|
موقع التصوف في الفكر الفلسفي العربي الاسلامي (2).
تاج السر عثمان
الحوار المتمدن-العدد: 4528 - 2014 / 7 / 30 - 14:04
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
تأملنا سابقا في التصوف الاسلامي واشرنا الي اهمية النظرة الشاملة لظاهرة التصوف الاسلامي التي انبثقت في صدر الدعوة الاسلامية باعتباره نتاج حركة وتطور خلال المراحل والاوضاع المختلفة التي مر بها المجتمع الاسلامي ، وتبدل اوضاعه الفكرية والسياسية والفلسفية ، وتفاعل المجتمع الاسلامي مع تلك الشعوب التي انخرطت في سلك الاسلام وربطته بتقاليدها وخصائصها من منطلق التأثير المتبادل لتلك الثقافات. ذلك لأن النظرة الاحادية تحجب عنا التقدير المتوازن والنظرة السليمة لظاهرة التصوف . فمثلا علي حسين الجابري ينظر الي اصل التصوف باعتباره "عربي اسلامي يستمد الزهد اساسا من الكتاب والسنة ، فالزاهد في عرف العربي هو الذي ينذر نفسه الي الله ابتداء من الذبح لبيت الله الحرام الي التضحية بالنفس " (الجابري : مرجع سابق ) علما بأن هذا ينطبق علي الديانات الأخري التي عرفت مفهوم الزهد والتضحية في المعابد والكنائس ، وعلما بأن الكتاب والسنة جاءت حسب الدين الاسلامي مكمل للديانات السماوية الأخري ، وعلما بأن قبائل وشعوب المنطقة العربية عرفت الصوم والاضحية والحج للكعبة قبل ظهور الاسلام لآماد بعيدة ، وبالتالي لايمكن استيعاب وفهم ظاهرة التصوف الاسلامي بمعزل عن التفاعل بين تلك الشعوب مع عدم تجاهل خصوصية المجتمع الاسلامي ، تلك الخصوصية التي لاتنعزل عن العالمية حسب ديالكتيك التفاعل بين العام والخاص.فمثلما استفاد الفكر الاسلامي من المعارف الفلسفية والعلمية والأدبية والفنية لتلك الشعوب اثري حياة تلك الشعوب بكل ماهو جميل وانساني وروحي. ذلك مهم ، لأنه في التطورات اللاحقة للمجتمع الاسلامي تطور مفهوم التصوف نفسه وتعددت وتنوعت مذاهبه الفكرية واشكاله التنظيمية، واصبح تنظيما تربويا اجتماعيا اساسه الفلسفي الايمان بوحدة الموجودات علي اعتبار الصدور من منطلق اعتقادي مخالفين بذلك الاتجاه المعتزلي العقلي الذي يري الانقياد الكلي الي اوامر الخالق ومشيئته معتقدين بالتوكيل والرضا. حتي تطور التصوف واصبح يعني الفناء في المعشوق الحق وقيل " أن التصوف اوله علم واوسطه عمل وآخره موهبة " ( الشيبي : مرجع سابق). وحتي تعريف ابن عربي الذي نظر للتصوف بمعني " الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهرا وباطنا وهي الأخلاق الالهية" ، اما نظرة الكاشاني اليه " هو التخلق بالاخلاق الالهية مشيرا الي منهجه في مقدمة كتابه اصطلاحات الصوفية ، وأن المعرفة الصوفية لاتأتي عن الثقافة أو التجربة أو التفكير العقلي الواعي ، وانما تقوم علي الفيض الاشراقي وتنبع من داخل القلب ". اذن نحن امام تطور جديد في نظرية المعرفة تقول بأنها تنبع من القلب ، دون اعتبار لتراكم لمعارف السابقة ودون الاعتبار للواقع الموضوعي وديالكتيك النظرية والممارسة، فالنظرية ترشد الممارسة والممارسة تطور وتخصب النظرية ، وذلك لايختلف عن الفلسفات المثاليةالذاتية التي تعير العقل والواقع الموضوعي في نظريةالمعرفة ومصدرها . واستمرارا في منهج التطور الباطني في المجتمع الاسلامي تناول ابن خلدون التصوف من وجهة نظر أخري تاريخية ، اشار بقوله " لما فشا الاقبال علي الدنيا في القرن الثاني الهجري فما بعده وجنح الناس الي مخالطة الدنيا اختص الزهاد علي العبادة باسم الصوفية والمتصوفة ، وكان التصوف اذن هو المبالغة في الزهد والعبادة " . ويطور الجرجاني تعريف ابن عربي بالاختلافات التالية:يقول: " التصوف هو العلم بالله سبحانه من حيث اسماؤه وصفاته ومظاهرها واحوال ابداء والمعاد وبحقائق العالم وكيفية رجوعها الي حقيقة واحدة هي الذات الآحدية ومعرفة طريقة السلوك والمجاهدة لتخليص النفس من مضايق القيود الجزئية وايصالها الي مبدئها واتصافها بنعت الاطلاق والكلية"( الجرجاني مرجع سابق). اذن ابن خلدون يقترب من المفهوم المادي للتاريخ ،الذي يري التأثير المتبادل بين البنية الاقتصادية والطبقية للمجتمع وأثرها علي تطور الافكار ، وتأثير الافكار علي المجتمع نفسه في تفاعل ديالكتيكي بين الواقع والفكر. ونظر ابن خلدون الي تطور المجتمع الاسلامي الذي تبدلت أوضاعه الاقتصادية وتمايزت فيه الطبقات واقبل الناس بنهم علي الدنيا ونعيمها الزائل، حتي برز مجتمع جديد تمايزت فيه الطبقات وازداد الأغنياء غنئ فاحشا ، وازداد الفقراء فقرا في العهود اللاحقة لبني امية وبني عباس ومابعدها . وشرح ابن خلدون الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي ادت لقيام التصوف بمعني أنه كان رفضا لتلك الظواهر في المجتمع التي قامت علي التفاوت الفاحش في الثروة ، وبعدت عن روح الزهد والاسلام التي تم تكريسها في بواكير الدعوة الاسلامية. كما يطور ابن عربي والكاشاني مفهوم التصوف ونظرية المعرفة الصوفية ويصل الي مرحلة العلم بالذات الالهية والفناء في المعشوق ، وبالطبع لايمكن رؤية ذلك بمعزل عن تلاقح المجتمع الاسلامي مع ثقافات الشعوب الأخري التي عرفت التصوف ومنهجه القائم علي أن المعرفة مصدرها القلب وليس العقل او الواقع الموضوعي أوالحقيقة الموضوعية. علي أنه ايضا لايمكن تناول التصوف بمعزل عن الاتجاه الأولي له القائم علي التضحية والزهد الرهباني في المسيحية وبواكير الدعوة الاسلامية التي قامت علي الزهد والايثار، وظهور فرق الشيعة ومنهجها في التصوف بعد واقعة كربلاء ومانتج عنها من روح الزهد وتبكيت الضمير ، والاتجاه الانعزالي الي الله ومقاومة الترف ولبس الصوف ، وتطور وتشعب البنية الاجتماعية والاقتصادية في مجتمعات الخلافة الاموية والعباسية والعثمانية ، والتي شهدت التفاوت الصارخ في الثروة والفساد باسم الاسلام والتفسخ الخلقي والانغماس في الشهوات وملذات الدنيا وتكديس الثروة والقناطير المقنطرة من الذهب ، التي انبثقت من نمط الانتاج الاقطاعي القائم علي الخراج ونهب المزراعين وفائض عملهم ، حتي قيل أن الخليفة هارون الرشيد شهد سحابة مثقلة بالماء تجري قال : اينما هطلت في رقاع البلاد المختلفة ، فان خراجك سوف يصلني. اضافة الي اثر المسيحية المرتبط بمحاربة الشهوة والزواج عند الرهبان والقسسة. فضلا عن الفلسفة الفارسية القائمة علي الزهد الذي تحول الي هدف اجتماعي وسياسي ادي الي تغيير النظم الاجتماعية في بعض الأحيان ، اضافة الي التحول المفاجئ لبعض الاشخاص الذين عاشوا حياة الترف والمجون مثل حالة : ابراهيم بن الأدهم ، وحديث بوذا، والزهد الايماني الذي كان سائدا في مصر المتصل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، اضافة للمؤثرات الأخري للمسيحية والهندية والبوذية.
#تاج_السر_عثمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
موقع التصوف في الفكر العربي الاسلامي
-
كيف تناول الحزب الشيوعي السوداني قضية المرأة؟
-
كيف تناولت الماركسية قضية المرأة؟
-
عزيزاتي واعزائي كتاب وقراء الحوار المتمدن.
-
رسالة الي قراء الحوار المتمدن - شكر وتقدير
-
تاج السر عثمان - عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوداني -
...
-
تعقيب علي د. سلمان محمد احمد سلمان: موقف الحزب الشيوعي السود
...
-
يسألونك عن البديل لزيادة الاسعار؟
-
الزيادات في الاسعار .. مزيد من افقار وارهاق الجماهير
-
لا للتدخل الامريكي في سوريا
-
تفاقم أزمة النظام والدعوة الي الحوار
-
الاحداث في مصر: العنف والارهاب مصيره الي زوال
-
صفحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني: الصراع الفكري عام 195
...
-
ثورة أم انقلاب : قراءة في التجربة السودانية
-
في الذكري ال 42 لانقلاب 19 يوليو 1971م
-
الثورة المصرية تدخل موجة جديدة من تطورها
-
التمايز الايديولوجي بين الشيوعية واليسار
-
الذكري 24 لانقلاب 30 يونيو 1989م
-
اضواء علي تاريخ صحافة الحزب الشيوعي السوداني
-
الغريق يتعلق بقشة !!
المزيد.....
-
لاستعادة زبائنها.. ماكدونالدز تقوم بتغييرات هي الأكبر منذ سن
...
-
مذيع CNN لنجل شاه إيران الراحل: ما هدف زيارتك لإسرائيل؟ شاهد
...
-
لماذا يلعب منتخب إسرائيل في أوروبا رغم وقوعها في قارة آسيا؟
...
-
إسرائيل تصعّد هجماتها وتوقع قتلى وجرحى في لبنان وغزة وحزب ا
...
-
مقتل 33 شخصاً وإصابة 25 في اشتباكات طائفية شمال غرب باكستان
...
-
لبنان..11 قتيلا وأكثر من 20 جريحا جراء غارة إسرائيلية على ال
...
-
ميركل: لا يمكن لأوكرانيا التفرّد بقرار التفاوض مع روسيا
-
كيف تؤثر شخصيات الحيوانات في القصص على مهارات الطفل العقلية؟
...
-
الكويت تسحب جنسيتها من رئيس شركة -روتانا- سالم الهندي
-
مسلسل -الصومعة- : ما تبقى من البشرية بين الخضوع لحكام -الساي
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|