|
-تأملات في الزمن السحيق-
ثامر مراد
الحوار المتمدن-العدد: 4760 - 2015 / 3 / 27 - 08:30
المحور:
الادب والفن
"تأملات في الزمن السحيق"
بين فترةٍ وأخرى تخطر على مخيلة الأنسان مجموعة من التأملات السحيقة تبق تدق نواقيس واهنة في ذاكرة البشر تحاول الأنبثاق نحو السطح ويبقى العقل اللاواعي يتصارع مع تلك التأملات الملحة...هل يلفظها كما لفظ الزمن ملايين التأملات العالقة هنا وهناك في تجاويف الذهن المرهق على طول التاريخ أم يُظهرها على السطح في أشكالٍ متباينة قد لا تشكل أي قيمة معنوية أو مادية للأنسان ولكنها تجعله يعيش في حكاية غامضة لا مضامين لها ولا وأهدافٍ محددة...مجرد أشياء نفسية عالقة في ركنٍ مامن أركان الذهن المرهق بلا توقف. قد لا يفهم البعض جزاءا من هذه الكلمات التي راحت تتصارع للنهوض من تاريخٍ لم يعد له وجود..تاريخ مزقتهُ أحداثٍ وهلوسات الروح التواقةِ إلى كل شيء. مرة كان لي تاريخاً مبعثراً بين الحقيقةِ والواقع أنزفُ من خلاله حسراتٍ وويلات أروم من خلالها تمزيق كل ما كان يحيط بي من عذابات الروح وهدير الأحلام التي كانت تراودني حينما أستلقي على مهجعي ملتمساً جزءاً يسيراً من راحةِ البال. من أنا كي أسمحُ لأفكاري بالطفو على زمن الحقيقةِ والواقع الذي يمزقني كلما جلستُ وحيداً في بيتي المتواضع الذي لا أملك منه أي شيء سواء ذكرياتٍ وأسمالٍ بالية مبعثرة هنا وهناك ليس لها قيمة بيدَ أنني لا أستطيع التخلص منها لأنها تشكل كنزاً وفيراً لزوجةٍ تحلمُ بأشياء لا أستطيع توفير جزءاً يسيرا منها ولها.من أنا كي أقحم نفسي في دوامةٍ لا تنتهي؟ من أنا كي أحاول تصليح أخطاءٍ صدرت من أركانٍ وهميه على قارعةِ حبٍ لم يعد له وجود رغم أن هذا الحب خالد إلى الأبد ولايمكن لكائن بشري أن يزيله من تجاويف الروح مهما حاولتُ وحاولتُ بكبرياء مزيف أحاول من خلاله أن أثبت للخليقةِ أنني إنسانُ كامل وثورةٍ شبابية لاتزول. هناك فئة قليلة من البشر لايزال قسماً منها يصارع الزمن لرسم ِ ديمومة الحياة بينما رحل القسم الآخر إلى عالم يختلف تماماً عن العالم الذي نعيش تفاصيلهُ اليومية كل لحظة... ذهبوا بلا رجعة ولكن حسب ما تذكرهُ الكتب السماوية أنهم سيخرجون من " ألأجداث" عند الحساب. هذه الفئة البشرية القليلة كان لها تأثير مباشر وغير مباشر على مفرداتٍ معينه من التاريخ الذي لا زلتُ أحيا قسماً من تفاصيله. كلما حاولت نسيان هذه الفئة البشرية القليلة وطرحها خلف أروقة الروح التي تضيق كل لحظة ثم تعود للأتساع حينما يستجد مستجداً معيناً .. أجد نفسي مرغما للتأمل في أروقتها التاريخية السحيقة أحاول من خلالها نسج حكايات بعيدة تقض مضجعي وتفرض عليَّ إلتزاما نفسياً للخوض فيها وممارسة أحاديثُ أشجانٍ قد تصل إلى درجة " الهلوسة" أو إلى تعبير آخر أخشى أن أطلقهُ على ذاتي. ماذا أفعل؟ أشعر أنني أوشك على السباحةِ في بحيرة ِ الشيطان أو الغوص في أغوارٍ ليس لها حدود. كي أتخلصُ من عذاب الروح هذا قررت الخوض في حديثٍ ليس له فائدة ..ليس له وجود بعد الآن ولكنها طريقة قد تكون مفيدة للخلاص من أفكارٍ قد تسبب لي أمراضا يطلق عليها " بألأنفصام" أو أشياء أخرى لا يريد أحداً أن يكون في باحتها مهما كانت حالته تسبح في رثاءٍ ليس له حدود. من هنا تبدأ الحكاية: " مرة كان هناك شخصا إسمه " أ" . حينما يأتي لقريتي التي تقع الآن خارج الزمن الأقليمي لروحي المحترقة شوقاً للعودةِ إليها لمدة دقائق معدودة وتكحيل عيناي بتربتها المعطرةِ برائحةِ النخيل وعطور أزهار الرمان المنتشرة عند السدة الترابية التي تخترق بستاناً خالدا لأشجار من نخيلٍ يناطح السحاب على مر العصور. يبقى عدة أسابيع في بيتنا المشيد من طينِ تراب الأرض الطيبة ..يخرج مع شقيقي الكبير الذي هو ألان بمثابة ألاب الروحي لي منذ أن أبصرتُ النور. يخرجان إلى المقهى في عتمة الليل..أحاول ُ أنا الطفل الصغير أن أخرج معهما بيد أن نظرة غضب واحدة من شقيقي تجعلني أتراجع إلى الوراء بصمتٍ وحزنٍ وأنكسارٍ وأندحارٍ وأنشطارٍ وهلعٍ ورعبٍ وخوفٍ لايمكن أن أجد له وصفاً في هذا الزمن الملبد بكلِ أنواع الخوفِ من مجهولٍ مرسوم في أي ركنٍ من أركانِ بيتي الممزق بفعل التضاريس ومناخ البلد المتغير كل لحظة. كان يمثل بالنسبة لي شيئاً ليس له مثيلاً في كل ِ ركنٍ من أركان العالم. أنظر إليه كأنه مخلوقاً رومانسياً – من يدري لعله قادم من عاصمة البلد التي لم أكن قد ذهبت اليها في ذلك الزمن- هو يمثل بالنسبةِ لي شئياً مخيفاً وعشقاً لايمكن البوح به . أتمنى أن أصل إلى نصف ما كان يقوله في ذلك الزمن. كل شيءٍ فيه جميل. . وأنا الطفل الذي لم أكن قد شاهدتُ في ذلك الزمن سوى حيواناتٍ تخرج من بيوتٍ طينيه عند ضفة نهر الفرات وتعود في المساءعلى شكلِ أكداس من هياكل حيوانية تتدافع للوصول إلى النهر كي تبقى دقائق طويلة ورؤوسها منحنية بالقرب من الماء وهي تصدر لهيثاً لازال يرن في ذاكرتي بعد كل هذه السنين التي جاوزت الخمسين عاما. حينما يعود الى بيتهم أبقى ساعات طويلة – وأنا الطفل الصغير- أجلس تحت أحدى شجرات الرمان القريبةِ من النهر الكبير- الفرات – أبكي ساعاتٍ طويلة أذرفُ دموعاً ليس لها حدود ولا أعرف سبباً لذلك " هل لأنني متعلق بروحهِ ؟ هل لأنني أسكن في قريةٍ لا نملك فيها إلا بيتاً طينيا؟ هل لأنه يسكن في العاصمةِ ألتي لم أرها أبداً؟ هل لأن شقيقي لم يسمح لي بالذهاب معهما في جنح الليل إلى المقهى الصغيرة ألتي أحلمُ بالذهاب إليها كلما جاء؟ أسئلة لم أجد لها جواباً إلا بعد أكثر من أربعين عاماً . وتقدم الزمن وأصبحتُ أتربعُ على عرش الشباب وطالباً في كليةٍ من كليات العاصمة التي كنت أحلم برؤيتها في الزمن السحيق. ظل الشخص " أ" يركن في ركنٍ بعيد من ذاكرتي التي بدأت تتفجر بكل شي ينتمي إلى روح الشاب. كنتُ في صف ليس فيه إلا فتى وهو أنا...عشرات الفتيات تحيط بي من كلِ جانب. إنغمست في أحاديثٍ لاتنتهي مع كل الفتيات وكأنني أريد ألأنتقام من ذكرياتي المريرة وللتعويض عن دموعي المتفجرة عند شجرة الرمان. كنت أشعر وكأنه يراقبني ...كنتُ أريد أن أقول له " أنظر ماذا يفعل الطفل الذي لم يكن يعرف إلا رائحة الأشجار.. ولا يعرف أي موسيقى إلا موسيقى هدير مياه النهر وزقزقة العصافير عند الفجر". وشاء القدر أن أعشق شقيقته ويبدأ أسمها هي ألاخرى بحرف " أ". يوماً ما كنتُ واقفاً معها عند الشارع الطويل عند الصباح لنذهب معاً إلى صفوف الدراسة " كانت في كلية تختلف عن كليتي" . من بعيد جاءت فتاة جميلة جدا كأنها ملكة من ملكات التاريخ السحيق. يتمايل شعرها مع نسيم الصباح في حياءٍ عذري. قالت لي " أ" التي هي الآن والدة أبنائي " سأخطب هذه الفتاة لشقيقي ..أ " . لم أجب بأي شيء ولكنني همست لذاكرتي آنذاك " سيكون من أسعد المخلوقات ألأنسانية لو أصبحت من نصيبه" . وفي غضون أشهر قليلة كانت الفتاة من نصيبه. هنيئا له على ىهذا التوفق الألهي لقد كان متفوقا وموفقا في أشياء كثيرة . وحل يوم ذهابي مع فتاتي إلى محلات الصاغةِ لأقتناء المصوغات الخاصة بأرتباطنا الروحي...وطلبت مني فتاتي أن نصطحب تلك الفتاة التي كانت قد أصبحت شريكة حياة الشاب " أ". كنا نتباهى بوجودها معنا فقد كانت لديها طريقة ساحرة في الحديث وكيفية إقناع الباعةِ للتنازل عن دراهم معدودة من السعر الكلي. كنتُ بعيدا لا أتدخل في الحوار الجاري بينها وبين الصائغ. كانت فتاتي فخورةً بها وكنتُ أقرأ سعادةً لا توصف في بريق عينيها. في تلك اللحظةِ أحسست أن " الشاب أ" يسخر مني ويهمس من بين الأشجار قرب النهر الخالد ويقول " إنظر ..أنا متفوق عليك في كل شيء .. " وإزاد ألمي النفسي ...أنه تاريخ يكبلني بعاصفةٍ نفسية حتى الممات. كانت حامل في طفلهِ ألأول الذي أطلق عليه إسما يبدأ بنفس حرف إسمه " أ " والغريب أنه أطلق على كل أسماء أبناءه أسماءاً تبدأ بحرف " أ " إذن هو ينتمي إلى إمبراطورية " أ" . كان طفله الأول لازال يرقد في أحشاء أمه وكانت تسير معنا بطريقة هادئه بطيئة كمخلوقٍ شارف على الهلاك . وبطريقة رد الجميل قلتُ لها " سأهتم بطفلك حينما يرى النور سأقدم له خدمة كبيرة في وقتها حينما يحتاج لتقديم أي مساعدة" إبتسمت وهي تقول " أوه.. أي خدمةٍ تستطيع أن تقدمها له وهو لم يظهر إلى الوجود. قلت لها من يدري ...لا نعرف ماذا يخبيء لنا القدر." . وتقدم الزمن وحدثت عواصف رملية ..ورياح شديدة حطمت البلاد وأقتلعت أشجاراً لا تعد ولا تحصى ..وماتت زهور بعدد ذرات الرمال المنتشرة في الصحاري والقفار.. ونزفت أمهات كثيرة دموعاً من دم لايتوقف على طول الزمن العاصف الحارق لشرايين الأمومة والطفولة وكل شيء. وأستقرت والدة الطفل " أ" تحت الارض التي إبتعلت كل شيء . وذرفتُ عليها دموعاً بصمت تام....وجاءت فرصة مناسبة لتقديم خدمةٍ جليلة ...لأبنها الذي رافقني يومٍا ما وهو يرقد في أحشائها. تغيرت حياته وأصبح من أصحاب الملايين. كشخص مجرد يستحق ذلك فقد كان شجاعا في أمورٍ كثيرة مكنته من الوصول إلى أشياءٍ كثيرة. وفي جلسة قدسية يوما ما مع شريكة حياتي – وكنا لانملك أي شيء – قالت لي بحياءٍ تام" لماذا لانطلب مساعد من شقيقي " أ" وأبنه " أ " فهما من أصحاب الملايين ويستطيعان إنقاذنا من هذا الوضع المزري" . نظرتُ إليها برعب وكأن تياراً كهربائياً ينفذ إلى أعماقي...قلتُ لها بشرودٍ تام " أفضل الموت جوعاً على أن أطلب منهما أي شيء...لقد جعلني شقيقك أنتحب تحت شجرة الرمان حينما عاد إلى بيتكم في عهد الطفولةِ..ولم يقنع شقيقي بأصطحابي إلى المقهى القديم..واليوم تكررين علي نفس المأساة..ألا يأتي يوما ما أتخلص فيه من هذه السيطرة النفسية التي تقض مضجعي...؟؟؟". بالرغم من عجزنا على توفير أبسط ألاشياء شعرتُ أني أغنى منهما آلاف المرات فقد كانت حياتي مطمئنة في البيت خالية من أي منغصات – عدا الحالة المادية – بينما كانا يعانيان من رياح شديدة إقتلعت كل جذور ينتميان إليها...عواصف أحرقت كل شيء ينتمي إلى المحبة والألفة والحنان. لاأدري ما السبب ولا أريد الخوض فيه. أصبحتُ بين نارين حارقتين...هل أساند مَثلي المقدس في الطفولةِ أم أساند المخلوق الذي رافقني مع المرأة التي ساندتني في يومِ زفافي؟ إن هذا لشيء كبير لاتحتمله حالات ألاخلاص والتقدير التي أحملها صوب تلك المراة التي رقدت تحت تراب ألأرض الطيبة وتخلت عن فلذة كبدها الذي كانت تحمله في أحشائها يوماُ ما.. هو ألان يرقد وحيداً لايملك من حنان ألابوة إلا ذكرياتٍ ماتت بحزن كما لفظت ألأرواح الكثيرة أنفاسها خلف الرابية في حروبٍ جمة لا نعرف سر وجودها . ثامر مراد
#ثامر_مراد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تأملات
-
اليوم الحزين
المزيد.....
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|