|
التحرش الجماعي بين الكبت الجنسي و علم النفس
محمود جرادات
الحوار المتمدن-العدد: 4528 - 2014 / 7 / 30 - 20:44
المحور:
ملف فكري وسياسي واجتماعي لمناهضة العنف ضد المرأة
بين حين و آخر ، و في فترات متقاربة جداً تكاد تكون يومية ، تطالعنا أخبار معظمها من دول عربية ، عن حوادث تحرش جماعية، يشارك فيها عدد كبير من الذكور ، يستهدفون جماعة صغيرة من الفتيات ، و أحياناً فتاة واحدة ، و عادة ما يكون عدد المتحرشين أضعاف عدد المستهدفات ، هذا عدا عن حوادث التحرش الكثيرة التي تمر مرور الكرام . هل يهدف التحرش إلى تفريغ الكبت الجنسي ؟؟ في البداية علينا أن نقول أن الغريزة الجنسية تحتوي على بعدين مترابطين بعلاقة متبادلة : بعد نفسي و بعد بيولوجي . البعد النفسي و الذي يعني تلك الغريزة المحركة للإنسان و المؤثرة بشكل مباشر على أفعاله حتى في المجالات الأخرى ، و التي من الممكن أن تأخذ أكثر من شكل و قد تتعرض للتحويل إلى مستقبل آخر . أما البعد البيولوجي فإن الوسيلة الوحيدة لتفريغه هو التفريغ الطبيعي من خلال ممارسة الجنس ، أو بصورة أشمل : قذف السائل المنوي عند الذكور و الأورجازم عند الإناث . و بما أن علاقة البعد النفسي و البيولوجي متبادلة و مترابطة فإن عدم تفريغ الكبت الجنسي بصورته الطبيعية سيؤثر في مسألة الكبت الجنسي بصورته النفسية . إن التحرش ، غالباً ، لا يؤدي إلى تفريغ جنسي بيولوجي ( نتحدث هنا عن التحرش و ليس الإغتصاب) لذا فإن الهدف من التحرش الجنسي ، ليس تفريغ الكبت بالدرجة الأولى ، و إن كان من الممكن أن يكون أحد الأسباب ، لكن في حالة التحرش الفردي و ليس الجماعي . لتوضيح هذه النقطة ، التحرش الفردي (شخص لشخص) يبدو مستساغاً أكثر بكثير من التحرش الجماعي (عملية مقارنة و ليس تبرير) إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مسألة الغريزة الجنسية . فنحن نعلم بطبيعة الحال ، أن التحرش الفردي قد ينجح في بعض الأحوال في أن يتحول إلى علاقة جنسية لاحقاً ، طبعاً يعتمد هذا على عدة عوامل تتعلق بالطرفين . لكن في مرحلة التحرش الجماعي ، لا يوجد عاقل قد يتصور نجاح احد المتحرشين في الوصول إلى علاقة جنسية نتيجة لفعلته هذه ( نتحدث عن علاقة جنسية مشتركة و ليست اغتصاب) . بالتالي فإن تفريغ الكبت الجنسي في التحرش الجماعي لا يمكن أن يكون أحد الأسباب ، عكس التحرش الفردي الذي يمكن أن تكون الرغبة الجنسية هي السبب الرئيسي ، بل غالباً ما تكون كذلك . بعد استثناء التفريغ الجنسي البيولوجي الكامل كسبب رئيسي للتحرش الجماعي ، فإن الأسباب الفعلية ستبدو نفسية أكثر من كونها جسدية ، و قبل الانتقال إلى العامل النفسي الاجتماعي ، لا بد أن نمر بملاحظة مهمة ، و هي أن التحرش و إن لم يكن ليؤدي إلى تفريغ جنسي ، لكنه سيؤدي إلى استثارة جنسية في كثير من الأحوال ، استثارة هرمونية مؤقتة تزول بزوال المؤثر المباشر ( ارتفاع في مستوى الدوبامين) ، تخفيف مؤقت للكبت الجنسي يلحقه زيادة في الكبت بزوال تأثير مصدر الإثارة ( و آثار جسدية مثل الاحتقان في الخصيتين و غالباً ما يحصل ذلك في حالة التحرش الجسدي) . ذكرنا منذ قليل أن الكبت الجنسي يتمثل في بعدين ( أو أقنومين إذا ما استعرنا هذه العبارة اللاهوتية من الديانة المسيحية) ، و بينما لا يتم تفريغ البعد البولوجي إلا بالممارسة الجنسية الفعلية، فإن البعد النفسي يختلف بطبيعة الحال في بعض التفاصيل . إن أهم تأثيرات الجنس النفسية هي الشعور بالسعادة و النشوة ، تعزيز الثقة بالنفس ( أيضاً تسمى تعزيز أو دعم الليبيدو) ، منع تحويل الغريزة الجنسية إلى بديل موضوعي أو رمزي قد يتخذ شكل سلبي (كما ذكرت في مقالي السابق : الكبت الجنسي في خدمة العنف الديني ) و بالعكس فإن التأثيرات النفسية السلبية ستؤدي إلى الاكتئاب و ضعف الثقة بالنفس و الانسحاب الجنسي ، و التحويل الغريزي نحو بدائل أخرى أهمها العنف الجسدي و اللفظي . إن التحرش الجماعي من هذه الناحية ، يمكن تفسيره بالعنف الجماعي المتحول عن كبت جنسي مزمن ، أو حسب نظرية بيركوفيتز، في أن الاحباط يسبب زيادة في السلوك العدائي الموجه نحو النفس و الذي سيوجه نحو الآخر متى وجد الهدف المناسب لتمثيل هذه العدائية ، في الحقيقة يمكن تلخيص هذه النقطة المهمة في الجملة التالية : الهدف الجنسي غير المتوفر سيكون هدف السلوك العدائي ، إنها حالة انتقام لا شعورية، تدمير ما لا تستطيع الحصول عليه !! لكن كل ما سبق لا يمكن أن يفسر ظاهرة التحرش الجماعي ، دون الدخول في أهم جزئية في هذا الخصوص : السلوك الجمعي (collective Behavior) السلوك الجمعي هو سلوك تلقائي جماعي غير منظم ، لا يمكن السيطرة الذاتية عليه و لا يمكن التنبؤ بتطوراته . إن اوضح الامثلة تلك التي تتمثل في عمليات الذعر الجماعي ، التجمعات الانتخابية، المظاهرات ، اعمال العنف العنصرية ، الجماهير الرياضية. و يشترط توفر عاملين اثنين من اجل خلق السلوك الجمعي : جماعة من الافراد و مصدر ايحاء ، و كلما زاد عدد الافراد و زادت قوة الايحاء ، تزيد درجة خطورة السلوك الجمعي . إن أخطر ظاهرة يخلقها هذا السلوك ، تتمثل في غياب الفردانية ، و انعدام الشخصية الأصلية داخل الجماعة الكبيرة ، فقدان الهوية ، و بالتالي فإن الشخص سيقوم في وسط الجماعة بعمل ما لا يقوم بفعله في حالته الطبيعية ، كما يقول غوستاف لوبون " يمكن أن يكون الشخص متحضراً إلى أبعد حد، لكنه في وسط الغوغاء سيصبح بربرياً" !! السلوك الجمعي يؤدي إلى انحدار مخيف في درجة الوعي !! التحرش الجماعي بطبيعة الحال ، لا يخرج عن كونه نوعاً من أنواع السلوك الجمعي ، عدد كبير من الافراد ، مصدر ايحاء ، يتبعه غياب للوعي ، تصرفات غير منظمة و غير مقبولة في الحالات الطبيعية. لذلك ن من الطبيعي أن تجد شخصاً مشاركاً في عملية تحرش جماعي لكنه لا يتحرش بصورة فردية ، في الحقيقة إن وجودك داخل جماعة كبيرة سيسهل عليك إطلاق اللاوعي المكبوت في داخلك !! ملاحظة أخرى وجب أن نشير إليها ، و هي أن السلوك الجمعي ينتشر بطريقة العدوى ، إن وجود جماعة متحرشة في مكان ما سيشجع وجود جماعات أخرى، سيشكل نوع من الإغراء للتعرض لنفس نوع الإيحاء المسبب للحالة الأصلية ، من هنا انتشرت عمليات التحرش الجماعي في مجتمعاتنا ، بطريقة العدوى التي لم يتم التعامل معها قانونياً من أجل منع انتشارها و استئصالها في بدايتها ، فأصبح استئصال الوباء الآن في غاية الصعوبة .
#محمود_جرادات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكبت الجنسي في خدمة العنف الديني
-
خروجاً من الدفاع السلبي
-
المتمرد : قراءة في متاهة كامو الخالدة
-
الإسلام و العلمانية : خرافة التوافق
المزيد.....
-
نجل ولي عهد النرويج متهم بارتكاب اغتصاب ثان بعد أيام من اتها
...
-
انحرفت واستقرت فوق منزل.. شاهد كيف أنقذت سيارة BMW امرأة من
...
-
وزيرة الخارجية الألمانية: روسيا جزء من الأسرة الأوروبية لكنه
...
-
الوكالة الوطنية توضح حقيقة زيادة منحة المرأة الماكثة في المن
...
-
ما حقيقة اعتقال 5 متهمين باغتصاب موظف تعداد في بابل؟
-
مركز حقوقي: نسبة العنف الاسري على الفتيات 73% والذكور 27%
-
بعد أكثر من عام على قبلة روبياليس -المسيئة-.. الآثار السلبية
...
-
استشهاد الصحافية الفلسطينية فاطمة الكريري بعد منعها من العلا
...
-
الطفولة في لبنان تحت رعب العدوان
-
ما هي شروط التقديم على منحة المرأة الماكثة في البيت + كيفية
...
المزيد.....
-
جدلية الحياة والشهادة في شعر سعيدة المنبهي
/ الصديق كبوري
-
إشكاليّة -الضّرب- بين العقل والنّقل
/ إيمان كاسي موسى
-
العبودية الجديدة للنساء الايزيديات
/ خالد الخالدي
-
العبودية الجديدة للنساء الايزيديات
/ خالد الخالدي
-
الناجيات باجنحة منكسرة
/ خالد تعلو القائدي
-
بارين أيقونة الزيتونBarîn gerdena zeytûnê
/ ريبر هبون، ومجموعة شاعرات وشعراء
-
كلام الناس، وكلام الواقع... أية علاقة؟.. بقلم محمد الحنفي
/ محمد الحنفي
-
ظاهرة التحرش..انتكاك لجسد مصر
/ فتحى سيد فرج
-
المرأة والمتغيرات العصرية الجديدة في منطقتنا العربية ؟
/ مريم نجمه
-
مناظرة أبي سعد السيرافي النحوي ومتّى بن يونس المنطقي ببغداد
...
/ محمد الإحسايني
المزيد.....
|