عادل شكيب محسن
الحوار المتمدن-العدد: 4657 - 2014 / 12 / 9 - 10:29
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ما زلت اتذكر عندما كنا نغني بلاد العرب أوطاني, كيف كنا نقف بخشوعٍ وأملٍ كبير بأننا ماضون حتماً لنصبح بلداً واحداً لا تفرقنا فيه الحدود ولا تشتتنا الاعلام ولا تباعدنا ما سميت بالعواصم العربية. ما زلت اتذكر جيداً ذلك الشعور العربي الذي من الصعب ان يوصف حينما كان النشيد يعلو صارخاً (بلاد العرب اوطاني), فننسى الحدود والحواجز ونعيش للحظةٍ تحت رايةٍ عربيةٍ واحدة تغطي مساحة تمتد من الخليج العربي شرقاً الى المحيط الاطلسي غرباً. فمن منا لم تهتز مشاعره لهذا النشيد الذي يدعو الى الوحدة العربية ويركّز على التعليم والحفاظ على التقاليد والثقافة العربية. هذا النشيد الذي تباهى بأنه لا وجود لحدود تفرقنا ولا دين يباعدنا, وافتخَرَ بلغتنا وحضارتنا التي طالما جمعتنا وكانت نبراساً ورايةً على مستوى العالم ككل.
ما زلت اتذكر عندما يبدأ النشيد ببلاد العرب اوطاني من الشام لبغدان ومن نجدٍ الى يمنٍ الى مصر فتطوان. فاشعر وكأنني اعيش في دمشق وبغداد وجدة وصنعاء والقاهرة والرباط في نفس الوقت. وكأنه للحظةٍ تختفي الحدود والحواجز والجمارك وتأشيرات الدخول, وأطوف على هذه البلاد من دون ان يسألني احد عن جواز سفري او عن سبب الزيارة. لكن هل يا ترى مازال لهذا النشيد اي ارتباط مع واقعنا الحالي ؟؟؟ هل حقاً ما زالت بلاد العرب اوطاني ؟؟؟ هل تغير وجه بلادنا العربية ؟؟؟ هل غابت صورة العربي المفتخر بعروبته لتحل محلها صورة الاعرابي المتباهي بطول لحيته ؟؟؟ هل نحن كما كنا عندما عُزف هذا النشيد لأول مرة منذ اكثر من اربعين عام ؟؟؟ اسئلةٌ كثيرةٌ تدور في الفكر عندما ننظر الى واقعنا العربي الذي سكنته الحروب بكل ما فيها من تدميرٍ وتهجيرٍ وتخريبٍ. واقعٌ لا تستطيع العين الّا ان تبكي بحرقةٍ لما وصلنا اليه. فالدماء في كل مكانٍ والطائرات تقصف والسماء تمطر هاوناً والرصاص يمرّ من بين النوافذ من بعد ان هجرت الطيور والعصافير بلداننا. فكيف للعين ان لا تبكي دماً والشام تتخبط بدماء وأشلاء ابناءها الذي اغتالتهم يد الاجرام والتكفير والارتهان للخارج !!! كيف لا نبكي دماً على العراق الحبيب الذي طالته يد الغدر من العرب قبل الغرب !!! وكم هو عميقٌ جرح اليمن, وآلم مصر, ووجع ليبيا, وتنهيدات تونس, وغياب بلاد نجدٍ بعد ان سُلبت من قبل ملوكٍ لا يجيدون اكثر من رعي النوق والإبل. امّا الجزائر, فقلبي عليها دوماً, فهي التي عانت من مؤامراتٍ حيكت ضدها باسم الاسلام تارةٍ وباسم الديمقراطية التي ادمت الكثير من الشعوب تارةً اخرى. واقعٌ لا بدَّ لكل عربي ان يشعر بالحسرة والأسى عليه.
ايضاً ما زالت كلمات النشيد تعيش في داخلي صارخةً (فلا حدٌّ يباعدنا ولا دينٌ يفرقنا, لسان الضاد يجمعنا بغسان وعدنان). لكن ما كان كاتب هذا النشيد ليقول لو رأى تلك الحدود قد ضاقت علينا أكثر وأكثر, لتصبح داخل المدينة الواحدة والحي الواحد والبيت الواحد !!! ما كان حال الشاعر ليقول لو رأى بلادنا الان وقد اصبحت عبارة عن اماراتٍ ودويلاتٍ محكومة من قبل عصاباتٍ قادتها من الشيشان والقوقاز وكهوف تورابورا !!! لقد كانت الحدود عندما انشد هذا النشيد لأول مرة, عبارة عن سياج شائك مهين يفصل العربي عن العربي. اما الان فأصبحت هذه الحدود سياراتٍ مفخخة وقناصين وأحزمةٍ ناسفة.
وبالنسبة للدين الذي من المفروض بأنه لا يفرقنا (على رأي الشاعر), فكثيراً من الاحيان ما اصبح الدين هو السبب الوحيد والكافي لقتلك وقتلي وقتل المئات في واقعنا الحالي. فلو عدنا بالتاريخ قليلاً الى الخلف, اتذكر بأنني لم اسمع بكلمة سني وشيعي إلا من بعد الاحتلال الامريكي للعراق, ومن المعروف بان هذا الاحتلال ما كان ليأتي لولا الدعم والتمويل وتقديم كل اشكال المساعدة من قبل حكام النوق والبعير. امّا الان ومن بعد اشتعال المنطقة بما اسموه بالربيع العربي, والمدعوم من قبل أولئك الحكام الذين ساهموا في احتلال العراق, أُضِيف الى قاموس المصطلحات الطائفية كلمات جديدة فيها الكثير من العنف والإجرام والقتل والتكفير, مثل الوهابية والسلفية والاخوانجية والداعشية. لتغيب كلمة الاسلام الحق ويحل محلها مصطلح الطائفة الناجية. فلا عدت ادري اذا ما كان الدين يباعدنا او يجمعنا في واقعنا الحالي !!!
امّا لسان الضاد الذي من المفروض بأنه يجمعنا, يصرخ من قلب جامعةٍ يقال بأنها جامعة الدول العربية مشرّعاً غزو امريكيا للعراق, ومطالباً الغرب بضرب ليبيا, ومتوسّلاً التدخل الدولي ضد سوريا. هذا اللسان الذي سرعان ما يصبح اخرس عندما تغير الطائرات الاسرائيلية على غزة. وإذا ما تجرأ ونطق, قال بان اسرائيل ليست بالذئب بل نحن نعاجاً. فعلاً واقعٌ مريرٌ بجامعةٍ رهنت نفسها لخدمة المشروع الغربي من تحت عباءاتٍ تفوح منها رائحة النفط والدولارات التي ملأت جيوب اشخاصٍ حرصوا ان يكونوا وحدهم المحتكرين للسان الضاد المسموع على المنابر وشاشات التلفاز ومحطات الراديو والمراقص والمسارح وخمارات اوروبا.
وعندما نصل بالنشيد الى (لنا مدنية سلفت سنحييها وان دثرت, ولو في وجهنا وقفت دهاة الانس والجان) لا بد ان نتساءل كثيراً, كيف سنحييها وبيننا من يستقوي بالأمريكي والشيشاني والقوقازي ضد كل ما هو عربي تحت راياتٍ ومسمياتٍ متنوعة ؟؟؟ كيف سنعيد حضارتنا ومدنيتنا التي سلفت وهناك بعض الجماعات التي تحاول ان تعود بنا الى عصور ما قبل التاريخ, وحكّامٍ سلّموا مفاتيح ممالكهم وقصورهم وغرف نومهم للأجنبي ؟؟؟ لا بد اولاً من ترك التبعية للأجنبي والوقوف بوجه الحركات الظلامية حتى نتمكن من احياء حضارتنا التي كانت في يومٍ من الايام شمساً تنير العالم بالعلم والمعرفة والأدب والفن والأخلاق العالية.
وعندما ينتهي بنا النشيد قائلاً (فهبوا يا بني قومي الى العلياء بالعلم), هنا اشعر بالكثير من الخوف, بل برعبٍ لم اشعر به من قبل. فأي علمٍ هذا الذي نحن نتجه اليه الان ؟؟؟ هل هو علم الاجرام الديني وإطالة اللّحى, او علم التاريخ المزوّر الذي يحكي عن بطولات وملاحم خرافية, او علم كبت الحريات ومحاربة التحرر الفكري, او علم تبجيل السلاطين وشتم الاديان ؟؟؟ اي علمٍ هذا الذي نحن نسير اليه الان من دون وجود مخابرٍ وصحفٍ وكتبٍ وأقلامٍ حرة !!! اي علمٍ هذا وسجون الظلم مملوءة وسيوف التكفير مشحوذة !!! انه علمٌ اقل ما يمكن ان يقال عنه بأنه ممنوعٌ من الصرف. فنحن للأسف على هامش التاريخ والحضارة وبعيدين كل البعد عن العلم الذي تنهض به الشعوب وتبنى به الدول. نحن نعيش في علم الفوضى الذي مزّق مجتمعنا ودمّر هويتنا وجعلنا شعوباً متخاصمة بدلاً من ان يرتقي بنا الى مجتمع الانسانية والحضارة التي طالمنا تغنينا بها وحلمنا ان نصلها في يومٍ من الايام.
اخيراً اقول قد يكون حاضرنا يدعو الى التشاؤم ويرينا العالم بلونٍ واحدٍ هو اللون الاسود فقط. لكن سأحاول ان اكون متفائل قدر الإمكان, فهذه الفترة الظلامية التي نمرّ بها, قد مرّ بها من قبلنا الكثير من الدول التي نراها الان متطورة ومتحضّرة ورافعة لراية الانسانية وحقوق الانسان في عالمنا المعاصر. فكلنا قرأنا عن فترة الحروب الاهلية والدينية التي عاشتها اوروبا قبل وصولها الى عصر النهضة, ايضاً الحرب الاهلية في الولايات المتحدة الامريكية ما زالت حاضرة في اذهاننا بما رافقها من مئات القتلى وتدميرٍ للعديد من المدن جراء المعارك التي اشتعلت بها امريكيا وقتها. فأتمنى ان تكون هذه المرحله التي نعيشها الان ما هي إلّا مرحلة المخاض التي ستفضي بنا الى عالمٍ عربي موحد على فكرة بلاد العرب اوطاني, من بعد ان ارتوت حاضرات التراث والتاريخ العربي العريق من دمشق وبغداد والقاهرة بالكثير من الدماء البريئة التي سالت في وجه مشروعٍ ظلامي اتّسم بلحيةٍ طويلة وعباءة نفطٍ مهتريئة لكثرة ما داست عليها اقدام الامريكي. وكما علّمنا التاريخ, فردّة الفعل دوماً تكون اقوى من الفعل نفسه. فلا بد ان تنتهي هذه الظلامية بكل من يمثلها من ملوكٍ وشيوخٍ وأقزامٍ, لتعود دمشق وبغداد والقاهرة كما كانت دوماً نبراساً للحضارة والتألق والتقدم الفكري. فمن يدرس تاريخ العرب سيعرف جيداً بان هذه العواصم هي التي صنعت تاريخ العرب المجيد, وهي التي ستنتقل بنا الى عالم الانسانية والحضارة والتقدم, ولو كان الثمن الذي ستدفعه هو سيلٌ من الدماء الطاهرة التي ستطفيء حتماً حقد اعداء الانسانية مهما طال الزمان او قصر.
عادل شكيب محسن
2014
#عادل_شكيب_محسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟