|
زقنموت (رواية) 1
تحسين كرمياني
الحوار المتمدن-العدد: 4625 - 2014 / 11 / 5 - 23:21
المحور:
الادب والفن
زقنموت {عندما نفقد حبيبة نكتب قصيدة،وعندما نفقد وطناً نكتب رواية، فالرواية هي مفتاح الأوطان المغلقة بوجوهنا..!!} (أحلام مستغانمي)
لحظة عبرت(مها)ممر الزقاق.كان(ماهر)منشغلاً بتهشيم زجاج الفرحة في عينيه. *** زقاق مخادع،متعرج،بيوته طينية،غير متناسقة البناء،وصباح البلدة بعسر يتنفس،متوشحاً بأدخنة سوداء تصعد كأغوال غاضبة من معامل عمل(الجص)البدائية،وأخرى تصعد مثل أشباح تتسابق قبل أن تتعانق لتخنق فضاء البلدة برائحة التنانير وهي تزف بشرى نضج خبز الصباح،وثالثة لنيران تشعلها أيدي عابثة في إطارات ممزقة أو أكوام كراتين مرمية خلف وأمام الدكاكين،يتجمهرون حولها كسبة يبكرون الخروج ليقفوا ببنطلوناتهم المثقوبة وعيونهم الغائرة،يقفون على باب الله في انتظار مركبة ملاّك تقف،يهبط بعقالٍ يضبط(شماخه)على طاسة رأسه،بعينين صقريتين تترسب فيهما بقايا نعاس أزلي،تدور حوله حلقة متوسلة،أفواه تتصارخ وتتنازل عن أجرة اليوم،بعد دقائق ملغومة بالحسرات والدفعات ورائحة الدخان والغبار المتصاعد من جرّاء مرور المركبات العاطسة على شارعٍ لم يذق طعم(مكانيس)البلدية منذ دهور. بأصبعٍ متحجر،سيجارته لا تفارق فمه،يؤشر إلى من يمتلك جسماً وعافية ويتحمل العمل كـ حمار مطيع، أصحاب الحظ،يركبون حوض مركبة ملوثة ببول وبراز حيوانات أليفة،لتنطلق بهم إلى حقول زراعية تتوزع أطراف البلدة. أذناب الليل ترتمي بثقلها،توشح المنزويات والمنعطفات ببقايا عتمة هاربة،استثناء أصوات باعة،يتجولون عبر أزقة متعرجة،على رؤوسهم كراتين وصينيات،صائحين بما تسع حناجرهم على ما يبيعون. (ماهر)على عادته يخرج كل صباح،حاملاً كتاباً شعرياً وحفنة أوراق،في معظم صباحات خروجه،لم يشعر بعصافير بطنه تضج بنشيد الجوع،أمّه أذعنت لصلابة عقله ولم تعد تدعوه ولا تلح عليه ليتناول فطوره، يترك البيت،مخترقاً مكر الزقاق،يقف برهة زمنية وجيزة،على شارع(جلبلاء)الفريد،فرادته نجمت كونه الشارع الرسمي للبلدة،مذ تأسست ولد،وظلّ أسفلته مقاوماً ومتماسكاً لإطارات مركبات تمرق ومسرفات حربية قاسية تحفر،لنزاهة الجيل القديم في أداء الأعمال الخدمية. تشبه البلدة من علٍ سفينة عتيقة الطراز،يشقها نصفين غير متعادلين سيفاً مقوساً من(جؤجؤها)إلى(كوثلها)، طرف عالي وآخر منخفض،وعلى حوضه يعجن كل نصف عام طفل. بوقفته،يبدو(ماهر)كسائح تعب،وقف يلتقط أنفاسه،أو دليل تاهت عليه خريطة رحلته،وقف يسترجع أوراق ذاكرته،قبل أن ينطلق إلى آفاقه. قد تستغرق وقفته بضع دقائق،قبل أن ينطلق عابراً حوض الشارع الإسفلتي،لينفرد في خرس جبال عشوائية، لم تهذبها هجمات الفصول ولا ترهلات العصور،ما تزال منسية،خارجة عن أطماع الجشعين،ترتفع وتنخفض من غير تدرج تضاريسي،جبال تنبطح أحياناً لتغدو مساحات أراضي صالحة لزراعة ديمية سنوات المطر، قبل أن ترتفع فجأة من غير مقدمات سفحية،أكثر المعلومات راسخة في أذهان ناس البلدة والمؤرخون والجغرافيون وأصحاب المعلومات العابرة،أنها أي تلك الجبال ذيول منفلتة،تابعة لسلسلة جبال(حمرين)المارة شرق البلدة،لتغطس منتصف البلاد في واحات ملحية ورمال متحركة،جاهزة،تنتظر أدنى ريح لتنهض أفاعي أسطوانية تزأر وترعب لتشكل ستاراً رمادياً زاحفاً تغرق نصف البلاد بـ موجة كآبة مزمنة،لتقضي على آمال الفلاحيين،وتنهي حياة نصف أصحاب الربو،فاسحة المجال أمام مخالب الحلزون العنيد،هذا المرض العضال،عصي العلاج،أنتاج تعساء جدد يسدون الفراغ المتواصل،عبر كل الأحقاب البائدة. (ماهر)حين يعبر الشارع واضعاً قدميه على مفتتح الجبال،يترك خياله كحصان منفلت،يسرح في ضباب تام وغبار خانق بحثاً عن كلأ،ذاكرته دائماً جائعة،كلأها قصائد تدغدغه ليلاً،تسلبه نصف نومه،ومع الفجر تدفعه،فيخرج شبه مجنون،يلهث خلف أسراب كلمات تضج في فضاء(مغوّش)،بغية ترويضها. كسله المتواصل ضيّع عليه وفرة أفكار وجملة قصائد،فهو حين ينام،تأتيه قصيدة أو تدغدغه فكرة يتكاسل أن يدونها،لا يمتلك إرادة حازمة كي ينهض حريصاً من سريره ملتقطاً قلماً وفاتحاً دفتراً ليكتب ما يشعر به، تعود أن يترك كل أمر مستجد للصباح،رغم إدراكه سلفاً،أنّ كل صباحاته غير رباحات. يهرب بحثاً عن كلمات ضاجعت مخيلته وولت تلوذ خارج فراشه. ما بالها تبتسم،ما بالها تنحت عينيها فيَّ،ما بال(مها)هذا الصباح.؟(قال لسانه) في صباحات متعاقبة،تخرج(مها)،تفرغ أحشاء صفيحة القمامة وتهرب داخلة البيت،أيّام لم تتحرك فيه دودة الوله ودعسوقة التعجب،لم يشعر بشبق يرضخه لإلقاء نظرة وتحرير ابتسامة إعجاب بوجه فتاة من الزقاق،عقله مفروغ من حمّى العواطف،رأسه أسير فوضى كلمات تتناطح داخل زنازين سمّاها(الفراهيدي) أوزاناً توزن هذيانات حفنة صعاليك وحشد عاطلين،قبل أن تمنح تصاريح رسميّة لتغدو أشعار مقبورة في دفاتر تتهرأ مع الوقت. لا أحد في الزقاق غيره. غسل الزقاق،مسح أسطح البيوت بعينين مفضوحتين،كي يغلبه الظن(مها)تقف من أجل شخصٍ ما،ما زالت تمطره بنظرات حيرته،ترسل بريق أسنانها من خلال انفراج شفتيها،أخيراً تأكد،وحده يقف لصق جدار،يبعد وقفته عن بيت(مها)مائة خطوة. (مها)تناديني.!(قال لسانه) مشى. كل شيء يسير معه،البيوت والسماء،خوفه المتنامي،الوشاح الحاجب للرؤية،قدماه المتخاصمان. تهادى صوت: ((صباح الخير ماهر.)) صباح أنفلق،بعدما كان يائساً،متعباً يرتمي على بلدة كسلانة،أخترق عالماً ليس بريئاً،عالم ضاج بأحلام تنتهكها كوابيس الواقع،تلك حقيقة ليس من المستحب كتمانها،(ماهر)قلبه مضخة تختلف عن مضخات أبدان شباب البلدة،فيها وظائف غامضة،أحلام لم تكشف النقّاب عن نفسها،كوابيس ما تزال تتشبث بجذور وحدانيته،تطبع بـ عملة الصراحة،والصراحة قادته إلى ملهى الشعر،فهو واضح وصريح،غاضب ومتمرد،لا يرغب أن يحجم عالمه الشعري عن سكاكين واقعٍ سخيف يسكنه. صباح أنطلق كصاروخ من فم قاتل،ليهدم مدينة نائمة بين مقابر قصائد رديئة،اكتفى ببسمة،ظنها كافية لإعادة أعمار خرائب قلبه. وصل رأس الشارع. توالدت عنده رغبة،دفعته أن يلقي نظرة يقين،كي يطمأن قلبه،كي تقر عيناه،أو يفند رؤيا شيطانية أربكته في صبحٍ جديد،خرج ليلقي القبض على أرقٍ هارب. (مها)ما تزال واقفة،رفعت كفها بحركة عشوائية،مقصودة من غير ظن: (مها)تستهدفني.!(قال لسانه) دخلت هي البيت. وصل هو الجبال. بدأت مشاعره تتفاعل،قلبه غيّر نهجه،تطايرت ضرباته كدرداب طبل بيد جاهل،فكره أنفلت يطارد باقة حقائق تتناثر في اتجاهات شتى،تحرك لسانه سريعاً:
اليوم بدأ الخريف كل شيء هادئ ومؤنس وشفيف القبّرات تتغزل بدثار البرد اللطيف وميض(مها)يناديني مسحوراً أهذي في حوار طريف يشبه وجيب قصائد مسرورة تلهو ببحر الخفيف.! *** مشى شاقاً متاهات جبال بدت جديدة،جناحان من نور تنبتان له،من غير شعور ظلّ يفتح يديه،بارزاً صدره،ساحباً شهيقاً غير مألوفاً،يتمعن كرنفال دنيا تتشكل وتضمحل،لا خوف،لا آلام،بدأت تقبله مواطناً مطيعاً،كامل الأوصاف،فارغ الأطماع. أسير حلماً ظلّ يمشي. جلس على حافة جبل يطل على وادي(العاقول)،ماء مطر متراكم،طيور تصعد وتهبط متلبسة بأوهام السمك، تخترق الماء وتخرج،ظلّت تلعب أو تتوهم بأن ما تلحظه في طيرانها أسماك ماكرة يتعذر خداعها. في تلك النزهة تطايرت أوراق قديمة،بدأت تتكشف من بين ذرات التراب،جبل ليس بغريب على ذاكرته،ممر قديم يخترقه،يقول كتاب التأريخ أن رجال(القادسية الأولى)مرّوا فيه لملاقاة(الفرس)في واقعة(حلوان)،لسحق آخر فلول بني(ساسان)،عبق حوادث حصلت في أزمنة سحيقة،صليل سيوف وسنابك خيول وأنهر دم ودسائس ومكائد فوق العادة،فقرات دخلت ذهنه يوم قادهم مدرس مادة التأريخ ليقفوا على الممر ويشرح لهم كيف مر الرجال ركباناً وراجلين،عابرين الفراسخ الوعرة وشاقين المتاهات الحافلة بالوديان للقضاء على آخر الفلول المتحصنة حول نهر(الوند)كونه ممر حيوي وموقع استراتيجي يتخوصر دولة خيرات وموارد أبدية. فكره تشبع بالوقائع ومن يومها ظلّ يخرج باكراً للجلوس على حافة الجبل المطل على ممر النصر،يجلس ساعات،فكره يطفر واقعه،ليسقط في أزبال الضجيج والكوابيس. رسم(مها)يحاول قفل كل الماضي. ضجيج التأريخ من أعماقه غاضباً يبارز سطوة(مها). الحب والتاريخ عالمان متشامخان.(قال لسانه) الحب يقرّب الأشياء،جاذبية تلغي كل عارض يصد ما بين قطبين،متنافرين أو متماثلين،الحب مغناطيس البشرية،مذ خلع الله ضلع آدم وحوله لنصفه الممتع. فكرة تلح عليه،أنسب ما وجده،تسمية الأشياء المتجاذبة بـ ميسم الحب،الرغبة المشتعلة ما بين الأرض والسماء،مطر،المطر دموع الحبيب/السماء على خدود الحبيبة/الأرض،الحب ما بين سماء رحيمة وأرض الضواري والوحوش. التأريخ..تدوين لآلام البشرية،تدوين لوقائع ناقصة،كل مؤرخ يميل إلى حيث كفته،يطمس ويشوه،يكتب ما يناسب سلطته الحاكمة،حريّة التعبير لا تنسجم مع متطلبات المؤرخ،طالما العالم منقسم،إلى دول مؤمنة وأخرى كافرة،لا وسطية بين العالمين المتقاتلين،الوسطية في الآخرة،يسمونهم أصحاب(الأعراف)،لا هم يتذوقون خيرات الجنّة ولا فاكهة الشتاء المسعورة،جالسون متحسرين على حسنة واحدة كانت تكفل رجحان كفة ميزان الفردوس،ينتظرون رحمة الله التي وسعت كل شيء. شعوب الدنيا الفانية،تتغذى بـ فيتامينات الكراهية وبروتينات التقوقع ومخاط التحزب ونكاسة العرقية،كل الجوانب المعتمة والحسّاسة منها مهمّشة،أحواض الدماء والدسائس،الفقر،الجوع،المكيدة،اغتصاب الحقوق، تلك هي مفردات قاموس تأريخ ما زال ينطق من غير صدق،في ماضيه الدموي،في حاضره الفوضوي،ومستقبله المهدور،أو المنحور. لا..لا..التاريخ والحب قطبان متضادان.(قال لسانه) شعر الليل تحول إلى كائنٍ خامل،تشبع جسده بسحر مضيء،مده بفيوض قوة جعلته ينهض ويواصل السير. مذ بدأ الشعر يحرمه ليله،مذ بدأ ينهضه باكراً ويلقيه خارج معتقل البيت،متسكعاً يبحث عن أوهام تغريه، هناك فوق التلال،بين طيّات المنحدرات المحيقة ببلدة(جلبلاء)يمتلئ صدره بحبور طاغٍ،يتحرر من خوانق البلدة،من كوابيسها،من ناسها،من تابوت البيت،يتحول إلى صيّادٍ مستجد يطارد كلمات تناسب لهيب مشاعره،تنسجم طردياً مع فوران النغم لقصائد تولد وتعيش ناقصة،قبل أن تتكدس مهملة بين أوراق حياته. (مها)نجمة هبطت صباحاً من مجرتها،وقفت تلملمه،ترسم خريطة جديدة لأحلامه،صغيرة،مغناجة،بسمتها تدمر أعصاب كل صاحب أرق نضج شهوته،ميعة جسدها واضحة حين تمشي،رغم فضفاض ثوبها،يتمكن أي خيال عادي الوصول من غير عسر إلى تكوينات جسدها،نظرة واحدة كفيلة أن تعطي بدقة قيمتها الأنثوية.
مشيت تلبية لإلحاحها قلبي ملكها قدماي تبحثان عن أرض تستوعب نداء(مها) كي تستقر أيها التائه. قف لحظة وأنتظر.؟ هذا درس واضح وأعتبر أنّ الحياة في كل عصر في كل مصر مزنة مطر أغتنمها.؟ قبل أن يمضي قطار العمر درس الحياة حطب يلهم مواقد الشعر.! *** حب بدأ يتوغل إلى فكر ضاج،عقل(ماهر)محجوز لمطارق تدك على سنادين(الفراهيدي)،أشياء التأريخ المتراكمة في ذاكرته تحجز كل الفراغات،عندما يغيب الشعر يضج التأريخ،يجتهد لرسم مشاهد سمعها من مدرس مادة التأريخ،من بعض الكتب،لا يعنيه وجود اختلافات واضحة ما بين المسرود في كتب منهجيات الدراسة،وبين ما يتعلق بذرات التراب وشقوق الجبال ومخلفات الطلول،لم يشغل نفسه بسحر المقارنة،لم يجد دافعاً لمعرفة سر التباين والفضائح الواضحة،فهو يعلم كل حكومة شمولية،تأريخها مزيّف،تصرف الغالي والنفيس،تضحي بالروح والدم،بالمال والشعب،لإخراج قطار التأريخ،بكامل حمولته،من على سكة الحقيقة، تبتكر وسائل شيطانية مقنعة عندما يكون المرء غبياً أو خاملاً،أو مخدراً بمصل التسيس،تجاهد لتدوير عجلاته الرخوة،لتمشي عربة زمنها،بأية طريقة تناسبها،عرجاء،شوهاء،وفق إيقاعات أيديولوجياتها.
شغل شاغل يشغل ذاكرتي يا شعر أين مهارتي من(جؤجؤ)بلدتي وحتى(كوثلها). تتمرد حيرتي قصائدي لم تعد تناسب سيرتي أرميها على حصا بلدتي تتشكل في الأفق ملامح قلعة كلما أدنوها تنأى تغتصب أميرتي..! *** قدماه لم تتعبا،قطع مسافات طويلة من غير استراحة بين وديان وقمم ومنحدرات. وقف. برك مياه تتناثر مع الحافات الملتوية لسلسلة التلال الممتدة مع البلدة،تجمعات مائية تخلفها أمطار الشتاء والسيول الجارفة،تأتي من أمكنة قصية،تتجمع لتمر بوادي البلدة،تمر بمحاذاة بيوت طينية تتآكل في كل عام جرّاء غضب السيول،لتجرف وجبة منازل فقيرة،قبل أن تعكر ماء نهر البلدة بملوحة طاغية. استوقفته أسماك كبيرة،لم يفكر بسبب تواجدها في هكذا أماكن،من جلبها وألقاها،ربما المطر يلقي بيض الأسماك المحمولة على رفوف الغيوم في تلك الأماكن رزقاً للحيوانات،كانت تسبح بحرية تامة،سعيدة،بعيدة عن أطماع الصيّادين،ثارت غريزته لصيدها،تفاعلت فكرة،أن يجلب أدوات الصيد في الصباحات التالية، فكرته بدت رغبة لحظوية،ولدت وماتت في بضع ثوان،وجد ما يشغله،ما أيقظ ينابيع الشعر،أكبر من أحلامه الأخرى. تعب فكره أتعب جسده،شيء ضاغط خلخل منظومة تنفسه. استدار..سريعاً وصل الزقاق. (مها)تمثال يعطي الزقاق رونقاً آخر. (ربتما)ظلّت منحوتة في وقفتها مذ مر بها وحتى لحظة عودته،صبر العاشقة صخرة تكسر شراسة الرياح، تمتثل بروح وليدة،منفوخة الجسد،تشعر أنها ألغت الزمنية وطفرت حقبة كاملة إلى حديقة الحلم ومواسم النضوج. (ماهر)عقله بدأ يفسر الحوادث،توصل إلى قناعة مطلقة،فلسفة لا شك يعتورها،حمولة كل فتاة اكتوت بـ لهيب الوله،في الصبر تحديداً تفوق حمولة الرجل،في كل مجالات الصمود،في الحزن،في الحب،في الغضب،في القصاص،الرجل أقوى جسدياً لحكمة الخالق،أراد أن يكون الرجل ملك البريّة،والمرأة ملكة المنزل،بإتحاد القطبين تلتئم جراح الأرض ويكتمل مشهد الحضارة البشرية. المرأة كائنة مائية،كومة مشاعر تحترق أسرع،تغضب أسرع،تنجرف أسرع،عنيدة،صلبة،تقاتل من غير تردد، أوان التأزمات النفسية ولحظات التوتر تغدو من غير زيت رعد وبرق ونار. (ماهر)و(مها)تبادلا بسمة واضحة،ما عاد يتذكر،أو يعرف كيف تجرأ،كيف انساقت مشاعره،كيف عيل صبره وتخلى عن إرادته،غمز برمشي عينيه،غمزة تحرش،في بلدة(جلبلاء)الغاطسة في عباب القبلية،تلك الغمزة كافية لتأجيج صراعاً دموياً يمتد ليلتهم عشيرتين إلى حرب(مهاوية)على غرار حرب(البسوس)،طويلة الأمد،تأكل أجيالاً من الطرفين،حرب لا تقبل(الفصل)بسبب حركة رمش ذكري بوجه صبيّة خرجت من بيت الطاعة. (مها)تقبلت غمزته،بلبابة،بلطف،وجدتها هدية ثمينة،تصريح معلن أن البضاعة صارت ملكها،لم تكن غالية الثمن،وقفة وبسمة ورفع يد كانت كافية للقبض على سلعة الحياة النفيسة وزهرتها،عليها أن تحافظ على جوهرة نادرة،أن تستثمرها،سحبت شهيق النصر،تألقت بسمتها،شعّ ضوء لامع من عينيها،(ماهر)عاد من خوفه،لم تعد غمزته جرماً سيقوده إلى حرب جاهلية،رآها تفتح ثغرها،تطلق آهة طويلة،بانت أسنانها،بيضاء لامعة،بان لسانها،أحمر شاحب،سمع صهيل أغوارها،تحول إلى ذرات هواء،راحت تسحبه عبر شهيق عميق إلى أنفاقها اللانهائية. (مها)تحبني.(قال لسانه) تأسيس عالم جديد يمر عبر بوابة الوله،يتجرد الجسد من خوفه،من أحزانه،من فلسفة البلادة،من فوضى الكوابيس،من الجوع،من السهر،من خوانق البيت وأخلاق مفروضة،عالم سيتشكل ليخلد أو ليموت،تلك هي فلسفة الحياة في بلاد لا تنام إلاّ على نفحات نيران الحروب،حروب داخلية تستعر،حروب خارجية تتشكل، حروب على الشعب. حرب(الجيران)مشتعلة. في الحرب تفقد عقول الساسة بشريتها،حيوانيتهم تبرز وتخنق عقولهم بفلسفة الغاب،يفقدون توازنهم،ينسلخوا من قيافتهم البشرية،في الحرب يكتشف الحاكم أن لسانه يسكب درر البطولة وجواهر حفظ الكرامة،يطول لسانه،يخرج على الناس،حاجزاً كل وسائل البث المباشر،وكل صحف البلاد،لابساً حلّة المحارب،متمنطقاً سلاحه،لسانه يمطر المصاغي بخطب تداوي أوان التعاسة جروح الأكباد الحائرة،وتشبع أوان القحط البطون الخائرة،تتشكل جمل لسانه سحرياً لتغتصب عقول رعية فارغة،فينتفضوا بحثاً عن موائد الغيرة للفوز بولائم العز. حاكمان يتخاصمان،أو كبشان يتناطحان،يتبادلان التهديد،يتراشقان بالوعيد،كل حاكم من وراء متاريس رعيته من مكان لا تمسه شواظ الحرب،بشطارة ومهارة،بحذلقة يبرز عضلات حكمته،وقدسية حربه،كلا الطرفان، سيفاهما الناس،مطايا ضحايا لحمل أوزارهم،يجلسان،يوجهان بعصا الحكمة قيادة أرواح الجموع المتلاطمة نحو الفضاء،وأجسادهم الفقيرة المنخورة بالرصاص والشظايا وحرائق الكيمياويات لتوسيع مقابر الوطن،وزيادة أيام العطل الرسمية للبلاد. الناس أوان الحروب نيام،ينتظرون عربات الخير الموعود،عطايا حكّام جدد،يجيئون بطريقة ما،بثورة دموية، بثورة بيضاء،بانقلاب عسكري،بأيّة طريقة،بتسوية،بغدر،بإرادة قاهرة تفرضها قوى خارجية،غالباً ما تكون طريقة ملتوية،مظلمة،تدفن دسائسها داخل جدران القصور الرئاسية،تحاك سراً،يتم قتل الحضور فيما بعد،بطرق مقنعة ومتاحة،يتم تخوين بعضهم،وبعضهم تهيأ له مكيدة مبيدة،والبعض يتم تصفيتهم في الحروب،كل من شهد الأسرار الخطيرة لابد أن يغادر باحة البيت الرئاسي وفناءات أروقة السلطة،أن يموت إكراماً لعيون الحاكم الجديد،وحده الظافر بالزعامة يمتلك السر،ليس من بشري آخر يستحق مشاركته خفايا الدولة،حتى زوجته وأولاده. وحيداً..لا يمتلك شجاعة لقول أسراره،إذا رغب في يوم ما أن يدوّن مذكراته،بعد زوال نعمته.
كل زعيم يمتلك خزائن أسرار ينوء بثقلها ليل نهار حمار يحمل كومة أسفار قبل أن يسترد الزمن وعيه وتهب الجموع لدحر الأشرار يسقط الزعيم مكللاً بأشواك العار كما صار عليه فلك الغدر يدار..! *** حكّام العصر،يشتركون في شعار كوني،إظلام ما تبقى في الدنيا من بقايا ضياء.
أخيراً.. الفرح لاح أخيراً.. طويت تاريخ الجراح وغادرتني مراكب الأتراح حين فجرها (فجر..مها) في فجري أسكت المتاعب استفاق شعري من عيني طفلة العجائب وعانق خرس الصباح..! ***
#تحسين_كرمياني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ليالي المنسية(رواية)جزء38الأخير
-
ليالي المنسية (رواية) جزء 37
-
ليالي المنسية (رواية) جزء 36
-
ليالي المنسية (رواية) جزء 35
-
ليالي المنسية (رواية) جزء 34
-
ليالي المنسية ( رواية) الجزء 33
-
ليالي المنسية (رواية) الجزء 32
-
ليالي المنسية (رواية) الجزء 31
-
ليالي المنسية (رواية) الجزء 30
-
ليالي المنسية(رواية)الجزء 29
-
ليالي المنسية (رواية) الجزء 28
-
ليالي المنسية ( رواية ) الجزء 27
-
ليالي المنسية (رواية) الجزء 26
-
ليالي المنسية (رواية) الجزء 25
-
ليالي المنسية (رواية) الجزء 24
-
ليالي المنسية (رواية) الجزء 23
-
ليالي المنسية (رواية) الجزء 22
-
ليالي المنسية (رواية)الجزء 21
-
ليالي المنسية(رواية)الجزء العشرون
-
ليالي المنسية(رواية)الجزء التاسع عشر
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|