عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4754 - 2015 / 3 / 20 - 20:27
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الفكريات العقلية التي أسست للمنهج العقلي وطورت الفلسفة عبر التأريخ كانت بالأساس رؤى شخصية تبلورت وبسطت ما تريده من خلال كم تنظيري قد يبدو للقاري لها من خارج دائرتها من أن هناك أنقطاع حقيقي بين الفكريات تلك وبين الفلسفة التي يظن الجميع أنها ولدت من رحمها ,هذا التفاوت طبيعي وحقيقي طالما أن المؤسس الأول أو واضع اللبنة الأولى قد غادر المسرح الفكري قبل جهوزية وأكتمال النظرة التكوينية التي نادى به وأسس لها دون أن يضع بصماته النهائية عليه ليتولاه أخرون على نفس الطريق ,الصريح في تأريخ الفكر أن التجارب هذه أو النسق التأريخي الذي صاغت هذه النتيجة متكرر دوما بشدة وملفته للنظر.
في دراسة تأريخية فكرية تتعلق بأصل هذا الموضوع هناك قراءة لكتاب ما الماركسية ,تفكيك العقل الأحادي للكاتب العربي سلامة كيلة يستخلص فيها هذه التجربة ويحرر العقل الماركسي من قداسة النص وتحجره فيقول عمار ديوب المستعرض لهذا الكتاب((أن مشكلة تحديد ماهية الماركسية هي مشكلة مطروحة قبل وبعد الانهيار وأخطر مشكلة واجهتها تحديد موقع الاقتصاد في مجمل الماركسية وقد قال ماركس حينما لمس الميل نحو الاقتصادوية (أبلغوا هؤلاء أنني لست ماركسياً ) وقد دخل أنجلز بعد وفاة ماركس في نقاش طويل لتوضيح موقع الاقتصاد في مجمل التكوين الماركسي وأكد أن الاقتصاد هو المحدد في التحليل الأخير ولكنه ليس المحدد وحده .)), من مفهوم هذا النقد أن الماركسية التي نادت بها النصوص التي كتبها ماركس هي ليست الواقع الذي طبقه الماركسيون من بعده بل أن ماركس نفسه كان متخوفا من القراءة التي ترجمت الفكرة والتي يعتبرها الكاتب هنا إنشقاق عن ماركس وفكرياته.
النظرية الماركسية أذن غير فكر ماركس وليست إلا وجه أحادي من أوجه متعددة مما أراد أن يسير به نحو رؤيته للواقع ومعالجاته وحلوله لمشكلة الإنسان ,بدلا من أن يسير الماركسيون على نهج ماركس ويطوروا هذه الفكريات لتنضج وفق قاعدة الارتكاز الأساسية الفلسفية حولها الماركسيون وفقا للاستجابة الواقعية العملية بالتجربة والأفتراض الذي أستندت عليه من مفهوم محدد فكري فلسفي متنوع ثري قابل للتطوير إلى أيديولوجية ذات منطق فلسفي مغاير ,بقول الكاتب ديوب ((الماركسية النصية أحلت القياس الأرسطي ،الديني محل الجدل المادي وقوننت مسائل كانت بحاجة على نقاش جاد وجدلي وثوري وحولتها إلى إيديولوجيا تبريرية لسياسات وتكتيكات آنية لحظية .)) كان لهذا التحول دورا مهما في خروج العقل الماركسي من عقل الأب الروحي لها إلى عقل الواقع مما يشكل تراجعا عن هدف الفلسفة ذاتها ,الفلسفة التي تؤمن أن الواقع ليس بالضرورة هو الذي يرسم ملامح الفكر وخطواته الفردية
في التجارب الفكرية الأخرى التي هي أقدم وأسبق من التجربة الماركسية نجد أن الأحادية والفردية عندما تتولى القراءة لا بد أن تطرح تصورها هي لا الصورة النصية "الأساس" لأن الحقيقة هي أن عقل الأحد الفرد هو الذي يقرأ ويفكك ويعيد البناء ,لا يمكن أن نجد اليوم فكرا جمعيا بمعنى حلول فكر القارئ محل الكاتب أو المفكر الأول بنفس الأستعداد وينفس طريقة التعامل تكوينا وبناء للفكرة ,القارئ هنا مفكر ثان ومنتج أخر مختلف ومتفاوت عن الأصل مهما حرص على أن يتمسك بأصل الفكرة وما فيها إلا أن البصمة العقلية هي التي ستظهر وتختفي بصمة الكاتب لسبب بسيط أن النظام العقلي مختلف ,العقل عند الإنسان مثل البصمة الأحادية قد تتشابه ببعض الملامح ولكن من المؤكد أنها لا تتطابق.
الفلسفة عموما ومهما كان أصلها ونظرتها وهدفها والمجال الذي تبحث فيه أو له هي بالأخر شكل معرفي عقلي لا يمكن فصله عن السلسة التأريخية للعقل الإنساني في محاولته الدائمة للتفسير والفرز والترتيب كي يرسم لوحته المسماة البصمة العقلية على الواقع اليومي لنبض الوجود, ,هذا الرسم يختلف حسب نتيجة المقدمة الفلسفية التي يتبناها العقل ليؤسس فكرياته عليها .
الفكر الماركسي نعود له أنه قد فهم حركة التأريخ من جانبها المادي وأسس على أن الجدل المادي التأريخي هو العامل المؤثر والرئيسي في حركة الوجود وبالتالي فإن دراسة هذا العامل المؤثر لغرض السيطرة على سيرورته وأستخراج الأحكام القانونية منه يمكن أن يفسر ويمهد للسيطرة على حركة الزمن ومن ثم التحكم بالمجرى التأريخي للوجود.
وأيضا الفلسفات بعمومها هي ليست علوم لها قوانين خاصة يمكن أن تكون ثوابت يقاس بها النتاج المعرفي أو معيارية مرجعية عامة ,الفلسفة هي رؤى وأساليب وعي غالبا ما تكون عميقة وتفصيلية يتم من خلالها كشف الصيرورة ومن ثم رسم السيرورة ,فهي وعي أولا ورسم وترجمة لهذا الوعي واقعا ,وتختلف عن العلم أنها أكثر مثالية منه في التعامل مع مفردات الوعي وأشد حساسية لقضية الإنسان وتمهد دوما للعلم أن يستقيم .
هذا الوصف يمنحها ديمومة العطاء والعمل ويشرعن لها حق الريادة والأصالة وبالتالي فإن التفكير الفلسفي الذي يسند بتبريراته ويفسر قوانين الكون تبعا للنتيجة التي يصل لها هو ذاته أول متمرد على الفلسفة ,ومن يهدر جدارتها في تحقيق الوعي يكون قد تجاوز حقيقة أن العقل هو المحرك التأريخي الجدلي الذي يطور ويناقض الواقع في حالات الاختلال وهو الأصل وكل ما نتج منه يعود إليه.
هنا يمكننا مثلا أن نشير إلى أن جدلية ماركس التأريخية المادية هي الرسم الذي ألتقطه الوعي الذهني عنده وليس هو المحرك الأساسي الأهم في فهم حركة الوجود ,لأن لولا هذا العقل لم ندرك هذه النتيجة.
للعقل يعود الفعل التاريخي المهيمن على تنسيق الواقع وأعادة رسم الملامح العامة والخاصة الكلية والجزئية لكل حركات التغيير والتبدل التأريخي بما فيها التحولات الكبرى والمحورية في حياة وحركة الوجود , وبذلك تتقاطع هذه الفكرة مع كل التنظير الكلاسيكي الذي يعيد بالمسئولية في التغير لعوامل فردية مرة أو عوامل متداخلة أو حتى في بعض الفلسفات تعود به إلى عوامل وعوالم غيبية كما في الكثير من النظريات الدينية .
العقل بما يملك من قوة بدوية قادرة من خلال تحرره من أشتراطات التسليم للواقع أو القمع لحركته الوظيفية الطبيعية أن يبتكر رؤية فلسفية خارقة تعيد ترتيب الوضع الواقعي وفقا للسنة الكونية التي تسير قدما للأمام سواء بقى العقل منشغلا بالتجارب والتفكير أم تكاسل ولكن الفرق يبقى في تسارع المتغيرات وقدرتها على خلق شروط جديدة .
مثلا الثورة الصناعية ولدت من تفكير وتجربة أحادية ومتراكمة ساهم الطرفان فيها عبر التجربة التأريخية للعقل في تحديه للواقع الرتيب ,ومنها أنطلقت فلسفة الحداثة من مختبر العلوم وليس من قاعات الأكاديمي التنظيري وفرضت واقعا حقيقيا وملموس ومؤثر وجاد وثوري استجابة لما أنتج العقل من تقنية خرجت بالواقع من صيرورة تقليدية إلى صيرورة متجددة ,الحداثة ولدت من رحم التحدي الذي فرضته الآلة وفرضت معه قوانين الخروج من الواقع ,فهي التي ناقضت الواقع المقبول والممكن بأتجاه العقلاني الأفتراضي .
تأسيسا يمكننا أن نعلن أن صراع العقل مع من يقارنه مع النقل أو مع التجربة هو صراع متوهم وغير حقيقي ولا أساس وجودي له ,لا التجربة لها أن تحدث خارج كينونة العقل وبأشرافه وتحريكا منه للظروف والآليات ولا النقل بمقدوره أن يبسط الوجود الحقيقي له إلا عبر نظام العقل ,كلاهما بالنهاية بحاجة للعقل ليس حاجة تكميلية بل حاجة أساسية تعتمد على وجودها بوجوده وعدمها بعدمه.
العقل هو الذي يتولى قيادة التجربة كما يتولى تجسيد النقل عبر سلسلة من الذهنيات والفكريات المترابطة مع أصل الموضوع ,صحيح أن أدوات التجربة وطرائقها والنتائج تخلف عن ما يمكن ان يتعامل به العقل مع النقل وإن كان بالأخر بسط النقل هو تجربة سوف توصف لاحقا بالتأريخية لكن لكل منهما مسار ومدار يؤطر الخصيصة ,العقل هو سيد التغيير والقائد الفعلي والمحرك للجدل الوجودي كله التاريخي والجدل الأستشرافي.
هذا الأنتصار التأريخي للعقل يقودنا مرة أخرى إلى ترتيب حقوق العقل وتحريره من نزعة الواقع والواقعية وأعادة الأعتبار للأستشراف الأفتراضي ومنح الخيال حدود خارج المحدد الممكن والمعقول لأن من سمح للتغير والتغيير في البنية الوجودية نحو عالم اليوم ليس النقل وحده ولا التجربة الحسية وحدها بل سبق ذلك في الثانية الخيال وفي الأولى الدعوة له.
الفلسفة البعدية فلسفة تمنح العقل الحرية المطلقة لأن يخرق قواعد والواقع وتنصب منه خصم دائم له ولا ترضى ببقاء العقل حبيس قوانين المنطق والمعقول الطبيعي ,إنها دعوة للخروج وفقا للواقع الحقيقي ومماهاة له بحقيقته اللا مدركة والتي لابد انها اكثر تحررا من القواعد والقيود ومماشاة مع تسارع حركة الزمن المتعجل للوصول لنقطة النهاية الحرجة النقطة الإنقلابية التي سوف تطيح بالواقع وتنقله للوجه الأخر من الوجود.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟