|
مقبرة براغ وشواهد قبورنا
الصديق بودوارة
الحوار المتمدن-العدد: 4855 - 2015 / 7 / 3 - 01:48
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في روايته المدهشة " مقبرة براغ " ، يتحسس " أمبيرتو إيكو " بقلمه وكأنه مبضع جراح ، لا أقول جراحاً ماهراً ، فهذه الصفة قد تبدو بليدةً بعض الشئ ، لكنه جراح موجع ، لا مبالي ، مستهتر ولا يلقي بالاً للأقنعة . لهذا تجرحنا جمل .... وعباراته ، ولهذا تبدو الرواية وفي بعض سطورها وكأنها صفعة موجهة لنا نحن بالذات . (( هو ذا ، إذن ، إذا أردنا أن نمنع هؤلاء الشبان من ارتكاب أخطاء ، أفضل طريقة هي وضعهم في السجن بعض الوقت . )) هكذا يخاطب ضابط المخابرات بطل الرواية " سيمونيني " ، وهو يستعد لإقحامه في عمل تجسسي لصالح دولته . أحياناً تضيء لك جملةٌ عابرة درباً يكتنفه الظلام ، وتمسك بيدك عبارة مكتوبة ولو من ألف عام ، ربما لتدلك على زاوية مجهولة من زوايا ذهنك المتعب ، وكأنها بُعثت من جديد من أجلك خصيصاً . فهل لعبارات "أمبيرتو إيكو " علاقة بهذا الأمر ؟ مع كل ما يجري حولنا ، وفينا ، أصبحنا مضطرين لإعادة النظر تماماً في استراتيجية التفكير لدينا ، ونمطية نظرتنا للقيم الكبرى ، ومع ما نراه يومياً من انفلات تصرفات المندفعين كالسيل الجارف عبر شوارع مدننا ، أصبحنا نفكر جدياً مع " إيكو " ، ونهمس لأنفسنا بلا حروف : هل كان من الأفضل لو منعنا هؤلاء من ارتكاب الأخطاء ، حتى ولو أضطرنا الأمر إلى وضعهم في السجن لبعض الوقت ؟ السجن ليس حالة استبداد دائمة ، وهذه ليست جملة مقتبسة من أحد ، بقدر ما هي فكرة تومض في الذاكرة بعد مشاهدة مقطع فيديو يسّوق للبشاعة بلا مقابل . كما أن السجن ليس صورة مسطحة ذات وجه واحد ، إنه كيان رباعي الأبعاد ، وربما خماسي أيضاً ، فالسجن ، ليس دائماً ذلك المكان الخفي الذي يوضع فيه من هم يشكلون خطراً على المجتمع ، أنه قد يكون أيضاً حالة قهر نوضع فيها نحن ، نحن الغالبية الصامتة المغلوبة على أمرها ، نحن الذين تُحصى أعدادنا بالملايين ، لكنها ملايين مسالمة لا تملك في جيوبها رصاصةً واحدة ، ولم تمسك بقطعة سلاح في حياتها ، لكنها تُساق قهراً إلى سجنٍ نفسي كبير ، ومريع أيضاً ، حيث تُجبر على التلفت يميناً وشمالاً عند كل مفترق ، وأمام كل مخبز ، وجنب أي محل بقالة ، خوفاً من سجانٍ مدجج بنمطٍ شاذ من التفكير يجعله خطراً مميتاً يتهدد فكرة الحياة الآمنة ذاتها ودون رادع أو مانع . هنا يتسع معنى السجن ، ويغدو حجرة سوداء مظلمة شاسعة المساحة ، تتسع للملايين ، حجرة سجانها عدد محدود من الشواذ ، يتفوقون بامتلاكهم قطع الحديد المتأهبة لاطلاق الرصاص بلا أدنى رحمة . هنا بالذات ، وعند هذا المشهد المؤلم ، يولد سؤال ملح ، أليس من العدل أحياناً أن يصبح السجن ضرورة للبعض ، حتى لا تتورط الحياة بأسرها في سجنٍ لا تستحقه ؟ وخلاصة الفكرة ، أن من يصادر رأيك عندما تكتب ، فهو يضعك في سجن ، ومن يطلق رصاص رشاشه على صدرك ، فهو يضعك في سجن ، ومن يقتلك غيلةً فهو يضعك في سجن ، ومن يغتصب منزلك ، فهو يضعك في سجن ، ومن يسرق قوت عيالك ، فهو يضعك في سجن ، ومن يختطفك ليطالب بفدية فهو يضعك في سجن ، ومن يقمع انسانيتك ويسحقك كنملة ، فهو يضعك في سجن . ومن يحرمك وطنك فهو يضعك في سجن . الخلاصة أن هؤلاء الطغاة يشكون للعالم من سجنٍ واحد ويطالبون باغلاقه للأبد بداعي حقوق الانسان ، وما إن يتم إخراجهم منه وسط احتفالات عالمية منمقة ، حتى يبدأوا على الفور في تشييد ألف سجن للناس ، سجون بلا عدد ، سجن في الذاكرة ـ وآخر في الذهن ، وثالث في العقيدة ، ورابع في الأمان ، إلى ما لايحصى من المباني الكريهة التي تستعد لاستضافتك في أي وقت . وهنا تعود فكرة " إيكو " الأولى يطل برأسه من جديد : (( هو ذا ، إذن ، إذا أردنا أن نمنع هؤلاء الشبان من ارتكاب أخطاء ، أفضل طريقة هي وضعهم في السجن بعض الوقت . )) (2) جملة أخرى ، وادٍ جديد من التأمل قادتني إليه عبارة سحرية كتبها صاحب "مقبرة براغ " المذهلة : (( المتحمسون هم حثالة الدنيا ، لأنه بعملهم ، وبالمبادئ الغامضة التي يتحمسون لها ، تندلع الحروب والثورات . وبما أنني فهمت الآن أنه في هذا العالم لا يمكن أبداً الحد من عدد المتحمسين ، فلم لا أستغل حماسهم لفائدتي ؟ )) المتحمسون هم حثالة الدنيا ، تبدو هذه الجملة للوهلة الأولى صادمة ، بل ومستفزة إلى أقصى الحدود ، ويخيل إلى القارئ أنها تمس شرف أولئك الطلاب المجتهدين والعلماء الأفاضل والبحاث الذين يداومون على الغوص في بطون الكتب . لكن هذا ليس صحيحاً على الاطلاق ، وذلك لأننا فقدنا منذ زمن طويل بوصلة البحث الصحيح عن المعنى ، بعد أن ملأ غبار هذه الأحداث صدورنا ، وأعمى بصائرنا هذا الضوء المميت للخطب العصماء المدوية . لا شئ من هذا صحيح ، ولا علاقة لهؤلاء بالأمر ، لأنك إذا ما تحليت بالبصيرة عوضاً عن البصر ، لأدركت فعلاً أن المتحمسين هم كما قال " إيكو " ، حثالة الدنيا . إنهم أولئك الذين يتوترون لأتفه الأسباب ، ويرفعون عقيرتهم بالصراخ ، لأن الحديث بنبرة هادئة يحتاج إلى معرفة ، ولأنهم يفتقرون إلى أبسط مقومات المعرفة ، فهم يتجنبونها بلا تردد ، ويستبدلون منهج البحث عنها بمنهج أكثر سهولة ، إنه منهج الضجيج الذي لا يحتوي في طياته على أي دعوة لمعرفة المزيد . إنهم المنجرفون بسهولة مع أول تيار يصادفهم ، فهم مع العنف البشع ، ومع الضرب المبرح ، ومع الخيانة الكريهة ، إنهم عشاق " التمادي " في كل صوره ، لهذا هم أولئك الذين لا "يتورعون" . وهنا تكمن المأساة . هؤلاء هم من عناهم الرجل بعبارته ، وهؤلاء هم من يقودون المرحلة الآن ، فعلى امتداد هذه الدول العربية المقصودة بالحديث ، من تونس إلى ليبيا مروراً بالعراق ثم اليمن ، لن تجد من يتصدر المشهد سوى هؤلاء المتحمسون الذين عناهم " إيكو " في روايته . إنهم وحدهم من يتوزعون المقاعد ، ويعتلون المنصات ، ويتوزعون على مفاصل اتخاذ القرار ، ويناوشون بعضهم بلا حساب ، ويخلقون للأغلبية الصامتة المقهورة حروبها الصغيرة التي تغرق فيها لبعض الوقت ، وما أن ينتهي هذا " البعض " ، حتى يكونوا قد أكملوا لها حرباً صغيرة أخرى تستغرق منها وقتاً طويلاً آخر ، وهكذا ، حتى تكمل الأرض دورانها حول الشمس ذات يوم . لا أحد يمكنه أن يستوعب بصيرة روائي ، هذا ما اعتقده بشكل شخصي ، وليس من الصدفة أن حكومات هذه الدول المتعاقبة لا يوجد من بينها وزراءها أديب واحد ، ولا حتى استاذ تاريخ واحد ، ربما لأن " البصيرة" هنا ليست البضاعة المطلوبة ، ما هو مطلوب هنا هو " غض البصيرة " بديلاً عن " غض البصر " . هذا هو الدرس الذي ينبغي أن نتعلمه من " أمبيرتو أيكو " ، الايطالي المدهش ، صاحب الرواية المدهشة " مقبرة براغ " . إنه درس المعنى ، ودرس التأمل في ما وراء الجمل المنحوتة باتقان على أديم الورق . ولكن ، من قال إننا أمة نتعلم ؟ بل من قال إننا أمة تجيد القراءة من الأساس ؟
#الصديق_بودوارة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ويمينها مشغولة بعناقِ
-
تأويل ما نحن فيه
-
جوزف بلاتير وابن الرومي
-
ليبيا وأسماء المرقش
-
المُغتسلة
-
شيطان أبوهم يبقى إيه
-
يد .. في وجه الوطن
-
ميم
-
مأزق الحوثيين
-
لعبة شارلي ابيدو
-
مجلس أمن الجثث
-
القداسة .. بذيل قرد
-
الدم الرخيص .. جداًً !!
-
سوق متعة الكذب !!
-
مطلوب غاندي .. ليبي !
-
متاهة الحقائق الضائعة
-
ثورة صباحي أم دولة السيسي ؟!!
-
أحزان الولاية الرابعة
-
أوكرانيا .. الربيع الميت !!
-
الماليزية .. وأختها الليبية !!
المزيد.....
-
لاستعادة زبائنها.. ماكدونالدز تقوم بتغييرات هي الأكبر منذ سن
...
-
مذيع CNN لنجل شاه إيران الراحل: ما هدف زيارتك لإسرائيل؟ شاهد
...
-
لماذا يلعب منتخب إسرائيل في أوروبا رغم وقوعها في قارة آسيا؟
...
-
إسرائيل تصعّد هجماتها وتوقع قتلى وجرحى في لبنان وغزة وحزب ا
...
-
مقتل 33 شخصاً وإصابة 25 في اشتباكات طائفية شمال غرب باكستان
...
-
لبنان..11 قتيلا وأكثر من 20 جريحا جراء غارة إسرائيلية على ال
...
-
ميركل: لا يمكن لأوكرانيا التفرّد بقرار التفاوض مع روسيا
-
كيف تؤثر شخصيات الحيوانات في القصص على مهارات الطفل العقلية؟
...
-
الكويت تسحب جنسيتها من رئيس شركة -روتانا- سالم الهندي
-
مسلسل -الصومعة- : ما تبقى من البشرية بين الخضوع لحكام -الساي
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|