَرن موط: الشباب العربي كنز كبير، و
...
-
-أهلا بالعالم-.. هكذا تفاعل فنانون مع فوز السعودية باستضافة
...
-
الفنان المصري نبيل الحلفاوي يتعرض لوعكة صحية طارئة
-
“من سينقذ بالا من بويينا” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 174 مترج
...
-
المملكة العربية السعودية ترفع الستار عن مجمع استوديوهات للإ
...
-
بيرزيت.. إزاحة الستار عن جداريات فلسطينية تحاكي التاريخ والف
...
-
عندما تصوّر السينما الفلسطينية من أجل البقاء
-
إسرائيل والشتات وغزة: مهرجان -يش!- السينمائي يبرز ملامح وأبع
...
-
تكريم الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|