شيرين فتحي
الحوار المتمدن-العدد: 4711 - 2015 / 2 / 5 - 08:21
المحور:
الادب والفن
كزانتزاكيس وإغواءات النبوة
الإغواء الذي تحدث عنه كزانتزاكيس في روايته الإغواء الأخير للمسيح, كان إغواءهُ الأخير ولكنه كان أخيرا لمجموعة من الإغواءات الحياتية التي لا تنتهي.
لم أقرأ لكزانتزاكيس اليوناني من قبل, ولكني لم تبهرني كتابات أحد عن الله كما أبهرني هو, هو الذي لم يكن يفصله عن جائزة نوبل غير صوت واحد حصده ألبير كامو لينتزع الجائزة منه عام 1956.
ابتدأت اغواءات المسيح أو لنقل اغواءات أي مخلوق بشري مع بداية إدراكه تقريبا, مع بداية القدرة على التفريق ولو ظاهريا ما بين الخير والشر, لأن الرؤية تظل مشوشة وضبابية طوال الوقت. فلا أحد يمكنه أن يجد الحدود الفاصلة ما بين الخير الكامن في داخله والشر الموجود بالداخل أيضا, هكذا نحن معجونون من الخير والشر والخوف والرغبة وعدة متناقضات لا متناهية. ليست لدينا القدرة التامة على التمييز, فتارة يأتينا الملاك فلا نصدقه ونظنه شيطانا وتارة يأتينا الشيطان فنرحب به على أنه ملاكنا الحارس.
أفضل ما برع فيه نيكوس كزانتزاكيس هو وصف الله أو بتعبير أدق وصف العلاقة ما بين العابد والمعبود, الصانع والمصنوع , ذاك الصانع المدعوكة يديهِ في الطين طوال الوقت من أجل صناعة المزيد منا . وهل هناك أعظم من أن يمس الله بيديه العظيمتين بعض الطين كي يحدد أشكالنا؟, ثم ينفخ فينا بعد ذلك من روحه المقدسة ليمنحنا بضعا من الحياة!!. أي عظمة تلك التي نستحقها حتى ينفق الله علينا ولو بعض الوقت؟ كيف يرانا الخالق؟ كيف ينظر إلينا بعدما تدب في أجسادنا تلك الروح التي منحنا إياها؟
كزانتزاكيس نفسه كان حائرا في الإجابة على تلك الأسئلة, فتارةً يرى الله هو اليد الرحيمة الوحيدة في هذا العالم, وتارةً أخرى يراه هو عين القسوة والجبروت.فنجده يتحدث بخيال بارع عن الله في قوله مثلا: "تصور الحيرة التي لابد أن يمر بها الرب, إن السمك يصرخ يارب لا تعمني فأدخل إلى شباك الصياد, بينما يصرخ الصياد اعم السمك يارب كي أصطاده, فإلى أيٍّ منهما ينصت؟ إنه أحيانا يلبي طلب السمك وأحيانا أخرى يلبي طلب الصياد, وبهذه الطريقة يسير العالم."
من أجمل اللحظات التي عبر عنها كزانتزاكيس في روايته كانت لحظة اكتشاف المسيح لنبوته, ووصفه للصراع الرهيب الذي كاد أن يقضي عليه في اللحظات التي تأكد فيها من وجود الصوت الذي سيظل رفيقا له فيما بعد. فابن مريم يرفض في البداية تصديق الصوت, حتى يصل به الأمر لأن يطلب منه أن يدعه وشأنه وأن يطلب من ربه أن يبحث لنفسه عن نبي آخر سواه, وأنه سوف يظل يصنع الصلبان إلى الأبد حتى يُصلَب عليها كل مسيح يختاره الرب. لقد برع الكاتب هنا وبشدة في إظهار المعاناة الأولى لأي رسول وربما لأي إنسان فكلنا في النهاية رسل محملين برسالات ومهام علينا القيام بها على هذه الأرض حتى يستقيم معنى وجودنا عليها. فالمعاناة الأولى أو الإغواء الأول هو أن تصدق نفسك, أن يصدق ابن مريم أنه المسيح المنتظر, المخلِّص الذي انتظره الكثيرون والذي كان هو نفسه في انتظاره. فكل الأنبياء قبل بداية نزول الوحي إليهم لم يكونوا سوى بشر عاديين, وحتى بعد نزول الوحي وبعد كشف بعض الحجب عنهم, لا يرتقون إلى مرتبة أخرى فوق مرتبة البشر "قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثلُكُم يُوحَىَ إلَّيَّ" فالناس على مر كل تلك العصور الفائتة كانوا لا يقتنعون بفكرة أن يكون الرسول بشرا عاديا منهم كما نجدهم يتساءلون باستنكار " أَبعَثَ الله بَشَرًا رَسُولًا". وقد كان ذاك المعنى الذي عبر به كزانتزاكيس عن البشرية المطلقة للمسيح هو ما فتح عليه أبواب الجحيم من رفض بعض الكنائس لكتبه والمطالبة بمنعها, ففي فرنسا مثلا قامت مجموعة من المتعصبين الكاثوليكيين بإضرام النّار في دار للسينما عام 1988، احتجاجاً على عرضها الفيلم الذي أخرجه المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي والمستوحى من هذه الرواية.
بعدما تهدأ حدة الصراعات في صدر ابن مريم, يدخل في محاولات عديدة لتفسير وفهم أفعال الرب معه, لنجد المؤلف يحكي في أحد المقاطع عن حال المسيح : "لعل مخالب الرب كانت طوال تلك السنين تتشبث به, لكي تعمل بالضبط على جره إلى حيث يتجه الآن بملء إرادته متحررا من المخالب, مما يعني أخيرا أن رغباته قد بدأت تتطابق مع رغبات الرب"
في تلك الجمل البسيطة الفائتة, تستطيع أن تدرك مدى عظمة إيمان المؤلف وسعادته بإنصياع المسيح أو الإنسان عموما لرغبات ربه, بعد سنوات من الخوف والبعد والضلال, وربما هذا هو ما يرنو إليه كل مؤمن, أو لنقل كل باحث عن معنى حقيقي له . أن يتوافق معناه مع المعنى الذي أراده الله له, هنا فقط يحدث التناغم الحقيقي للإنسان وتتحقق أقصى طموحاته وسعادته.
تعرضت الرواية للعديد من الإغواءات البشرية التي يمر بها أي انسان عادي من جوع وفقر وخوف وحتى العشق الذي حكى عنه المؤلف باستفاضة في قصة المجدلية التي حولها حبها للمسيح إلى تابعة مخلصة له ولربه, لتنتهي الرواية بوصف الإغواء الأخير الذي يتخيل المؤلف أن المسيح قد تعرض له في النهاية, حين فاقت آلامه وأوجاعه قدرة احتماله فرفعه الألم إلى لحظة من الحلم, شبيهة بلحظة انتشاء ورضا تام لكل ما أنجزه, فكما يذكر المؤلف أن المسيح كان على دراية مسبقة بموته وبتخلي كل أصدقائه ومحبيه عنه " لقد حملَ عنّا أوزارنا وجُرح تكفيرا عن آثامنا, كان مكروبا لكنه لم يفه بكلمة, وتابع تقدمه مطرودا, منبوذا من الجميع, دون أن يبدي مقاومةً كحملٍ مقادٍ إلى الذبح" إلا أن الكاتب أراد أن يخبرنا أن المعرفة شيء والتنفيذ نفسه وتحمل آلام التعذيب والموت هو شيء آخر تماما.
يتخيل المسيح في النهاية أنه لم يمت, أنه استطاع أخيرا أن يحيا حياته الطبيعية كأي مخلوق آخر لم يقع عليه اختيار الله, فتزوج وأنجب العديد من الأبناء,أحس بالسعادة والصفاء المرجو,لم يعكر صفو حلمه سوى هؤلاء الذين اتهموه بالجبن لأنه لم يمت في سبيل تخليصهم كما كان يزعم, ليفيق بعدها ويتأكد أن جسده لازال معلقا فوق الصليب, يئن وينزف من شدة الأوجاع وكثرة الجروح, فتطمئن روحه وتنعم في نعيمها الأبدي مقاوما إغوائه الأخير.
#شيرين_فتحي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟