أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - ألملك لقمان.الجزء الثاني . (6 ) األله. ألكمال. الفضيلة .















المزيد.....



ألملك لقمان.الجزء الثاني . (6 ) األله. ألكمال. الفضيلة .


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 4804 - 2015 / 5 / 12 - 15:41
المحور: الادب والفن
    


(6)
الله. الكمال. الفضيلة!
أخذ الفلك يبطئ من سرعته شيئاً فشيئاً، أدرك الملك لقمان أنّه يقترب من موطن هاروت وماروت، وحين نظر إلى البحر رأى جيشاً من التنانين العملاقة يهرع من كل صوب ليحيط بالفلك من كل جانب، مطلقاً من أفواهه كرُات ناريّة لا تنطفئ، أنارت أعماق البحر ليغدو كالنّهار.
لامس الملك لقمان خاتم إبليس وإذا بالجيش التنّيني ينتصب واقفاً في الماء وينتحي يميناً وشمالاً مخلياً الطريق البحريّة أمام الفُلك، الذي تقدّمه ستّة تنانين ضخمة راحت تقوده بين صَفّي آلاف الجنود.
بلغ الموكب منطقة مُضاءَ ة بقناديل عائمة في الماء، وحين نظر الملك لقمان بعيداً رأى مدينة من القلاع تتلألأ تحت إنارة القناديل العائمة. وقد وقف على مدخل المدينة آلاف الجنود في أشكال بشريّة عملاقة، كانوا يرتدون زيَّاً أسود ويحملون آلات موسيقيّة ويقفون بثبات في صفيّن منتظمين دون أن يبتلّوا بالماء أو تتحرّك أجسادهم قيد أنملة!
وكان ثمّة ملكان يقفان بين الجيشين على أرضيّة فرشت بالسَّجاد الأحمر، ويضعان على رأسيهما تاجين ذهبيين ويرتديان زيّاً أبيض، وقد وقف خلفهما بعض الرّجال والنسوة.
اضطر الملك لُقمان والملكة نور السَّماء وملك الملوك إلى ارتداء الأزياء الملكيّة، فيما ارتدت الأميرات الأزياء الأميريّة.
توقّف الفلك على مسافة بضعة أمتار من الملكين ليفتح باب كبير. تقدّم الملك لقمان والملكة نور السَّماء ليخرجا ويقفا على سجّاد وثير دون أن يُشعرا بوجود الماء، وقد تبعهما ملك الملوك والأميرة دليلة والأميرتان نجمة الصّباح وظلّ السَّماء.
تقدّم جندي طويل ضخم ينصب سيفاً هائلاً باستقامة إلى أعلى بخطوات ثابتة إلى أن توقّف أمام الملك لقمان والملكة نور السَّماء وهتف بصوت هائل:
"جلالة الملك هاروت والملكة ماروت يرحّبان بجلالة ملك ملوك الملوك لقمان العظيم نصير جدّنا العظيم إبليس خالق الإنس، وبجلالة الملكة نور السَّماء المُعظمة وجلالة ملك الملوك شمهنور الجبّار"
وتنحّى الجندي ليقف بثبات فيما شرع الجيش في عزف الموسيقى، وتقدّم الملكان من الملك لقمان والملكة نور السَّماء.
مَدَّ الملك هاروت يده مصافحاً الملك لقمان فيما مَدّت الملكة ماروت يدها مصافحة الملكة نور السَّماء.
ما أن انتهى الاستقبال حتّى قاد الملكان ضيوفهما إلى القصر الملكي عبر حدائق معلّقة تزهو بأجمل الورود، اصطفت على جانبيها مئات الحوريّات اللواتي ارتدين الملابس البيض ورحن يلوّحن بباقات الزّهور. وبدا القصر من خارجه تحفة للناظرين، وحين دخل الملك لقمان ومرافقوه إلى صالون الضيافة وجدوا أنفسهم في عالم سحري يخلب جماله العُقول، كان شكل الصالون شبه بيضوي وقد زيّنت جدرانه وسقفه بتماثيل ملائكيّة في غاية الرّوعة والجمال، وحين تأمّل الملك لقمان المنحوتات رآها تكمّل واحدتها الأُخرى وهي في مجموعها تروي قصّة خلق آدم وحوّاء كما عرضها الملك إبليس على المسرح الكوني في حفل التتويج، وقد جلست في أنحاء مختلفة من الصالون حوريّات ملائكيّات ارتدين الملابس البيض، كنّ يوزّعن ابتسامات ساحرة وينبسن بكلمة"أهلاً" كُلّما نُظر إلى إحداهن!
وقد أُنير الصالون بقناديل مُشعّة كأنّها الماس كانت تتوزّع في أماكن مختلفة بين أغصان ورديّة حتّى على الأرض. وقد احتلّت الأرائك أماكنها في الصالون بشكل ينسجم مع التماثيل، وكانت تدور وحدها بالجالس عليها كُلّما نوى النّظر خلفه أو إلى يمينه أو شماله.
دخلت بعض الفتيات يحملن أطباقاً عليها كؤوس خمور وعصير فواكِه وبعض المقبّلات والمكسّرات، ورحن يدرن بها على الضيوف والحضور.
هتف الملك هاروت مرحّباً ثانية بالملك لقمان ومرافقيه:
"أهلاً وسهلاً. كم نحن سعداء برؤية محيّاكم وتشريفنا بزيارتكم".
فقال الملك لقمان:
"نشكر جلالتكم لحسن الاستقبال والحفاوة البالغة التي أحطتمونا بها"
"إننا يا جلالة الملك نعتذر لتقصيرنا في القيام بواجبات التقدير التي تليق بمقام جلالتكم. فجدّنا سامحه الله لم يخبرنا بقدوم جلالتكم إلاَّ في اللحظات الأخيرة قبل وصولكم!"
"إذن أنتم أحفاد جلالة الملك إبليس؟"
"أجل جلالتكم، نحن أحفاده. استوطنّا هذا الكوكب منذ ملايين السِّنين، وتكاثرنا عليه وأقمنا مدننا تحت مياهه!"
"هل أفهم من هذا أنّ عمر جلالتكم يقدّر بملايين السِّنين؟"
"بالطبع جلالتكم! إلى درجة أنني لم أعد أعرف كم عمري بالضبط؟"
"وكم يكون عمر جدّكم إبليس في هذه الحال؟"
"عمر جدّنا لا يمكن تقديره بيسر فقد يتجاوز المائة مليون عام!"
ضحك الملك لقمان وهو يهتف:
"لم يخبرني أنّه كهل إلى هذا الحد!"
"لأنّه لا يشيخ، لذلك لم يخبر جلالتكم"
وأطرق الملك لقمان لحظة وفكرة رهيبة تأخذ طريقها إلى مخيّلته:
"هل يُعقل أن يكون الشّيطان هو الله وهو لا يعرف، أم أنّه يعرف لكن تواضعه يجعله يتجاهل هذه الحقيقة؟! أو لعلّه إله من مجموعة آلهة تقف وراء الخلق، هذا خلق الكواكب والنجوم، وهذا خلق الماء والهواء، وهذا خلق الكائنات الحيّة؟!"
وخرج من إطراقته ليسأل الملك هاروت:
"هل في مقدور جلالتكم أن تخبرونا عن قصّتكم على هذا الكوكب أيّها الملك، إذا لم يكن في الأمر ما يكدّركم؟"
"بكل سرور جلالتكم"
"تفضّل أيّها الملك"
"قبل أن يخلق جدّنا إبليس العظيم الإنسان، كُنّا قد تكاثرنا على كوكب الأرض، وحين خلق جدّنا آدم وحوّاء وشرعا في التكاثر، فاض كوكب الأرض بنا وبالإنس، فجمعنا جدّنا وأبلغنا أنّ الأرض لا تتسع لنا وللإنسان والحيوان والنّبات، وعلينا أن ننزل إلى مياه المحيطات والبحار لنستوطنهما، وهكذا انتقلنا من اليابسة لنقيم في أعماق البحار والمحيطات، وشرعنا في إقامة مدننا وقرانا هُناك. وكانت أكبر هذه المدن مدينة جدّي التي ما تزال قائمة إلى جانب غيرها من المدن تحت مياه المحيط، ويقيم فيها مع أبنائه.
فقاطعه الملك لقمان متسائلاً:
"هل حقاً ما يزال الملك إبليس يقيم في مدينة تحت مياه المحيط على كوكب الأرض؟!"
"طبعاً جلالتكم، ألم يخبركم بذلك؟"
"لا، وإن عرفت من قصّته أنّه أول من أقام على الأرض وأنشأ الحياة عليها، وعمل فيها معكم، لقد شوّقتني لمشاهدة هذه المدينة أيّها الملك"
"يمكننا أن ننزل إلى الأرض في أي وقت تشاءَون جلالتكم، خاصّة وأننا متلهفون لرؤية جدّنا وجدّتنا، وإن كانا غاضبين علينا!"
"يُمكن أن نفعل ذلك في المستقبل إذا ما أُتيح لنا، أمّا الآن فلا أشعر برغبة في العودة إلى الأرض لأغوص تحت مياه الأطلسي أو الهادي!"
"لن تكون الرّحلة شاقّة على جلالتكم"
"ومع ذلك أفضّل أن نؤجّل هذه الرِّحلة لأن أمامي مشاكل ليس لها أوّل من آخر، أكمل لنا القصّة إذا أمكن"
"غير أنّ كوكب الأرض فاض بالبشر ثانية وكذلك نحن في أعماق البحار، فجمعنا جدّي وقال لنا":
"لقد أثقلنا على الأرض وبدأت تشكو كثرتنا، السماوات تعجُّ بالكواكب الصالحة للحياة، فليأخذ كل ذكر وأنثى منكم ذكراً وأنثى من الإنس، وليصعدا بهما إلى كوكب ذي ماء وهواء ويباس، وليصحب كل زوجين معهما، ما يستطيعان اصطحابه من حيوان وطير ونبات، وهناك اعملوا معاً وتناسلوا جميعاً وتكاثروا"
فانتقى من بين أحفاده مليون ذكر وأُنثى، وراح كلُّ زوج ينتقي زوجاً من الإنس، وما رغب من حيوان وطير ونبات ويصعد بهم إلى كوكب، فتفرّقنا على نصف مليون كوكب في السّماوات كُلّها"
"كان هذا الكوكب من حظّي وحظ الملكة ماروت. لم نكن متزوّجين بعد، ولم نكن ملوكاً وإن كُنّا ملائكة، وكذلك لم يكن الإنسيّان اللذان اصطحبناهما معنا من الأرض، فتزوّجنا أربعتنا في يوم واحد، وشرعنا معاً في العمل والتناسل والتكاثر، وكُلّما كثر نسلنا كُلّما توسّعنا في الأرض، وبعد قرابة عشرين مليون سنة فاضت الأرض بنا وبالإنس، فانتقلنا لنقيم في أعماق المحيطات تاركين الأرض للإنس لمحبّتنا لهم"
وشرع الملك هاروت يتنهّد بلوعة وأسى، ثم تابع:
"ومنذ ذلك الزّمن، أجل جلالتكم، منذ ذلك الزّمن السَّحيق ونحن نقيم في أعماق البحار والمحيطات، ولا نخرج إلى اليابسة إلاَّ متنكّرين أو مخفيين، فقد اتّسعت الهوّة بيننا بعد أن انقلب علينا الإنسان الذي خلقه جدّنا وجعلنا نملكه الكواكب، ونشقى ملايين السّنين من أجل سعادته وتطويع الأرض لسلطانه! انقلب علينا واعتبرنا أعداءَ ه، بعد أن كُنّا مُحبّيه والساهرين دوماً على أمنه وسلامته.
وهذا ما جرى لكُلِّ إخوتنا وآبائنا وأجدادنا في الكواكب كُلّها، فعزلنا أنفسنا نهائياً عن الإنس، بعد استفحال العداء والحقد والكره تجاهنا، وبعد أن أخذت اللعنات تطرق أسماعنا كل لحظة. عزلنا أنفسنا لنقيم في الأعماق أو على بعض الكواكب المنعزلة والبعيدة عن كواكب الإنس."
إن أكثر ما يحزنني يا جلالة الملك، الحال التي يحياها جدّي تحت وطأة هذه اللعنات الفظيعة، إن مأساتنا لهيّنة إذا ما قُورنت بمأساته، فنحن لا نسمع إلاَّ اللعنات التي تنهال علينا من الكوكب الذي نقطنه، أما هو فيسمع اللعنات كُلّها وفي أي مكان وزمان. فتصوّر جلالتكم كم هي فظيعة مأساة جدّي، إنّه لا يعرف إلى النوم الهادئ سبيلاً، حين سمعت أنَّكم وعدتموه بإصلاح الأمور وإعادة كُلُّ شيء إلى نصابه، وإظهار الحقيقة فرحت كثيراً، ورحت أشكركم من أعماق قلبي"
تساءَل الملك لقمان:
"ألا تخبرني جلالتكم كيف انقلب الوضع رأساً على عقب وغدوتم أشراراً بعد أن كنتم أخياراً، وأصبحتم ملعونين ومكروهين بعد أن كنتم محمودين ومحبوبين؟"
"بدأت المشكلة جلالتكم حين بدأ الإنسان يفكّر في سِرّ الخلق وما خلف الوجود، مديراً ظهره لما ورثه عنّا من مفاهيم تتلخّص في أن الله واحد لا شريك له، وهو من خلق الكون والسَّماوات والكواكب والنّجوم، وهو من خلق الماء والهواء والملائكة، أمّا جدّنا إبليس، فقد خلق من أديم الأرض: النّبات، ثمَّ الحيوان، ثمَّ الإنسان، خلقهم على الأرض، ومن ثمَّ فرَّقهم على الكواكب كُلُّها. وقد آمن الإنسان لملايين السّنين بإلهنا الذي لا إله غيره قبل أن يبدأ رحلة الارتداد، ويعبد الشَّمس والقمر والنّجوم، وهو يبحث عن إله يُرى بالعين، بعكس إلهنا غير المرئي والذي لا يمكن أن يُرى لأنّ وجوده كُلّي.
المؤسف أنّ الشّقاق طالنا نحن أيضاً نتيجة أفعال الإنسان هذه، فأصبح بيننا من يسمّون أنفسهم "الجن الأخيار" الذين يكرهنا بعضهم ويلعننا بعضهم، لأننا في نظرهم أشرار.. وقد انساق هؤلاء "الأخيار" خلف آلهة الإنسان عبر العصور وعبدوها، فاستعبدهم الإنسان وأذلّهم، على أيّة حال تبقى لعنات هؤلاء وكرههم لنا، مسألة لا تستحق الذّكر مقارنة بما يفعله الإنسان"
ونظر الملك لقمان نحو ملك الملوك وهو يبتسم، فيما الملك هاروت يتابع:
هكذا بدأ الناس ينشقّون عنّا ويفرّقون بيننا، لنغدو جنّاً وشياطين بعد أن كُنّا ملائكة، وأصبح اسم جدّي الشيطان إبليس بعد أن كان الملاك إبليس، وكُلّما حاولنا إعادة الناس إلى الصّواب كُلّما أمعنوا في العداء لنا، إلى أن غدونا في نظر البشر جميعاً مُضلِّلين عن الحق، وعصاة! وحين رأى جدّي أن الإنسان غرق في الضّلال والإلحاد وراح يعبد آلاف الآلهة عبر العصور، ارتأى أن نتركه وشأنه، وألاّ نتدخّل في شؤونه، غير أنّ جدّي لم يتوقّف عن التّوسُل إلى الله من أجله، لعلّه يسامحه ويثنيه عن الضّلال ويهديه إلى الرّشد!"
"المؤسف جلالتكم أننا تركنا الإنسان لنفسه غير أنّه لم يتركنا لأنفسنا، وظلَّ يُلاحقنا بلعناته، فكُلّما ظهر دين جديد جاء بشيطانه، وإذا كان مفهوم الإله يتغيّر بين دين ودين، إلاّ أنّ مفهوم الشيطان ظلَّ على حاله، لتظّل اللعنات تلاحقنا، وليمعن الإنسان في الاعتقاد أنّ الشُّرور والآثام والمصائب التي تحلُّ عليه أو تحدث معه، هي بفعلنا، أو نتيجة لتضليلنا له. والحق إننا لم نعد نساعد الإنسان، ففتكت به الأمراض والأوبئة وكوارث الطّبيعة، وراح ينساق حول ما يرسمه خياله وتقوده إليه نفسه، ليظنّ أننا نحن من يضلله، ونحن من ينزل عليه الكوارث.
وظلَّ الأمر كما هو عليه أيّها الملك، ويبدو لي أن الإنسان في حاجة دائماً إلى من يُلقي بالمسؤوليّة على كاهله، وللأسف لا يجد غيرنا! فإن ألحَد أو قتل أو زنى أو سرق أو اغتصب، أنحى باللائمة علينا، وما أسهل أن يرتكب الفاحشة متذرّعاً بغواية الشيطان، ليهتف بعد ذلك بالجملة السّحرية التي تريح الضمير وتخلّص النّفس "لعنة الله على الشيطان!" وقد يدعم ذلك بصلاة في المعبد، وطواف حول البيت الإلهي، ليعود طاهراً مُطهّراً من كل سوء!"
وراح الملك لقمان يضحك مبدياً إعجابه بهذا التأويل الهاروتي للمسألة الشيطانيّة، حتّى إنّه ثنّى عليه هاتفاً:
"تصوّر جلالتكم لو لم تكونوا موجودين كشياطين فعلى من سنلقي تبعة أخطائنا، وكيف سنتخلّص من أوزار آثامنا وتبكيت ضمائرنا؟!"
"حقاً جلالتكم، هذه هي مأساتنا من بدايتها إلى نهايتها"
"ماذا عن كوكب يأجوج ومأجوج، هل حقّاً أنّ جلالتكم هو من قام بمسخه إلى حيوانات؟!"
تنهّد الملك هاروت من أعماقه وأطرق للحظات ثمَّ هتف:
"أجل جلالتكم، لو حدّثتكم عن معاناتنا على هذا الكوكب منذ أن صعدنا من الأرض لما صدّقتم، لم يعد أولادُنا وأحفادُنا ينامون الليل لكثرة اللعنات التي تطرق أسماعهم، لقد وصل الأمر بأبناء هذا الكوكب أن عملوا حُفرة في كل مدينة وبلدة، يلقوننا فيها كل يوم ويرجموننا بالحجارة، بحيث لم يبق شغل للناس إلاَّ رجمنا، إذ يتوجّب عليهم القيام بذلك، قبل الذّهاب إلى العمل وبعد العودة منه، قبل الزّواج وبعد الزّواج، قبل الحمل وبعد الحمل، قبل الصلاة وبعد الصَّلاة، قبل ارتكاب أي إثم وبعد ارتكابه! قبل النوم وبعد الاستيقاظ، خاصّة إذا ما رأى النائم حُلماً سيّئاً أو كابوساً فظيعاً! نُرجم ليلاً نهاراً واللعنات تنهال على رؤوسنا مع كل رمية حجر، وكُلّما امتلأت حفرة بالحجارة أُفرغت لنرجم ثانية وثالثة.. لم يعد أحدٌ مِنّا يحتمل. ظهرنا لهم في الحقول، في المراعي، في المنامات، لنؤكّد لهم أننا لسنا من يقودهم إلى الشّرور والآثام، لسنا خلف زندقتهم وجرائمهم، ولسنا من أجدبَ أرضهم وأتلف مزروعاتهم وأهلك مواشيهم وأصابهم بالأوبئة، دون جدوى!
بدأ بعض أبنائي وأحفادي يصابون بالجنون لكثرة ما يسمعون من شتائم، ومع ذلك احتملت كي لا أُغضب جدّي الذي أوصانا بالإنسان حين جعلنا نصعد به إلى الكواكب.
وذات ليلة سمعنا صُراخ طفلتي الصّغيرة في السَّرير، هرعنا إليها. كانت تطبق بيديها على أذنيها وتصرخ بجنون، وعبثاً حاولنا أن نسكتها أو نهدئ من روعها، وظلّت تصرخ إلى الصَّباح، لم أعد أحتمل، اصطحبت الملكة وذهبنا إلى عاصمة الكوكب، وأرسلت بعض أبنائي وأحفادي إلى المدن والقرى المختلفة، وطلبت إليهم أن يمسخوا السُّكان إلى حيوانات، وأن لا يبقوا على أحدٍ دون مسخ، وقمت أنا والملكة بمسخ الملك ووزيره وكل سُكان العاصمة.
غضب جدّي عليّ ولعنني من الأرض، فبلغت لعنته مسامع أذنيّ قال لي:
"لعنتي ولعنة الله عليك، لِمَ فعلت ما فعلت بالإنسان الذي أوصيتك به؟"
قلت له: "لقد تجاوز كُل الحدود يا جدّي"
فقال: "حتّى لو فعل ذلك كان يجب ألاّ تمسخه، إن كنت تسمع بعض اللعنات فأنا أسمع ما لا يمكن أن يوزن بالكواكب لو قدّر له أن يوزن، ومع ذلك لم يخطر لي أن أقدم على فعلتك!"
وما أغضبه منّي أكثر، أنني قلت له:
"يبدو أنّك اعتدت على اللعنات يا جدّي، أمّا أنا فلم أعتد ولم أعد أحتمل!"
فقال لي: "لن أرضى عنك إلاَّ إذا أعدت من مسختهم إلى طبيعتهم الإنسانيّة"
فلم أُذعن له وما زِلنا مُتخاصمين، لذلك اقترحت على جلالتكم أن نذهب لزيارته لعلّكم تفلحون في الصُّلح بيننا، أخبرني بقدوم جلالتكم بلهجة غاضبة وطلّب إليَّ إكرام جلالتكم وتلبية جميع طلباتكم"
قال الملك لُقمان:
"لا عليك أيّها الملك، كُلُّ شيء يُمكن أن يُصَلّح"
فقال الملك هاروت بصوت متهدّج:
"إكراماً لجدّي ولجلالتكم سأعيد سُكّان الكوكب إلى حالتهم الإنسانيّة"
وأجهش الملك هاروت بالبكاء وكأنّه يستسلم إلى قدر لا مَفرَّ منه، ويقبل بأن تظل اللعنات تنصبُّ عليه وعلى أبنائه وأحفاده على أن يظلَّ جدّه غاضباً عليه ولا يلبّي رغبات ضيفه.
وراح الملك لقمان يربت على ظهره مواسياً وأسئلة لا تجد أجوبة تدور في مُخيَلته "كيف يمكن لكائنٍ أن يجمع بين كل هذه القوّة، وكل هذا الضعف، إذا جاز أن يُسمّى هذا ضعفاً، وكيف لا يستطيع الشياطين إقناع البشر بعدالة رؤيتهم للخلق والوجود، وهم بكل هذه القوّة؟!"
وراح يطمئن الملك هاروت:
"اطمئن أيّها الملك" بإذن الله لن يُلعن أحد منكم بعد اليوم، وآمل ألاَّ يمر زمن طويل قبل أن أتمكّن من إظهار الحقيقة، وأعيد الأمور إلى نصابها في الكواكب كُلّها"
"إن كنتم تفضّلون جلالتكم أن أُرسِل الآن من يُعيد أبناء الكوكب إلى طبيعتهم سأفعل"
وفوجئت الملكة نور السَّماء بالملك يهتف بما لم تتوقعه، لتيقن تماماً أنّه تغيّر عن ذي قبل.
"لا أيّها الملك، لي معهم حساب، ولن أسمح بأن يعودوا إلى طبيعتهم إذا أصرّوا أن يبقوا على ضلالهم"
"سنكون ممتنين لجلالتكم مدى حياتنا إذا ما تمكنتم من إقناعهم بالعودة إلى جادة الصَّواب"
"هل ما زالوا يعبدون الشمس والقمر أيّها الملك؟"
"لا جلالتكم، إنّهم يعبدون الملك كممثل للإله على الكوكب!"
"أي إله أيّها الملك؟"
"إله السَّماء!"
"وما هو مفهومهم لإله السَّماء هذا؟"
"إنه هو السَّماء، وهو خالق كُل شيء، وأنّ الملك على الكوكب في أيّ زمن هو ممثله والمطبّق لتعاليمه فهو على اتّصال دائم به!"
"هل هذا يعني أن الملك الحالي ليس الممثل الوحيد لإله السَّماء؟!"
"لا جلالتكم، هذا الممثل الثامِن عشر، وهو حفيد السلالة الملكيّة!"
"هل الكوكب موحّد؟"
"وُحّد منذ الملك الأوّل"
"كيف؟"
"بالسّيف، فقد حوّل كل شعب كان يحتلّه إلى جيش، إلى أن سيطر على الكوكب كُلّه، فأبقى على ثلث سُكّان الكوكب كجيش دائم، وجعل الباقين يعملون كعبيد، وظل هذا النّظام سائداً إلى اليوم"
"قلت جلالتكم أنّ الناس يعملون كعبيد؟"
"أجل جلالتكم، فالأرض كُلّها للملك، والناس كُلّهم عبيد للملك، ولا يأخذون من محصول الأرض إلاّ ما يفيض عن حاجة الملك وجيوشه، ومن يخرج على طاعة الجيش كأنّه خرج على طاعة الملك والإله فيرجم بالحجارة حتّى الموت!"
فقال الملك لقمان:
"أرأيت أيّها الملك كيف تُخلِص الشّعوب للآلهة والملوك ولا تلعنهم، بل ولا تجرؤ على مجرّد التفكير في ذلك؟!"
وأدرك الملك هاروت ما يرمي إليه الملك لقمان، فقال:
"نحن جلالتكم، وحسبما قال لنا جدّي أننا ملائكة، وأنّ الله أنزلنا إلى الأرض لا لنكون ملوكاً بل عاملين ومكدّين. وحين خلق جدّنا الإنسان لم يخلقه ليعبدنا، بل العكس، إنّ جدّي هو من سجد له، وأوصانا برعايته وعنايته وخدمته، لذلك لا يمكننا أن نُكرهه على ما لا يريده، بل وليس من طبيعتنا ولا من تكويننا أن نُكرِه كائناً على ما لا يُريد أو نُسيء إليه، لقد تعاملنا مع الإنسان وفق القيم الأخلاقيّة التي زرعها الله فينا كملائكة، والتي كانت سائدة بين الملائكة، وما أقدمت أنا عليه مع الإنس يُعتبر شاذَّاً، وها أنا أتراجع عنه.
صحيح أن ثمّة بين الجن من خرجوا على هذه القيم لكن هذا لم يحدث إلاّ بعد ملايين السّنين وبعد أن قُسّمنا إلى طوائف من الشياطين والمردة والجن، مع أنّ هذه الفوارق ما تزال غير محددة، لأن الجميع يعودون إلى أصول ملائكيّة، وليس في مقدور أي جنّي الآن أن يجزم أنّه شيطان فقط أو جنّي فقط، أو مارد فقط، كذلك لم يعد أحد يجزم أنّه ملاك! لذلك راح معظمنا ينصّبون أنفسهم ملوكاً على طوائف الجن التي تناسلت منهم، وكان آخر من توّج نفسه ملكاً على قومه هو جدّنا إبليس!
إن أيّة طائفة من الجن جلالتكم تقبل بأي إنسي مهما صَغُر شأنه أن يكون ملكاً عليها، ولا يقبل أي جنّي أن يكون ملكاً على إنس إلاّ إذا نصّبه إنسي، وهذا ما لم يحدث حتّى الآن!"
كان الملك لقمان قد تحوّل بكل جسده إلى آذان راحت تصيخ السَّمع إلى ما يقوله الملك هاروت كلمة كلمة ليتشرّبها جسده كالشَّهد، وتتلقفها أذناه كأنغام أو كحكم أو كأيّ شيء ربّاني. وحين توقّف الملك هاروت عن الكلام ظلَّ الملك لقمان ساهماً إليه بعينين مشدوهتين والأسئلة تصطرع في مخيّلته، فقد توقّع كل شيء، إلاّ أن يكون الشياطين مقدودين كُليّة من طينة إلهيّة خيرانيّة لا وجود لنوازع الشرّ فيها على الإطلاق، ولهذا يتقبلّون كل ما يحدث لهم ويصبرون عليه بجلدٍ ربّاني، إن كان سيولاً من اللعنات التي تلوكها الألسن وتقذفها الأفواه لتقض مضاجعهم، أو كان سجناً يدوم لثلاثة آلاف عام داخل قمقم!
"يا إلهي ألهذا هُزموا في الأرض، والكواكب وتحوّلوا إلى ملعونين وأعداء؟ وألهذا أيضاً هزم الله في الأرض وفي كلِّ الأماكن وعبر كُل الأزمنة وأصبح يُلعن باستمرار كما يُلعن الشيطان، ليضِلَّ الجميع عنه، أو يعبدوا آلهة غيره؟! وألهذا أيضاً قد تواجه يا لقمان المصير ذاته؟! يا إلهي! لا! هل حقَّاً سأواجه مصيرك أنت والملائكة ولن تجدي الفضيلة شيئاً؟!!"
وخرج الملك لُقمان عن صمته ووجومه، ليهتف بصوت خالجته الرَّيبة:
"لا! لا! مستحيل! مستحيل! مستحيل!"
أدركت الملكة أنّ النّوبة قد جاءَ ته، فسارعت إلى إراحته في الأريكة، فيما وقف الملك هاروت والملكة ماروت وملك الملوك والأميرات وأحاطوا به.
كان قد أغمض عينيه واسترخى في الأريكة وهو يردد كلمة "مستحيل" بصوت رتيب راح ينخفض شيئاً فشيئاً إلى أن توقّف، والملكة ما تزال تربت على كتفه دون أن تتكلّم وتشير إلى الملوك والأميرات ألاَّ يتكلّموا.
فتح الملك لُقمان عينيه بهدوء ليرى بعض ملامح الوجوه من حوله ووجه ملك الملوك في مواجهته، وحين التقت عيونهما تساءَل ملك الملوك بصوت خفيض لا يخلو من حُزن:
"مولاي أرجوك أخبرنا ما هو المستحيل؟"
فهتف الملك لقمان بصوت منهك بعد صمت قصير:
"ألاّ ينتصر الخير بالخير، ألاّ تنتصر المحبّة بالمحبّة، ألاّ تنتصر العدالة بالعدالة، وأن لا ينتصر الله بالله"
ولأوّل مَرّة حاول ملك الملوك أن يكون حكيماً فقال:
"الظّلام لا يتبدد إلاّ بالنور يا مولاي!"
فقال الملك لُقمان:
"والنور لا يُطمسُ إلاّ بالظّلام أيّها الملك، لا النور يُلغي الظّلام، ولا الظّلام يُلغي النور!"
فأحجم ملك الملوك عن الكلام.
* * *

حَلَّ الظّلام في أعماق البحر، فأُنيرت الأقمار والقناديل والنّجوم التي تضيء فضاء المدينة السُّفليَّة! وقد دعا الملك هاروت الملك لقمان ومرافقيه إلى وليمة في أعماق المحيط.
قادهم إلى الرّوض الذي سيُقام فيه الحفل عبر أحياء المدينة التي بدت قلاعها وقصورها آية من آيات الجمال، بأبراجها المتعددة وشرفاتها ذات الأقواس وقناديلها وأقمارها ونجومها المضيئة المُشعّة، متعددة الألوان والأشكال، التي كانت تعوم فوق المدينة وبين الأحياء المائية.
وكانت الصُّخور والزّهور المرجانيّة والنّباتات والورود ذات الأشكال البديعة المختلفة تمتد على جانبي الطّريق الذي سلكوه إلى الرّوض، فيما كانت حوريّات البحر تسبح أمامهم ومن فوقهم، مبديات براعة فائقة وهن يرسمن بأجسادهن لوحات جماليّة أخّاذة تسحر العقول.
وبدت الأميرة دليلة وقد أُصيبت بالذّهول، فدنت من الأميرة نجمة الصَّباح وسألتها كيف يسيرون في الماء بملابسهم وأحذيتهم دون أن يبتلّوا ودون أن يشعروا بالماء، فقالت لها، أنتِ في عالم جنّي ساحر لا يُمكن إلاّ لمن أبدعه وسوّاه بأن يعرف كيف تجري الحياة فيه. وكيف يتم التحكم بعوالمه. وتأبّطت دليلة يد ملك الملوك وألقت رأسها على كتفهِ وغرقت متمتّعة بعالم الأحلام هذا. وحين دخلت إلى الرَّوض الذي سيقام فيه الحفل أيقنت أنّها في جنّة الجنائن كُلّها، وأن عمرها سيطول هذه الليلة ألف عام على الأقل!
وكان الرّوض مُقاماً وسط الماء الرّقراق ولا يسوّره إلاّ سلسلة من الجروف الصخريّة الخلاّبة التي كانت ترتفع تدريجياً لتحيط به من كل الجهات، وقد انتصبت خلف سلسلة أُخرى منخفضة من الحيوانات والصخور المرجانيّة، والنّباتات والزّهور البحريّة، التي انتظمت في أشكال نحتيّه وهندسيّة، أو انبثقت منها تكوينات بديعة، وقد امتدّت الموائد على أرضيّة الأعماق بين تماثيل للملائكة والبشر والحوريّات، ومنحوتات صخريّة ومرجانيّة ونباتات وزهور فائقة الجمال، ووقفت بين الموائد وفي أماكن مختلفة من الرّوض مئات الحوريّات بلباسٍ أبيض شفّاف، فيما كانت بعض الطّيور والأسماك وذبائحِ الخِراف والجداء المسفودة تُشوى على النار وسط الماء، فلا الماء يطفئ النار ولا النار تؤثّر على الماء!
وكان الرّوض بلا سقف، وقد زيّنته آلاف القناديل العائمة في الماء والتي كانت تدور حول نفسها وحول بعضها ضمن مدارات محددة دون أن يصطدم واحدها بالآخر. وكانت بعض حوريّات البحر يسبحن فوق هذه القناديل في أسراب وأشكال بديعة.
وما أن دخل الملك لقمان ومرافقوه الرّوض حتّى انبعثت ألحان موسيقيّة كونيّة عذبة وانطلقت من أفواه التنانين التي كانت تربض في الجروف الصخريّة المحيطة بالرّوض، آلاف الأسهم الناريّة الملوّنة التي أحالت أعماق البحر إلى عالم من الأساطير الساحِرَة، وهي تتناثر في أعالي الماء منطلقة من كل الاتجاهات لتكلّل الرّوض بأنوارها المشعّة المتعددة الألوان، وما لبثت أن شرعت في التجّمع لتنتظم في تشكيلات تشبه كلاماً مكتوباً، لتنجلي بعد لحظات راسمة في الماء ثلاث كلمات كبيرة توهّج منها شعاع نوراني، "الله، الكمال، الفضيلة"!
وراحت الكلمات الثلاث تطوف الماء متلألئة بهالتها النّورانية دون أن تتلاشى.
وكان خيال الملك لُقمان يطوف في غياهب الوجود متمثّلاً الله حين خاطبه الملك هاروت:
"تفضّلوا جلالتكم"
فجاهد الملك لقمان ليكبح جماح خياله ويجلس على المائدة.
جلست الملكة ماروت بينه وبين الملك هاروت فيما جلست الملكة نور السّماء إلى جانب الملك هاروت لتجلس إلى جانبها الأميرة ظل السَّماء" فالأميرة نجمة الصَّباح، وجلست الأميرة دليلة إلى جانب الملك لقمان وإلى جانبها جلس ملك الملوك، وجلس في مواجهتهم بعض بنات وأبناء وأعوان الملك هاروت، وتفرّق باقي المدعوين على الموائد المختلفة.
كان الماء الذي يجلسون فيه ويشمل منطقة الرّوض كُلّها صافياً شفافاً بحيث كانوا يرون كُلَّ ما يحيط بهم حتّى حدود الرّوض حيث الجروف الصخريّة. وكانت مئات الأسماك الذهبيّة والفضيّة والحمر والصُّفر وذات الألوان المختلفة الصغيرة ومتوسّطة الأحجام تطوف بينهم وفوق الموائد وتحتها وبين المنحوتات والتكوينات المرجانيّة والهياكل الكلسيّة البديعة، دون أن تؤثّر عليهم وشرعوا في تناول الشّراب والمقبّلات الخفيفة وكأنهم ليسوا في الماء الذي لم يكن يختلط بطعامهم وشرابهم، رغم أنّ الكؤوس وأطباق الطّعام كانت مكشوفة على الموائد، غير أنّها لم تكن مبتلّة.
وكانوا يتنفّسون ويتحدّثون ويأكلون ويشربون دون أن يدخل الماء إلى أفواههم وأنوفهم، ودون أن يبلَّ أجسامهم وملابسهم، وكانوا يستمعون إلى الأصوات وأنغام الموسيقى، ويتمتعون بكل شيء حولهم وكأنّهم في الهواء الطلق وليسوا تحت الماء.
سأل الملك هاروت الملك لقمان عمّا إذا كان يفضّل إبعاد الماء عن الرّوض ورؤية السَّماء والأقمار والنّجوم فأجاب بالنّفي مشيراً إلى أنّه رأى السماوات الدُّنيا كثيراً وأنّه الآن سعيد برؤية سماء سُفليّة!
أطفِئت أنوار مقدّمة الرّوض للحظة ثمَّ أُنيرت بأضواء ملوّنة أرسلت شعاعاً متقاطعاً راح يتماوج مع حركة خفيفة في الماء، لتنجلي للأنظار ستون حوريّة من أجمل حوريّات البحر يقفن في منتصف المسرح المائي وهن يرسمن بأجسادهن المنحنية وأياديهن الممدودة حركة ترحيب واحترام. ضجّ الحضور بالتصفيق وانبعثت موسيقى راقصة شرعت الحوريّات في الرّقص على أنغامها، لينقسمن إلى مجموعات ويرسمن بأجسادهن أشكالاً متعددة، ويؤتين حركات رياضيّة وبهلوانيّة إعجازيّة.. وما لبثن أن نزلن على رؤوسهن إلى الأعماق وصعدن رأساً على عقب إلى أعلى ليتباعدن وينثنين ليتقاربن، راسمات بأجسادهن زوايا قائمة فحادّة فمنفرجة فمستقيمة. يثنين سيقانهن ويتكوّرن على أنفسهن كالأجنّة لينطلقن في كل الاتجاهات.
يضممن سيقانهن أو يفتحنها، يشكّلن دوائر وأهرامات، ويرسمن وروداً ونجوماً، يشبكن أيديهن أو أرجلهن، يمددن أيديهن يميناً وشمالاً، أعلى وأسفل، يطابقن رؤوسهن تارة وأخماص أقدامهن تارة وركبهن تارة أُخرى، يجمحن بأجسادهن كخيول تتأهب للسّباق، وينطلقن كظباء تعدو في السُّهوب. يقلّدن سباحة الدّلافين وعوم الأخطبوط.
وأنهين وصلتهن بأن شكّلن خمسة أنساق يعلو واحدها الآخر ويتأخّر عنه قليلاً، وقد حنين أجسادهن إلى الأمام في زوايا قائمة وهنّ يشبكن أيديهن.
كانت الموائد تغصُّ بالمقبّلات المنوّعة من الخُضار واللحومات المختلفة، وقد قاوم الملك لُقمان رغبته الشديدة في تناول اللحوم المشويّة المشهيّة التي اعتاد تناولها بمتعة، ونجح في ذلك بصعوبة بالغة حين تمثّل صُراخ الحيوانات والطيور في الغابة، والأسماك والمائيّات في البحر، وكم حاول الملك هاروت والملكة ماروت والملكة نور السَّماء وملك الملوك أن يثنوه عن عزمه حين تنبّهوا له لا يقدم على تناول اللحوم، لكن دون جدوى، وراح يتمنّى على الملك هاروت وقومه ألاّ يصطادوا الظّباء بعد اليوم لأنّه أجارها هو والملكة نور السَّماء، فوافقه الملك هاروت وأعلن لقومه تحريم لحوم الظّباء.
وقد أحرجت فعلة الملك لقمان جميع الضّيوف والموجودين، فأحجم بعضهم عن تناول اللحوم مراعاة له أو تضامناً معه، فيما راح بعضهم يختلسون الطّعام خلسة، مما وضع الملك لقمان في موقف حرج للغاية، فراح يرجو الجميع أن يأكلوا وشرع في التهام طبق من الخضار كي يثير شهيتهم إلى الطّعام، غير أن معظمهم لم يمدّوا أيديهم إليه. وفوجئ الجميع بالملك لُقمان يطبق فمه على لقمة من الطّعام ويغمض عينيه ويضع يده على جبينه ويصمت ليسند ظهره إلى المقعد ويجهد ليخلو إلى نفسه.
عرفت الملكة أنّ النوّبة ستأتيه ثانية فتركت مكانها وهرعت لتقف خلفه وتطوّق رأسه بيديها وتضمّه إلى صدرها وتلقي رأسها عليه.
ابتلع الملك لقمان اللقمة التي كانت في فمه بصعوبة، وأمسك بيده اليُسرى يد الملكة نور السَّماء فيما ظلّت اليمنى على جبينه، وقد شرع صوت يهتف في دخيلته مؤنّباً:
لِمَ يا لقمان؟ لِمَ يا روحي تريد أن تسمو بالفضيلة إلى ما هو أبعد من حدود الله، حدودي، بل إلى ما هو فوق الله، فوقي؟!"
وانفجر الملك لقمان يبكي نفسه وهو يقلّب رأسه يميناً وشمالاً على صدر الملكة جاهداً لأن لا يردّ على الصوت الذي يهتف في دخيلته، غير أنّه لم يكن قادراً على ذلك، فراح يصرخ في أعماق نفسه، ورأسه يتقلّب على صدر الملكة ووجهه يختلج بالغضب والألم والدّموع:
"لا! هذا ليس صوتك، وليس هذا أنت! أي إله هذا الذي يرضى بأن تُزهق أرواح بريئة، أهذه هي فضيلتك؟ إنيّ أكفر بك وبفضيلتك إن كنت أنت الله حقاً!!"
وراح الملك يهزُّ رأسه بشدّة في حضن الملكة التي راحت تُداريه بكل حنانها والدّموع تنزلق من عينيها، فيما كان الصوت يهتف في أعماق نفسه هادئاً واثقاً مطمئناً لما يقوله:
"لِمَ التسرّع يا لقمان، لم تكفر بي أيّها الرّوح الحبيب البارّ؟ فهذا لحمي يا لقمان! هذا الذي تأكله هو جسدي، إن كان لحماً وإن كان نباتاً، إن كان شواءً وإن كان خبزاً، وهذا الذي تشربه دمي، إن كان ماءً وإن كان خمراً!! وإن كنت لا تصدّق أنني أنا ربّك، فانظر إلى اسمي فوقك في الماء كيف سيتلاشى!"
وفتح الملك لُقمان عينيه ونظر إلى أعلى لتتلاشى الكلمات الثلاث واحدة بعد الأُخرى، تبعثرت الشّظايا النارية التي تشكّل أحرف كلمة "الفضيلة" أوّلاً وتلاشت، ثمَّ تلتها كلمة، "الكمال" ثمَّ كلمة "الله".
صرخ الملك لقمان بأعلى صوته وهو ينفجر باكياً من جديد، والملكة تطوّقه بكل كيانها، والملوك ينهضون من مقاعدهم دون أن يعرفوا ماذا في مقدورهم أن يفعلوا:
"لا! لا! مستحيل، مستحيل، مستحيل!"
وما لبث أن أخذ يهدأ شيئاً فشيئاً ليهتف بصوت خفيض وهو يُغمض عينيه ويطبّق كفيّه أمام وجهه:
"سامحني يا إلهي، سامحني يا إلهي، سامحني يا إلهي، إنّي أستغفرك وأتوب إليك، سامحني يا إلهي"
فهتف صوت الله في نفسه:
"هيّا يا لقمان، مُدّ يدك إلى لحمي، وخذ قطعة من جسدي، لترى اسمي يتلألأ ثانية في الماء!"
ومَدّ الملك لُقمان يداً مُرتجفة إلى طبق من السَّمك، والدّموع تملأ وجهه، وأخذ قطعة صغيرة من اللحم، وما أن وضعها في فمه ولاكها، حتّى ارتسمت أسماء الله ثانية في الماء، وراحت تتلألأ بهالتها النورانيّة:
"الله، الكمال، الفضيلة!"
أعاد الملك لُقمان مطابقة يديه أمام وجهه وإغماض عينيه، وأدرك جميع المدعوين كنه الصّراع الرّهيب الذي كان يضطرم في نفسه، فأطبقوا أيديهم أمام وجوههم، وأغمضوا عيونهم وصَلّوا بصمت.
* * *

تبادلت الملكة نور السَّماء المكان مع الملكة ماروت لتظل إلى جانب الملك لقمان، فقد تبيّن له أنّه غير قادر على مفارقتها حتّى لو لم يفصل بينهما إلا حجم مقعد! وأن وقوفها معه واحتضانها له ومواساته خلال نوباته يُطمئنه على أنّ ثمّة من يرعاه ويعتني به فيما لو جرى له شيء، بل وثمّة من يعينه ويحفّزه على التَّواصل مع الله.
عاد جو الحفل إلى طبيعته وغرق الضّيوف في تناول الطّعام والشّراب، فيما كان الملك لُقمان يحتضن يد الملكة ويقبّلها بين فترة وأُخرى.
همست:
"لِمَ تعذّب نفسك يا حبيبي؟"
"هذا ليس عذاباً يا حبيبتي"
"ما هو إذن؟"
"حالة تواصل مع الله أحتاج إليها كُلّما تعرّضت إلى محنة أو عجزت عن إدراك ظاهرة"
"لكنك تتألّم كثيراً خلال ذلك يا حبيبي"
"أجل، لأن الصّراع الذي يدور في دخيلتي لم يحسم بعد"
"لكني ألمس أنّك حققت معجزات خارقة على طريق التَّواصل مع الله"
"ومع ذلك أجد نفسي عاجزاً عن تفسير بعض الظّواهر، وإدراك الحقيقة المطلقة للوجود الإلهي"
"وهل يمكن الوصول إلى الحقيقة المُطلقة يا حبيبي؟"
"أعتقد أنَّ الله هو الحقيقة المطلقة، وإذا ما تمَّ الوصول إليه تمَّ الوصول إليها"
"وكيف يمكن الوصول إليه؟"
"بالفضيلة، والمعرفة، والتجربة، والتبصّر، وإحكام العقل، والسَّعي الدائب للتوحّد بالذات الإلهيّة"
"وهل تعتقد أنّ هذا ممكن يا حبيبي؟"
"أجل لأن الله يسعى إلى من يسعى إليه"
"هل أحسست بأنّه يسعى إليك يا حبيبي؟"
"أجل يا حبيبتي، فهو من هاتفني أوّلاً مُعنّفاً إيّاي لعدم تناولي اللحوم"
"ما لا أفهمه، كيف أقنعك بتناول اللّحوم وأنت عنيد كما عرفتك"
"لأنّه ليس هُناك مفرٌ يا حبيبتي"
"كيف يا حبيبي؟"
"لا أستطيع أن أقول لك يا حبيبتي لأنّك لن تصدّقي، ولا أظن أن معشر الجن والإنس سيصدّقون إذا ما عرفوا ما قيل لي، إنّي أدرك كل يوم لماذا الوجود الإلهي المُطلق أكبر وأعقد وأصعب من أن يدركه جميع الناس بحواسهم وعقولهم، بشكل محسوس أو بشكل مجرّد، بطريقة ماديّة أو بطريقة روحانيّة، فهو مجرّد بقدر ما هو مجسّد، وهو مجسّد بقدر ما هو مجرّد! ويبدو لي أن مشكلة الفكر الروحي والمادي أنّهما فرّقا بين الرّوح والمادّة، وراحا يتصارعان حول من كان أوّلاً الرّوح أم المادة، ومن جاء من الآخر، وهل وجود هذا مستقل عن وجود ذاك أم لا، ليخلص الرّوحيون إلى أسبقيّة وجود الرّوح الذي هو جوهر غير مادّي مستقل بذاته، بل ويسمو على المادّة، وهو من خلق الوجود بما فيه، وليخلص الماديّون إلى أسبقيّة المادّة وانبثاق الرّوح منها، أو عدم انبثاقه، وبالتالي عدم وجوده".
"وأنت ماذا تعتقد الآن بعد أن كنت ماديّاً صرفاً يا حبيبي؟"
"الآن أعتقد يا حبيبتي أن المادّة هي الروح والروح هي المادّة، والفصل بينهما مسألة عبثيّة، وقد وجدا معاً في آن واحد، ومنهما جاء كُلّ شيء وصار كُلّ شيء"
وتساءَ لت الملكة بذكاء:
"يبدو لي أنّك إضافة إلى تجربتك الماديّة – الرّوحيّة" إذا جاز لي أن أسميّها كذلك، أفدت كثيراً من حوارك مع رجل المعرفة "شاهل بيل" على كوكب الزّهرة"
"بالتأكيد يا حبيبتي، وأعجبني كثيراً إطلاقك على تجربتي اسم الماديّة – الرّوحيّة!"
"وهل ستستدل على الحقيقة المطلقة عبر هذا الطّريق المادي الرّوحي؟!"
"وأظن أنني قطعت ثلث الطريق إن لم يكن أكثر!"
"وهل ستظل مصرّاً على ألاّ تقول لي كيف أُقنعك الله بالعدول عن عدم تناول اللحوم؟"
"أخاف أن تسخري مِنّي يا حبيبتي، وهذه مسألة تزعجني!"
"لِمَ تعتقد ذلك يا حبيبي وأنت تعرف أنني مؤمنة بك وأحبّك، وأنني مؤمنة بالوجود الإلهي ولست كما كنت أنت، رغم أنني عايشت مئات الآلهة الذين تبيّن أنهم لم يكونوا فعلاً آلهة؟!"
وضمّها الملك إليه وقبّل شعرها الخرنوبي وراح يعتذر إليها، ثم قال:
"هاتفني الله مؤنّباً يا حبيبتي، بعد أن كفرت به لإتاحته قتل وافتراس وذبح الحيوانات وأكل لحومها، قال:
"لم التسرّع يا لقمان، لم تكفر بي أيّها الرّوح الحبيب البارّ، فهذا لحمي يا لقمان، هذا الذي تأكله هو جسدي، إن كان لحماً وإن كان نباتاً، إن كان شِواء وإن كان خبزاً، وهذا الذي تشربه دمي إن كان ماء وإن كان خمراً، وإن كنت لا تصدّق أنني أنا ربّك فانظر إلى اسمي فوقك في الماء كيف سيتلاشى".
وفوجئ الملك لُقمان بالملكة تجهش بالبُكاء وتلقي رأسها على حُضنه وتهتف عبر الدّموع:
"وفيما هم يأكلون، أخذ يسوع الخبز وبارك وكسَّر وأعطى التَّلاميذ وقال، خذوا كُلوا، هذا هو جسدي، وأخذ الكأسَ وشكر وأعطاهم قائلاً: اشربوا منها كلكم لأنّ هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا"
كان الملك لقمان قد أخذ يحتويها بين ضلوعه، وهو يلقي رأسه على رأسها ويشرع في البُكاء متعجباً من حفظها لهذا الإصحاح من الكتاب المقدّس طوال ألفي عام، فيما كانت هي تهتف عبر دموعها:
"لم أؤمن بإله من الذين عرفتهم إلاّ بيسوع المسيح، ولم أُحبُّ إلهاً بقلبي غيره، لكني كنت متخوّفة مِن أن أبوح لك بذلك وأنت في ذروة إلحادك، وحين أخذت تحسَّ بالله وتدركه وتتصل به، بدأت أراه فيك، حدث ذلك أوّل مَرّة وأنت تحمل "نسمة" وتطوف بها فوق جهنّم داجون، مستنهضاً القوى الإلهيّة والجنيّة والإنسيّة، وتخوّفت أيضاً أن أصارحك بذلك!"
ووضع الملك لقمان سُبّابته على فم الملكة، لأنّه لم يكن قادراً على الكلام، ولم يكن يريدها أن تذكّره أكثر بآلام يسوع، ولم يكن يود أن تقول له ما تراه فيه، لأنّه لا يرى نفسه كذلك! فتحاضنا بجسديهما ليلتحما في عناق حار وتوحّد ربّانيّ!
* * *

ظهرت على المسرح المائي فرقة بالية كبيرة من الحوريّات والشّباب تضمُّ قرابة ألف راقص وراقصة، وشرعت في الرّقص على أنغام الموسيقى لتشد الأنظار إليها، وفيما كانت الفرقة ترقص قدمت مجموعة من الدّلافين بسرعة ووقفت على أعقابها في الماء وراحت تؤتي حركات توحي بالرّعب، منذرة بخطر ما.
أخذ معظم الرَّاقصين يتجمّعون بحركات راقصة وقد بدا الذّعر على وجوههم، فيما انطلق الآخرون برفقة الدّلافين ليتوغّلوا بعيداً في الماء ويعودوا بصحبة جيشٍ من الحيتان.
اصطفت الحيتان في مواجهة الرّاقصين وفتحت أفواهها فشرعت الرّاقصات في الدّخول إلى بطونها والاختباء فيها!
انقلبت الحيتان على ظهورها واستقامت بشكل عمودي في الماء وراحت تؤتي حركات راقصة لتشقّ الماء بزعانفها الكبيرة، وما لبثت أن عادت إلى وضعها ليمتطيها الرّاقصون ويقفوا على ظهورها ويشرعوا في أخذ أوضاع قتاليّة دفاعيّة متسلّحين بالسّيوف والرّماح والدّروع مستطيلة الشكل، فيما راحت الدّلافين تتراجع لتأخذ أماكن لها خلف الجيش.
أقبل جيش من التّنانين العملاقة يذرع البحر طولاً وعرضاً.
كان لكل تنّين سبعة رؤوس ضخمة وجناحان وذنب أفعى وثمانية أرجل لها مخالب أسد!
توقّف جيش التّنانين في مواجهة الجيش الآخر لينبري تنّين من بين التّنانين ويتقدّم ليرقص بين الجيشين مؤتياً حركات توحي بالقوّة الهائلة، فانبرى له حوت يقف عليه عشرة محاربين راحوا يستعرضون سيوفهم ورماحهم ودروعهم وهم يقفزون عن ظهر الحوت تارة ويعودون إلى ظهره تارة أخرى، فيما كان الحوت بدوره يقوم بحركات عنيفة تظهر قوّته الهائلة.
أخذت حركات الطّرفين تزداد عُنفاً، وكان واضحاً من حركات التنّين أنّه يريد حوريّات البحر وإلاّ لا بُدَّ من الحرب، فلم يذعن المحاربون له، فعاد التّنين ليأخذ موقعه في صفوف جيشه فيما عاد الحوت بالمحاربين.
شرعت التَّنانين في إطلاق آلاف الكُرَات الناريّة من أفواهها الكثيرة نحو جيش الحيتان والمحاربين، فشكّل الرّاقصون بدروعهم سدَّاً راحت الكُرات تصطدم به لتسقط في أعماق البحر وتنطفئ. وتابعت التّنانين إطلاق كُراتها على دفعات إلى أن نفدت دون أن تؤثر على السَّد المنيع الذي أقامه المحاربون بدروعهم، فشرعت التّنانين في التقدّم لتلتحم مع جيش الحيتان، فأبعد المحاربون دروعهم وشرعوا في قذف الرّماح دفعة بعد دفعة نحو جيش التّنانين، ليصيبوها في أماكن مختلفة من أجسامها، غير أنّ ذلك لم يحدّ من تقدّم التّنانين فتابعت تقدّمها والرّماح مزروعة في أجسادها ودماؤها تنزف في البحر، فأشهر المحاربون سيوفهم وتقدّموا على ظهور الحيتان ليلتحموا مع التنانين في معركة ضارية وينهالوا على رؤوسها وأعناقها الطّويلة بالسّيوف، فيما كانت الحيتان تنهش أطرافها من أسفل.
فتك المحاربون بمئات التّنانين التي راحت تهوي إلى أعماق البحر متخبّطة بدمائها، فيما انهزمت التنانين الأخرى وولّت الأدبار.
ألقى المحاربون أسلحتهم في البحر ونزلوا عن ظهور الحيتان وشرعوا يرقصون رقصة النّصر على أنغام الموسيقى المرحة، وراحت الحيتان تقذف بالحوريّات من بطونها ليخرجن من أفواهها وهن يرقصن تحيّة للمحاربين، راسمات بأجسادهن تكوينات في غاية الجمال.
أخذت جروح التّنانين تلتئم فيما راحت الرؤوس والأرجل والأذناب المقطوعة تنهض من أعماق البحر لتلتحم بأجسادها، ولتشرع التّنانين في الرّقص.
ضجّ المحتفلون بتصفيق حار فيما كان الرّاقصون يتقدّمون إلى واجهة المسرح على دفعات منتظمة حسب فئاتهم وينحنون تحيّة واحتراماً للضيوف.
* * *

عُزفت موسيقى راقصة فشرع المحتفلون في الرّقص، ودنت فتاة من الملك هاروت وطلبت منه شيئاً، فأشار بحركة من يده وإذا بالماء يأخذ في الانحسار والتَّراجع شيئاً فشيئاً إلى ما وراء الجروف المحيطة بالرّوض، لتتراجع معه الأسماك والحيتان والدّلافين والتّنانين وحوريّات البحر، ولتظل القناديل سابحة في الفضاء، ليتحوّل الروض إلى جزيرة في وسط البحر، ولتنجلي السَّماء بنجومها وأقمارها البديعة للعيون، وأشار الملك هاروت إلى الماء ليندفع في شلاّلات من أعالي الجروف.
نظر الملك لقمان والملكة نور السَّماء إلى السَّماء ليريا أجمل سماء شاهدها حتّى حينه، كان يحلّق فيها أربعة عشر قمراً بدراً في اتجاهات مختلفة، وآلاف النّجوم التي ارتسمت في تكوينات جماليّة أخّاذة.
أشار الملك هاروت بحركة من يده لتنطفئ إنارة القناديل كُلّها وليستمر الحفل تحت سحر الإنارة السّماويّة.
استمر الحفل إلى ما بعد الفجر، وأمضى الملك لقمان ومُرافقوه ليلتهم في ضيافة الملك هاروت والملكة ماروت، ونظراً لأنّهم كانوا متعبين، فقد ناموا إلى وقت مُتأخّر من النّهار. وبعد تناول طعام الغداء رافق الملك هاروت والملكة ماروت الملك لقمان والملكة نور السَّماء إلى الكوكب الممسوخ، وقد اصطحبت الملكة نور السَّماء معها دلفينين وبعض الأسماك ووضعتها في مسبح المركبة!
اصطحب الملك هاروت الملك لقمان إلى الحُفرة الكبيرة في المدينة التي كان الشيطان يرجم فيها، كانت الحُفرة دائريّة الشكل، ويبلغ قطرها قرابة خمسين متراً، ومحاطة بسور حجريٍ منخفض، وكانت ممتلئة بالحجارة، وقد انتشر حولها مئات الكلاب والقطط والحمير والخنازير وغيرها من الحيوانات الممسوخة التي كانت بشراً.
تساءَل الملك لُقمان وهو يرنو إلى الملك هاروت:
"من أين جاء الناس هذا الاعتقاد أنّهم إذا ما رجموا الحجارة في هذه الحُفرة قاموا برجمك ورجم الشياطين كُلّها؟"
فقال الملك هاروت:
"هم يعتقدون أن الشياطين موجودة في كل مكان حتّى في بيوتهم، ويمكن أن تحلَّ في أجسام بعض النّاس، وقد تستوطن دماءَ هم ونفوسهم، وأنَّ لعنتهم تبلغ أسماع الشياطين من أي مكان، أمّا الرَّجم، فقد اختاروا مكاناً يمارسون فيه عملاً جماعياً آملين التأثير الفعّال على الشياطين والتخلّص منها نهائياً!"
فقال الملك لقمان:
"ألم يسألوا أنفسهم أنّهم لم يتخلّصوا من الشياطين رغم كل ما فعلوه؟"
"لكنهم لم يقطعوا الأمل، وهم يعتقدون أن الشياطين تتناسل مثل البشر ومهما قتلوا منها فإنّها ستظل موجودة ويظل الصِّراع مستمراً، إنّما بحدّة أقل إذا ما استطاعوا التخلّص من أكبر قدرٍ منها!"
"وهل كانوا يعتقدون أنّهم يقتلون بعض الشياطين فعلاً أم أنّهم يطردونها ويبعدونها فقط؟"
"فيما يتعلّق بالرجم، كان يعني قتل الشيطان، أمّا اللعنات فكانت تعني الطرد والتخلّص فقط!"
وراح الملك لقمان يعتذر إلى الملك هاروت:
"سامحني أيّها الملك، فقد لعنتكم أنا أيضاً في صغري!"
فضحك الملك هاروت:
"وماذا تشكّل بضع لعنات أمام سيول الشّتائم التي تنهال علينا، ثمَّ إنَّ لعنات جلالتكم، كانت من كوكب الأرض، فلم تكن تبلغ إلاَّ أسماع جدّنا إبليس والقاطنين معه في مملكته السُّفلية، وجدّنا كما تعرف يُسامح الجميع، فقلبه كبير كقلب الله!"
وتلقفت أسماع الملك لقمان الجملة الأخيرة لترددها مخيّلته "فقلبه كبير كقلب الله"! "أجل كقلب الله! فالشيطان إذن ليس من طينة إلهيّة خيرانيّة فحسب، بل هو صُنو للإله أيضاً وقلبه مثل قلبه! وهو موجود حسب اعتقاد الناس في كل مكان حتّى في الجسد والدّم والنّفس، ويعيش حياة أبديّة، فماذا سيكون "إذن" إن لم يكن هو الله؟ ولِمَ يُصرّ الشياطين على أنّهم ليسوا آلهة وأنّهم يعبدون إلهاً واحداً لا إله غيره؟!"
وأخرجه صوت الملك هاروت من هواجسه:
"هل تحبّون جلالتكم رؤية قصور الآلهة ومعابدهم أم تفضلون رؤية مدينة القبور؟"
"قلت مدينة القبور أيّها الملك؟"
"أجل، وهي أغرب ما يمكن أن يراه المرء على الكوكب!"
"لعلّها من عجائب الكوكب السبع؟"
"بل هي العجيبة الأهم!"
"سأكتفي برؤيتها إذن"
وطاروا جميعاً بضعة أميال ليهبطوا في مدينة كبيرة من الأهرامات أُقيمت في سهل فسيح، توسّطها ثمانية عشر هرماً كبيراً تقدّم كُلَّ واحد منها تمثال ضخم للإله الذي دُفن فيه، وأُقيم إلى جانبيها مئات الأهرامات الصغيرة والتماثيل، وكانت أسراب الحيوانات المختلفة الممسوخة تُقيّل في ظلالها، بما في ذلك الملك الذي مُسِخ ديناصوراً.
قال الملك لقمان:
"كنت أظن أنّ أهراماتنا هي الأهرامات الوحيدة في الكون لأجد أنّها لا تكاد تُذكر أمام هذه المدينة الأهراميّة! هل قصور الآلهة ومعابدهم بهذه الضّخامة أيّها الملك؟"
"القصور ليست بهذه الضخامة لأنهم يرون أن الحياة فيها فانية، أمّا المعابد فهي أقرب إلى القبور منها إلى القصور لأنّها تُعتبر الطريق إلى الحياة الخالِدة في القبور"
"ولذلك يبنون قبوراً يمكن أن تدوم لآلاف السّنين؟"
"أجل جلالتكم، فالموت عندهم يعني الانتقال إلى حياة أُخرى خالدة"
"وكم عدد الذين شاركوا في بناء هذه المدينة أيّها الملك؟"
"ملايين من البشر"
"الملايين يبنون قبوراً كالقصور لكي يحيا الملوك الآلهة فيها حياتهم الأبديّة، والبشر من يبني لهم، أو لعلَّهم لا يخلّدون في حياة أخرى؟"
"ليس للبشر إلاَّ الآلام جلالتكم، فلا يجدون من يصبّوا عليه جام غضبهم غيرنا"
"سحقاً لها من حضارة كم هي بائسة"
وتساءَل الملك لقمان وهو يرنو إلى التماثيل الضخمة والأهرامات هائلة الارتفاع:
"ولماذا الأهرام الكبيرة ثمانية عشر وليست سبعة عشر حسب عدد الآلهة الذين حكموا الكوكب؟"
"الهرّم الثامن عشر للملك الحالي، فكل ملك يبني قبره قبل موته، وثمّة عشرات الأهرامات الصغيرة للمقرّبين من الملك أيضاً، تنتظر موت من أقاموها!"
أخذت الحيوانات تهرب من أمامهم وهم يتقدّمون من الهرم الكبير المُعد للإله.
كان الإله الذي مُسخ ديناصوراً يُقيّل إلى جانب الهرم وإلى جانبه زرافة ضخمة، هربت الزّرافة بضعة أمتار فيما ظلّ الديناصور جاثياً في مكانه، وبدا أنّه ليس مكترثاً لأحد.
تساءَل الملك لُقمان:
"أهذا هُو الملك الإله أيّها الملك؟"
"أجل أيّها الملك، ويبدو أنّه يظن أن ساعته دنت منذ أن مُسِخ فجاء إلى قبره"
"أمر مؤسف ألا يجد من يدفنه في القبر وهو ديناصور! ومن تكون تلك الزّرافة التي هربت؟"
"إنّها الملكة"
"وهل هي إلهة أيضاً؟"
"لا ملكة فحسب!"
"ولِمَ لمْ تمسخها ديناصوراً مثلَه أيّها الملك؟"
"كانت تشتمني أكثر منه، وشاركت النّاس في رجمي أكثر من مَرّة‍!"
"وهو؟"
"هُوَ لم يرجمني ولا مَرّة، وقليلاً ما كان يلعنني"
"غريب، هل تعرف السبب جلالتكم؟"
"ربّما لأنّه كان يدرك في قرارة نفسه أنني أقوى منه ومن الإله الذي يجسّده على الأرض، وربّما كان يشكُّ في إلهه"
"حبّذا لو نسأله عن ذلك بعد مشاهدة الهرم، أتعتقد أنّه يعرف جلالتكم الآن؟"
"لا، لأنّي لم أظهر له في هذا الشّكل من قبل، ويعرف أنني أغيّر شكلي حسبما أريد"
كان التمثال الضخم الذي يتقدّم الهرم قد نُحت من صخرة هائلة الحجم كما يبدو، وكان له رأس إنسان وجسم ديناصور وقوائم ثور وجناحاً رُخ ودبّة ومخالب أسد.
أبدى الملك لقمان إعجابه بالتمثال وبالحِرَفية الفائقة التي تجلّت في نحته، وبالمقدرة على الخلق لدى النّحاتين الذين عملوا فيه.
"هل يشبه رأس التمثال رأس الإله فعلاً أيّها الملك؟"
فقال الملك هاروت:
"إنّه نفسه أيّها الملك، وإن كان النَّحاتون جمّلوه أكثر مما هو في الواقع"
وانصرفوا ليدخُلوا إلى الهرم عبر باب حجري ضخم ويصعدوا درجاً حلزونياً عريضاً انتهى بهم إلى قاعة صخريّة لا تقلُّ مساحتها عن ستّين متراً مُربّعاً نُحتت في جدرانها تماثيل للملك الإله وأفراد أسرته، وقد حُفر القبر في منتصف القاعة، وبدا أن مساحته لا تقل عن اثني عشر متراً، وقد حُفرت أربع مقصورات في جدرانه لوضع الحُلي والجواهر التي سيصطحبها الإله إلى الدار الآخرة، وكان ثمّة تابوت حجري ملقى في القبر نُحِت بشكل متقن ليأخذ شكل وحجم الإله، إضافة إلى بلاطة كبيرة أُسندت إلى حافة القبر.
تساءَلت الأميرة دليلة عن سِر هذه الحضارة التي تُلغي البشر ولا تهتم إلاّ بالآلهة والملوك، فأجابها الملك لقمان:
"وهل كانت الحضارة الداجونيّة أفضل يا دليلة؟ معظم الحضارات السائدة والبائدة لم تسعَ إلاّ لتخليد الآلهة والملوك، حتّى على كوكب الأرض، ولم تخلّف لنا إلاّ المعابد والقبور والكنائس والمساجد والمدرّجات والمُدن الملكيّة والحصون"
"ولم هذه البلاطة يا مولاي؟"
"إنّها غطاء القبر يا دليلة، أم أنّك تريدين أن يظل قبر الإله دون غطاء"
"لكن ثمّة غطاء للتابوت، وإذا كان يؤمن بحياة بعد الموت فكيف سيخرج من القبر بوجود هذه البلاطة الكبيرة فوقه؟!"
"فعلاً سؤالك وجيه! ربّما يوجد من سيرفع له البلاطة!"
"بالعكس يا مولاي، أعتقد أنّهم يرون في الموت بحد ذاته حياة أبديّة وداخل القبر وليس خارجه!"
"ها أنت تنجلين عن فيلسوفة يا دليلة، ورأيك هذا ممكن أيضاً. وممكن أيضاً أنّ الروح وحدها هي التي تخرج من القبر بينما يظل الجسد فيه"
"وهذه الصخرة كيف تمكّنوا من رفعها إلى منتصف الهرم تقريباً؟
"أنا شخصياً لا أعرف يا دليلة ربّما يعرف الملك أو الملكة"
فقالت الملكة ماروت:
"الصخرة لم ترفع لأن قاعدتها في الأرض والهرم مُقام عليها، وقد تمَّ نحتها وحفر القبر فيها وهي في مكانها"
"أرأيتِ يا دليلة؟ ثمّة صخرة في بلدي أيضاً لم تُرفع وأقيم عليها قبّة ذهبيّة وهي في مكانها"
"وهي منحوتة أيضاً مثل هذه؟"
"لا لا، صخرة طبيعيّة لكن يوجد تحتها كهف، استراح فيه النّبي محمّد قبل صعوده إلى السَّماء، وعندما نهض ليصلّي ارتطم رأسه بالسَّقف، فخسف الله السقف فوق رأسِه ليتم صلاته، وما زال الخسف قائماً في الكهف حتّى اليوم!"
"ولهذا قُدّست الصخرة وأُقيمت عليها القُبّة؟"
"ولأن النّبي صعد من فوقها إلى السَّماء والتقى تحتها الأنبياء موسى وعيسى وإبراهيم"
"أي سماء؟"
"السَّماء السابعة"
"ولماذا صعد إلى السَّماء السابعة؟"
"يا دليلة، ليقابل الله طبعاً"
"وهل قابله؟"
"طبعاً، وعاد إلينا بالصلوات الخمس، وشاهد الجنّة والنار وشاهد الأنبياء وخاصّة النّبي موسى كثر الله خيره الذي لولاه لكان المسلمون يصلّون خمسين مَرّة في اليوم، ومما شاهده (صلعم) في الجنّة جارية لعساء، أعجبته حين رآها فسألها: لمن أنتِ؟ فقالت: لزيد بن حارثة، فبشره (صلعم) بها بعد عودته، ليحظى في الجنّة، بجمالها اللعساوي بعد استشهاده في معركة مؤته على أيدي الروم!"
"وما دور النّبي موسى في قصّة الصَّلاة يا مولاي؟"
"أوه يا دليلة نحن أدخلناك الإسلام مُنذ أيّام فقط وتريدين من الآن أن تعرفي كل شيء عنه؟"
"أرجوك يا مولاي؟"
"سأحدثك فيما بعد عن الإسراء والمعراج، من أوّله إلى آخره"
وانزعجت دليلة بعض الشيء، فقالت لها الملكة نور السَّماء، أنا سأخبرك عن قصّة موسى والصلوات يا دليلة لكن لا تُلحّي على الملك"
"وهل تعرفينها يا مولاتي؟"
"أنا أعرف كل شيء يا دليلة، وأعرف النبي محمد"
"أرجوك حدّثيني يا مولاتي"
"عندما انتهى الملاك جبريل برسول الله إلى السَّماء السابعة، أسلمه إلى ربّه. ففرض عليه الله خمسين صلاة في كل يوم. ولما مَرَّ الرّسول بالنبي موسى في السماء السابعة، سأله كم فُرض عليه من الصلاة؟ فقال له الرسول خمسين صلاة في اليوم. فقال موسى: إنّ الصلاة ثقيلة وأمّتك ضعيفة، فارجع إلى ربّك، فاسأله أن يخفف عنك وعن أُمّتك، فرجع رسول الله (صلعم) وسأل الله أن يخفف عنه وعن أمّته، فوضع عنه عشراً، ثم انصرف ومَرّ على النّبي موسى وأخبره، فطلب إليه أن يرجع إلى ربّه، فرجع وسأله، فوضع عنه عشراً، فمرّ على موسى، فأعاده إلى ربه، فسأله، فوضع عنه عشراً، ولم يزل موسى يعيده إلى ربّه إلى أن أبقى على خمس صلوات فقط، فمرّ على موسى، فطلب إليه أن يعود إلى ربّه، فقال رسول الله "قد راجعت رّبي وسألته حتى استحييت منه، فما أنا بفاعل"
"فعلاً شيء مُخجل أليس كذلك يا مولاتي؟"
"بالتأكيد، إذ ليس من اللائق أن يطالب النّبي بتخفيف الصلوات الخمس"
"لكن لماذا هذا الإصرار من موسى حتّى بدا وكأنّه لا يريد صلاة أبداً؟"
"ربّما كان يفكّر أن يجعل المسلمين كاليهود!"
فقال الملك لقمان:
"هل بقي لديك أسئلة أُخرى يا دليلة؟"
"سؤال واحد فقط، ولن أسأله لك يا مولاي!"
فقالت الملكة نور السَّماء:
"ما هو يا دليلة؟"
"كم دامت رحلة الإسراء والمعراج؟"
"ليلة واحدة يا دليلة!"
"ليلة واحدة من الأرض إلى السَّماء السابعة والعودة؟"
"أجل يا دليلة"
"يا إلهي والملك لُقمان يطير بهذه المركبة ذات السُّرعة الخياليّة منذ أسابيع وربّما أشهر كما تقولون وحتى الآن لا تظنّون أنّكم تجاوزتم السَّماء الثانية!"
"على الأغلب لم نتجاوزها بعد يا دليلة"
"إذن فسرعة مركبتكم ليست خياليّة يا مولاتي؟"
"وكيف تفهمين السرعة الخياليّة يا دليلة؟"
"السُرعة التي يستغرقها تمثّل المكان الذي سأذهب إليه في مُخيّلتي!!"
ودهشت الملكة لهذه الإجابة التي لا تخطر على البال، فراحت تسأل الملك:
"هل سمعت تفسير دليلة للسرعة الخياليّة؟"
"أجل أيّتها الملكة وأعتقد أن السُّرعة الخياليّة لا يمكن أن تكون غير ذلك، فإذا ما أردت الآن العودة إلى القدس مثلاً سأكون فيها في اللحظة التي يمثل فيها المسجد الأقصى وقبّة الصخرة وكنيسة القيامة في مخيّلتي"
غير أنّ دليلة المندفعة نحو المعرفة بكل جوانحها كما يبدو، سألت السؤال الذي تدور حوله:
"وهل كانت المركبة التي أقلّت النَّبي محمد ذات سُرعة خياليّة؟!"
ولم يعرف الملك لُقمان كيف وجد نفسه يقول لها:
"أجل يا دليلة، كانت ذات سرعة خياليّة، صحيح أنّها لم تكن مركبة بل "بُراقاً" لكنه كان ذا سرعة خياليَّة!"
نزل الملك هاروت وفتح التابوت ليرى ما فيه، فلم يجد فيه شيئاً، لكنه هتف:
"قبر جميل وتابوت أجمل، وقد يُرغّب بعض الناس في الموت!".
فقال الملك لقمان:
"بودّي لو أرى النّحاتين والمعماريين الذين قاموا بهذه الإنجازات الهائلة من أجل إلههم".
فقالت الملكة ماروت:
"هذه مسألة سهلة يمكنكم أن تروهم جلالتكم بعدما نعيدهم إلى طبيعتهم"
"وإذا كانت الوحوش قد افترستهم؟"
"آمل ألاّ يكون ذلك وقد حصل"
ونزلوا من الهرم واتَّجهوا صوب الديناصور، هربت الزرافة مبتعدة، وظلَّ الديناصور جاثياً على الأرض. منحه الملك لقمان القدرة على النطق وحيّاه مسلّماً، فنهض وردّ التحيّة.
سأله الملك لقمان:
"هل تعرف الشيطان الذي مسخّك فيما لو رأيته أيّها الملك؟!"
فاحتج الديناصور على طريقة التخاطب قائلاً:
"عفواً مولاي، أنا إله فإمّا أن تخاطبني بالملك الإله أو الإله؟"
"عجيب أمرك؟ حتى وأنت ممسوخ تصرُّ على ألقابك ومراكزك؟"
"لم يبق لي شيء من هذه الحياة إلاّ ألقابي يا مولاي!"
"وما جدوى الألقاب وأنت ممسوخ؟"
"أفضل من لا شيء يا مولاي"
"وكيف تخاطبني "مولاي" وأنتَ إله؟"
"وضح لي من مقدرتك على منحي النطق واللغة والفهم وأنا ممسوخ، أنك إله عظيم يا مولاي!"
"وماذا لو قلت لك أنّني لستً إلهاً؟"
"يمكن أن تكون الشيطان يا مولاي، لأن ما قمت به لا يقدر عليه إلاّ الله والشيطان!"
"وتعتبرني مولاك حتى لو كنت الشيطان؟"
"أجل يا مولاي فلا طاقة لي على الشيطان!"
"إذن فأنت لا تعرف الشيطان فيما لو رأيته؟"
"الشيطان يظهر بألف شكل يا مولاي وقد يختفي وقد يتلبّسني أو يتسرّب إلى دمي ليمتزج به، فكيف سأعرفه؟"
"ألهذا كنت تخافه ولم تكن تلعنه كثيراً؟"
"أجل يا مولاي"
"لكن ألا يُفترض أن تكون أنت من خلق الشيطان، وبالتالي ستكون أقدر منه بصفتك إلهه؟"
"الذي خلقه جدّي الأوّل يا مولاي ولا أعرف لماذا منحه كل هذه القدرات الخارقة!"
"وأنت ألم يمنحك أجدادك قدرات خارقة؟"
"أنا أتمتّع بقدرات جدّي الأوّل في الحفاظ على وحدة شعوب الكوكب وإخضاعها لعبادة سلالتنا!"
"قويّ! وهل هذه قدرات خارقة؟"
"إن لم تكن خارقة فهي عظيمة!"
"وكم جزر جدّك الأوّل من هذه الشّعوب حتّى وحّدها؟"
"بضعة ملايين يا مولاي!"
"بضعة ملايين فقط؟ هكذا بكل بساطة وكأنّهم فئران، وحوَّلَ الآخرين إلى عبيد أبديين للسلالة، وجعلهم يقيمون المعابد ليتعبّدوا فيها لها؟"
"أجل يا مولاي؟"
"وما هي الذريعة التي غزا جدّك الأوّل على ضوئها شعوب الكوكب ووحدها؟"
"رأى جدّي أن الشيطان خرج عن طاعته وراح يضلل الناس، فسعى إلى تخليصهم من ضلالِه وإعادتهم إلى جادة الصَّواب يا مولاي!"
"أيوه! هكذا إذن! ولِمَ عاد الشيطان إذن إلى تضليل الناس؟"
"الشيطان قوّة لا تُقهر يا مولاي؟"
"وجدّك وسلالته عجزوا عن مواجهته فراحوا يواجهون الناس الضّعفاء حتّى زرعوا العداء للشيطان في أدمغتهم، كان يجب أن تُمسخ جرذاً أو صرصاراً أيّها الإله وليس ديناصوراً، لأنّ الشياطين هم أنت وسلالتك وأجدادك، وإذا ما تخلّص أبناء هذا الكوكب من شيطانيّتكم سيحيون بخير!"
ولم يتفوّه الديناصور بشيء.
نظر الملك لقمان إلى الملكة نور السَّماء، فراحت تجمع الحيوانات والوحوش والقوارض الممسوخة.
أخذت الحيوانات تهرع من كل صوب وتصطف حسب أنواعها في صفوف منتظمة، فيما كان الملك لقمان يدنو من الزّرافة ويسألها:
"وأنتِ أيّتها الملكة، لماذا كنت تلعنين الشيطان وشاركتِ في رجمه؟"
بدت الملكة خجلة بعض الشيء فترددت في الإجابة.
"لِمَ لا تجيبين أيّتها الملكة؟"
"الحقيقة يا مولاي أن الشيطان ضلَّل الملك الإله فعشق وأحبَّ مئات النّساء غيري!"
"وأنتِ ألم تعشقي وتحبّي غيره؟"
"أجل يا مولاي، لقد ضللني الشيطان فيما بعد أنا الأُخرى!"
"ألم تجدي متعة لذيذة في هذا الضّلال أيّتها الملكة؟"
"أجل يا مولاي؟"
"لِمَ رجمتِ الشيطان إذن ولعنتهِ؟"
فأحجمت الملكة عن الكلام، فقال الملك لُقمان:
"أنتِ شيطانة كبيرة أيضاً أيّتها الملكة!"
وألقى الملك لقمان نظرة نحو الحيوانات التي راحت تتجمّع بعشرات الآلاف، وشاهد بين الأسود الوزير الذي خاطبه في الغابة، فأشار إليه أن يقترب منه فجاء ليقف أمامه.
"قلت لي أيّها الوزير أنّك لا تكذب، وأنتم شاهدتم هاروت وماروت وهما ييتّمان الأطفال ويرمّلان النّساء ويفتكان بالمواشي والأغنام ويحرقان الحقول والغابات، أليس كذلك؟"
"أجل يا مولاي"
"هاروت وماروت معنا الآن أيّها الوزير، فهل في مقدورك أن تدلّنا عليهما إن كنت صادِقاً؟"
وراح الوزير الأسد ينظر إلى الملوك والملكات والأميرات دون أن يعرف أحداً، حتّى أنّه قال:
"هؤلاء الذين أراهم بشراً أو ملائكة يا مولاي وليسوا شياطين!"
"بل مُعظمهم شياطين أيّها الوزير"
"لعلّهما تنكرّا يا مولاي!"
"حين رأيتهما يقدمان على جرائمهما، كانا في أي شكل أيّها الوزير"
ونظراً لأن الوزير كاد أن يموت من الرّعب لأنّه يعرف أنه يكذب، فقد أجاب دون أن يعرف ماذا أجاب:
"لم يكونا ظاهرين يا مولاي، كانا مخفيين"
وهذا ما أطار صواب الملك لقمان، فصرخ به بما لم يتفوه به من قبل إطلاقاً:
"يخرب بيتك، ولك يا ابن القحبة شايفني واحد أحمق قدّامك؟"
وأشار بيده وإذا به يتحوّل من أسد إلى فأر كما توعّده في الغابة.
راح الفأر يحبو يميناً وشمالاً وهو يصرخ طالباً الرحمة، متحاشياً أن تطأه الأسود والحيوانات الأخرى التي وجد نفسه بين قوائمها.
صرخ به الملك لقمان أن يعود، فعاد في أسوأ حال ليقف مرتجفاً أمام قدميه:
"هل تعترف لِمَ كنت تلعن الشيطان حتى مسخك، أو أسحقك تحت حذائي؟ أيّهما تفضّل؟"
"سأعترف يا مولاي، أرجوك ألاّ تستحقني"
"هيّا إذن"
"أستميحك عذراً يا مولاي، لقد كنت!"
"كنت ماذا أيّها الفأر؟"
"كنت أحب الغلمان يا مولاي!"
"ولم تجد غير الشيطان لتحملّه أوزار آثامك؟"
"ماذا أفعل يا مولاي؟"
ورفسه الملك رفسة خفيفة بقدمه وهو يهتف "انقلع من وجهي"
ألقت الرّفسة بالفأر بين قوائم الأسود، فراح يصرخ رعباً وهو يحبو بين قوائمها باحثاً عن جماعة الفئران لينضمَّ إليها.
أشار الملك لقمان إلى اللبؤة (زوجته) فدنت:
"وأنتِ هل كنت تحبّين الصَّغيرات؟"
"لا يا مولاي، لم أجد أمامي غير غلمان زوجي فكنت أقضي بعض رغباتي معهم!"
"وهل كنتِ تظنّين أن الشيطان هو من يغويك ويغوي زوجك؟"
"إن شئت الحق يا مولاي فأنا كنت أدرك أن لا وجود للشيطان وأنني أفعل بإرادتي ما أستطيع أن أفعله، ولم أكن أشتم الشيطان إلاَّ لماماً، ولأن لساني درج على ذلك كألسن الناس!"
فقال الملك لقمان:
"يبدو لي من كلامك أنّك صادقة أيّتها المرأة"
وأشار إلى الملك هاروت فأعادها إلى طبيعتها الإنسانيّة لتنجلي عن امرأة فائقة الجمال.
قال الملك لقمان حين رأى جمالها:
"غريب أن يكون لديك كلَّ هذا الجمال ويسعى زوجك خلف الغلمان، أم لعلّك أبيتِ عليه الغلمنة؟!"
فأحنت المرأة رأسها خجلاً وهتفت:
"بل كان يحرثني كيفما يشاء يا مولاي!"
ودنا الملك لقمان من رتل الأسود وراح ينظر إليها واحداً واحِداً وهو يخطو بينها إلى أن دنا من أسد هرِم، فسأله لماذا كان يلعن الشيطان، فأجاب:
"لم ألعنه إلاّ لأنّه يتيح لآلهة مثل آلهتنا أن تتحكّم برقاب البشر!"
"ألهذا السّبب فقط كنت تلعنه؟"
"أجل يا مولاي"
"ما هو عملك؟"
"أنا من قُدّر لي أن أكرّس فنّي لخدمة هؤلاء القتلة!"
"هل أنت نّحات؟"
"أجل يا مولاي، أنا من أشرف على نحت التّماثيل في العهد الحالي، ومن قام بنحت ذاك التمثال الضخم للإله الذي يتقدّم الهرم"
وراح الملك لقمان يربت على لبدة الأسدة وهو يهتف:
"لا عليك أيّها الفنّان الكبير سيتغيّر كل شيء بإذن الله"
وأعاد الملك هاروت الأسد إلى إنسانيّته لينجلي عن رجل عجوز طويل شعر الرأس والذّقن.
خاطبه الملك لقمان:
"ألا تقول لي أيّها النّحات لم جسَّدت في تمثالك كل هذه الرّموز للقوّة والجمال، طالما أنّك تكره الإله الحاكم؟"
"هذه الرّموز مفروضة عليّ يا مولاي لأنّها رموز إلهيّة متوارثة، ومع ذلك جسّدت الظُّلم أيضاً بقدر ما استطعت، وإن كان ظاهر التمثال لا يوحي إلا بالرّوعة والجمال والقوّة!"
"كيف أيّها الفنان؟"
"كُلّما اقتربت من التمثال يا مولاي كُلّما بدت لك مظاهر الرّعب التي كان يمثلها، وكُلّما ابتعدت عنه كلّما بدا لك جميلاً مهيباً، فعن قرب ستكتشف أنّه لا يبتسم كما يتبادر إليك للوهلة الأولى، بل إنّه يزمّ شفتيه ويكزّ على أسنانه داخل فمه، وستراه منقبض الوجه مقطّب الجبين جاحظ العينين، ليبدو عابساً غاضباً ناقماً، لا تخلو نظراته من خبث ولؤم! وإذا ما أُتيح لك أن تصعد إليه وتتملى دبّته ستجد مكتوباً ضمن شعر الدُّبّة "ملعون من لا يلعن هذا السفَّاح!"
وإذا ما نظرت إلى مؤخّرته يا مولاي ستجد البُراز يلوّث تحت ذنبه، كدلالة على قذارته وضعفه وعجزه، مما ينفي عنه القدرة على الخلق وتحقيق العدالة، وقد دللت على ذلك أيضاً برموز أُخرى، فإذا ما أمعنت النّظر إلى ريشه ستجد جناحيه مكسورين، وإذا ما تأمّلت مخالبه ستجد أنّها ليست حادّة، أمّا جسده فمشقق بخطوط صغيرة طولانيّة متعرّجّة ومجعّدة، للدلالة على الهرم وقرب الأجل!"
هتف الملك لُقمان:
"أفحمتني أيها الفنان، أعترف أنني لم ألمُس أي شيء من كل هذا حين وقفت أمام التمثال، لكني فعلاً وقفت بعيداً عنه بعض الشيء لأتمكّن من رؤيته كُلّه، ولا أخفي عليك سِرَّاً إذا ما قلت لك أنّك أدهشتني بقدرتك العظيمة على دس السُّم في الدَّسم، وهذا ما كنت عاجزاً عنه حين كنت أديباً ذات يوم، أُحيي فيك قدرتك على إخلاصِك لفنّك ورؤيتك لواقعك في أحلك الظروف، وتجسيد ذلك حتّى في الفن المفروض عليك.
ذاك هو صديقك الملك هاروت أو الشيطان إن شئت، إنّه ملاك نبيل وليس كما عُرِف عنه، فاذهب إليه وعاتبه على إتاحته لأمثال هؤلاء الآلهة الأقزام التحكّم بمصائر البشر".
وترك الملك لقمان رتل الأسود ومَرّ عن رتل الضّباع فالذِّئاب فالخنازير فالتيوس فالكلاب فالقطط فالأرانب وغيرها من الحيوانات إلى أن توقّف أمام رتل الجرذان، لإدراكه أنّ هؤلاء كانوا يلعنون الشيطان كثيراً، لذلك مسخوا إلى جرذان، فأحب أن يعرف ماذا كانوا يفعلون.
أشار إلى جرذ فتقدّم ليقف أمام حذائه:
"ماذا فعلت حتّى رُحت تلعن الشيطان وترجمه يا مسخ الجرذ؟"
ويبدو أنَّ الجرذ أحسَّ ألاّ مجال للكذب، فقال:
"في الحقيقة، ارتكبت الفاحشة مع بناتي الخمس يا مولاي!"
"الله يلعن أبوك يا شيخ! وكم كانت أعمارهن حين فعلتها؟"
"من صغرهن يا مولاي، كنت أُداعبهن من سن الرّضاعة وما أن تبلغ إحداهن السادسة أو السابعة حتّى.."
"وحين كبرن ماذا فعلت لهن؟"
"أصبحن زوجاتي وأنجبت منهن يا مولاي، وفعلت ببناتهن ما فعلته بهن!"
"الله لا يسلمك أي شيطان أنت؟ وماذا عن زوجتك؟"
"زوجتي كانت تفعلها مع أولادنا يا مولاي!"
"ولعلّها تزوّجت منهم حين كبروا أيضاً؟"
"أجل يا مولاي، وأنجبت منهم ذكوراً وإناثاً، لنفعل بهم ما فعلنا بأسلافهم.. وحين كبرت آثامنا لم يكن أمامنا غير الشيطان نلعنه ونرجمه كل يوم!"
"وما عُلاقة الشيطان بالأمر؟"
"على من سنلقي تبعة آثامنا يا مولاي إذا ليس هُناك أحد غير الشيطان؟!"
والتمعت الهواجس في مخيّلة الملك لُقمان ليطرق متسائلاً في نفسه:
"يا إلهي! هل يلعن الإنسان نفسه حين يلعن الشيطان؟ وهل يرجم نفسه حين يرجم الشيطان؟ ألا يلعن بلعنهِ الشّيطان الآثام التي ارتكبها؟ وحين يرجم الشيطان؟ يرجم الآثام التي ارتكبها، في محاولة يائسة للتخلّص من عذابات الرّوح وتبكيت النّفس؟! وألا يمكن أن يكون هذا، أو يعني أن الشيطان في الأصل هو خيطئتك أنت يا إلهي؟ الإثم الذي ارتكبته فرحت تلعنه وتطلب لعنته لتتخلّص من إثمِك؟! أجبني يا إلهي، هل يكون الشيطان إثماً لا فكاك منه وليس في مقدور أحد الاستغناء عنه طالما وجدت الآثام والخطايا وبقيت؟! أجبني يا إلهي وساعدني على فهمك وفهم عالمك؟!"
وتنبّه الملك لقمان ليد الملكة نور السَّماء تربت على كتفه، فخرج من حالته، أخذ يد الملكة بيده وألقى نظرة على الجرذ أمام قدميه وود لو يسحقه تحت حذائه، غير أنّه عدل في اللحظة الأخيرة ورفسه بقوّة ليطيّره قرابة عشرين متراً!
ولم يعد لدى الملك لقمان أيّة رغبة في معرفة الجرائم التي دفعت هؤلاء القوم إلى رجم الشيطان ولعنه، فراح يخطو أمام أرتال الحيوانات متفكّراً وما لبث أن وقف في منتصف الأرتال أمام صفٍ من الكِلاب وهتف بانفعال:
"اسمعوا أيّها الشياطين. ليس هُناك شياطين على هذا الكوكب غيركم، وثمّة ملائكة جاءوا بأجدادكم إلى هذا الكوكب وعلّموهم سُبل العيش وأعانوهم إلى أن تكاثروا ليملأوا أرضكم، فانتقلوا من الكوكب ليقيموا في أعماق البحار، تاركين لأجدادكم الأرض لينعموا بخيراتها، بعد أن زرعوها لهم بهذه الخيرات. لكن أجدادكم تنكّروا للجميل وضلّوا، وعضّوا الأيدي التي كان ينبغي أن يقبّلوها! وها أنتم تسيرون على الطّريق ذاته، وتلعنون وترجمون من أحسنوا إليكم، وتعزون كل الشّرور والآثام التي ترتكبونها إليهم، وهم من ذلك براء، فأي بشر أنتم؟
ولِمَ ترمون عرض الحائط بكل القيم النبيلة وتسعون إلى ميولكم وأهوائكم وما تسوّله لكم أنفسكم؟ لِمَ لَمْ تسعوا إلى قتل الشرِّ في نفوسكم أنتم أيّها الأشرار؟ لِمَ لم تسعوا إلى الخير؟ ولِمَ لمْ تتضامنوا وتتحدوا لتتخلّصوا من نير العبوديّة الذي يُطوّق أعناقكم منذ ثمانية عشر جيلاً؟ لِمَ لَمْ تقدموا على ذلك؟ ولِمَ رحتم تصبّون جام غضبكم وأوزار آثامكم على هؤلاء الملائكة الذين حوّلهم أجدادكم إلى شياطين؟!
وماذا الآن، هل ستظلّون على غيّكم وضلالكم؟"
وبدت الحيوانات مترددة في الإجابة، فهتف الملك لقمان:
"لماذا لا تجيبون؟"
فقالت طائفة من الأسود:
"لا أيّها الملك، وإنّا لنأمل عفوك ومغفرتك"
فقال الملك بانفعال وهو يشير إلى الملك هاروت والملكة ماروت:
"بل مغفرتهم هم أيّها الشياطين، مغفرة الملك هاروت والملكة ماروت اللذين جاءا بجديكم إلى هذا الكوكب، مصطحبين معهم الحيوانات والنّباتات"
"إنّا نعتذر إليهما ونطلب مغفرتهما وعفوهما أيّها الملك"
"وعليكم أن تسغفروهما وتتوبوا إليهما كل يوم وإلى مدى الحياة"
"سنفعل أيّها الملك"
وأضاف الملك جملة استخدمها لأوّل مَرّة في وسائله العقابيّة التي لم تكن رادعة وقاسية إلى حد كبير من قبل:
"ومن لا يفعل، لا يلوم إلاّ نفسه إذا ما وجد نفسه يعود جرذاً أو فأراً أو حماراً أو حتّى صرصاراً أو دودة أو ذبابة"
"سنفعل جلالتكم، نُقسم أننا سنفعل!"
وأدركت الملكة أنّ الملك لُقمان بدأ يُقيم جهنّمه الخاصّة به.
وتابع الملك لقمان:
"وعليكم أن تطردوا الشياطين من أدمغتكم وقلوبكم وألا تفكّروا بوجودهم، فالشياطين هم أنتم وما تفكّرون، فإمّا أن تكونوا شياطين ملاعين وإمّا أن تكونوا بشراً خيّرين"
"سنفعل أيّها الملك!"
"ولا تلعنوا بعد اليوم إلاّ آلهتكم لأنّهم من تسببوا في شقائكم ومآسيكم"
"سنفعل أيّها الملك"
"وعليكم أن تؤمِنوا بدين هاروت وماروت وتتقيّدوا بتعاليمهما"
"سنؤمن أيّها الملك"
"وإن لم تفعلوا؟"
"ليمسخانا كما مسخانا أيّها الملك!"
ونظر الملك لُقمان إلى الملك هاروت فراح يُشِير إلى الأرتال رتلاً رتلاً ليُعيدها إلى طبيعتها الإنسانيّة، إلى أن طلب إليه التوقّف عند رتليّ الجرذان والفئران، وكان كُلُّ رتل يُعيده الملك هاروت إلى طبيعته يخرُّ ساجداً فيشير إليه بالنّهوض ويطلب إليه عدم السّجود.
خطا الملك لقمان أمام رتلي الجرذان والفئران، وكان الوزير قد اهتدى أخيراً إلى الفئران فانطرح مُنهكاً أمامها، وحين أحسَّ بالملك لقمان يقدم تحامل على جراحه ونهض.
"وأنتم ماذا سنفعل بكم يا مرتكبي أبشع الآثام، على أي شيطان ستلقون أوزار آثامكم بعد اليوم؟"
فراحوا يبكون ويصرخون ويتوسّلون.
"سنعيد إليكم إنسانيّتكم لكني لا أعرف كيف ستكفّرون عن آثامِكم وبأي وجه ستلاقون البشر؟"
فازدادوا بكاءً وعويلاً، فأعادهم الملك هاروت إلى طبيعتهم وهم ما زالوا يبكون، فخرّوا على رؤوسهم ساجدين"
دنا الملك لُقمان من الديناصور والزّرافة:
"وأنتما ماذا سنفعل بكما أيّها الملكان؟"
فقال الملك:
"نرجو مغفرتك يا مولاي"
"هل تقبلان التنازل عن الأُلوهيّة والعرش وأن تكونا بشراً عاديين؟"
"نقبل يا مولاي"
"وأن تكدّا وتكدحا مثل البشر تماماً"
"نقبل يا مولاي"
"وأن تستغفرا الملكين كل يوم عشر مَرّات وتتوبا إليهما عشر مَرّات"
"نقبل يا مولاي"
وأشار إلى الملك هاروت فأعادهما إلى إنسانيتهما. كان الملك الإله بشعاً أمّا الملكة فكانت جميلة بعض الشيء، حاولا أن يسجدا فمنعهما الملك لقمان من ذلك.
وأشار الملك لقمان إلى الملك هاروت ليرسِل أعوانه إلى كافة أنحاء الكوكب ليعيدوا الممسوخين إلى طبيعتهم ويطلعوهم على ما جرى، ففعل في الحال.
كان الفنّان يقف إلى جانب الملك هاروت، فخاطبه الملك لُقمان:
"إلى ماذا توصلتما؟"
"إلى كل خير أيّها الملك!"
"عظيم، ما رأيك بتسلّم السُّلطة على الكوكب أيّها الفنان"
"أخاف ألاّ أعدِل يا مولاي"
"إذا لم تعدِل أنت فمن سيعدِل؟"
"ليس ثمّة ما هو أصعب من أن يحقق المرء عدالة ما!"
"سيكون لك مساعدون وستعمل بإشراف الملك هاروت، لن تكون وحدك"
"ليكن أيّها الملك، وأشكركم لهذه الثقة التي أوليتموني إيّاها"
"يمكنك الاستعانة بزملائك من الفنّانين والمهندسين الذين كانوا يعملون معك وآمل أن تقبل السيّدة زوجة الوزير لأنّها امرأة صادقة، وقد تعينكم على تحمّل بعض المسؤوليّات في الكوكب"
وكانت زوجة الوزير واقفة فتقدّمت وانحنت أمام الملك لقمان وهي تهتف:
"أشكر جلالتكم لهذه الثقة العالية التي لا أستحقها، وأرجو أن تعذروني عن تحمّل أعباء أيّة مسؤوليّة على هذا الكوكب!"
"وماذا ستعملين أيّتها السيّدة؟"
"عندي رغبة آمل أن يحققها مولاي لي؟"
"ما هي أيّتها السيّدة؟"
"أن أكون خادمة مولاي مدى الحياة‍!"
"ليس لديّ خدم أيّتها السيّدة ولا أُحبّذ أن يكون لديّ خدم"
ثمّة بعض الأصدقاء والصديقات والعاملين الأصدقاء أيضاً الذين يُمكن أن يساعدوني إذا ما احتجت شيئاً.
"آمل أن يقبلني مولاي كواحد منهم"
"لكن آنا حتى الآن بلا وطن أيّتها السيّدة وبلا بيت حتّى هذه المركبة التي ترينها في السَّماء ليست لي"
وكم أدهش كلام الملك لقمان الملكة نور السَّماء، فماذا خطر له حتّى تفوّه بهذه الكلمات التي توحي بأنه ما يزال يعتبر نفسه ضيفاً على المركبة، وهو يعي تماماً أنّه سيّدها وسيّد آلاف الملايين من الجن، بل وآلاف الملايين من البشر على الكواكب التي أصبحت تحت سيطرته غير المباشرة!
قالت امرأة الوزير:
"سأقبل بحياة مولاي حتّى لو عاش في العراء!"
"وزوجك أيّتها السيّدة؟"
"وهل أستطيع العيش مع رجل لم يكن يُلبّي رغباته إلاّ الغلمان الصّغار يا مولاي؟"
وأطرق الملك لقمان للحظات فيما الملكة نور السَّماء تلقي بيدها على كتفه:
"ليكن أيّتها السيّدة أهلاً بك!"
وسجدت المرأة لتقبّل رجلي الملك لقمان، فأنهضها بيديه محذّراً إيّاها من فعل ذلك ثانية، سألها:
"أليس لديك أولاد أيّتها السيّدة؟"
وكم فوجئ الملك لقمان حين هتفت:
"أنا ما زلت عذراء يا مولاي!"
ووجد الملك أنَّ الأمر محرج فلم يسألها ماذا كانت تفعل مع الغلمان، لكنه سألها:
"ما اسمك أيّتها السيّدة؟"
"اسمي "أستير" يا مولاي!"
انقبض وجه الملك لقمان قليلاً حين سمع بالاسم، فيما أحسّت الملكة نور السَّماء وكأنّ صاعقة قد ضربت السَّماء فوقها، فها هو القدر الذي صَّممت على مواجهته يُسفر عن وجهه متحدّياً ويشرع في حوك خيوطه منذ الآن وأمام بصرها، ضغطت بيدها على كتف الملك وخاطبته تخاطراً:
"حبيبي، أتوسُّل إليك ألاّ تصطحب هذه المرأة"
فقال الملك لقمان:
"يا حبيبتي كبّري عقلك، فأنا لست أحشويروش، وهي ليست أستير ربيبة مُردخاي بن يائير!"
وراحت الملكة تتوسّل ثانية:
"أرجوك يا حبيبي، لا تدعني أعيش في قلق أكثر من الذي عشته منذ نبوءاتك المرعبة في ليلة التتويج"
"يا حبيبتي لا يعقل أن أتراجع عن كلامي بعد أن وافقت على اصطحاب المرأة، ثمَّ كيف تتصوّرين أن تكون سُلطتي أو حتى حياتي عُرضة للانتهاك من قبل امرأة ضعيفة مثل هذه، وأنا القادر على زلزلة الأكوان؟!"
"لِمَ لمْ تقل لها الحقيقة إذن، لِمَ قلت لها أنّك لا تملك شيئاً؟ ألم تكن متخوّفاً منها، أو ألم ينذرك هاجسٌ ما لكي تبتعد عنها، أو تبعدها عنك بأي شكل، وألا تقع تحت سطوة جمالِها؟!"
"والله لا أعرِف يا حبيبتي لِمَ قلت لها ما قلت، ربّما لأنني تخوّفت من أن تغاري منها، لك عليّ عهد ألاّ أقترب منها"
"ليس المهم عندي أن تقترب منها أو لا تقترب، المُهم ألاّ أفقدك بسببها، وألاّ يفقدك البلايين من الإنس والجن الذين رأوا فيك الأمل، وألاّ يفقدك الله الذي قلت أنّه يسعى إليك بقدر ما تسعى إليه!"
"لا أصدّق أن من يكون حتّى الله معه، يمكن أن يفقد حياته على يديّ امرأة ضعيفة لا تملك من القوّة إلاّ جمالها وسحر عينيها!"
"إذن ستصطحبها رغماً عنّي؟"
"لا أستطيع أن أتراجع عن كلمتي يا حبيبتي"
"شريطة أن تضعها تحت إشرافي"
"أُوافق على ذلك يا حبيبتي، وأرجو ألاّ تنزعجي منّي!"
وانقطع الحوار التخاطري الذي أحسَّ به الجميع حتّى أستير. أجل حتّى أستير أحسّت أنَّ ثمّة شيئاً ما يجري وسط هذا الصمت الذي خيّمَ على الجميع لبعض الوقت، لكنها لم تعرف ما هو، وإن أبصرت انفعالات متباينة ترتسم على وجهي الملك والملكة خلال هذا الصمت!
هتف الملك لقمان مخاطباً أستير:
"هذه زوجتي الملكة نور السَّماء، ستكون هي المسؤولة عنك، وستعملين تحت إشرافها"
فانحنت أستير أمام الملكة وهي تهتف:
"لكم يُسعدني أن أكون خادِمة مخلصة لمولاتي"
وراح الملك لقمان يتحدّث إلى النّحات وسأله عن اسمه فأخبره أنه "سنمّار" فأبدى الملك لقمان إعجابه بالاسم وتمنّى ألاَّ يحدث له ما حدث لسنمّار المعماري، وأخبره بقصّته، ومن ثمَّ أشار إليه بتحويل القصور والمعابد على الكوكب إلى مسارح ودور للثقافة والعلم. أمّا عن الهرم المُعد لدفن الإله فقد أشار إلى جعله مدفناً له وللمهندس الذي أشرف على بناء الهَرم، وإلى من يريدان أن يدفن معهما، أمّا باقي الأهرامات الصغيرة الأخرى فقد أشار إلى أن تكون مدفناً للفنانين والمهندسين، وأشار عليهم بحلِّ الجيش وإلغاء العبوديّة وتوزيع أراضي الكوكب على الفلاّحين حسب عدد أفراد الأسرة، وطلب إليه الاستعانة بالملك هاروت والملك حامينار لتطبيق النّظام الجديد على الكوكب.
وأعلن الملك لقمان أن ساعة الرّحيل قد زُفت، فدنا منه الملك هاروت وانتحى به جانباً، ليهديه ثلاث كلمات سحريّة سريّة إذا ما ردّد إحداها حققت له ما يُريد في المكان الذي هو فيه، وإذا ما ردّد اثنتين تحقق له كل ما يُريد في الكوكب الذي هو فيه، وإذا ردد ثلاثتها تحقق له كل ما يُريد في الأكوان كُلّها، وطلب إليه ألاّ يُطِلع أحداً عليها أو يمنحها لأحد حتّى الملكة نور السَّماء، وألاّ يقوم بكتابتها فهي ممنوعة من الكتابة. وحين سأله الملك لقمان لماذا ليس في مقدوره أن يُطلع حتّى الملكة عليها، أجابه الملك هاروت أن مقدرة هذه الكلمات تقل كلّما إزداد عدد من يعرفونها، وحتّى حينه لا يعرفها إلاّ ثلاثة وهو رابعهم، وهم: الله وإبليس وهو، وأخبره أنّ القوى التي في خدمة هذه الكلمات الثلاث هي أكثر من أن تحصيها أيّة قوّة مهما كانت. فشكره الملك لُقمان وصافحه معانقاً.
وقد أهدت الملكة ماروت الملكة نور السَّماء كلمة سحريّة واحدة تستطيع بواسطتها حل أيّة عقبات أو صعوبات أو مشاكل تعترض طريقها، فشكرتها الملكة وصافحتها معانقة..
وشرعوا يودّعون بعضهم البعض.. وصعد الملك لقمان ومرافقوه إلى المركبة وسط تلويح أيدي مئات الآلاف من أبناء الكوكب، الذين لم يصدّقوا أنّهم غدواً أحراراً ولم يعد يحكمهم ملوك آلهة.
* * *



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الملك لقمان . الجزء الثاني. (5) عويل في الغابات!
- شاهينيات (113) بعض قصص سليمان وبلقيس!
- الملك لقمان . الجزء الثاني.(4) تحطيم الأصنام !
- شاهينيات (112) أخبار الأيام أخبار مكررة عن شجرة العائلة التو ...
- ألملك لقمان.الجزء الثاني . (3 ) الآلهة الطيبون!
- الملك لقمان . الجزء الثاني.(2) عرش الإله داجون الحادي عشر.
- الملك لقمان .الجزء الثاني (1) حديث عن كلينتون في أعماق -خليج ...
- شاهينيات (111) قابيل وهابيل وحواء يختفون من شجرة العائلة الت ...
- ملحمة الملك لقمان (13) جهنم الإله داجون!( الفصل الأخير من ال ...
- الملك لقمان .(12) مساج كوني وحروب كوكبيّة!
- بوح الكلمات : خواطر .ذكريات . أشعار. قصص.
- ملحمة الملك لقمان (11) صِفات محمّدية وهدايا جنّية!
- شاهينيات الفصل (110) ملاك يهوة يبيد 185 ألف أشوري !
- ملحمة الملك لقمان : رؤية شيطانية وآيات ربانية .( رؤية الشيطا ...
- ملحمة الملك لقمان (9) ولادة وتنبؤات مأساوية!
- ملحمة الملك لقمان (8) تتويج في السماء
- شاهينيات . الفصل (109) محاولات تأريخية فاشلة لا علاقة لها با ...
- ملحمة الملك لقمان. (7) حرب جنية وغزل كوني !
- شاهينيات . الفصل (108) ياهو يجزر كل من اتبع عبادة البعل من ا ...
- (6) بطّيخ وبغال وزنى أبوي!!


المزيد.....




- مسلسل حب بلا حدود 35 مترجمة الموسم الثاني قصة عشق 
- نضال القاسم: الأيام سجال بين الأنواع الأدبية والشعر الأردني ...
- الإمارات تستحوذ على 30% من إيرادات السينما بالشرق الأوسط
- رواية -الليالي البيضاء- للكاتب ضياء سعد
- كيف ألهم عالم الموضة والأزياء الأفلام السينمائية؟
- عــرض مسلسل حكاية ليلة الحلقة 5 مترجمة قصة عشق وقناة الفجر
- مغامرات القط والفار 24 ساعة.. تردد قناة توم وجيري TOM and JE ...
- عمّان.. الشاعر الكتالوني جوان مارغريت مترجما إلى العربية
- -الرياض تقرأ-.. هيئة الأدب تطلق المعرض الدولي للكتاب وقطر ضي ...
- -الرياض تقرأ-.. انطلاق فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 202 ...


المزيد.....

- مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية / أكد الجبوري
- هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ / آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
- توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ / وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
- مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي ... / د. ياسر جابر الجمال
- الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال ... / إيـــمـــان جــبــــــارى
- ظروف استثنائية / عبد الباقي يوسف
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل ... / رانيا سحنون - بسمة زريق
- البنية الدراميــة في مســرح الطفل مسرحية الأميرة حب الرمان ... / زوليخة بساعد - هاجر عبدي
- التحليل السردي في رواية " شط الإسكندرية يا شط الهوى / نسرين بوشناقة - آمنة خناش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - ألملك لقمان.الجزء الثاني . (6 ) األله. ألكمال. الفضيلة .