|
مقدمة حول المعرفة التاريخية 1-4
وليد المسعودي
الحوار المتمدن-العدد: 4511 - 2014 / 7 / 13 - 21:27
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
يعتمد التاريخ في علاقته مع المعرفة في المجتمعات العربية على أساليب السرد والتقليد والتثبيت والتمثيل العضوي ، بالرغم من التعدد في المذاهب والعقائد والأفكار والأنظمة السياسية ، وبالرغم من الإضافات الحديثة في مجالات مختلفة من التربية والتعليم والثقافة والسياسة ، إلا إن علاقة التاريخ مع المعرفة ظلت أحادية الجانب ، تخاف من المجهول ، ولا تمكث في سياقات المساءلة والانفصال ، وما هو غائب عن هذه العلاقة يشمل عناصر مرتبطة ، بالمراجعة والنقد والقطيعة والتزامن والتراكم وسبر عوالم المجهول فضلا عن بناء الأنساق الجديدة . إذ التاريخ العربي يعيش ضمن خطية مستقيمة ، دون متعاقبات أو انحناءات بين الصعود والنزول والاختلاف ، أي بين غائية محددة بشكل مسبق ، سواء تمثلت لدى الأمة المؤمنة بالدين أو القومية . الأولى يشكل الماضي أساس جوهري لوجودها ، من حيث التمثيل وإعادة البناء ، والمستقبل مرهون بالحاضر المعلق ذاته بالأصول القديمة للماضي ، ضمن دائرة مغلقة الزمان والمكان ، والثانية متعلقة بالتجارب الأولى للفاعلين الاجتماعيين من " الرجال العظام " منتجي الهوية الأولى للمجتمع أو الدولة ذات الإطار القومي ، ضمن دائرة مغلقة عن الانفصال والقطيعة . ومن خلال هذين النموذجين تضيع الكثير من الوقائع والحقائق ، تلك التي تؤكد إن المعرفة كإنتاج بشري تتدخل في تكوينها الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية ضمن زمنية الولادة والانتشار . حيث لو تتبعنا ظهور الكثير من المدارس والفرق الدينية في المجتمع العربي ، قديما وحديثا على حد سواء ، بدءا بظهور الإسلام وانتهاء بالأزمنة الراهنة سوف نجد إن أكثر هذه المدارس نشأت بفعل تأثير العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية السائدة ، فضلا عن وجود المؤثرات الخارجية من عناصر ثقافية وسياسية واجتماعية .. الخ ، فالخوارج بسبب وجودهم الطبقي ضمن جماعات فقيرة مهمشة قبل الإسلام ، امتلكوا لغة القطع مع الأشياء والعالم ، دون قابلية للتسامح " فمن ارتكب ذنبا كبيرا أو صغيرا بطل إيمانه فكان كافرا يجب قتله " (1) وهنا تظهر المعرفة ضمن سياقها النهائي ليس بسبب تمثل حرفية النصوص والأفكار ومحاولة إسقاطها على الواقع بل لتمسكهم بفكرة " الحق " متطابقا مع فطرتهم البدائية ، دون الأخذ بنظر الاعتبار عوامل المتغيرات السياسية والاجتماعية فضلا عن التطبيق المادي والمعنوي لسلطة المعرفة ضمن حيز المجتمع وما يحمل من إمكانية في الرفض والقبول ، أو كون سلوكهم يتطابق مع النصوص الدينية أو العكس ، فمنهج الخوارج مستمد من تاريخهم المعاش ما قبل الإسلام من نبذ وتهميش وإقصاء ومن واقع المجتمع الإسلامي فيما بعد ، الذي انحرف نحو حكم الأقلية الارستقراطية من قريش ، وما آلت إليه أوضاع المسلمين من تراجع في اختيار الحاكم ومن سوء في استغلال السلطة والثروة لدى هذه الأقلية الارستقراطية ، في حين يختلف " التشيع " من حيث النتائج المستقبلية والتحولات عن مدرسة الخوارج ضمن جميع مراحل تطوره ، بدءا بترسيخ مبدأ الوراثة وانتقالا إلى التنصيب الإلهي بالرغم من تعددية الفرق والطوائف ، وكلها تمتلك مؤثرات وعوامل التكوين والنشأة ، سواء لأسباب داخلية تتعلق بطبيعة الصراع السياسي والاجتماعي ، بين قوى السلطة المدعومة عقائديا بقواعد الجبر الإلهي والخضوع الأعمى للخليفة سارق الخلافة والحكم بقوة السيف ومظاهر البطش والجور وبين قوى المعارضة المسلحة ماديا ومعنويا من اجل الإصلاح وتحقيق العدل والإنصاف ، أو تعلق الأمر بطبيعة المؤثرات الثقافية الخارجية ، وخصوصا حول ما يتعلق بفكرة المنقذ والوراثة الإلهية للسلطة والحكم ، والتي بدأت تاريخيا مع " محمد بن الحنفية " كتسلسل ثالث بعد الإمام الحسن والحسين ، إذ يقول السيد الحميري في كتاب الأغاني ألا إن الأئمة من قريش ولاة الحق أربعة سواء علي والثلاثة من بنية هم أسباطه والأوصياء (2) وهنا مازالت الوراثة الإلهية في طورها الأولي والمنتهية الصلاحية مع " محمد بن الحنفية " الذي أصبح يعيش ضمن مزدوجتين ، من الموت المؤقت والحياة الغائبة والمنتظرة بشكل غير معلوم . لتنتقل فيما بعد ضمن إشكال خماسية وسباعية واثني عشرية وفقا لتطور التشيع وانتقاله من مراحل المعارضة المسلحة بشكل مباشر إلى المعارضة الضمنية والمختفية تحت عباءة جهاز " التقية " بسبب تراكم عوامل الاضطهاد والتعذيب والظلم ، بدءا بالزيدية التي حددت الإمامة ضمن شروط " مباينة الظالمين والتجرد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " (3) وهذه الأوصاف تنطبق على ذرية الإمام الحسن والحسين على حد سواء ، بدأت مع الإمام زيد بن علي بن الحسين وابنه يحيى وارتبطت بجميع من يتصف بشروط مواجهة الظلم والظالمين من الولاة والحكام ، ومع الإسماعيلية انقسمت الإمامة إلى سباعية خالصة مع إسماعيل بن جعفر الصادق ، ومن ثم ، مع ابنه محمد بن إسماعيل بن جعفر ، الذي تعده طائفة " الدروز " اليوم " أول الأئمة السبعة المستورين ويطلقون عليه الناطق السابع ، ونشير هنا إلى إن فكرة الإمام المستور لم تظهر مع الإسماعيلية بل يعود تاريخ ظهورها مع محمد بن الحنفية ، ومرة أخرى مع الإمام جعفر الصادق الذي أصبح غائبا ومستورا لدى فرقة تسمى " الناووسية " بصفته " الإمام القائم المهدي " (4) وهكذا الحال مع الأمامية ألاثني عشرية التي تشكل الأساس الحيوي اليوم لانتشار التشيع في العالم ، والتي تختلف بدورها عن الزيدية والإسماعيلية في كونها تبنت الجهاز العقائدي الأصولي ، المعرفي ، ضمن استقلالية متواصلة عن جهاز الدولة الرسمي وإيديولوجيتها ، فضلا عن كونها أقفلت باب الإمامة والسياسة عند الإمام الثاني عشر الغائب والمستور ، مشكلة بذلك عهدا جديدا من المعارضة المعرفية المختفية تحت عباءة " التقية " بعد الابتعاد عن السياسة نتيجة الممارسات المتواصلة للاضطهاد والتعذيب والقتل ، وخصوصا في زمن الإمام جعفر الصادق الذي يعد مؤسس المذهب وجامع الأحاديث النبوية فضلا عن التعليق عليها وبناء الثوابت التي سوف يعتمد عليها المستقبل الشيعي بشكل عام . وهنا لا ننسى أن نقول إن الأمامية قد حفرت في ذهنية الأجيال المتتالية تاريخا متواصلا من العذاب والألم معتمدة على مواكب الحزن و التعزية والبكاء ، استذكارا لمشاهد مأساة الحسين وأهل بيته ضمن تراجيديا موروثة ومتنقلة ، ظهرت قبل الإسلام وبالتحديد في بلاد الرافدين ضمن توليفة تجمع في طياتها عناصر البكاء والصلاة والتكفير عن الذنوب منتشرة على نطاق واسع في المجتمع العراقي القديم (5) لتستمر في التواصل والتأصيل أكثر فأكثر مع تواصل تأبيد نماذج السلطة المستبدة ، تلك التي تتداول وجودها بواسطة أساليب القهر و الاستلاب لكرامة الإنسان ووجوده من جهة ، وكذلك من خلال تأبيد نماذج المعرفة الأصولية والثابتة سواء لدى السلطة الحاكمة أو لدى المعارضة على حد سواء . مع المعتزلة سوف نشهد الاختلاف عن رؤية ( أهل السنة والخوارج) من حيث اتخاذهم طريق الحياد بخصوص المسألة الخطيرة ، والمتعلقة " بالفاسق " ما حكمه ؟ هل هو كافر أم مؤمن ؟ إذ سوف يكون الجواب متمثلا في " منزلة بين المنزلتين " ، تلك التي حددت تسميتهم ضمن الاعتزال ، بسبب اعتزالهم الرأي واتخاذهم طريق محايدا وبعيدا عن الصراع السائد أو الحرب الدائرة بين الإمام علي ومعاوية حول الخلافة (6) ، ويخالف المعتزلة في أصولهم الخمسة " التوحيد والعدل والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " جميع الفرق بدءا بالمعطلة والدهرية والملحدة والمشبهة في باب التوحيد ، وأهل الجبر في باب العدل ، وانتهاء بالمرجئة في باب الوعد والوعيد ، والخوارج في باب منزلة بين المنزلتين والأمامية في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبذلك شكل المعتزلة طبقات متواصلة من الجهود الفكرية والفلسفية التي قدمت آراء وتصورات مختلفة عن السياق التقليدي الاجتماعي ، في مجالات مختلفة من السياسة والاجتماع والفلسفة .. الخ ، فمفهوم العقل لديهم يتفوق على الشرع وهو في النهاية " أداة المعرفة " ليس للمظاهر الطبيعية المحسوسة فحسب بل حتى " للمظاهر المجردة كالإلهيات ، إذ يجعلها " الجاحظ " في مرتبة متأخرة عن الطبيعيات ، منتجة العلل وصاحبة الأسباب (7) ، ومفهوم التوحيد والعدل يختلفان أيضا عن سياقاتهما التقليدية مع " القاضي عبد الجبار " من حيث طرح الأول ضمن صور بعيدة عن " إثبات الذات والصفات والأفعال " ومن حيث تعلق الثاني بقدرة الإنسان وإرادته ، دون الاصطدام بمبدأ القدرة الإلهي (8) ، وهكذا الحال مع مسألة الجبر والاختيار والمنزلة بين المنزلتين ، فقد كان لهما أبعاد سياسية بالدرجة الأساس من حيث كشفهم عن إن تجريد الإنسان من الإرادة والأفعال يصب في النهاية في مصلحة الحاكم ، خصوصا إذا تم تثبيت نظرية الجبر الإلهي وإلغاء دور الإنسان ، أما فيما يخص " المنزلة بين المنزلتين " تلك التي وضحت عدم جواز إمامة الفاسق وتحديدها ضمن صفات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبالتالي جعل الإمامة دون ارتباط الهي ، بشرية الحضور ، وقائمة على مبدأ الشورى (9) . ومن أهم المؤثرات المكونة لمدرسة الاعتزال تكمن في 1- الظروف الاجتماعية والسياسية المحيطة بالمسلمين الأوائل وما تبعها من صراع وحروب داخلية ، مادية ومعنوية حول الخلافة والحكم . 2- ظهور حركات كالقدرية والجهمية ، تلك التي تقول بحرية الإنسان في اختيار أفعاله وسلوكه ، متمثلة بالقدرية ويرأسها الحسن البصري ، وتلك التي تقول في " مسائل كالصفات وخلق القران ومسالة الحسن والقبيح العقليين وفي منهج التأويل العقلي للنصوص الإسلامية " متمثلة بالجهمية ويرأسها جهم بن صفوان . (10) .
المصادر : -
1- فرّوخ ، عمر / تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون / دار العلم للملايين ، بيروت ، الطبعة الرابعة 1983 ، ص 205 . 2- فلهاوزن ، يوليوس / أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر الإسلام الخوارج والشيعة ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، 1958 ، ص 247 . 3- بن عباد ، الصاحب / الزيدية / تحقيق د . ناجي حسن / الدار العربية للموسوعات ، بيروت ، الطبعة الأولى 1986 ، ص 160 4- النوبختي ، الحسن بن موسى ، ألقمي ، سعد بن عبد الله / كتاب فرق الشيعة / تحقيق الدكتور عبد المنعم ألحفني / دار الرشاد ، القاهرة ، الطبعة الأولى ، 1992 ، ص 77 . 5- هالم ، هاينس / الشيعة / ترجمة : محمود كبيبو / شركة الوراق للنشر المحدودة / الطبعة الأولى 2011 ، ص 60 . 6- بدوي ، عبد الرحمن / مذاهب الإسلاميين " المعتزلة ، الاشاعرة ، الإسماعيلية ، القرامطة ، النصيرية " / دار العلم للملايين ، بيروت 1997، ص 37 . 7- إسماعيل ، د . محمود / سوسيولوجيا الفكر الإسلامي ، طور الازدهار(3) " فكر الفرق – علم الكلام – الفلسفة – التصوف " / مؤسسة الانتشار العربي ، سينا للنشر ، الطبعة الأولى 2000 ، ص 69 . 8- المصدر ، نفسه ، ص 70 9- المصدر ، نفسه ، ص 71 10- مروة ، حسين / النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ، القسم الثاني / دار الفارابي 1978 ، ص 638.
#وليد_المسعودي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دائرة الاحوال المدنية
-
مظاهر التخلف التربوي في العراق ( وسائل العلاج والتغيير ) 1-2
-
مظاهر التخلف التربوي في العراق ( وسائل العلاج والتغيير ) 2-2
-
ظاهرة عمالة الأطفال في العراق ( الأسباب ، المخاطر ، الحلول )
-
انتخابات ؟!
-
ظاهرة التحرش الجنسي ( الاساليب ، المؤثرات ، العلاج )
-
البديل المناسب للمالكي
-
بريد باب المعظم
-
الطائفية والطبقة العاملة في العراق ( بديل وطني أم مصنع طائفي
...
-
سؤال في الهوية العراقية ( البحث عن علمانية راسخة الجذور والب
...
-
قواعد ثقافة الاحتجاج
-
صناعة المجتمع المفتوح ( مشروع يتجاوز الطائفية في العراق )
-
الملك المغتصب او العراق .. الى اين
-
الصوت الاخر في العراق .. ولادة عهد جديد
-
مثقف السلطة في العراق ( الوظيفة ، الاشكال ، المستقبل )
-
الجمهور القارئ وثقافة الكتاب .. المعوقات .. المستقبل
-
الوقوف على السواد
-
الثقافة العلمية بين الواقع والطموح (4 - 4 )
-
الثقافة العلمية بين الواقع والطموح (3 _ 4 )
-
الثقافة العلمية بين الواقع والطموح (3 - 4 )
المزيد.....
-
الثلوج الأولى تبهج حيوانات حديقة بروكفيلد في شيكاغو
-
بعد ثمانية قرون من السكون.. بركان ريكيانيس يعيد إشعال أيسلند
...
-
لبنان.. تحذير إسرائيلي عاجل لسكان الحدث وشويفات العمروسية
-
قتلى وجرحى في استهداف مسيّرة إسرائيلية مجموعة صيادين في جنوب
...
-
3 أسماء جديدة تنضم لفريق دونالد ترامب
-
إيطاليا.. اتهام صحفي بالتجسس لصالح روسيا بعد كشفه حقيقة وأسب
...
-
مراسلتنا: غارات جديدة على الضاحية الجنوبية
-
كوب 29: تمديد المفاوضات بعد خلافات بشأن المساعدات المالية لل
...
-
تركيا: نتابع عمليات نقل جماعي للأكراد إلى كركوك
-
السوريون في تركيا قلقون من نية أردوغان التقارب مع الأسد
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|