|
حول التنظير في حقل الإعلام ومجازفاته
نورالدين هميسي
الحوار المتمدن-العدد: 4750 - 2015 / 3 / 16 - 21:26
المحور:
الصحافة والاعلام
في ثنايا هذه الثورة المتسارعة التجدد التي هزت ميدان تقنية الإعلام والاتصال، هناك ما يستدعي حاجة متسارعة التجدد لفهم ما قد يندس وسط التقنية من تحولات في السلوكات البشرية، إن كان ذاك على المستوى الفردي أو على مستوى الجماعات. بظهور الصحف لأول مرة، يرى مارشال ماكلوهان بأن الإنسان تمدّد سياسيا وأضحى يحيا فيما عرف فيما بعد بالدولة القومية لأن الطباعة جعلت الكلمة تنفذ عبر المكان من خلال الوسيط الورقي، وتمكن الإنسان من التحرر جغرافيا والانصياع لوطأة الصوت والشفاهة التي أملت عليه البقاء إلى مقربة لكي لا يخرج من دائرة الجماعة. أما بعد ظهور الراديو والتلفزيون، فقد تواصل التمدد على حساب الجغرافيا، ولكن أكثر على حساب الزمن، فمولد البث الحي كان بمثابة رحلة سحرية إلى الأماكن البعيدة التي تحتضن الحدث في زمن قياسي لا يتجاوز الثواني، لتحوّل هذه الرحلات السريعة العالم إلى قرية صغيرة يسهل كثيرا التنقل بين أرجائها. كانت نظرية ماكلوهان هذه نموذجا عن تنظير ذي طابع خاص: فني، جمالي واستشرافي لما ينتظر البشر في حالة تواصل الثورة التقنية، ولكن قبل مالكوهان وبعده كانت هناك الكثير من المحاولات لتفسير ما قد يقدمه الإعلام في حياة الأفراد والجماعات، بعيدا عن قراءات ماكلوهان المفعمة بالشعرية. على العموم يمكن تصنيف التنظير في حقل العلوم الاجتماعية وحقل علوم الإعلام الذي هو خاصتنا إلى مجموعة توجهات كبرى ترتكز كل منها على مبدأ عام للتفسير، لن نستخدم هنا مفهوم "الباراديغم" الذي صاغه توماس كوهن لأنه من كثرة استعماله تحول إلى لفظ مبتذل إذا استعرنا بعض مفاهيم ميشال فوكو، وبإمكان أيٍّ كان أن يستعيض بمفاهيم أخرى من حقول علم اجتماع المعرفة، تاريخ العلوم أو الإبستيمولوجيا. يمكن هنا تحديد عدة توجهات كبرى للتنظير:
التوجه الوضعي وسلطة الموضوعية: يعتمد هذا التوجه على الأسس الأولى للفلسفة الوضعية التي رسمها أوغست كونت قبل أن تتطوّر على يد دوركايم، باريتو، ماكس فيبر، وتتحول إلى خلاصات جاهزة في أعمال كل من تالكوت بارسونز، روبرت ميرتون وبول لازارسفيلد. تقتضي الإلزامات المنهجية لهذا الباراديغم التقيد ببعض الأصول: الموضوعية بوصفها تجاوز الموضوع لذات الباحث التي لا تتعدى مهمتها ما يمكن أن نسميه "قراءة" مبنية على مؤشرات مستنبطة من الواقع، الاعتماد على التحليل النسقي للمؤسسات وعلاقات التعاون بينها، بحيث تكون الظاهرة نتاجا للتعاون وليس جزءا من النسق، تحديد نماذج بنائية لسلوك الاتصال تنطلق من جرد للدوافع وتنتهي إلى إبراز الأهداف مع الانتباه للمحطات التي تعدل وتعيد توجيه السلوك تبعا لمعايير معينة. ساهم هذا التوجه بعمق في تدشين البحوث الأولى للإعلام، وكانت أغلب النتائج احتفائية بالظاهرة الجديدة وتداعيا مطلقا لما يلفظ به الواقع من تداخل وتعاون بين المؤسسات الاجتماعية. اقترب هذا التوجه في بعض النقاط من التحليل البنيوي الذي اشتهرت به اللسانيات الروسية والفرنسية، غير أن هذه الأخيرة سرعان ما انهارت من جراء صلابة مفهوم البنية وعدم قدرته على إنتاج تفسيرات لبعض ظواهر الاتصال، وأبرزها عجز النصوص عن تثبيت المعنى.
التوجه النقدي والباحث المسؤول لازال هذا التوجه يمتلك ميزة خاصة به، فهو الأقرب من الناحية العملية إلى تمكين الباحثين من تملك الإحساس بالمسؤولية العلمية. إن نقطة ارتكاز هذا التوجه تبرز بوضوح في القراءة العكسية للواقع، فعوضا عن وصف المجردات بما يسمى "موضوعية" و"انسحابا للباحث إلى خارج الظاهرة"، فإن النقد يفترض "الذاتية" و"التورط الكامل للباحث فيها"، بحيث يكون مسؤولا عن قراءة ما يرى وتفسير المخفيات من علاقات القوة والسلطة والهيمنة، والغايات المندسة داخل وخارج الخطابات التي يقدمها الإعلام. كانت مسألة الملكية بمنظورها الماركسي في قلب النقاشات التي تولد عنها النقد، كما شكل الوعي سؤالا حرجا واجهه خطاب الإعلام بالمقارنة مع الخطابات الأخرى كالأدب. إضافة إلى هذا، توغل النقديون في بحث مسألة التقنية في حد ذاتها وما يمكن أن تقدمه للبشر، وكان الرأي الغالب المتقاسم بين هربرت ماركيوز، والتر بنيامين، جال إيلول وبرونو لاتور هو أن الاعتماد المفرط على الوسائط "جعل الإنسان ينسى نفسه" كما يقول هايدغر، وحول العلاقات إلى نوع من العقلانية المفرطة التي قتلت كل معنى روحي وجمالي في الإنسان وجعلت منه شيئا كسائر الأشياء.
التوجه البنائي والبعد التاريخي الخفي إن ميزة هذا التوجه هي قدرته الكبيرة على اعتماد مستويات تحليل مفتوحة من الأنساق الصغرى إلى أكبر الأنساق حجما، وعنايته بتدخل العامل التاريخي في تشكيل الظواهر تفتح المجال لقراءات عميقة جدا في تشكل ظاهرة الإعلام وأدوارها في بناء مشتركات الجماعة ورموزها، وهنا يمكن تصنيف المدخل البنائي constructivism ومدخل التفاعلية الرمزية symbolic interactionism. يهيمن هذا التوجه الآن على شرائح واسعة من أبحاث الإعلام، وبالإضافة إلى فعاليته في الكشف عن البعد التاريخي الخفي الكامن داخل العلاقة بين الإعلام والجماهير، فإنه يسمح للباحثين من الناحية الإبستيمولوجية بالاستعانة بخبراتهم الخاصة وتجاربهم، ومن هنا أصبحت المعايشة والتأويل أداتين مناسبتين لفهم الإعلام وطرق بنائه للحقائق على معلم زمني معين. كان كينيث بولدينغ ضمن الرعيل الأول الذي أخرج هذا التوجه من تطبيقاته الأنثروبولوجية في المجتمعات التي توصف بالبدائية، غير أن إسهامات هارولد غارفينكل وإرفينغ غوفمان اتجهت بالتحليل البنائي إلى الحياة اليومية، وهنا برزت إسهامات الإعلام بمختلف أدواته في تشييد الحقيقة الاجتماعية وتسطير الخطوط الكبرى التي يفكر بها الناس في حياتهم. التوجه المعياري وحقول الألغام هناك توجه آخر يجب الانتباه لمساعيه العلمية، إنه التوجه المعياري الذي وإن كان يتحدث عن تقديم نظريات فإنه من الناحية الإبستيمولوجية والمنهجية يستعمل أدوات جديدة للبحث. يتفق المعياريون على الانطلاق من بديهية أساسية وهي أن الواقع لم يكن سوى فكرة تنتهي بشكل قصدي إلى سلوكات جيدة، وهذه السلوكات هي ما يسمى بـ"البراكسيس" Praxis، هنا يقلب جورغن هابرماس التصور الوضعي للنظرية ويؤكد بأن هذه الأخيرة أسبق على البراكسيس، وليس العكس، فوصف السلوك باعتباره وضعا قائما كما يرى الوضعيون مسبوق قبل ذلك بأفكار مؤطرة للسلوك، وهذه الأفكار تشكل مجتمعة ما يسمى نظرية. إن مهمة الباحث ليست البحث في النظرية أو في البراكسيس، وإنما هي وضع أسس فكرية للسلوكات الواجبة داخل المجتمع، وبالتالي فإن الحديث لا يجري حول نظرية، وإنما حول "ما بعد النظرية" meta-theory، أي حول ما أصبح يسمى في المنهجيات المعاصرة بـ"البرنامج" أو "المشروع". بهذا يمكن أن نصف ما قدمه جون روالز في نظرية العدالة بالأقرب إلى مشروع للعدالة منه إلى نظرية. أمام هذه التشييدات النظرية العملاقة قد يكون التساؤل عن موقع الفهم العربي لظاهرة الإعلام أشبه بال لأنه لا يمكن بأي حال الحديث عن نظرية عربية مكتملة الأسس، وما يروّج حاليا لا يعدو أن يكون أوهاما نظرية أو أحلاما مشروعة للحاق بركب الفهم العالمي للظاهرة، وهذه الأحلام تحتاج إلى تجسيد عملي من خلال البحث والنقاش والإنصات للنقد، لأن النظرية المنغلقة على ذاتها، تلك التي ترفض الخضوع لمنطق الدحض والصمود، لا تستحق وصف النظرية، بل هي عداء لروح النظرية، إنها ممارسة سياسية متنكرة وانتكاسة مخزية إلى عبادة الأوثان.. إنها أشعار لعاشق خجول عبث به التوحد.
#نورالدين_هميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في روما.. يختبر السيّاح تجربة جديدة أمام نافورة -تريفي-
-
لغز مرض تسمم الحمل الذي حير العلماء
-
-بايدن قد يدعو إلى إقامة دولة فلسطينية قبل انتهاء ولايته- -
...
-
قلق على مصير الكاتب صنصال إثر -اختفائه- بالجزائر بظروف غامضة
...
-
هل نحن وحدنا في الكون؟ ماذا يقول الكونغرس؟
-
مشاهد لآثار سقوط صواريخ لبنانية في مستوطنة كريات أتا (صور +
...
-
-حزب الله-: إيقاع قوة إسرائيلية بين قتيل وجريح
-
مشاهد لـRT من موقع الضربة الإسرائيلية لمنطقة البسطة الفوقا ف
...
-
مجموعة السبع ستناقش مذكرات التوقيف الصادرة عن الجنائية الدول
...
-
لماذا يضاف الفلورايد لمياه الصنبور وما الكمية الآمنة؟
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|