قراءة نقدية في كتاب -الحزب الشيوعي العراقي في عهد البكر ( 1968- 1979)-. للدكتور سيف عدنان القيسي (2)


جاسم الحلوائي
2014 / 10 / 20 - 21:25     

كانت سياسة البعث، قبل قيام الجبهة وبعدها، قائمة على إبقاء (ح. ش. ع) في دائرة محددة والسعي إلى إعادته إلى هذه الدائرة بالقوة ولو بالحديد والنار. وقد رسم طه الجزراوي بيده دائرة على ورقة ليوضح مقصدهم للرفيقين عامر عبد الله ورحيم عجينة وذلك في وقت مبكر، وتحديداً عقب الهجوم على عمال الزيوت النباتية والتجمع الجماهيري في ساحة السباع في بغداد في تشرين الثاني 1968، كما يشير إلى ذلك رحيم عجينة في مذكراته (الخيار المتجدد، ص97). أما بعد ما يقارب عشر سنوات من التاريخ المذكور، فقد تحوّلت تلك السياسة إلى نهج يستهدف التخلص من (ح.ش.ع)، أما بإخراجه من الساحة كلياً أو تحويله إلى حزب كارتوني لا حول له ولا قوة ، ينفذ ما تطلبه منه سلطة البعث إرضاءً للرجعية العربية، وخاصة العربية السعودية وإرضاءً للغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
فقد صرّح صدام حسين، كما يشير إلى ذلك رحيم عجينة في مذكراته المذكورة (ص134) عن الوجهة السياسية الجديدة لحزب البعث في أحد اجتماعات اللجنة العليا للجبهة آنذاك بقوله : "إن تحالفهم مع الحزب الشيوعي العراقي لا يشكل قوة لهم وإنما يشكل عبئاً عليهم، فدول المنطقة والدول الغربية غير مرتاحة من هذا التحالف". فلا غرو من أن يحمل عزة الدوري معه 500 نسخة من صحيفة "الراصد"، أخذها من المطبعة بنفسه، عند سفره إلى السعودية ليقدمها عربوناً للحلفاء الجدد. وقد وصلت إلى الحزب الشيوعي في حينها رسالة تتضمن الخبر المذكور من عامل يعمل في المطبعة التي طبعت الصحيفة المذكورة وقرأها كاتب هذه السطور.
كان على اللجنة المركزية أن تدرس تدهور الأوضاع وقد قامت بذلك، ولو أن الدراسة جاءت متأخرة لبعض الوقت، ففي اجتماعها الكامل المنعقد في آذار 1978، وضعت اللجنة المركزية النقاط على الحروف في أهم القضايا الملتهبة، واقترحـت المعالجات الضرورية بما في ذلك المطالبة بإنهاء فترة الانتقال وإجراء انتخابات لجمعية تأسيسية تضع دستوراً دائماً للبلاد. وكان كل ما طالبت به اللجنة المركزية وارداً في ميثاق الجبهة الوطنية والقومية التقدمية.
كان رد فعل حزب البعث على تقرير اللجنة المركزية عنيفاً، بالرغم من أن معالجاته كانت في إطار الحرص على ديمومة الجبهة الوطنية والقومية التقدمية. وجنّد حزب البعث صحيفة "الراصد" للتهجم على التقرير سياسياً وفكرياً. وظل البعث يطالب الحزب الشيوعي بسحب التقرير والتراجع عنه. إلا أن طلب حزب البعث قوبل بالرفض من قبل قيادة الحزب الشيوعي.
ولم يكتف البعث بالهجوم السياسي والفكري على الحزب الشيوعي وملاحقة أعضائه بل وأردف ذلك بعمل استفزازي وإجرامي خطير وذلك باعتقال وإعدام 31 شاباً من رفاق وأصدقاء الحزب العسكريين والعاملين في القوات المسلحة بتهمة التآمر على نظام الحكم. وهذه التهمة ملفقة فهناك شروط ومستلزمات للانقلابات العسكرية يعرفها البعثيون جيداً. ولم يكن لهؤلاء الشباب أي نشاط سياسي في الجيش وكانت علاقات الشيوعيين منهم فردية بتنظيماتهم المدنية. وهذه الصيغة لوضع الشيوعيين في الجيش كانت باتفاق الحزبين، الشيوعي والبعث، ويمكن اعتبار الإعدامات "القشة" التي قصمت ظهر تحالف حزب البعث و(ح.ش.ع). وأدى إلى نهاية الجبهة، "لينفرد حزب البعث بإدارة البلاد والعباد بعد أن استطاع أن يتبع شتى الأساليب من قتل وتشريد وإبعاد وسجن وتعذيب...الخ" كما ورد في نفس مقدمة الدكتور أسامة عبد الرحمن الدوري بالذات.
ويؤكد كل ما مر بنا، خلال الفترة من سيطرة حزب البعث على السلطة ثانية عام 1968 حتى انهيار الجبهة في عام 1979، بأن الحزب الشيوعي العراقي، الذي لم يمس شعرة واحدة من أي بعثي، والذي دعم كل إجراء لصالح الشعب وصالح حركة التحرر الوطني العربية وكذلك الحركة القومية الكردية، ولم يستخدم أية وسيلة عنفية لفرض آرائه، كان الضحية وحزب البعث كان الجلاد. وإن رأي الدكتور الدوري "وكلاهما يريد أن يفرض إرادته الفكرية والسياسية" هو تجني صريح على الحقيقة والواقع، ودليل على فشل منهجية كسب احترام الجميع، أو بعبارة أخرى منهجية مساواة الضحية بالجلاد،
أما تبعات هذه المنهجية الخاطئة وخطورتها فسأتناولها من زاويتين. الأولى خطورتها على الوضع السياسي الراهن في العراق، والثانية تأثيرها السلبي على أطروحة سيف القيسي.
يذكر الدكتور الدوري في مقدمته للكتاب ما يلي" وللأسف الشديد إن القوى السياسية الجديدة في العراق التي اعتلت صهوة الحكم في العراق بعد عام 2003، والتي تحمل شعارات الديمقراطية والحرية، ظلت مرة أخرى تتناحر حتى وقتنا الحاضر وظلت دماء العراقيين تسيل بغزارة وظل الخوف بين مكونات الشعب العراقي هو العامل المسيطر، وكأن هذه القوى التي عانت لعشرات السنين لم تستفد من تجارب الماضي القريب، ولهذا سيبقى العراق ضعيفاً يئن من جراحات تمزقه وتناحره ولا يستطيع اللحاق بركب الحضارة الإنسانية، على الرغم من كل إمكانياته البشرية والمادية الكبيرة، ما دامت القوى السياسية تؤمن بقيم الثأر والانتقام والعداوات وعدم الثقة".
في إطار مسعى الدكتور أسامة الدوري لكسب احترام الجميع، فأنه يخلط الأوراق في الفقرة المشار إليها أعلاه، فهو يخلط بين الصراعات التناحرية العنيفة التي لا يمكن أن تنتهي إلا بانتصار أحد طرفي الصراع، وبين الاختلافات والصراعات السياسية بين القوى السياسية المساهمة في العملية السياسية والتي يسميها الدكتور " القوى السياسية الجديدة في العراق التي اعتلت صهوة الحكم في العراق بعد عام 2003، والتي تحمل شعارات الديمقراطية والحرية"
هناك صراع دموي أحد أطرافه المنظمات الإجرامية، القاعدة وفلول البعثيين، أسلاف الداعشيين، من جهة، وكل مكونات الشعب العراقي من الجهة الأخرى. فقد شرع الإرهابيون بإجرامهم منذ آب 2003 عندما فجروا سيارة مفخخة قرب السفارة الأردنية في بغداد، مما أدى إلى مقتل نحو 11 شخصاً على الأقل. ثم تفجير سيارة مفخخة بالقرب من مقر الأمم المتحدة في بغداد، مما أدى إلى مقتل 22 شخصاً أكثرهم أجانب، من بينهم المبعوث الدولي الخاص للأمم المتحدة البرازيلي سيرجي دي ميللو. وكلا التفجيرين لم تكن لهما علاقة ب"القوى السياسية الجديدة". وتبع ذلك عشرات الآلاف من تفجيرات السيارات المفخخة والعبوات الناسفة والاغتيالات والسطو المسلح وخطف الناس للحصول على الفدية وغيرها من الاعتداءات المسلحة والتجاوزات على حرية الناس وأموالهم وأعراضهم ومقدساتهم. وراح ضحية الأعمال الإرهابية مئات الآلاف من الضحايا الأبرياء من جميع مكونات الشعب العراقي بدون أدنى استثناء، بينهم الكثير من النساء والأطفال.
وجرياً على منهج كسب احترام الجميع لم يشر الدكتور الدوري في مقدمته المؤرخة في شباط 2014، لا من قريب ولا من بعيد، إلى منظمة القاعدة ونشاطاتها الإرهابية، فهو لم يسمها لكي يخلطها بصراعات "القوى السياسية الجديدة في العراق التي اعتلت صهوة الحكم في العراق بعد عام 2003"؟! وهذه أخطر نتيجة لمنهجية كسب احترام الجميع. فالصراع هنا صراع مصيري، فأما انتصار قوى الإرهاب وأما انتصار الشعب العراقي بكل مكوناته. ولا يجوز خلط هذا الصراع بصراعات " القوى السياسية الجديدة" بصرف النظر عن أخطائها في إدارة الصراع رغم أهميتها، وهي تتعلق بفشل قيادة الحكومة قي إدارة الصراع مع الإرهابيين بشكل صحيح، وتحملها قسطاً وافراً من مسؤولية تكاثر حواضن الإرهابيين وإخفاقها في حل مشاكلها بتلبية مطالب سكانها المشروعة. وعدم مكافحة النزعات الطائفية، بل وتشجيع غلوائها عملياً. وفشلت الحكومة في معالجة استشراء الفساد المالي والإداري وغيرها من المظاهر السلبية والإخفاقات التي كانت ولا تزال تصب لصالح الإرهابيين. مع ذلك ينبغي عدم الخلط بين شكلين من الصراع مختلفين نوعياً، الأول رئيسي والآخر ثانوي، ومن المفروض أن يخضع الثاني لمصلحة حل الأول بنجاح. والمشهد السياسي الراهن يؤكد ذلك. فعندما استفحل خطر الإرهابيين وأصبح يهدد الجميع لاحظنا انحسار الصراعات بين قوى العملية السياسية وميلها إلى الالتقاء، بهذا الشكل أو ذاك، في خندق واحد.
فالصراعات والخلافات بين "القوى السياسية الجديدة في العراق التي اعتلت صهوة الحكم في العراق بعد عام 2003" هي ليست تناحريه، و نابعة بالأساس من مصالح اجتماعية واقتصادية متباينة، ولا يغّير من طبيعتها غير التناحرية كونها مشوبة بنزعات الثأر والانتقام والطائفية والشوفينية بجانب ضيق الأفق القومي، ولا باحتدامها وشدتها وخروجها عن المألوف أحياناً. ولا يمكن التخلص من هذه الصراعات بالمواعظ، ولكن من المكن ومن الضروري تنظيمها وتجنب احتدامها واشتدادها. ولم تجد البشرية لحد الآن من وسيلة لإدارة هذه الصراعات وتجنب انفجارها أفضل من النظام الديمقراطي المؤسساتي. فاختلافات هذه القوى يجب أن تحل وفق الدستور، رغم نواقصه الجدية، وداخل مجلس النواب أما بالتوافق أو بالأغلبية.
ورغم أن الديمقراطية في العراق لا تزال تحبو وتعاني من المحاصصة الطائفية والفساد الإداري والمالي والتدخل الخارجي، ومن عدم قناعة بعض القوى التي بيدها دفة الحكم بالديمقراطية، بل ترى فيها مجرد وسيلة للوصول إلى الحكم، فإنها تمكنت من تجاوز أزمات الحكم نسبياً وخاصة الأزمة الأخيرة، عندما تشبث رئيس الوزراء السابق نوري المالكي بالكرسي. فقد تمكن مجلس النواب إجراء تداولاً في هرم السلطة، أدى إلى فتح بعض الآفاق الواعدة بالتغيير الايجابي. وعلى القوى الحريصة فعلاً على تجنيب "القوى السياسية الجديدة" من الاصطدام والاحتراب والحريصة أيضاً على إقامة نظام ديمقراطي، شحذ الهمم والكفاح من أجل إحراز النصر في الصراع التناحري، الانتصار على الداعشيين أحفاد القاعدة وفلول البعث من جهة، والسعي لتغيير توازن القوى ووجهة العملية السياسية سلمياً، بما يضمن إقامة نظام وطني ديمقراطي مزدهر، من الجهة الأخرى، بدلًا من نشر اليأس والقنوط وفقدان الأمل، الذي يشيعه الدكتور الدوري بعد خلطه للأوراق، عندما يشير في مقدمته إلى القول: "ولهذا سيبقى العراق ضعيفاً يئن من جراحات تمزقه وتناحره ولا يستطيع اللحاق بركب الحضارة الإنسانية، على الرغم من كل إمكانياته البشرية والمادية الكبيرة، ما دامت القوى السياسية تؤمن بقيم الثأر والانتقام والعداوات وعدم الثقة"
لقد لاحظنا خطورة منهج كسب احترام الجميع على الوضع السياسي الراهن وسنشير إلى تأثيره على كتاب سيف القيسي من خلال قراءته.