ساطع هاشم
الحوار المتمدن-العدد: 4633 - 2014 / 11 / 14 - 08:42
المحور:
الادب والفن
الناس في انحاء العالم على درجات مختلفة من التفاؤل والتشاؤم حيال مناهج العلم ونتائجها وامكاناتها في حل او فهم معضلات العصر . المتشائمون في الدول المتقدمة يقولون باننا ضحايا لنجاحات العلم والتكنلوجيا وقد اصبحنا اسرى للادوات والمخترعات والاجهزة التي صنعتها الثورة العلمية والتكنلوجية , وفي شرقنا المتخلف فقد قادت حركة الاخوان المسلمين وعصابات الوهابية والخمينية وعموم حركات الاسلام السياسي بجنون غير مسبوق في تاريخ الفكر العربي والاسلامي حروبهم ضد العلم والمعرفة , وسخروا المنجزات السلمية للتكنلوجيا لاهداف بربرية وعنصرية , وهذه احط واقسى اشكال النظرة التشاؤمية والسوداوية للحياة وللتقدم والمعرفة والعلم , ولاتوازيها غير الفاشية الايطالية والنازية الالمانية في وحشيتها .
بيد ان المتفائلون ولحسن الحظ مازالوا الاكثرية في هذا العالم , فهم القائلين بان الاشياء التي لايمكن معالجتها اليوم علميا فمن الممكن ان تعالج مستقبلا ويستندون في تفاؤلهم هذا على الانجازات العلمية والدور الريادي الذي يلعبه العلماء في تحسين وتطوير حياة البشر وحل مشكلاتهم , وحتى من بينها تلك المشكلات الاخلاقية ايضا , والتي تعتبر تاريخيا من ميادين الفلسفة والادب والفن , مثل ماهو الصالح والطالح وماهو الصحيح والخطأ في المجتمع او الظواهر الاجتماعية الشاذة بالمجتمع مثل الاغتصاب والقتل وانواع السرقات او مشاكل انسانية مازالت تعتبر جرائم شرف في غالبية مجتمعات العالم مثل المثلية والمعوقين وغيرها الكثير .
جميع هذه الظواهر توضع الان على طاولة التشريح في المختبرات العلمية , وتدرس بعلاقتها بتركيبة الدماغ البشري الذي يعتبره العلماء اعقد بناء وتركيب في الكون , وتطور الجينات والصفات والانواع , ويجري الحكم عليها وتبرير هذه الاحكام من خلال العلوم المختبرية الصرفة كالفيزياء والاحياء والكيمياء مثلا , واذا كان هناك اي سؤال اوقضية لايمكن ردها او ارجاعها الى الحل العلمي او المختبر العلمي فهي غير جديرة بالنقاش ولا تعتبر مشكلة جادة تستحق الدرس , هذا هو الرأي السائد في اكثر المجتمعات المتطورة , وهذا لايعني الغاء او انكار الاسباب الاقتصادية اوالانسانية من هذه البحوث , بل انها تسير بالتوازي ضمن منهج العلوم الحديثة , حيث لايمكن عمليا الفصل بشكل قاطع بين العوامل الاجتماعية , والايديولوجية , والعلمية , والتكنلوجية , لان تاثيرها متبادل .
وتنتمي الافكار والنظريات التي توجه العقول المبدعة للحضارة الانسانية المعاصرة اليوم الى مايطلق عليه باسم العلوم الحديثة او العلوم غير الكلاسيكية او غير النيوتنية – نسبة الى العالم نيوتن / الاب الروحي للعلم الكلاسيكي - , والصفة المشتركة بينها جميعا هو تخّيُلها للعالم والمحيط على اساس انه متكون من اربعة ابعاد او اكثر , وليس عالم ثلاثي الابعاد كما تصوره قوانين نيوتن المعتمدة على هندسة اقليدس , وكما اعتقد به مفكروا القرن التاسع عشر ومن بينهم المثاليون والماديون الديالكتيكيون على السواء , اوكما نعيشه في تجربة الحياة اليومية.
وبسبب حساب هذا البعد الرابع بدرجة رئيسية , فان هؤلاء العلماء قد توصلوا الى الاختراعات والاكتشافات النووية والالكترونية والكهرومغناطيسية التي تغطي سكان العالم المعاصر- والتي يعتبرها المتشائمون سجون- , وانفصلوا عن قوانين نيوتن وهندسة اقليدس وعموم العلم الكلاسيكي الميكانيكي التي ترى العالم مسطحا بثلاثة ابعاد , وقدموا تعريفات جديدة وغريبة للمادة والروح والحياة باسرها .
يعود اكتشاف البعد الرابع الى بداية القرن التاسع عشر الذي شغلته الثورة الصناعية الاولى والاتها ومكائنها البخارية , واستمر تطور هذه الفكرة الى ان وصلت اعلى مستوى لها في النصف الثاني من ذلك القرن في مرحلة اختراع الكهرباء او الثورة الصناعية الثانية , حتى بلغت ذروتها مع العالم اينشتاين في اطروحته الشهيرة – النظرية النسبية الخاصة سنة 1905 – التي ربط فيها بين الزمان والمكان في وحدة واحدة , وقال ان العالم الذي نعيش به يتكون من اربعة ابعاد يشكل الزمان بعده الرابع اضافة الى الابعاد المعروفة الاخرى – الطول والعرض والارتفاع او السمك – وينكمش فيها الزمان اذا عُبر المكان بسرعة هائلة , ثم جاء بعده استاذه عالم الرياضيات منكويسكي سنة 1908 - والذي رفض ان يقبله كطالب دكتوراه عنده في وقت سابق ووصفه بانه كلب كسول - واكد نظريا صحة ما جاء به اينشتاين وقد وضع مصطلح فضاء سماه - الزمكان - ولم يرضى في البداية اينشتاين بهذا المصطلح لكنه وافق بعد ذلك خاصة بعد وفاة منكويسكي سنة 1910 , وبهذا فقد انسحب كل المجد الى اينشتاين , لاسيما وانه مبتكر معادلات حركة الأجسام في نظريته لتكافؤ الطاقة والكتلة والتي تقول : ان الطاقة تساوي حاصل ضرب الكتلة في مربع سرعة الضوء , وايضا تقديمه لمفهوم جديد للجاذبية يختلف عن النيوتنية , وعلى حسب علمي فمازالت كيفية تفاعل الضوء والمادة لغزا محيرا , وقد تمت البرهنة التجريبية على صحة اكثر من تسعين بالمئة لحد الان من نظرية اينشتاين , التي تفرعت عنها العديد من نظريات الفيزياء الحديثة لاحقا , والتي بفضلها دار غاغارين حول الكرة الارضية ووضع ارمسترونغ خطواته على القمر .
من الصعب التفكير والتخيل بالابعاد الاربعة اذا لم تكن لدينا قدرات في مستوى معين في الرياضيات والفيزياء , والسبب لان المكان والزمان الذي نعيش به في حياتنا اليومية يختلف عن المكان والزمان الذي يتخيله الرياضيون , لاننا لانرى الزمن وهو البعد الرابع في نظريات الفيزياء الحديثة , لان الدماغ البشري مصمم لرؤية عالم ذو ثلاثة ابعاد فقط , لهذا فان الوسيلة البشرية الوحيدة – لرؤية – الزمان كحقيقة ملموسة او تخيله كصورة تجريدية هي الرياضيات والفيزياء , ومن خلالهما يمكن تصويره فنيا ايضا وايضاحه بالرسم والتصميم كما حاول ويحاول باستمرار الرسامون والنحاتون حول العالم من المهتمين بربط العلم بالفن .
لذلك فلابد هنا من التنبيه الى هذا الفارق الاساسي والمهم وعدم الخلط والالتباس , في ان هناك تصوران مختلفان لما يمكن ان يكون عليه البعد الرابع :
الاول:علم الرياضيات يتصور الابعاد العليا التي يزيد عددها عن ثلاثة على كونها ابعاد اضافية في المكان
الثاني:علم الفيزياء وعلوم الفضاء فان تصورهما للبعد الرابع ومعناه هو الزمن
لقد كان التصور الوحيد للبعد الرابع وحتى اثبات صحة نظريات اينشتاين سنة 1919 قد تم من خلال علم الرياضيات الذي صوره على كونه بعد مكاني فقط مثل الطول او العرض (ومازال العديد من العلماء يضعون نظرياتهم على اساس هذا لبعد المكاني) وقد شغلت فكرة الابعاد الاربعة المكانية للعالم , ليس علماء الطبيعة والرياضيات فقط بل عقول وخيال الكثير جدا من المثقفين والكتاب والفلاسفة والفنانين منذ اول عالم رياضيات قال بها وهو الروسي لوباتشيفسكي سنة 1828 ولحد الان , وقد كتب عنها المئات من المقالات والروايات والكتب منذ القرن التاسع عشر , لكن الغالبية اليوم تعتبر البعد الزماني كما جاء في النظرية النسبية – الزمن - هو البعد الرابع الوحيد المبرهن عليه تجريبيا لحد الان , اما البعد المكاني الذي تقول به الرياضيات فهو افتراض رياضي بحاجة الى براهين ملموسة .
فكرة البعد الرابع المكاني ووجود مكان اخر اعلى من عالمنا ثلاثي الابعاد هي من افكار الاوربين في خلال الثورة الصناعية الاولى والثانية في القرن التاسع عشر كما قلنا , حيث انبثقت من تطور علم الرياضيات والهندسة ورياضيات المنحنيات والسطوح الاهليجية او مايطلق عليه علم الرياضيات والهندسة اللااقليدية ( نسبة الى اقليدس) والفرق الأساسي بين الهندسة الإقليدية والهندسة اللاإقليدية هو في طبيعة المستقيمات المتوازية , وفي التعديل على المسلمة الإقليدية الخامسة والتي تعرف باسم مسلمة التوازي.
وتقسم الهندسة الى نوعين اساسية الاول هو مايطلق عليه هندسة القطع الزائد والثاني مايسمى بالهندسة الاهليليجية او الهندسة الجيوديسية أو هندسة السطوح المنحنية أو الكرويات وهي نوعان: هندسة السطوح المقعرة ،وهندسة السطوح المحدبة ولكل نوع من هذه الانواع افتراضاته وقواعده الرياضية , وتلعب الهندسة الاهليليجية دوراً هاماً في النظرية النسبية وفي هندسة الفضاء الزماني
لقد ظلت هندسة إقليدس تمثل أسس علم الهندسة على مدى ألفين من السنين , ومن ابرز مميزاتها انها لا تستعمل سوى المسطرة والفرجال لإنشاء الأشكال ولا تأخذ بعين الاعتبار القياسات اثناء الحركة , لكن التطور الصناعي والعلمي أدى إلى ظهور مسائل هندسية لم يتم حلها إلا في القرن التاسع عشر ومن هذه المسائل , تقسيم زاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية , انشاء مكعب حجمه ضعف حجم مكعب معلوم وانشاء مربع مساحته تساوي مساحة دائرة معينة , وهذه المسائل يستحيل حلها باستعمال المسطرة والفرجال فقط .
والواقع الافتراضي في البعد الرابع المكاني من الصعب علينا تخيله لانه عالم يقع خارج نطاق التجربة اليومية المحسوسة التي نعيش بها , اما فكرة البعد الرابع الزماني فقد تطورت من خلال علم الكيمياء والفيزياء واكتشاف الاشعة السينية وعموم المادة المشعة وحركة الالكترون في الذرة .
ولقد كانت فكرة العالم ذو الابعاد الاربعة المكانية كما شرحها الرياضيون كبيرة التأثير في عالم الفن اواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرون , وقد الهمت اعمال الكثير من الفنانين لانها ساعدتهم على خلق عالم من غير مصدر محدد وواضح من مصادر العالم الواقعي او الخارجيي , مصدر ذهني او حسي او ابتكار واختراع جديد لتراكيب قليلة الصلة بما نراه امامنا , ومن خلال تلك الاعمال منح المشاهد الاحساس بوجوده في اكثر من مكان , حيث تتداخل اشكال المكان ضمن حدود مائعة متسربة فيما بينها , وتم طرح اسئلة جديدة مثل هل يمكن تحويل الهندسة الى فن , وهل يمكن للفن ان يخترق العلم ؟ وغيرها الكثير .
وقد قامت المدرسة التكعيبية بالفنون التشكيلية بالرسم والنحت في بداية القرن العشرين , بتطوير اول نظرية فنية محكمة قائمة على اساس الهندسة اللااقليدية الحديثة , ومن خلال التكعيبية نشأت حركات فنية متتالية لاكتشاف وتوسيع هذه المفاهيم الجديدة في ايطاليا وامريكا وهولندا وروسيا كما في فكرة السوبرماتيزم والانشائية مثلا قبل وبعد الثورة البلشفية وغيرها من اتجاهات في الفنون التشكيلية انذاك , وقامت معظم تلك الحركات حول العالم بتجارب لتجسيد البعد الرابع – المكاني - بصريا الذي فهم انذاك على انه بعد هندسي وفقا لنظريات الهندسة الاهليجية الجديدة واللااقليدية , وليس بعد زماني لان ذلك قد تم قبل ان تعرف وتشتهر افكار ونظريات اينشتاين ومينكويسكي التي شاعت بعد سنة 1919 عندما اثبت العالم البريطاني ارثور ادينكتون من خلال الكسوف الكامل للشمس الذي راقبه في جزيرة جنوة – غرب الساحل الافريقي - صحة توقعات النظرية النسبية من ان الضوء ينحني في مساره عندما يقترب من الاجرام الكبيرة , وقد نشر نتائج رصده هذا في نوفمبر من ذلك العام , ومنذ ذلك الحين اي بعد سنة 1919 اصبح اسم اينشتاين يتصدر الصفحات الاولى من الصحف والمجلات حتى انه كان مع شارلي شابلن اشهر شخصيات الفترة بين الحربين في العالم , وقبل هذا التاريخ لم تكن افكار اينشتاين متداولة على نطاق واسع بعد , والعامة من المثقفين والفنانين لم يكونوا يعلمون بوجودها اصلا , وهكذا فقد شاع خطأ شرح البعد الرابع وتأثيره على التكعيبين على اساس كونه الزمن كما تفهمه النظرية النسبية , ويمكن التأكد من عدم صحة هذا التفسير وذلك بالعودة الى ثلاثة مقالات كتبها الشاعر ومنظر التكعيبية ابولينير في فترة متقاربة بين شهر نوفمبر 1911 وشهر ايار مايو 1912 , حيث ربط فيها العلاقة بين الابعاد الاربعة الهندسية / المكانية والتكعبية , ولا توجد فيها جميعا اية اشارة الى الزمن كبعد ( 1 ) وفي احداها يقول : (لايطمح الرسامون الجدد لان يكونوا اخصائيين بعلم الهندسة اكثر من ما قام به اسلافهم , لكن ربما امكننا القول بان الهندسة بالنسبة للفن التشكيلي مثل قواعد الكتابة لفن الكتابة , وهذه الايام ذهب العلماء الى ماوراء الابعاد الثلاثة للهندسة الاقليدية , فلذلك فان الرسامين وبشكل جدا طبيعي اصبحوا منقادين للانشغال بهذه الابعاد الجديدة للفضاء والتي تم تحديدها بشكل جماعي في لغة المراسم الفنية الحديثة بمصطلح الابعاد الاربعة ). وفي مقالة اخرى يصف بها الرسامون بانهم (رياضيون بدون ان يعلموا) . اما بيكاسو فلم يكن راضيا على تلك التفسيرات , ففي لقاءه المعروف في تاريخ الفن باسم – بيكاسو يتكلم – والمنشور لاول مرة في مجلة الفن في نيويورك سنة 1923 مع الناقد الامريكي ومنظم اول معرض له في امريكا موريس دي زايس يقول :( الرياضيات , علم المثلثات , الكيمياء, التحليل النفسي, الموسيقى , وغيرها , كلها ربطت بالتكعيبية لتعطيها سهولة التأويل , كل ذلك كان مجرد ادب , حتى لانقول تفاهة , وقد خلقت نتائج سيئة اعمت الناس بالنظريات) , كان هذا رأي بيكاسو الى ان مات (2) , لكنه لايلغي حقيقة اهتمام فنانين تكعبيين اخرين بالبعد الرابع وبعلم الرياضيات وبطروحات عدد من ابرز علماء ذلك الزمان مثل عالم الرياضيات هنري بونكاره (استند لينين على بونكاره في دفاعه عن المادية في كتابه المادية ومذهب النقد التجريبي ) , مثل الفنانين جيان ميتزنكر والفنان والمهندس البرت كلايزس الذين هم من قدم التكعيبية للجمهور الفرنسي واخرين .
وقد خمد الاهتمام بالبحث عن البعد الرابع المكاني بعد انتشار النظرية النسبية وفهمها للبعد الرابع بكونه الزمن , وعلى مدى اكثر من خمسين سنة منذ العشرينات وحتى بداية الثمانينات اي الى ماقبل حوالي ثلاثين سنة , حيث اوضح اينشتاين وبقية العلماء في وقته ضرورة الزمن كبعد , في سبيل حساب وملاحظة ظواهر الطبيعة بدقة اكبر , وفي هذه النظرية النسبية لايسمح البعد الرابع الزماني لنا بالهروب من ابعادنا الثلاثة , عكس نظرية البعد الرابع المكاني التي من خلالها يمكن الحديث عن السماء السابعة وموقع الجنة والنار , وملائكة الروح والجسد والاتصال بالارواح الميتة والحية وهلمجرا .
وقد استفاد من فكرة الابعاد الاربعة المكانية في القرن التاسع عشر وافتراض وجود عالم علوي اخر , المثاليون واللاهوتيون على وجه الخصوص حيث شعروا بانها منسجمة بهذا الشكل او ذاك مع ايمانهم الديني , وقد كان لها ايضا ابعاد فلسفية ونفسية وروحية عميقة خاصة على المثالين ورجال الدين واصحاب الافكار الماورائية والروحانية الذين صدمتهم الاكتشافات العلمية بحقائقها الملموسة وحاولوا تسخير العلم وفكرة الابعاد الاربعة في دفاعهم على وجود الله والهروب اليه.
اما الفكرة الاساسية التي تربط بين الرياضيات والهندسة والله في التعبير المعروف -لابد ان يكون لهذا العالم مهندس– فهي قديمة في الفكر الفلسفي الغربي , حيث قال بها كبلر بعد اكتشافه نظام حركة الكواكب واعتقد بان الله لابد ان يكون مهندس هذا الكون , ثم روج لها ديكارت و نيوتن والعديد من فلاسفة عصر التنوير فيما بعد.
وقد هوجمت فكرة الابعاد الاربعة المكانية كثيرا من قبل العلماء ونقاد الادب على السواء في القرن العشرين , حيث اعتبرها الادباء فكرة علمية خالصة , اما بالنسبة للعلماء فانها فكرة غيبية , فمثلا قال عنها عالمي ومؤرخي الرياضيات الامريكيين ادوارد كاسنر وجيمس نيومان في كتابهم – الرياضيات والتخيل – الصادر سنة 1940 : (انها فكرة ربطت من الاساس بالاشباح والارواح واحتياجات الروح , فاذا اريد لها ان تخدم العلم فيجب عزلها وابعادها ماامكن عن الافكار الغامضة , يجب ان تواجه بشجاعة ووضوح اذا كان جوهرها الحقيقي يمكن اكتشافه , ورفضها سيكون اكثر سخفا وتفاهة من تأليهها وتوقيرها) وادوارد كاسنر هذا هو مبتكر مصطلح كوكول في الرياضيات الذي يعني رقم واحد وعلى يمينه مئة صفر , ومنه اخذ مخترعي محرك البحث على الانترنيت كوكول اسمهم المشهور في كل مكان بعد تحوير كتابته.
ومن بين اول واشهر من شغلته فكرة البعد الرابع بابعاداها النفسية والروحية وليس الفيزيائية هو الروائي الروسي العظيم دوستويفسكي في رائعته الاخيرة - الاخوة كارامازوف – والتي نشرها سنة 1880 قبل وفاته بعام وادناه مقطعا منها :
(اذا كان الله موجودا , واذا كان قد خلق الارض فعلا , فهو انما اتبع في هذا الخلق , كما اصبحنا نعرف ذلك اليوم حق المعرفة , قوانين هندسة اقليدس , ولم يهب للعقل الانساني الا فكرة مكان ذي ثلاثة ابعاد. ومع ذلك فقد وجد ومايزال يوجد الى يومنا هذا اناس من اشهر علماء الهندسة ومن الفلاسفة يشكّون في ان يكون الوجود وان يكون الخلق كله بوجه اعم , مستندا الى قوانين هندسة اقليدس وحدها , حتى ليقررون ان الخطين المستقيمين المتوازيين اللذين ترى هندسة اقليدس انهما لا يمكن ان يتقاطعا على الارض , يمكن في الواقع ان يتقاربا ويتلاقيا في نقطة موجودة في اللانهاية – الاخوة كارامازوف – ترجمة الدكتور سامي الدروبي – الجزء الثاني – ص 52) .
وبعد وفاة دويستويفسكي بثلاثة سنوات , في سنة 1884 نشر التربوي ومدير احدى مدارس لندن اللاهوتي الانكليزي ادوين ابوت ابوت رواية اجتماعية فنطازية / خيالية ينتقد بها عصره الفكتوري الطبقي من خلال البعد الرابع وقد سماها – الارض المسطحة – ومازالت تطبع الى الان وقد ترجمت الى العربية لاول مرة سنة 2008 على حسب علمي , وهي من اولى الروايات العالمية التي تتناول العلم بشكل مباشر واسع وتشرح بشكل واضح ومشوق تصور الانسان للبعد الرابع من خلال تفسير وشرح العيش في بعدين , وهي شيقة ومهمة لكل من يريد ان يفهم رياضيا وفلسفيا وبدون معرفة معمقة بالرياضيات الابعاد المكانية الاربعة , فقد كتبها قبل نظرية اينشتاين الزمانية بعشرين سنة , ورغم انه اصدر اكثر من خمسين كتابا خلال حياته فلا يذكر من مؤلفات ابوت ابوت الان غير الارض المسطحة .
وقد استلهم افكار روايته هذه العديد من الكتاب والمفكرين في ذلك الزمان بعد النجاح الكبير الذي شهدته حيث اعيد طبعها ثلاثة مرات خلال عام واحد فقط , فقد اصدر الكاتب جي .اج. ويلز بعد ثلاثة سنوات روايته الكلاسيكية – الة الزمن- التي كتبها ونشرها عندما كان يدرس الهندسة سنة 1887 , ونشرت كاملة سنة 1894 ولاقت نجاحا كبيرا ايضا , واستمر ويلز في كتابة رواياته العلمية الى ان مات , وكذلك كتب كل من اوسكار وايلد و مارسيل بروست بوحي من تلك الرواية والفكرة .
ومنذ منتصف ثمانينات القرن العشرون اي قبل حوالي ثلاثين سنة او اكثر او اقل , اشتهرت نظرية جديدة في العلم تسمى نظرية الاوتار الفائقة , وفيها يعتقد العلماء بوجود احد عشر بعدا بالكون الذي نعيش به واحد منها فقط هو بعد الزمان , وعشرة ابعاد اخرى هي مكانية , وعادت هذه النظرية بحلة جديدة اعطت في السنين العشرين الاخيرة مادة خصبة وثرية جديدة للفنانين والفلاسفة والمفكرين لاعمالهم وانتاجهم الفكري والفني وغالبية روايات الخيال العلمي في الوقت الحاضر تتخذ من الزمن كبعد رابع اساسا للحبكة الفنية وتتحرك في ابعاد مكانية اعلى .
لقد تكسرت وتهشمت محدودية ادراك الانسان للعالم , والاعتقاد بان مانراه هو وحده هذا العالم الواقعي والحقيقي , بعد اكتشاف الاشعة السينية وعالم القوى الضوئية غير المرئية وبان الفوتونات هي حاملات الضوء , وذلك في المنعطف بين نهاية القرن التاسع عشر والعشرون ولحد الان
احدى نظريات علم الفيزياء الحديثة تقول بانه لايوجد شئ اسمه – الزمن – اصلا انما هو مجرد وهم من اوهام العقل , وقديما قال ابن سينا بالشئ نفسه .
وفي هذه الحالة اين نحن ؟ تقول هذه النظرية باننا دائما في الحاضر ولاشئ غير الحاضر , وكل ماهناك اننا نتغير ضمن هذا الحاضر – مثلما نستبدل ملابس الصباح بملابس المساء مثلا - وهذا مايبدو وكأننا نسير عبر الزمن , او ان الوقت يمضي من الماضي الى الحاضر الى المستقبل , فما سأقوله بعد حين ليس الا الحاضر , وماقلته قبل حين ليس الا الحاضر وما سيأتي غدا او بعده بدهور ليس الا الحاضر , يحدث كل شئ في وقت واحد لان الزمن واقف او ملغي تماما , فالزمن واقف كسكة الحديد ونحن الذي نسير عليها , او انه لاوجود لاية سكة اصلا , ولهذا السبب فكلما تقدمنا بالعمر زاد احساسنا بسرعة مرور الزمن وكأن كل شيئ لم يحدث الا منذ امس , وكثرت شكوانا من عدم وجود الوقت الكافي .
وبما انني في العمر الذي لايسمح لي بتبني هذه النظرية وتمثلها , فسوف اقبل بها على انها صحيحة , فقط لاني اشعر بسرعة حركة الزمن في حياتي الان , وسأنصح الجيل الجديد بأتخاذها مسلكا , فلربما ستحل لهم مشكلة او تنقذهم من ورطة , في عالم لانعرف التنبؤ به وبمفرداته القادمة ابدا , هذا اذا اقتنعنعا بنظرية اخرى من نظريات الفيزياء الحديثة الشهيرة وهي نظرية هيزنبيرغ التي ابتكرها سنة 1925 المعروفة باسم – نظرية اللايقين – والتي تقول باستحالة معرفة المستقبل والتنبؤ به .
ولقد دخلت افكار هايزنبيرغ في ابحاث الكثيرين من المشتغلين بالفلسفة وبعلم اللغات واللسانيات خاصة في السنين الثلاثين الاخيرة , والتي لم يقتنع بها اينشتاين وعلق عليها بقوله الشهير: بان الله لايلعب الزار او النرد , ورد عليه نيلسن بور المؤسس الحقيقي لفيزياء الكم بالقول بان الله يلعب ويفوز ايضا , وقد بقي اينشتاين الى ان مات يشك في صحة هذه الفكرة لانه كان يعتقد بان الكون مصمم ضمن نظام لايسمح للعشوائية ان تحكمه , وما علينا الا اكتشاف قوانين ذلك النظام والتعرف عليه , على ان تجارب العلماء لحد الان تؤكد على الاحتمالية والعشوائية في هذا النظام وليس تكهنات اينشتاين , وبان من المستحيل معرفة المستقبل مثلما لانستطيع ان نعرف ارقام النرد مقدما , لان ميكانيكا الكم تقول بان الواقع الفيزيائي تحت الذري هو احتمال لايمكن تحديده حيث يقوم المراقب لذلك الواقع او الراصد اثناء عملبة المراقبة بخلق ذلك الواقع الذي يراقبه ويرصده , اي بمعنى اخر فان الواقع لايمتلك وجودا مستقلا عن الراصد.
وكمثال اخر وهذه المرة من نظرية اينشتاين النسبية , في انك اذا ماسافرت في رحلة كونية الى كوكب اخر بسرعة تقترب من سرعة الضوء ولنقل انها ستستغرق يوما واحدا فقط , ثم عدت الى الارض فانك لن تكبر اكثر من يوم واحد فقط , بينما ستجد عند عودتك بان سكان الارض قد كبروا عدة عقود من السنين , هذه المفارقات غير المألوفة بالنسبة الى الذين لايفهمون بالرياضيات والفيزياء الحديثة مثل اولئك المختصين بالفن الكلاسيكي والادب والانسانيات وماشابه فهي مجرد مغالطات مناقضة للحس والعقل , لكن العلماء لايعبأون بما يقوله الادباء واصحاب التفكير الكلاسيكي حتى ان هيزنبيرغ قد حذر ذات يوم احدى معارفه من الفنانات الالمانيات بعدم الخوض في مسائل العلم المعقدة والمثيرة للجدل لان ذلك قد يعرضها الى مشاكل هي في غنى عنها , وكانت هذه الفنانة تناقشه باستمرار وهي تحاول ربط فنها بالعلم من خلال الفيزياء الحديثة.
ونحن نعرف من خلال تجربة الحياة اليومية بان توقعات الانسان حول مستقبل حياته دائما فقيرة وغير مجدية , ولايمكن اعتمادها وغالبا ماتكون بعيدة عن حقيقة مايجري في الواقع وفي هذا العالم , تأمل هذا المثال من عالم امريكي كان في السبعينات يعد من اهم المختصين بالاجهزة الالكترونية واسمه - كين اولسون - فقد قال سنة 1977 انه (لايرى اي سبب سيجعل الفرد ان يقتني جهاز كومبيوتر شخصي) , وبعد عشرين سنة اصبح جهاز الكومبيوتر الشخصي من اهم اساسيات الافراد في العالم , او خذ مثلا توقعات الناس في بلادنا قبل اربعين سنة عن التنمية البشرية والتقدم والانتصار على الرجعية وغيرها من طرهات وقارن ذلك بما يحدث الان من سيطرة قوانين البربرية الباطلة لرجال الدين والملالي والروزخونية والحجاج والمعتمرين وعمائمهم ومسلحيهم وقتلتهم .
وهكذا يستطيع اي واحد منا ان يقارن توقعات حياته الشخصية واحلامه قبل عشرة سنوات او اكثر ويقارنها بحاله او حال بلاده الان ليكتشف سخافة امكانية التنبؤ بالمستقبل واستحالتها .
1- Harrison, C. and Wood, P. (Eds.) (1998). Art in Theory 1900 - 2000--;-- An Anthology of Changing Ideas. Oxford: Blackwell Publishers.
2- نفس المصدر
#ساطع_هاشم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟