|
مدام ميرابيل القسم الأول3
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 4782 - 2015 / 4 / 19 - 19:29
المحور:
الادب والفن
من وراء نافذتها، كانت تعرض في الظلالِ الخفيفةِ للغروبِ نفسها، وكأن الأفق يتكلم معها، وكان يبدو عليها أنها تجوبُ الفضاءَ بين النجوم، فوقَ سقوفٍ تزاحمت ما بينها، والنجوم ساكنة وصامتة. بقيت هناك كالتمثال، دون أن تسعى إلى فهم ماذا، على الرغم من أنها ربما كانت سئمة من سَلبية حياتها، وفي كل الأحوال أكثر سأمًا وتعبًا من سأمها المزمن. كانت كتفاها تستسلمان للإغراء، وأصابعها تبحث عن جواب، تصغي إلى الرياح التي لا نهاية لها، وهي تهب على أنقاض اللوتس "Lutèce"، في الوجه المقابل. تحت، كان الناس يطرقون أكعابهم على البلاط، وهي، بين الشارع والنجوم، تنحو بأفكارها نحو النجوم، وتنحني بجمالها أمام الهموم، كانت تنفني. تركت نافذتها، وجلست أمام مرآتها. كعادتها، نظرت بسعادةٍ وتعاسةٍ إلى نفسها. لم تزل جميلة، كما بدا لها، لا كتماثيل حديقة اللكسمبورغ، السرمدية الجمال، المعروضة، المنظورة، المحسودة، المصاحبة الصامتة للعشاق والأيام. ستخلُدُ، ربما، بعد مائة عام، بين يدي نحاتٍ سيحلم بها، ستكون معلومة مجهولة... غير أنها، خلال وقت قليل، ستلزَمُهَا الأقنعة وعمليات التجميل ومراهم النهار ومساحيق النساء الأرستقراطيات المتحذلقات، لتبدو في عيني الدمامة جميلة أكثر بقليل، وإلا كيف ستروق للحب بعد خمس سنوات؟ حياتها التي لم تفعل بها بعد شيئًا، سيكون لها مذاق الشيخوخة السابق لأوانه، مذاق المدفونة. كان زوجها رجلاً عديم الأهمية أحمق أو بالأحرى أحمق عديم الأهمية، زواجها عبئًا، عملها، قُرْطها، سُوَارها... لم تكن سوى عاملة بين مئات العاملات. في الواقع، لم تنجح في أي شيء في حياتها، لكنها كلما فكرت في هذا كانت تستدرك، وتقول لنفسها إن لها من الحظ ما ليس لغيرها على الرغم من كل شيء، إن لها شقتها وعملاً مستقرًا، إن باريس كما كتبه القدر لباريس، على ليلها أن يكون أزرق، على شعرها أن يكون أسود، على فتياتها العاشقات أن يكن برنزيات، مُلْفَحَات بشمس الصيف وملح البحر النائي. كانت الرياح تهب على باريس حاملةً آلاف حكاياتها وآلاف نيرانها، وكان من الجُودة بكثير هبوب الرياح. تنفستِ الصُّعَداء. كانت لسباستيان ميرابو، زوجها القادم، وهو في السابعة عشرة، بعض المغامرات الغرامية، على شاكلة أبيه الأرمل الذي له عشيقة في معظم المدن والبلدان كرجل أعمال. وخلافًا لأبيه، كان قَصِمًا وقَلِقًا، بحيث أن غرامياته دومًا ما كانت مُؤلمة ومُؤَمْثِلَة ومُيئسة، فانتهى به الأمر إلى الانطواء، وَوَقْفِ نفسه على دروسه في هندسة الطيران. خاب ظن أبيه لما رآه ينسحب هكذا من العالم، فشغّل كل ثروته وعلاقاته كيلا تكون الحياة العادية لابنه الحياة. ذهب به إلى الصالونات، واستصحبه في كل غدواته وروحاته، ونظم بنفسه حفلات الاستقبال الكبرى، السهرات الراقصة، السهرات الخيرية. في إحدى هذه السهرات الخيرية، حيث تؤم كلُّ نساءِ الخواص، وعلى التحديد، النساء اللواتي، دون هذه الحجة المُحِجة، يتفضلن بالظهور في سهرة برجوازية لا يأتيها على التأكيد أي وزير ولا أي أمير، عرف ابنه مارغريت دوفور، كنته القادمة. تلك الفتاة الوردية من الخجل، والتي تحضر للمرة الأولى، ما في شك، أولى سهراتها، وبتشجيع من أمها، فازت بمباراة "ماريان" السهرة، رمز الجمهورية. وعلى الفور، وقع سباستيان في غرامها، شارحًا لها بِحُمَيّا، بحياء، كيف أن الحب الأبوي، ولا أي حب آخر، يستبدل، بالنسبة إليه، حب المرأة، هوى الحياة، وها هو يقع على امرأة عمره. سيأخذ على نفسه التزام الأنبياء، وسيحبها حتى نهايات الأزمان. ضحكت على التأكيد، فطلب حالاً يدها، من صميم القلب كان طلبه، وكله استعداد ليموت حبًا. مارغريت الساذجة، البلهاء، المحمومة، المثملة بسهرة بالغة السعادة، سألت أمها بعينيها، فتظاهرت بعدم الانتباه. اعتبرت الواقعة أكيدة، والاستئذان للموافقة لم يكن ضروريًا، وعلى العكس، نبهت بجذل وابتهاج العراب ميرابو إلى أن هذه أهم "رحلة عمل" يقوم بها. بعد الموت السعيد للزوج -أستاذ رياضيات أناقته ولياقته جعلتاها تفترض علاقات وثروة لم ترها على الإطلاق- مارست الأم هواية جمع العشاق على أمل أن تجد أحدًا تستطيع بنقوده أن تصنع سعادتها وأن تتزوجه. كانت هذه المرأة تؤمن بالحب إيمانها بالفضائل الأخلاقية الشيء القليل، وغالبًا ما كانت تردد على مسمع مارغريت إذا ما لم يكن الرجال يحبونهن إلا لجمالهن، فعليهن ألا يحببنهم، هن، إلا لثروتهم. أما عن الحب والحبيب، فلا تعرف إلا الصدفة قدرةً عليهما، وذلك بتقديمها لهن عشاقًا جيدين، ثريين، من نوع ميرابو الأب، الذي تطمع في موقع إلى يمينه، في هذا النوع من الصالونات. كان على سباستيان أن يتزوج قبل نهاية دراسته: تفهمين، يا مارغريت، أنك لا تستطيعين تفويت هذا، إنها فرصة حياتك! اختارت مارغريت شقتها بنفسها، شارع موفتار، وسارت الأمور على ما يرام، حتى أن الحب المجنون لسباستيان قد بدأ يغزو قلبها... لما انطفأ الأب ميرابو، مصعوقًا بسكتة قلبية، بعد تبديد ثروته في كازينو من كازينوهات غابة بولونيا. مما اضطر سباستيان إلى ترك دراسته تمامًا قبل الحصول على دبلومه، ليعمل في قاعدة للطائرات الخفيفة كتقني. زوج ميكانيكي! لها هي التي عليها أن تكون ماريان السهرة لحياة بأكملها! الطلاق الآن، الانفصال... خمسة أعوام من الانفصال الفعلي قبل أن يتم الطلاق دون رضاء أحد الزوجين! لأن زوجها لم يكن يريد هجر تلك التي كانت كل شيء بالنسبة إليه، ولأنه بكى. انفجرت ضاحكة... شخصت ببصرها إلى صورة نهديها المدهشين: نهداها، بطنها، سرتها، خصرها المُحنى، ساقها القسيمة، قدمها المشيقة، كل هذه العوالم التي غالبًا ما حفرت بشرتَها الرخصة أصابعُ زوجها الخشنة. كان الخريف يقترب منها، وها هي تلك الأصابع الناعمة للطالب في الماضي، الخشنة والنتنة في الحاضر، كم مرة لعينة نهبت أحاسيسها وسحقتها بقوتها العمياء، فاثارت قرفها. من الآن فصاعدًا، وبقدر الوقت الذي يحتفظ فيه جمالها بِسِمات الشباب، أرادت أن تضع قلبها وشفتيها أينما يبدو لها ذلك مناسبًا، وبعد ذلك، سترى. أرادت أن تختار، من الآن فصاعدًا، يدين ناعمتين معطرتين كيدي السيد هنري -شارع فوش أغنى شارع في العالم- مَنْ قصت، منذ خمسة عشر عامًا، صوره في الجرائد والمجلات، وَمَنْ عبدته في السر. في ذلك الوقت، عملت أمها كل ما بوسعها لتتزوج من رجل مثل السيد هنري، والذي غالبًا ما كانت تحدثها عنه كمِلْكيّة شائعة، ومع ذلك، لم تفعل شيئًا. كانت مارغريت، في ذلك الوقت، تسبح في أحلامها: أنه سيكون لها ذات يوم، أنها ستعرف كيف تظفر به، وكانت تبتسم لصوره، تقبلها، وتعده بألف وعد، أنها ستبقى على إخلاصها له... اليوم، لم تعد تحلم بالسيد هنري، الذي بدأ الكبر يبدو عليه، إلا أنها غالبًا ما كانت تحلم، عندما تعجز عن الاستسلام لأهوائها، بالغِنى، بالحب الخالد أو العذري، بالزهد، بالحكمة القديمة، بالغَناء... بقليل من كل هذه المثل العليا على الرغم من اختلافها وتضادها. في إحدى المرات، حين وصولها إلى مصنع السيد هنري، كانت على وشك تحقيق حلمها القصي. رماها بنظرة وضاحة كانت كافية لاعترافه لها، في برق لحظة، بألف شيء وشيء يَعْجِزُ عن الوصف. وفي نهاية المطاف، لم يأت لرؤيتها. من المحتمل أنه كان يستعجله شغلٌ من مقامه، ليمنح نفسه متعة كهذه. ثم مضت الأيام، وانتهى بها الوضع إلى عدم معرفة إذا ما كان الأمر يتعلق بالفعل بنفس السيد هنري. و، الحقيقة، ما كانت لتستحق مثل تلك الأصابع، هي، التي تسير حياتها سير الآلة "بنعومة" في المصنع، حياة تُنْجَز خلف نافذةِ شقةٍ صغيرة في شارع موفتار، بينما العباقرة والنجوم يعملون بإكبابٍ أصم على قدرهم الخالد؟ أرادت ألا تقعد العواصف، وتقرر كل شيء في لحظة واحدة، ولكنها... تدبقت كالذباب. نظرت إلى سرتها، ولم تتحرك. ماذا كان باستطاعتها في الواقع أن تفعل؟ لقد ألقت المرساة. تأملت سرتها، أمامها، وبدأت تعاينها، وهي تردد بغموض "أيها السيد هنري"، وتفحصها باسطةً أسفل بطنها، فيعمل بطنها ثالوثًا طريفًا مع نهديها المستطيلين. فجأة، "رأت" نفسها في المرآة، بيضاء فاترة، بشرية حشرية، وأحست بالتشنج: كان شيء ما فيها محطمًا.
يتبع القسم الأول4
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مدام ميرابيل القسم الأول2
-
مدام ميرابيل القسم الأول1
-
الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون النص الكامل النهائي
-
الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون الرواية الجديدة لحي ب
...
-
الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون الرواية الجديدة لحي ب
...
-
الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون الرواية الجديدة لحي ب
...
-
الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون الرواية الجديدة لحي ب
...
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثالث عشر والأخير
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثاني عشر
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الحادي عشر
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل العاشر
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل التاسع
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثامن
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل السابع
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل السادس
-
أبو بكر االآشي القسم الثالث الفصل الخامس
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الرابع
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثالث
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثاني
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الأول
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|