قراءة نقدية في كتاب -الحزب الشيوعي العراقي في عهد البكر ( 1968- 1979)-. للدكتور سيف عدنان القيسي ( 5- الأخيرة)
جاسم الحلوائي
2014 / 11 / 3 - 08:41
قراءة نقدية في كتاب "الحزب الشيوعي العراقي في عهد
البكر ( 1968- 1979)". للدكتور سيف عدنان القيسي
( 5- الأخيرة)
يذكر القيسي في الصفحة 364 من كتابه ما يلي:" إن قيادة الحزب الشيوعي اتخذت قرارها بالموافقة على الاشتراك في الحكومة، بعد نصيحة قدمها رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي ( اليكسي كوسجين)". لقد كنت حاضراً اجتماع اللجنة المركزية المنعقد في ربيع 1972، الذي اتخذ القرار وكان الاجتماع في بيت الفقيد الدكتور رحيم عجينة. ولم أسمع بهذه النصيحة. وبصرف النظر عن وجودها أو عدم وجودها، فإن القرار أُتخذ بعد مناقشته في اللجنة المركزية وبقناعتها، وفي أجواء الحوار حول ميثاق الجبهة وبُعيد عقد معاهدة الصداقة والتعاون العراقية-السوفيتية وعشية تأميم النفط، وأذكر ذلك ليس تبريراً وإنما توضيحاً.
إن ذكر نصيحة كوسجين من قبل القيسي، وما أشار إليه المشرف الدوري في مقدمته والتي يذكر فيها: ".. إن العلاقات العربية السوفيتية شهدت تقدماً إيجابياً خلال تلك المرحلة[سبعينيات القرن الماضي] وكانت توجهات الحزب الشيوعي السوفيتي والحكومة السوفيتية أن يكون الحزب الشيوعي العراقي مهادناً للسلطة الحاكمة.."، تبدو وكأنها محاولة للإيحاء بأن العلاقة بين الحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي والحكومة السوفيتية، كانت علاقة تابع ومتبوع. وبصرف النظر عما يقصدانه، نود الإشارة إلى أن الحكم الدكتاتوري المقبور حاول أن يرسخ هذا المفهوم عند أكثر من جيل من العراقيين بترديده " الحزب الشيوعي العميل"، بعد أن حسر نفوذ (ح.ش.ع)، بقمعه الوحشي، في الساحة العراقية، أكثر من عقدين من الزمن. وما عدا ذلك فإن هذه القضية واحدة من القضايا التي غالباً ما تعرضت ولا تزال إلى التشويه واللبس في تاريخ (ح.ش.ع)، مما يتطلب وقفة جديىة لتوضيح حقيقة تلك العلاقة والتي لا يجوز تبسيطها والحكم عليها من خلال موقف معين، لوضع الأمور في نصابها.
وسوف لا نذهب بعيداً إلى مرحلة تأسيس (ح.ش.ع)، حيث كان عضواً في منظمة الكومنتيرن (الأممية الشيوعية) وملزماً بشروط عضويتها وقراراتها، ولو لم يكن كذلك لما كان وجوده ممكناً إطلاقاً. وبعد حل الكومنتيرن (1943)، ظلت الحركة الشيوعية العالمية تنظر بتقدير عال للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي وتعتبره طليعة الحركة الشيوعية العالمية وتسترشد بتجربته، ولكنها كانت أحزاباً مستقلة ومسؤولة عن رسم سياستها وبرامجها ومنطلقة من مبدأ التضامن الأممي في معالجة الشؤون الدولية، وملزمة أدبياً بمحتوي البيانات التي كانت تصدر عن اجتماعات الأحزاب الشيوعية في العالم. وكان (ح.ش.ع)يشارك في هذه الاجتماعات بأعلى المستويات ولم يتخلف عن حضورها حتى في أصعب الظروف.
لقد ساد الإرث الثقافي للعهد الستاليني، على مجموع الحركة الشيوعية العالمية مع استثناءات محدودة، مثل يوغسلافية والحزب الشيوعي الإيطالي. ولقد تثقف بهذا الإرث مؤسس وبان (ح.ش.ع) الرفيق فهد ومجايليه والذي يعتبر "الموقف من الحزب الشيوعي السوفيتي والدولة السوفيتية هو المحك الأساسي عن مدى إخلاص كل حزب شيوعي وكل رفيق شيوعي، وبالتالي فإن التعلم منهما هو بمثابة تعلم الانتصار".[1] هذا الإرث الثقافي الأيديولوجي أخذ بالانحسار تدريجياً، وخاصة بعد رحيل ستالين في عام 1953 وحل الكومنفورم (مكتب الإعلام الشيوعي) في عام 1956، وقد تلاشى مع مرور الزمن.
لقد واجه السوفييت في خمسينيات القرن الماضي، التعارض بين الالتزامات الأممية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي ومصالح الدولة السوفيتية ومحاولة التوفيق بينهما عند ظهور الدول التقدمية المعادية للإمبريالية والشمولية في نفس الوقت، مثل نظام عبد الناصر وبومدين في الجزائر وما شابه ذلك لاحقاً. وقد اشتد هذا التعارض في ظروف الحرب الباردة التي كانت تقتضي دعم هذه الأنظمة من جهة ودعم الأحزاب الشيوعية من جهة أخرى. وكان السوفييت يحاولون حل هذا التعارض بإيجاد توافق بين هذه الأنظمة والأحزاب الشيوعية لبلدانها.
كانت هذه هي الحالة في الحركة الشيوعية العالمية عندما أعيدت علاقات (ح.ش.ع) بالحركة الشيوعية العالمية مجدداً، بعد أن انقطعت في إثر انتكاسة (ح.ش.ع) في نهاية العقد الرابع بعد إعدام قادة الحزب الشيوعي في عام 1949، وذلك في مؤتمر الكومنولث المنعقد في لندن في عام 1954 والذي حضره الرفيق سلام عادل ممثلاً عن الحزب.
أود التأكيد هنا على أن رأي السوفيت في سياسة الحزب ومواقفه لم تطرح بشكل رسمي للمناقشة في اللجنة المركزية خلال الواحد والعشرين عاماً التي كان كاتب هذه السطور عضواً فيها (1964-1985). ولم يصل إلى سمعه بأنه طُرح قبل هذا التاريخ أو بعده، سوى مرة واحدة، سيأتي بيانها. ولكن الرأي السوفيتي كان حاضراً في أذهان أعضاء اللجنة المركزية من خلال السياسة المعلنة في وسائل الإعلام ومن قراءاتهم الشخصية ومن محاضر اللقاءات الرسمية بين ممثلي الحزبين ومن نصائح السوفييت المباشرة وغير المباشرة، والأخيرة كان ينحصر تداولها في المكتب السياسي عادة، حرصاً على عدم ثلم استقلالية قرارات اللجنة المركزية. وعند تفاقم الخلاف الصيني السوفيتي درست اللجنة المركزية ﻠ-;---;--(ح.ش.ع) ذلك في اجتماع استثنائي في صيف 1961 وصوّتت اللجنة المركزية بأكثرية صوت واحد فقط لصالح نهج الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي. [2]
لم تكن مواقف (ح.ش.ع) المتفقة مع رأي السوفيت بمعزل عن قناعة اللجنة المركزية، بدليل الاختلافات المهمة السياسية والفكرية التي حدثت بين الحزبين، وعلى سبيل المثال:
*- في نيسان 1965، قررت اللجنة المركزية في اجتماعها رفع شعار إسقاط سلطة عبد السلام عارف، وذلك خلافاً لسياسة السوفيت. وقد تخلى الحزب عن موضوعة التطور اللارأسمالي لمدة عشر سنوات، أي منذ هذا الاجتماع حتى منتصف عام 1975، حيث أقرت اللجنة المركزية مشروع برنامج جديد للحزب حوى هذه الموضوعة بصيغتها الجديدة " التوجه الاشتراكي"، والذي أقر في مؤتمر الحزب الثالث في عام 1976. وكان التخلي عن موضوعة التطور اللارأسمالي، مخالفاً لموقف السوفيت والأحزاب الشيوعية التي تؤيد الموضوعة.
*- بعد مجيء حزب البعث للسلطة عام 1968، واتخاذه جملة من الإجراءات التقدمية في مجالات مختلفة، بما في ذلك تطوير علاقاته بالدول الاشتراكية والإتحاد السوفيتي، ولكن دون التخلي عن سياسة قمع الحريات الديمقراطية وقمع المخالفين له، رغب السوفييت بتعاون الحزب الشيوعي مع حزب البعث. ففي ربيع 1971، وكان الحزب يتعرض إلى حملة إرهابية واسعة شملت اعتقال وتعذيب آلاف الشيوعيين تعذيباً وحشياً واستشهد الكثيرون منهم تحت التعذيب، أو الاغتيال. في هذا الوقت بالذات استفسر السوفيت من القائم بأعمال السكرتير الأول للجنة المركزية الرفيق زكي خيري عن شروط الحزب للتحالف مع حزب البعث، فأجابهم زكي خيري: "إن شرطنا هو أن يدلنا حزب البعث على قبور شهدائنا!". *[3] وواضح من الجواب رفض التحدث بالموضوع ، إن لم يكن احتجاجاً على الوساطة.
*- لم يكن موقف الحزب المعادي لسلطة البعث، بعد حملة القمع الوحشي التي تعرّض لها عام 1978، وقراره بخوض الكفاح المسلح لإسقاطه، محل قناعة السوفيت أو تعاطفهم. علماً بأن شعار إسقاط السلطة تقرر في اجتماع اللجنة المركزية الذي عقد في موسكو عام 1980. وقرار المباشرة بخوض الكفاح المسلح هو الآخر تقرر في اجتماع اللجنة المركزية ﻠ-;---;--(ح.ش.ع) في موسكو عام 1981، بالرغم من موقف السوفييت المعارض للمواجهة مع حزب البعث.
*- في صيف عام 1982، وعلى أثر انسحاب الجيش العراقي من الأراضي الإيرانية، التي كان قد احتلها في بداية الحرب العدوانية على الجارة إيران، وعودة تدفق الأسلحة السوفيتية إلى العراق، وصل إلى الحزب عرض من صدام حسين عبر الرفاق السوفيت وقد سلموه للرفيق زكي خيري في دمشق والذي أرسله بدوره إلى قيادة الحزب التي كانت قد تجمعت في كردستان. وكان عرض صدام يتضمن نقداً ذاتياً لأخطائه في السنوات الأخيرة تجاه (ح.ش.ع)، وأشار إلى أنه يدرك صعوبة استعادة الثقة بين الطرفين، وسيصدر عفواً عاماً، ويدعو للعودة إلى الجبهة الوطنية والقومية التقدمية والعودة للدفاع عن الوطن، وهو في كل ذلك لا ينطلق من موقف الضعف.
كان كاتب هذه السطور في دمشق ومتوجهاً إلى كردستان فحمّله زكي خيري رسالة إضافية تفيد بأن السوفيت متجاوبون مع العرض، وكان ذلك جواباً على استفسار من قيادة الحزب في كردستان. ودارت مناقشة بين رفاق اللجنة المركزية انتهت بإرسال جواب قاطع برفض التفاوض أو الحوار [4]وهذه هي المرة الوحيدة التي تدرس اللجنة المركزية موضوعاً بالارتباط المباشر مع رأي السوفيت.
بعد ثورة 14 تموز كان المكتب السياسي يستشير القيادة السوفيتية في بعض الأمور، ولا يلتزم إلا بما يقتنع به. ولي في هذا الخصوص مثالان:
الأول: اختلف أعضاء المكتب السياسي فيما بينهم حول حل تنظيمات الحزب في الجيش. فهناك فريق أراد حلها حرصاً على علاقة حسنة مع الزعيم عبد الكريم قاسم قائد الثورة والجمهورية، أما الفريق الثاني فرأى إبقاءها حرصاً على مستقبل الثورة، فعبد الكريم قاسم إنسان معرّض للموت أو الاغتيال. وباقتراح من عضو المكتب السياسي جورج تلو عرض الموضوع على القيادة السوفيتية، وحمل عامر عبد الله، الذي كان في موسكو، جواباً تحريرياً بخط سوسلوف عضو المكتب السياسي ومسؤول لجنة العمل الأيديولوجي في اللجنة المركزية جاء فيه: "إن احتفاظكم بتنظيمكم الحزبي في الجيش يدل على جديتكم وحرصكم على ضمان انتصار ثورة الشعب" [5]. وأخذ المكتب السياسي بالجواب.
أما الموقف الثاني، فأنقله من كتاب الرفيق زكي خيري وهو: "في بداية 1960، قام قاسم بإجازة جميع الأحزاب التي طلبت الإجازة باستثناء حزبنا، إذ أجاز بدلاً منه حزباً وهمياً بنفس الاسم لداود الصايغ الذي كان من زمن مضى عضواً في اللجنة المركزية لحزبنا وتواطأ مع قاسم لترويض حزبنا عن طريق هذه المناورة الخسيسة... وجاءتنا فتوى من سوسلوف بأن نقتدي بمثل البلاشفة الذين وافقوا على الوحدة مع المنشفيك في المؤتمر الرابع للحزب في استكهولم (مؤتمر الوحدة). فرفضنا هذه الفتوى. وشتان بين المنشفيك الذين كانوا آنذاك الأكثرية في الحزب الروسي وبين داود الصايغ الفرد الصنيعة! الذي لم يستطع حتى جمع الحد الأدنى من المؤسسين(60) توقيعاً. فأوعزنا لبعض رفاقنا غير المعروفين آنذاك بالتوقيع معه" [6]
الأمثلة التي مرت بنا تشير، بما لا يقبل الشك، إلى أن من يدّعي بأن علاقة (ح.ش.ع) مع السوفيت في النصف الثاني من القرن الماضي، كانت علاقة تابع ومتبوع، فهو أما أنه لا يعرف تاريخ هذه العلاقة وأما أنه يعرف ويحرّف. ومن غير الصحيح تعليق أخطاء الحزب الشيوعي العراقي على شماعة السوفيت، فالحزب وخاصة قيادته هي المسؤولة الأولى عن إنجازات الحزب وإخفاقاته.
وجدير بالإشارة إن الاختلافات في المواقف لم تؤثر على المساعدات التي كان يقدمها السوفيت للحزب، الزمالات الدراسية والحزبية ومقاعد المعالجة والراحة والاستجمام، شأنهم في ذلك شأن كل الأحزاب الشيوعية الحاكمة، والتي كانت تقدم مثل هذه المساعدات أيضاً للأحزاب والقوى التقدمية في البلدان النامية.
ولكن هل حصل يوماً ما ضغط من السوفيت لتبني رأياً محدداً؟ أجل حصل ذلك مرة واحدة ويتيمة، على حد علمي. ولم يكن ذلك اتجاهاً عاماً بأي حال من الأحوال. ففي المؤتمر الحادي والعشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي الذي عقد في شباط 1959، طلب الرفاق السوفيت من الرفيق سلام عادل إضافة عبارة "ابن الشعب البار" إلى ألقاب عبد الكريم قاسم في كلمته التي كان يريد إلقاءها أمام المؤتمر باسم (ح.ش.ع)، ولم يكن لديهم اعتراض آخر على نصها، فرفض سلام عادل ذلك وجادل السوفيت طويلاً بحضور الرفيق خالد بكداش الذي تدخل في النقاش وخاطب سلام عادل: "لماذا هذا الإصرار منك على الامتناع؟ لعل الرفاق السوفيت يعرفون عن قاسم ما لا تعرفون"! وفي آخر المطاف تجاوب سلام عادل وأضاف العبارة[7].
ولعل أحسن شهادتين مكتوبتين، وإحداهما تكمل الأخرى، يمكنهما أن تلخصا حقيقة تلك العلاقة، ويمكن للمرء أن يركن إلى صدقيتهما، لأنهما صادرتان عن قائدين هما الأكثر معرفة بطبيعة علاقة القيادة السوفيتية بقيادة الحزب الشيوعي العراقي في عقودها الأخيرة، ولأنهما جاءتا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وبالتالي فهما خاليتان من المجاملة. إحدى هاتين الشهادتين هي للرفيق عزيز محمد سكرتير اللجنة المركزية السابق ﻠ-;---;--(ح.ش.ع) ويذكرها سيف القيسي ذاته في كتيبه الصادر حديثاً وهي: " حاول الكثير من الكتاب والمعلقين أن يشيروا إلى تأثير السوفيت وإملاء رغباتهم علينا، وهو أمر يمكن دحضه في مواقف كثيرة. كنا نقرأ رأي السوفيت ونحلل مواقفهم بقدر ما يتعلق الأمر بسياستنا، لكننا لم نكن نستلم إيعاز منهم في تقرير سياستنا. وأود أن أؤكد على أننا لم نتأثر بتلك الإيحاءات، لكوننا نحن من يحدد الموقف في ظل الوضع العام الذي يعيشه حزبنا لا السوفيت. نعم كنا نسترشد بنظرياتهم وطروحاتهم لأنهم أصحاب تجربة طويلة. علماً بأنهم كانوا يؤكدون دوماً على ضرورة التقارب [مع نظام البعث] بما يخدم حزبنا. ولا أنكر دور مصالحهم المتبادلة مع الحكم في العراق والتي كان لها تأثير في إيجاد تفاهم مع النظام".
أما الثانية فهي للرفق زكي خيري، الذي كان يحل محل عزيز محمد عند غياب الأخير،حيث يذكر ما يلي: "كان الرفاق السوفيت يردون على كل استفسار نوجهه إليهم في المنعطفات السياسية الحادة ويقدمون لنا النصح الخالص. ولم يكن رد الفعل من جانبنا إيجابياً دائماً. ولم يقاطعوننا بسبب توترنا بل يواصلون الحوار بروح رفاقية ونفس طويل. وكنا نحن الذين نعرض عليهم خلافاتنا وعلى أشقائنا الشيوعيين الأجانب لنتسلح بفتاويهم في جدالنا مع بعضنا [8].
*****
نعود إلى كتاب القيسي. هناك معلومات غير دقيقة وردت في كتابه جراء عدم التحقيق في مدى صحتها، فعلى سبيل المثال لا الحصر ورد في الصفحة (122) من الكتاب ما يلي"وعلى الرغم من إطلاق سراح معظم الشيوعيين من السجون والمعتقلات، لمجرد نشرهم إعلانات في الصحف تبرئهم من المبادئ "الشيوعية والفوضوية"، فإنهم وبدون شك ظلوا حاقدين على شخص عبد السلام عارف..". إن هذه المعلومة غير دقيقة، فلم يطلق سراح معظم الشيوعيين لإعطائهم البراءة فقد كانت نسبتهم ضئيلة. ففي سجن نقرة السلمان الذي كان يضم أكبر عدد من السجناء "لم يتجاوز عدد المتبرئين عن 40 سجيناً من مجموع ما يزيد عن الألفين سجين"، كما يذكر ذلك أحد السجناء. [9] ومن بينهم أناس بسطاء لا علاقة لهم بالسياسة. وقد لعبت قصيدة "البراءة" للشاعر الكبير مظفر النواب دوراً مؤثراً في التصدي لهذا الإجراء التعسفي. وبدلاً من أن يدين القيسي هذا الإجراء المنافي لحقوق الإنسان فانه يستسيغه بقوله: "لمجرد نشرهم"ّ!
وهناك أخطاء معلوماتية لا يستهان بها في الكتاب، لم أتوقف عندها لعدم تأثيرها سياسياً وفكرياً على الكتاب. وكانت الفرصة متوفرة لدى الكاتب للتوثق منها من قادة الحزب وكوادره الذين التقاهم. وسأذكر ما انتبهت إليها في الهامش[10] وسنكتفي بهذا القدر من الملاحظات والتي تركزت على منهجية وأسلوب البحث بالدرجة الرئيسية.
الخاتمة
إن هناك جوانب إيجابية في الكتاب سبق وأن ذكرناها في سياق القراءة وهي، الإشارة إلى السيرة الذاتية السياسية لكثرة من الشخصيات العامة في الهوامش. وثمّنا جهود القيسي لاعتماده كم كبير من المصادر المتنوعة وتمكنه من الوصول إلى وثائق لم تكن معروفة سابقاً. وإضافة لذلك فإن الكتاب يحوي معلومات واسعة عن الوضع السياسي بشكل عام وعن مواقف (ح.ش.ع) بشكل خاص خلال تلك الحقبة من التاريخ.
ولكن المنهجية الخاطئة التي اتبعت في البحث شوّهت حقائق كبرى في تاريخ العراق المعاصر، كما مر بنا. إن ما أورده القيسي من معلومات في كتابه، عما تعرّض له (ح. ش.ع) من قمع وغدر وإجحاف في عهد البكر من جهة، وعن مواقفه الإيجابية ومرونته وتنازلاته من الجهة الأخرى، تخطئ تلك المعلومات أطروحته الأساسية في الكتاب، والتي تعد مرحلة البكر "قمة الانفتاح العلني السياسي والفكري والتنظيمي بالنسبة ﻠ(ح.ش.ع)". وتخطئ رأي المشرف القائل: "وكلاهما [الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث] يريد أن يفرض إرادته الفكرية والسياسية".
ومن اللافت للنظر أن هناك اهتماماً بالكم على حساب النوع في تدوين الكتاب. إذ أن هناك كماً كبيراً من الوقائع والأحداث وجرى الإطناب في سردها على حساب البعد التحليلي والدقة. ولم تستخدم المصادر بشكل سليم أحياناً، كما مر بنا. ولم تجر العناية بلغة الكتاب إذ تفتقر إلى السلاسة والوضوح المطلوبين، علاوة على الأخطاء اللغوية التي لا يمكن غض النظر عنها. فهي ليست مجرد زلات قلم، وقد أشرنا إلى نماذج من تلك الأخطاء في سياق القراءة.
وأخيراً، نعتقد أن المشرف يتحمل مسؤولية أخطاء الكتاب لا لكون المشرف مسؤولاً عن كل ما تحتويه الأطروحة (ما عدا الأمور التي يسجل تحفظه عليها) فحسب، بل بسبب منهجيته الخاطئة، فلولا منهجيته لما وقع القيسي بتلك الأخطاء، بدليل أن القيسي في كتاباته الأخيرة، بما فيها كتيبه الأخير "قراءة في ذاكرة عزيز محمد..."، لم يرتكب فيها أخطاء كالتي أشرنا إليها خلال هذه القراءة، لتحرره نسبياً من طوق منهجية المشرف، والاقتراب من منهجية أخرى في البحث التاريخي، وهي منهجية تعتمد البحث عن الحقيقة وتوثيقها والدفاع عنها بصرف النظر عمن يحترمها أو لا يحترمها. وبذلك يمكن استخلاص تجارب وخبر التاريخ بشكل سليم لتوظيفها للحاضر والمستقبل.
وإن فكرة الوسطية التي يشير إليها القيسي، في تعليقه المنشور على الحلقة الثالثة في موقع "الحوار المتمدن" قائلاً "... برغم كل الظروف التي نمر بها نبقى في كفة الوسطية"، هي منهجية منافية للبحث التاريخي العلمي الذي يتطلب التحيز للحقيقة وعدم الزوغان عنها، فالوسطية في البحث التاريخي لا ينتج عنها سوى تشويه الحقائق التاريخية، شئنا ذلك أم أبينا.
[1] - كاظم حبيب وزهدي الداودي، "فهد والحركة الوطنية في العراق"، ص142.
[2] - جاسم الحلوائي، "محطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"، ص234.
[3]- * ذكر الرفيق زكي خيري ذلك في الرسالة الموجهة إلى الرفاق الموجودين في كردستان، كتدبير صياني، وهم كل من كريم أحمد الداود عضو المكتب السياسي، وشاكر محمود ومهدي عبد الكريم وبهاء الدين نوري وكاتب هذه السطور أعضاء اللجنة المركزية.
[4] - للمزيد أنظر باقر إبراهيم، مذكرات. ص 208.
[5] - زكي خيري ، صدى السنين في ذاكرة شيوعي مخضرم. ص 228.
[6] - المصدر السابق، ص231.
[7] - المصدر السابق. ص 200.
[8] - المصدر السابق. ص 228
[9] - محمد علي الشبيبي، " ذكريات الزمن القاسي"، منشورات مكتبة الحكمة، ص128.
وقد أكد الشبيبي، خلال مخابرة تلفونية لكاتب هذه السطور بأن المتبرئين بينهم أناس بسطاء لا علاقة لهم بالسياسة.
[10] - * معلومات غير صحيحة:
أ- لم يحضر الرفيقان عزيز محمد وزكي خيري الاجتماع الحزبي الذي عقد في حزيران 1964 لكوادر الحزب الشيوعي في موسكو، كما جاء في الصفحة (138) الهامش (35). وخلط القيسي هذا الاجتماع بالاجتماع الكامل للجنة المركزية في أب (1964) كما جاء في الصفحة (127) الهامش (34).
ب - لم ينتخب عزيز الحاج للجنة المركزية بعد عودته من الخارج، كما جاء في الصفحة (158) فقد كان عضو فيها قبل ذلك.
ج- لم يكن الدكتور صلاح خالص أحد أقطاب الحزب، كما جاء في الصفحة (303)، وإنما كان عضواً عادياً في الحزب.
د- لم تكن لجنة النظام الداخلي في المؤتمر الوطني الثالث للحزب برئاسة كريم احمد، كما جاء في الصفحة (476)، بل كانت برئاسة عمر علي الشيخ، وكان كاتب هذه السطور عضواً فيها.