|
كشف الغمة عن عقل الأمة
السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن-العدد: 4456 - 2014 / 5 / 17 - 09:14
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كشف الغمة عن عقل الأمة "لم يعد المثقف مفوضا بلعب دور الناصح للجماهير أو الناقد لمحتوى أيديولوجيتها، لكن عليه أن يصبح قادرا على تزويدها بأدوات التحليل" فوكو 1972
تتميز فترات التحول، كتلك التي تمر بها الأمة المصرية، بطوفان من المقولات والآراء والأفكار المتناقضة التي يختلط فيها الحابل بالنابل. ففي عصر الفضائيات الزاعقة التي تلعب على وتر مشاعر المشاهدين وتوجهها أطماع مموليها، وفى عصر الـ "المتثاقفين" الذين يوظفون مهاراتهم الكلامية لخدمة مصالحهم الشخصية ويؤجرون أقلامهم لمن يدفع أكثر، وفي زمن "الخبراء الاستراتيجيون" من مدعي العلم ببواطن الأمور، تضيع الحقيقة في طوفان الأكاذيب والافتراءات والمعلومات المشوهة والمتحيزة. لذا يصبح التعريف بأدوات "التفكير الناقد" والتشجيع على استخدامها فرض عين وضرورة لازمة لكشف الغمة عن عقل الأمة ... الأمة المصرية. والتفكير الناقد هو "عملية عقلية منظمة لتقييم الحجج والافتراضات والتعرف على الآراء الصائبة التي تطور من معتقداتنا وتساعدنا على التصرف السليم". ان الدعوة لاستخدام "التفكير الناقد" وتعريف ادواته هي الطريق الوحيد لحصار "اللا عقلانية" التي تحكم اذهان العباد وتمهد الطريق لسيادة "العقلانية".
والعقلانية هي ببساطة أن تستخدم عقلك في كلا من "الفكر" و"الفعل". واستخدام العقل في "الفكر" معناه ألا تعتقد في صحة شيئ ما لم توجد شواهد قوية على صحته. فاعتقادك بوجود "العفاريت"، على سبيل المثال، يعتبر تفكيرا لاعقلاني لعدم توفر شواهد محققة تؤكد وجود مثل هذه الكائنات. ويطلق على هذا المكون من مكونات العقلانية اسم "العقلانية المعرفية (أو الإبيستيمية)" Epistemic Rationality. أما ثاني مكونات العقلانية فهو "العقلانية الإجرائية" Instrumental Rationality التي تعنى قدرتك على تبنى أهداف مناسبة وعلى تحقيقها بأفضل الوسائل الممكنة. وحديثنا اليوم سيكون عن المكون الأول من مكونات "العقلانية"، "العقلانية المعرفية". وهو المكون الذي يعني بكيفية التحقق من "صدق" المقولات او "صحتها". ويخبرنا اهل العلم ان هناك أربعة مقاربات يمكن استخدامها في عملية التحقق هذه وهي: -;- نظرية التطابق Correspondence Theory -;- نظرية الاتساق Coherence Theory -;- النظرية البراجماتية Pragmatic Theory -;- نظرية الاجماع Consensus Theory
ويتحدد "صدق" أي مقولة، طبقا للمقاربة المرتكزة على "نظرية التطابق"، على مطابقة ما جاءت به المقولة مع الواقع الملموس أو مع معطياته التي يمكن مشاهدتها أو قياسها. ولعل أشهر واقعة على استخدام هذه المقاربة للتحقق من صدق المقولات هي تجربة الأجسام الساقطة التي أجراها العالم الإيطالي جاليليو جاليلى في صباح أحد الأيام الأخيرة من القرن السادس عشر. ففي هذا اليوم احتشد أهل مدينة بيزا الإيطالية في الميدان المحيط ببرجها المائل الشهير ليشهدوا بأنفسهم مدى صدق مقولة أرسطو السائدة والتي مفادها أن سرعة سقوط الأجسام تتوقف على طبيعة المادة الداخلة في تكوينها. وطبقا لهذه المقولة فإن سرعة سقوط كرة من الحديد لابد تكون أسرع من كرة مصنوعة من الريش. ويحسم الجدل بصعود جاليليو جاليلى إلى قمة البرج ليلقى من فوقها عدة كرات مصنوعة من مواد مختلفة ليثبت للجميع بالدليل القاطع والمحسوس أن سرعة سقوط الأجسام تتوقف على كتلتها لا على طبيعة المواد المصنوعة منها ومن ثم عدم صدق مقولة أرسطو. وفى العادة يطلق على المقولات (او الفروض) التي يمكن التحقق من صدقها باستخدام المقاربة المرتكزة على نظرية التطابق اسم "الفروض الإمبريقية" Empirical.
ولكن كيف نتأكد من صدق فرض أو مقولة ما لا تنتمي إلى فئة الفروض الإمبريقية؟ هنا تقدم لنا المقاربة الثانية المرتكزة على "نظرية الاتساق" الحل. فطبقا لهذه المقاربة يتحدد صدق أي فرض أو مقولة بمدى "اتساق" (عدم تعارض) ما جاء به/بها مع مجموعة أخرى من الإفادات (جمل خبرية) المستمدة من خبراتنا والتي تتميز باكتمالها وتماسكها واستقرارها.
فعلى سبيل المثال إذا أردنا الحكم على مقولة لشخص حشاش في حالة "إنسطال" مفادها أنه "شاف إمبارح على طريق المحور تلات أفيال بمبى بترقص" علينا أن نختبر اتساقها مع الإفادات التالية المستمدة من خبراتنا: -;- الأفيال لونها رمادي. -;- المنطقة التي يقع فيها طريق المحور ليست الموطن الطبيعي للأفيال. -;- لا توجد حديقة حيوانات أو سيرك بالقرب من هذه المنطقة. -;- من المعروف أن الحشاش في حالة "إنسطاله" يتخيل أشياء غير حقيقية. -;- لا يوجد أحد في هذه المنطقة ادعى من قبل رؤية أفيال من أي نوع. وبالطبع لا يتسق ما جاء في مقولة صاحبنا مع هذه الإفادات ومن ثم فهي كاذبة بالضرورة. وبالمثل يمكن الحكم على ادعاء شخص ما بانه "ليبرالي" باستعراض سلوكياته وتصريحاته وما كتبه في فترة سابقة ومقارنتها بالمفترض ان يكون عليه الشخص الليبرالي.
وثالث هذه المقاربات هي المقاربة المرتكزة على النظرية البراجماتية، والتي مؤداها أن "صدق" ما جاء في أي مقولة أو فرض أو اعتقاد تتوقف على قدرته في إيجاد حل ناجح لمشكلة واقعية. فطبقا لهذه المقاربة يعتبر كل فرض أو اعتقاد يساعدنا على مواجهة ما نتعرض من مشاكل وعلى إيجاد حلول لها "صادق" أو صحيح بالضرورة. ويبرر أنصار هذه المقاربة تبنيهم لها انطلاقا من أن أي نشاط إنساني، من قبيل التفكير أو استخدام اللغة، إنما ينبع في الأساس من حاجة الإنسان لحلول للمشاكل التي تقابله في الحياة. انها اذن مقاربة "العبرة بالخواتيم" فهي تربط بين صحة أي مقولة وبين قدرتها، حال تبنيها، على تحقيق نتائج مرغوبة على ارض الواقع. ولعل أفضل مجالات تطبيق هذه المقاربة هو مجال تقييم البرامج والسياسات التي تهدف، في الاساس، الارتقاء برفاه المجتمع بمكوناته المادية (أو الاقتصادية) ومقوماته المعنوية (أو غير المادية) (السيد, 2012).
اما آخر هذه المقاربات فهي "نظرية الاجماع" التي مؤداها ان صحة أي مقولة تتوقف على مدي قبولها من مجموعة من البشر. وهكذا تعتبر المقولة صحيحة ان تبنتها مجموعة من البشر وأجمعت على صحتها. الا ان هذه المقاربة قد يقلل من فعاليتها تشابهها مع احدى المغالطات المنطقية الشهيرة وهي مغالطة "الاحتكام إلى العامة". وتربط هذه المغالطة بين صحة أمر من الأمور، فعل كان أو فكرة، وبين شيوعه بين الناس. وتتجلى هذه المغالطة في الشعار الشهير "الشعب يريد كذا وكذا" الذي يردده كل من يسعى لترويج رأيه وتعوزه الحجج المنطقية أو الشواهد الواقعية. ويتناسى من يستخدمون هذه المغالطة أن موافقة الجماهير على أمر لا تعنى بالضرورة صوابه، فلقد أنتخب الشعب الألماني يوما ما هتلر كقائد لمسيرته فكانت النتيجة المعروفة للجميع.
وتتفق هذه المقاربات الاربع على أن صدق أي مقولة تحددها خاصية تتمتع بها: "التطابق" في حالة المقاربة الأولى، "الاتساق" في حالة المقاربة الثانية، و"المنفعة" في حالة المقاربة الثالثة و"الاجماع" في حالة المقاربة الرابعة.
وهكذا توفر هذه المقاربات "أدوات ذهنية" تساعد مستخدمها على الإبحار في محيط المقولات الصاخب، بكل ما فيه من تناقضات ومفارقات وضلالات، وتعينه على التقييم الموضوعي لها ومن ثم على سداد الاختيار.
المراجع السيد, ا. ن. ا. 2012. الرفاه المُنتظَر والمرجعية المنشودة. الحوار المتمدن, العدد 3952 (25 ديسمبر): http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=338134.
#السيد_نصر_الدين_السيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأمة المصرية ...امة كانت وتكون وستكون
-
الاساطير الثقافية: (5) أسطورة -زي السمن على العسل-
-
الاساطير الثقافية: (3) اسطورة الزمن الجميل
-
العصا والجزرة ورفيقتهما الناعمة: من القوة المحتملة الى القوة
...
-
العصا والجزرة ورفيقتهما الناعمة (1-2)
-
الاساطير الثقافية: (2) الغزو الثقافي (او حكاية -الناس اللي ف
...
-
الثروة الخفية
-
من يخاف من العولمة؟
-
علمنة المجتمع وشكة الدبوس
-
العلم من بارادايم البساطة الى بارادايم التعقد
-
الاساطير الثقافية: (1) اسطورة العروبة
-
الحل برة الصندوق
-
تانجو الفوضى والانتظام
-
أزمة العقل البسيط
-
جاليليو الذي تجاهلناه
-
الة الزمن المعكوس
-
جاءنا البيان التالي
-
زمن الهوجة
-
عن الثورة الثقافية ... معالم على الطريق (3/3)
-
عن الثورة الثقافية ... عشان ايه وليه؟ (2/3)
المزيد.....
-
في روما.. يختبر السيّاح تجربة جديدة أمام نافورة -تريفي-
-
لغز مرض تسمم الحمل الذي حير العلماء
-
-بايدن قد يدعو إلى إقامة دولة فلسطينية قبل انتهاء ولايته- -
...
-
قلق على مصير الكاتب صنصال إثر -اختفائه- بالجزائر بظروف غامضة
...
-
هل نحن وحدنا في الكون؟ ماذا يقول الكونغرس؟
-
مشاهد لآثار سقوط صواريخ لبنانية في مستوطنة كريات أتا (صور +
...
-
-حزب الله-: إيقاع قوة إسرائيلية بين قتيل وجريح
-
مشاهد لـRT من موقع الضربة الإسرائيلية لمنطقة البسطة الفوقا ف
...
-
مجموعة السبع ستناقش مذكرات التوقيف الصادرة عن الجنائية الدول
...
-
لماذا يضاف الفلورايد لمياه الصنبور وما الكمية الآمنة؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|