|
حول تشكل حضارة كلانية
خالد خليل
الحوار المتمدن-العدد: 4754 - 2015 / 3 / 20 - 18:06
المحور:
المجتمع المدني
الثقافة هي المنظومة التفكيرية للمعرفة والخبرات المتشكلة في سياق السلوك الانساني بهدف اعادة انتاجه المتواصل وإنتاج اساليب التحكم به. وهي بهذا المعنى: المشترك الحضاري لكل المجموعات الانسانية. وإذا كانت الثقافة هي الاداة الضرورية لإنتاج الحضارة فإنها كذلك الاداة الضرورية للتكامل الحضاري ، أي الارتقاء الى حضارة انسانية جامعة اهم سماتها التكامل والمشاركة في اطار القانون الطبيعي للوحدة والصراع. هذه المنظومة التفكيرية متماهية مع قوانين الطبيعة وهي في حالة دائمة ولا متناهية من التمدد والاتساع وهو ما يقود حتما الى تشكل الحضارة الانسانية الجامعة والتكامل الحضاري ايضا في اطار القانون الطبيعي للوحدة والصراع. وإذا استعرنا تعريف مالك بن نبي للحضارة على انها تساوي : الانسان والتراث والزمن ، فانه من الممكن القول انها ، بعد التحوير، تساوي : الثقافة في الزمن. باعتقادنا ان هذا الاطار المفهومي للثقافة والحضارة من شأنه استبدال المفاهيم السائدة حول الهيمنة الثقافية وصراع الحضارات نحو تغليب مفهوم المشاركة. خاصة وان العالم المعاصر ماض بوتائره المتسارعة والمستمرة التي تجاوزت كل الحدود في كل المناحي وتخطت مسألة الهويات الثقافية والحضارية ضمن عملية تشكل قسرية لحضارة كونية كلانية لا تستند الى امة او ثقافة او هوية بعينها..الخ ، وإنما تستند بمساعدة وتسهيل تكنولوجيا المعلومات الى السلوك الإنساني الكلاني بمعارفه وخبراته في شتى المجالات. وبرأينا فان التنمية المستدامة هي من اهم السمات والميزات العامة لهذه الحضارة الكونية ، خاصة وان اسلوب ونهج التنمية المستدامة تجاوز الدول والحدود والاتجاهات والمذاهب والمعتقدات على انواعها دينية كانت ام فلسفية. فالشرقي والغربي ، المحافظ والليبرالي ، المتدين والعلماني ، الرأسمالي والاشتراكي قد يدعون او يتعايشون مع هذا الاسلوب الذي لا يقتصر فقط على الاقتصاد والسياسة ، وإنما ينسحب على كافة مستويات التطور الطبيعي والإنساني. وفي عالم اليوم من الملاحظ ان اهم الدول والاقتصاديات في العالم مثل الصين وأمريكا واليابان وروسيا وأوروبا وإيران وماليزيا وغيرها ، وبغض النظر لمن كانت الاسبقية في ذلك ، باتت تتبنى في برامجها وسياساتها نهج التنمية المستدامة في تطور وتقدم بلدانها ، الى جانب نزوع قسم كبير منها نحو تطوير التفاهمات الدولية باتجاه استخدام شرائع حقوق الانسان كمرجعية اساسية في حل النزاعات الدولية. هذا التوجه عبر عنه رئيسا ايران وروسيا في مقالين منفصلين نشرا في التايمز الامريكية مع صعودهما الى سدة الحكم كل في بلده في الدورة الحالية. حيث قدم الرئيسان مضمونا واحدا يطالب العالم بحل نزاعاته بالطرق الدبلوماسية استنادا الى مواثيق حقوق الانسان الاممية بديلا للحروب والعنف. بناء على هذا الفهم لا ضير اذن بتسمية هذه الحضارة الكونية المتشكلة بحضارة التنمية المستدامة. حوار ام توازنات؟ لا شك ان الحوار وسيلة لا بد من اللجوء اليها في العلاقات الانسانية عامة، الا ان الحوار ايضا يسعى إلى استبعاد الطرف الأخر كما يقول ميشيل فوكو، وكما ان العلاقات بين الدول تحكمها التوازنات والمصالح فان العلاقات بين الحضارات والأمم وعملية التكامل الحضاري المنشودة محكومة بتلك التوازنات والمصالح. مما لا شك فيه ان مفهوم هنتغتون حول صراع الحضارات والذي يتمظهر كصراع بين الاديان جر في ذيوله مفاهيم حوار الاديان وحوار الحضارات وكأنها ليست آلية وإنما الحل ، لذلك لا بد من تأكيد المؤكد ان الصراع الديني بالأصل صراع مصالح مسكوت عنها ويتم تفسيره بمقتضى هذه المصالح بحسب تعبير الطيب تيزيني. من هنا ودون الحاجة للتفصيل فان اي حوار للحضارات او للأديان لن يؤتي ثمارا في حل اية نزاعات بمعزل عن التوازنات والمصالح. ان مسألة التكامل الحضاري ليست مهمة تنجز بقرار رغبوي او سياسي فقط وإنما هي صيرورة دينامية متواصلة وتخضع لشروط موضوعية تفرضها تحديات الطبيعة والاحتياجات والتحديات الانسانية بمستوياتها المختلفة . هذه الاحتياجات والتحديات مربوطة قسرا بصراع المصالح والتوازنات الذي لا يتوقف هو الآخر ما دام البشر موجودين. لكن رغم الصراعات والحروب والنزاعات الحادة بين الدول والمحاور فان التفاعل بين الحضارات الانسانية وصل في عالم اليوم الى مستويات عالية من التداخل وحتى الى التماهي في جوانب كثيرة ومتعددة. وهذا التداخل من شأنه ان يؤدي الى حالة جديدة فيها كثير من الاستقرار النسبي ، خاصة كلما نجحت التوازنات العالمية الناشئة من تمكين نفسها من خلال التنمية المستدامة المشار اليها سابقا التي تحل بها اشكالياتها وتعزز امكانياتها عل كافة الصعد. فالطريق الى التكامل يبدأ بالتنمية الذاتية على اساس مفهوم التنمية المستدامة التي تستطيع تأمين المصالح وتحسين المعيشة والبيئة وتوفير الفرص الى آخر القائمة ، وبالتالي فرض التوازنات الضامنة لعدم الاقصاء وفرض الاحترام والندية وصولا الى تكريس مبدأ الشراكة كمركب رئيسي للتكامل الحضاري. لا شك ان الجهود العالمية المنظمة تحت مظلة الامم المتحدة بهدف وضع العالم على مسار التنمية المستدامة لم تحقق كثيرا من الاهداف التي حددتها بداية من مؤتمر ستوكهولم في سبعينات القرن الماضي والمؤتمرات التي تلته حتى عامنا هذا (2015) الذي من المفترض ان يشهد اكبر ثلاث قمم عالمية لمناقشة الاهداف الرئيسية للتنمية المستدامة والتي تم تحديدها عام 2012. لكن مجرد المتابعة وطرح القضايا الساخنة على الاجندة العالمية وإشراك جميع الدول ومؤسسات المجتمع المدني والشركات والمؤسسات الطوعية يعطي الموضوع بعدا انسانيا شاملا تحت سقف خطاب مشترك يدعو الى الرخاء والمساواة من اجل النمو المستدام بيئيا ومعيشيا وثقافيا. وان كنا على يقين ان هذه المؤتمرات لن تقدم حلولا جذرية شاملة لمشكلات العالم في ظل التوازنات الحالية ، لكنها بالضرورة تكرس مشتركات الثقافة والحضارة العالمية المنشودة خاصة وان مفاهيم النمو المستدام وحقوق الانسان لا تتناقض مع أي من الثقافات والحضارات الانسانية وتنسجم مع جميع الاديان السماوية والأرضية على السواء ، والاهم من ذلك انها في صلب الاحتياجات والتحديات الحقيقية للناس والمجتمعات الانسانية وتسير بخط مواز مع التطور الحضاري العالمي. في بداية الالفية الثالثة وتحديدا بعد احداث 11 سبتمبر حددت الادارة الامريكية قواعد جديدة للصراع وقالت بوضوح: من ليس معي فهو ضدي ، وبناء على هذا التعميم اعلنت حربا شاملة على الاسلام والحضارة الاسلامية ، ليس فقط من خلال "زلة لسان بوش" وإعلانه انها حرب صليبية ، وانما بشن حروب تدميرية على افغانستان والعراق ادت الى قتل وتهجير ملايين الابرياء وتم تسويقها على انه صراع ديني حضاري بين المسيحية والإسلام ، وهذا ما تظهره بوضوح نظرية هنتنعتون أن هذا الصراع سيكون ذا طابع حضاري: حضارات ضد حضارات ، كما كان الأمر في السابق. الا انه في ضوء احداث العالم في السنوات الاخيرة وتحديدا في منطقة الشرق الاوسط ، ورغم بروز الحركات التكفيرية الارهابية بثوبها الديني تكشف بجلاء ان هذا الصراع صراع مصالح بامتياز ولم يعد بإمكان امريكا ادعاء الصراع الحضاري الديني كما فعلت في السابق. واخيرا قد تكون المرحلة القادمة حبلى بالحروب والصراعات الدامية لكنها تحمل في طياتها بذور تشكل الحضارة الكونية الكلانية الناشئة عن التكامل الحضاري والتفاعل الثقافي الايجابي الذي تفرضه التحديات والحاجات الانسانية. وباعتقادنا ان الحضارات المختلفة ومنها الدينية لن تحكم عل نفسها بالانعزال وانما هي مضطرة بحكم التطور الطبيعي للتفاعل ايجابيا مع هذا المشروع الكوني طال الزمن او قصر.
#خالد_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رسالة مفتوحة الى رئيس البيت الابيض
-
البصرة بين العمالة والحماقة
-
ثلاث سيناريوهات مفترضة لاحداث البصرة
-
الحوار الإيراني الأمريكي والأمن المصنوع في العراق
-
عنتريات السيد الرئيس - احمدي نجاد-
-
صراع كاذب يدور بين إيرانيين
-
استراتيجية بوش ، خلط الزيت بالماء
المزيد.....
-
مقتل واعتقال 76 ارهابيا في عملية فيلق القدس بجنوب شرق ايران
...
-
-الدوما-: مذكرة الجنائية الدولية لاعتقال نتنياهو ستكشف مدى ا
...
-
الداخلية الفنلندية توقف إصدار تصاريح الإقامة الدائمة للاجئين
...
-
الإعلام الإسرائيلي يواصل مناقشة تداعيات أوامر اعتقال نتنياهو
...
-
هذه أبرز العقبات التي تواجه اعتقال نتنياهو وغالانت
-
الأمم المتحدة: إسرائيل منعت وصول ثلثي المساعدات الإنسانية لق
...
-
مقارنة ردة فعل بايدن على مذكرتي اعتقال بوتين ونتنياهو تبرزه
...
-
كيف أثر قرار إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت على دعم
...
-
سفير ايران الدائم بالأمم المتحدة: موقفنا واضح وشفاف ولن يتغي
...
-
سفير ايران بالأمم المتحدة: أميركا وبريطانيا تساهمان في استمر
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|