صراع الحداثة والتقليد مقاربة المجتمع البغدادي بمجتمع الآطراف والهوامش
سعد محمد حسن
2014 / 1 / 26 - 20:24
تمهيــــد :
تحتل عملية الرصد المتأني للأوضاع السياسية و الاقتصادية والثقافية للجماعات التي نزحت من مدن جنوب العراق, أربعينات القرن الماضي صعودا , وشكلت حينها أطراف العاصمة بغداد وهامش مجتمعها في أحياء الشاكرية ,الميزرة , أم العظام , العاصمة , الثورة , السدة وغيرها , و لتشكل فيما بعد أكثر من نصف سكان العاصمة , وطوقا بشريا يحيطها في جوانبها , الشرقي والغربي والجنوبي والشمالي , في مدن الثورة والشعلة وأبو دشير والحسينية , ورصد أحوالها ومتغيرات حياتها ودراسة بيئتها الاجتماعية التي نزحت منها و شكلت أساسا في تشكيل قيمها وعاداتها وأعرافها , أهمية بالغة في مجالات علم الاجتماع والنفس والتاريخ والجغرافية والآنثربولوجية والاقتصاد والسياسة.
ولعل مبعث تلك الأهمية يكمن في أحدى جوانبها في تحول هذه الجماعات إلى ظاهرة اجتماعية تتميز بما تحمله من قيم وأعراف , وأنماط معيشية وسلوكية قد عكست في بعض أوجه نشاطها الحياتي وممارساتها العملية العديد من الإشكاليات البنيوية في أطار الاختلاف , التباين , الصراع , التناغم في سياق علاقتها بالمجتمع البغدادي بقيمه المدنية الحديثة , وما نتج عن تلك العلاقة من أثار سياسية واقتصادية وثقافية وسلوكية عند تقرير شروط التطور المجتمعي و امتلاك ناصية الحداثة .
كما وأن الضرورة تقتضي عند الشروع بمعالجة هذه الظاهرة و التعرف على أسباب تشكلها و الوقوف على أثارها , العمل على إرساء أسس سليمة تسهل عملية تكوين مجتمع متجانس يتميز بقيم الحداثة والمدنية وذلك بإيجاد السبل الكفيلة والقادرة على أنجاز ذلك ..
تجدر الإشارة إلى أن تحليل طبيعة العلاقة بين المجتمع البغدادي ومجتمع الأطراف تستلزم من ناحية فهم الاتجاهات والمعيقات الموضوعية للبنى الاجتماعية التي تشكل الطبقات الاجتماعية جزءا لا يتجزأ منها ويستلزم من جهة أخرى الضلوع في معرفة العديد من التفاصيل , خاصة تلك التي تتعلق بالأفراد والعائلات الذين لهم تأثير اقتصادي واجتماعي .
وهنا نود أن أنوه إلى مسألتين هما أولا : أن معالجتنا لطبيعة العلاقة القائمة بين المجتمع البغدادي بمجتمع الأطراف لا يمكن عزلها عن طبيعة المجتمع العراقي في ظروف تشكله المعاصر وفي شروط الصراع بين الحداثة والتقليد.
وثانيهما أن الدوافع وراء اختيارنا للمجتمع البغدادي. كونه أكثر تشربا بقيم المدنية والحداثة . في سياق هذه الثنائية .
أذن فالسؤال عن معنى الحداثة . وعن ملامح البيئة الاجتماعية والثقافية التي شكلت في سياقها التاريخي سمات وملامح المجتمع البغدادي و أوجه الحداثة فيها ؟ وعن ملامح البيئة الاجتماعية والثقافية التي شكلت بدورها و في سياقها التاريخي كذلك سمات وملامح المجتمعات الطاردة, وأوجه التقليد فيها , وعن ملامح البيئة الاجتماعية والثقافية لمجتمع الأطراف, وأوجه التقليد فيه , تمتلك أهميتها المعرفية والعملية في سياق الكشف عن أوجه الصراع بين الحداثة بسياقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وبين التقليد بسياقاته ذاتها , وفي سياق إيجاد السبل الكفيلة لمعالجة هذه الظاهرة ,
في تحديد السياقات المعرفية لمعنى الحداثة
عرفت مجتمعات الغرب الأوربي في القرنين السادس عشر والسابع عشر, سلسلة من التحولات الاقتصادية والسياسية التي توجت بالثورة الصناعية في انكلترا والثورة الفرنسية 1789 حيث بدأت تظهر معالم عالم جديد, عالم يتصف بالتصنيع, تقسيم العمل , التمدن وبموازاة ذلك ظهرت قيم جديدة , حيث الخطاب العقلاني والتنويري قد تجاوز خطاب الدين والكنيسة, وتم تسجيل الحرية والمساواة كحقوق أساسية للمواطنين . لقد أحدثت تلك التغيرات في أتساعها , هزات عميقة طالت بنية المجتمعات الأوربية , ووضعتها على طريق التطور الحديث. فعلى خلاف أصوات القوى المحافظة التي رأت بأن قيم الحداثة قد تهدد وحدة النسيج الاجتماعي. فأن هذه القيم مثلت بالنسبة لليبراليين العصر الذهبي للإنسانية , فالعلم والعقل يضيئان بنورهما روح الإنسان في مواجهة عتمة وثقل المعتقدات الدينية , من منطلق أن قيم الحرية والمساواة ستحرر الأفراد من مؤسسات النظام القديم الكنيسة , الملكية, الشرائع (1)
و في سياق تلك المتغيرات باتت مهمة علم الاجتماع هي الكشف عن أسرار و اشتعال مجتمع فقد كل الأسس والقواعد الخارجية لذاته ( ألله الطبيعة , العناية الإلهية ) (2)) .
تجدر الإشارة إلى أن مفهوم الحداثة , قد لازم في توظيف دلالته المعرفية , ميدان الأدب والفن * وكل ما يتصل بعلم الجمال عموما, ألا أن استخدامه بهذا المعنى الضيق ليس صحيحا تماما , لما قد أصابه من تشويه , ذلك أنه ينطوي قي دلالته المعرفية على حزمة من المفاهيم والدلالات القادرة على صياغة رؤيتنا المعرفية والدلالية في مجالات الحياة المختلفة , في السوسيولوجيا والاقتصاد السياسي والفلسفة و الإنثروبولوجيا والسياسة والتاريخ , إلخ , بمضامين متقاربة أو متطابقة أو ربما متباعدة بهذا القدر أو ذاك (3) , ففي علم الاقتصاد السياسي نجد ثنائية القطاع الحديث في مواجهة القطاع التقليدي , بتميز العلاقات الرأسمالية "الحديثة " عن العلاقات ما قبل الرأسمالية في ميدان الإنتاج والتداول , رغم أن التمييز قد ينحصر أحيانا في نوعية الأدوات التي تقف بين الإنسان والطبيعة, وبالتالي بين الإنسان و طبيعته هو بالذات , ففي القطاع الأول يفترض وجود تكنلوجيا متقدمة, وآلات حديثة معقدة , كما يفترض أن يكون الإنتاج مخصصا للسوق لغرض التبادل , وأن يقوم على ضوابط صارمة وحساب دقيق ( عقلانية ), أما القطاع الثاني فيفترض أدوات بدائية يدوية متخلفة , بسيطة و إنتاجا على الكفاف على الأغلب , حيث يكون التبادل فيه عرضيا .. وفي ميدان الفكر الاجتماعي والسياسي تتخذ إشكالية الحديث والتقليدي مستويات عدة ,المرجعية الدينية مقابل مرجعية العقل , الدين مقابل الفلسفة وفي حقل العلاقات السياسية نرى الدولة المدنية مقابل الدولة الدينية أي الحق ألإلهي مقابل الحكم بالعقد الاجتماعي والبنية السياسية الأبوية مقابل الديمقراطية والليبرالية , القانون المقدس مقابل القانون البشري , الأعراف والتقاليد القبلية والعشائرية و الطائفية مقابل العلاقات السلعية ـ النقدية, علاقات التبادل والتداول والتوزيع الحديثة التي تجد التعبير عنها بأشكال تنظيمية ومؤسسات حديثة, أحزاب , نقابات , صحف بدل الإشكال القديمة أحياء جماعات دينية , طوائف , سكان قرى , عشائر (4) وتمتد الثنائيات لتشمل العلوم , القيم وأنماط السلوك, اللباس وطراز السكن , أي كل مناحي الحياة في أخر المطاف, رغم أن نظريات التحديث تحصر العملية في أربع عناوين رئيسية , هي التصنيع , التمدن ,العلمنة , الدولة .(5) والحداثة بما هي نقيض القديم و التقليدي , فهي بذلك ليست مذهبا سياسيا أو تربويا أو نظاما ثقافيا واجتماعيا فحسب , بل أنها حركة نهوض وتطور و إبداع هدفها تغيير أنماط التفكير والعمل والسلوك ويمكن القول أن مصطلح الحداثة بشكل عام قد أطلق على مسيرة المجتمعات الغربية منذ عصر النهضة ليغطي مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأدبية (6) بوصفه ممارسة اجتماعية ونمطا من الحياة يقوم على أساس التغيير والابتكار(7) , ولذلك نجد في ترتيبية المجتمعات التقليدية ما يتعارض ومبدأ المساواة الحديث وفي التقليد ما يعارض العقلانية وفي الدين ما يتعارض والعلم وفي القهر ما يتعارض والحرية وفي " كليانية المجتمعات التقليدية ما يتناقض و فردانية الحداثة . لذا يمكن القول أن مصطلح الحداثة أنه مفهوم فلسفي مركب أساسه السعي للكشف عن ماهية الوجود بما تغطي أسئلة القلق الوجودي وإشكاليات العصر الذي يثقل الوجود الإنساني. والحداثة من حيث هي معطى متشابك لواقع يتميز في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية , دولة عصرية, تقنية عصرية, موسيقى ورسم وعادات وأفكار عصرية, على هيأة مقولة عامة و ضرورة ثقافية , ومن حيث أنها نشأت عن بعض التحولات العميقة في التنظيم الاقتصادي والاجتماعي , فهي تتحقق على مستوى العادات وطرائق العيش وأنماط الحياة اليومية (8).
السمات المعيارية للمجتمعات الطاردة ( مجتمعات الجنوب ) :
تعد هجرة ونزوح الناس كأفراد أو جماعات , بصورة دائمة أو مؤقتة ومن مكان إلى أخر , داخل الحدود السياسية للبلد أو من بلد إلى أخر , ظاهرة حدثت وما تزال تحدث في كل مكان وزمان . حيث تلعب عوامل وأسباب عدة منها ما هو سياسي ومنها ما هو اقتصادي واجتماعي وثقافي ونفسي, تحث وتدفع تلك الجماعات أو الأفراد على ترك موطنها وبيئتها وكسر علاقاتها وصلاتها الاجتماعية والنزوح إلى أماكن أخرى . لذلك لا يمكن إرجاع هذه الظاهرة إلى عامل أو سبب واحد , لآن بين هذه الأسباب علاقات مركبة بحيث يتعذر " لغرض التأكد من العوامل المسببة " أبقاء بعض تلك العوامل , ثابتة وأخرى متغيرة (9)..
لقد شهد العراق ومنذ أربعينات القرن الماضي نزوحا جماعيا من مدن الجنوب عموما ومن مدينة العمارة على وجه الخصوص متخذا منحا تصاعديا باتجاه العاصمة بغداد (10) , حيث لعبت العوامل الاقتصادية دورا بارزا في دفع تلك الجماعات للنزوح من مدنها معتقدين في ذات الوقت بأن العاصمة ستوفر لهم فرص أوسع للعيش والخدمات . مشكلين في استقرارهم المكاني , هامش المجتمع البغدادي في مناطق سكنية أطلق عليها الصرايف التي بنيت من الطين والقصب والصفائح الحديدية . حاملة معها منظومتها وقيمها وأعرافها لمجتمع يتمثل في علاقاته الاجتماعية بتكوينه العشائري المنغلق على ذاته والمكتفي اقتصاديا بما ينتج من سلع وخدمات , وبعزلته تقريبا عن ما يحيط به من مجتمعات تتشابه معه في بنيتها الاقتصادية و الثقافية وفي منظومة أعرافها و تقاليدها و تشابه اقتصادها القائم أساسا على المشاعية الجماعية في الإنتاج الرعوي أو الزراعة المتنقلة .
من جهة أخرى مكنت الإجراءات التي اتخذتها الدولة العثمانية بقيامها بتوزيع الأراضي على القبائل المتمردة من دفع هذه القبائل نحو امتهان الزراعة . وإلى الولوج في حياة تعد أكثر استقرارا من حياتهم ونشاطهم السابقين.و بدلا من التنقل وعدم الاستقرار .و لقد كان هدف السلطات العثمانية من عملية توزيع الأراضي على القبائل المتمردة هو للحيلولة دون تكرار هجماتها ولتمكين هذه السلطات من جباية الضرائب المفروضة على أفراد تلك القبائل .
وفي السياق ذاته أدت إصلاحات مدحت باشا أعوام (1869 ـ 1872 ) والتطور الاقتصادي الذي رافق افتتاح قناة السويس الذي قامت الشركات البريطانية بإنشائها لتأمين مصالح بلادها في إيجاد ممر آمن يربط الهند بأوربا عن طريق نهر الفرات لتصدير المنتوجات الزراعية في العراق (11) .
ومع بدايات اكتشاف النفط بكميات تجارية كبيرة والتحول الكبير في استخدامه في اقتصاديات بلدان أوربا في مجالات الصناعة والنقل , والنقل البحري منه خاصة بدلا من استخدامها الفحم الحجري , وارتفاع الطلب المتزايد على المواد الخام والمحاصيل الزراعية والحيوانية . فأن هذه المتغيرات قد أدت إلى أحداث خلخلة في بنية مجتمعات العشائر , دفعت بشيوخها على تحويل جزء كبير من أنتاج عشائرهم الزراعي إلى بضاعة و عرضها في السوق , مما سهل ذلك من دخول الاقتصاد النقدي ونشره بين تلك العشائر , وظهر ذلك واضحا خاصة في مجال زراعة الشعير , الذي تم تصديره إلى فرنسا و انكلترا . لقد مكن التبادل النقدي شيوخ العشائر وعلى حساب أفراد عشائرهم من أن يتحولوا وفي وقت قصير إلى أغنياء ويتعدى نفوذهم إلى خارج حدود مناطقهم (12) . كما أدى هذا التحول إلى تفكك الملكية الجماعية للقبيلة وتفكك علاقاتها العشائرية والطائفية . وإلى نشوب صراع حول الأرض الزراعية, بين الفلاحين و بين مالكيها الجدد , على أثر تسجيل تلك الأراضي بأسماء شيوخ العشائر في دوائر الطابو, حيث تمثل ذلك الصراع باندلاع انتفاضات فلاحية عدة . فيما منح قانون ( العشائر العراقية ) الذي سنه الانكليز , العديد من الامتيازات لشيوخ العشائر وكرس سلطتهم الاجتماعية و أصبح لهم فيما بعد قوة التأثير في مجريات الأحداث السياسية والاقتصادية .
وبسبب من تفكك العلاقات الاجتماعية على أثر منح تلك الامتيازات وظروف الفلاحين المزرية وسوء أوضاعهم المعيشية و انعدام خدمات السكن والصحة والتعليم المقدمة لهم ومشاكل الأرض , و فشل سياسات الحكومات المتعاقبة في معالجة مشاكل الواقع الزراعي التي أدت بدورها إلى إفقار الريف و انتشار البطالة إظافة إلى ضعف ارتباط الفلاحين بالأرض بسبب أصولهم البدوية (13 ) , بدء التدهور يصيب أوضاع الفلاحين الزراعية والاقتصادية والاجتماعية وقادت بهم إلى الإفقار الشديد , مما دفع بهم إلى هروب أعداد كبيرة منهم باتجاه العديد من المدن العراقية الأخرى وفي المقدمة منها بغداد , بحثا عن ظروف معيشية أفضل ..
المقاربة الواقعية لصراع الحداثة / التقليد
عانى المجتمع البغدادي منذ أربعينات القرن الماضي وما يزال من مشكلات اقتصادية واجتماعية وعمرانية وثقافية عديدة شكلت بدورها سمات العديد من الظواهر و المتغيرات وتركت تأثيرها على أنماط النشاط المجتمعي في أوجهه المتعددة , ولعل المتطلع على أحوال بغداد ومجتمعها منذ ذلك التاريخ سيدرك حتما حجم تلك المشكلات ومدى تأثيرها على البنية الاقتصادية والسياسية والثقافية للمجتمع البغدادي .
ويمكن القول أن ظاهرة الجماعات المهاجرة التي نزحت من مدن الجنوب في أربعينات القرن الماضي صعودا , قد شكلت أحدى أهم وأخطر تلك الظواهر مما تركته من تأثير على بنية المجتمع البغدادي ومنظومته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية , و بما حملته معها من عقائد وقيم وعادات وتقاليد ومفاهيم وأعراف عشائرية وطائفية مغلقة على ذاتها. ناهيك من أن وجودها المتزايد قد أدى بدوره إلى أرباك الوضع الاقتصادي وإلى تدني مستويات معيشة البغداديين والتي كانوا يتحلون بها , و في تزايد معدلات البطالة في صفوفهم , كما و أن هذه الجماعات شكلت وما تزال عبئا ثقيلا على العاصمة بغداد في العديد من جوانب الحياة اليومية ناهيك عما سببته في نزوحها من تزايد معدلات نضوب الريف من أغلب ساكنيه . خاصة فئة الشباب منها
لقد كان من الطبيعي أن تجلب تلك الجماعات قيمها وعاداتها وأعرافها وعصبياتها العشائرية والمذهبية وهو ما أدى إلى حدوث تخلخل في البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع البغدادي ونكوص في قيمه المدنية الحديثة ووعيه الحضري , كون أن هذه الجماعات هم أكثر تمسكا بقيم البداوة وعاداتها وعصبياتها التي حملوها معهم من أهل المدن (14) خاصة المدن البعيدة عن الريف .
لقد كان من الطبيعي أن تتصدى ثورة 14 تموز 1958 لمعالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي شكلت الأساس وراء موجات النزوح الجماعي فأقدمت بذلك على سن قانون الإصلاح الزراعي, ألا أن الصعوبات الأدارية والتطبيقية السياسية منها والاقتصادية التي رافقت تطبيق هذا القانون وعدم تهيأ الظروف المناسبة والرغبة الحقيقية والصادقة لتطبيقه , حالت دون تحقيق غاياته في زيادة الإنتاج الزراعي ورفع مستوى حياة ومعيشة الفلاحين وتحقيق الهجرة المعاكسة من المدينة إلى الريف ووقف النزوح من الريف إلى المدينة . وبدلا من إيقاف نزوح هذه الجماعات فأن الأخطاء والنواقص وسوء تنفيذ قانون الإصلاح الزراعي قد أدت إلى العكس من ذلك , أذ تزايدت معدلات نزوح هذه الجماعات إلى بغداد . وبدلا من إيجاد الوسائل الكفيلة و تهيئة الظروف المناسبة لإيقاف عمليات النوح الجماعي , أدت السياسات الخاطئة للحكومات المتعاقبة إلى تفاقم ظاهرة النزوح ولتشكل فيما بعد أحدى وجوه بغداد ومجتمعها . لتترك فيما بعد تأثيرها على الحياة الاجتماعية للمجتمع البغدادي . فمن الواضح جدا مدى التأثير الذي تركته قيم هذه الجماعات وأعرافها وأنماط سلوكها وطرق معيشتها على بنية وتركيب المجتمع البغدادي .
ففي الوقت الذي كان يسير فيه المجتمع البغدادي بخطى حثيثة نحو ترسيخ قيمه المدنية وتحوله الحديث في شتى أوجه حياته السياسية والاقتصادية والثقافية , وتكريس ذلك في صياغة وتشكيل علاقات أبناءه الاجتماعية والفكرية , في ذات الوقت كانت تلك الجماعات التي شكلت هامش العاصمة ومجتمعها تعيد أنتاج قيمها وأعرافها وعاداتها وعصبياتها العشائرية والطائفية المنغلقة أساسا , بل سعت وربما بدافع الخوف أو القلق من تكرس أنماط سلوكها وتفكيرها وطرق معيشتها , بعيدا عن المجتمع البغدادي وأحيانا بالتقاطع و الضد منه , مكرسة بذلك حالة من الاستبعاد الاجتماعي جراء عدم التمكن من الانخراط في حياة المجتمع البغدادي والتناغم معه .
. ويقينا أن هذا العزل الذاتي لهذه الجماعات والناتج عن وعي أو دونه قد لا يبرر بدوره النتائج الخاطئة لسياسات الحكومات المتعاقبة في التعامل مع هذه الظاهرة والتي ساهمت بدورها هي الأخرى في تكريس حالة الاستبعاد الاجتماعي , بل وفي تكريس النظرة الدونية ومحاولة ترسيخها كسمة لازمة تتسم فيها تلك الجماعات في سياق علاقتها بالمجتمع البغدادي .
ولابد هما من الإشارة إلى أن الاستبعاد الاجتماعي أيا كان مسببه قد أوجد حالة من الكراهية والعداء والتمرد في صفوف مجتمع الهامش اتجاه المجتمع البغدادي , والعكس صحيح تماما . رغم بروز العديم من مظاهر التغير في بنيته الاجتماعية والثقافية التي تركت تأثيرها على أعادة صياغة بعض ملامح العلاقة مع المجتمع البغدادي , ومع انخراط العديد من أبناءه في النشاط السياسي والاقتصادي والثقافي وظهور العديد من المبدعين من بين صفوفه ألا أن ذلك لم يكن ألا مرحلة عابرة فسرعان ما تراجع ذلك تحت ضغط العديد من الأسباب ومنها السياسية على وجه الخصوص .
لذلك وبسبب من أتساع حجم أعدادهم الكبير , و تمسكهم الشديد بقيمهم وعاداتهم الموروثة , وبسبب من ضعف الحوامل الطبقية للعلاقات الاجتماعية الحضرية للمجتمع البغدادي و تراجع قيمه وتقاليده الحديثة , بسبب المتغيرات السياسية والاقتصادية راحت تلك الجماعات في السعي على تكريس قيمها وأعرافها العشائرية في صياغة علاقتها الاجتماعية بالمجتمع البغدادي , حينها تمكنت من جر المجتمع البغدادي لمنطق تقاليدها وقيمها وأعرافها العشائرية والطائفية . لتترك تأثيرها فيما بعد في واقع الحياة اليومية للمجتمع البغدادي .
ولعل الأخطر في ذلك أن تتمثل منظومة أعراف هذه الجماعات وتقاليدها وأنماط سلوكها وتفكيرها في استعارات سياسية و اجتماعية تجد صداها ووقعها العملي على أثر المتغيرات التي حدثت في العراق بعد نيسان2003. . .
وعلى وقع خطى الاستعارات الطائفية والعشائرية باتت بغداد أقرب في مفاهيم مجتمعها وعلاقاته وأنماط تفكيره وسلوكه , إلى قيم وأنماط سلوك وتفكير مدن الهوامش وأن تكون كذلك أقرب إلى مدن التخلف والتقاليد البالية من كونها مدينة تمتلك تاريخها الحضاري و تنتمي في بنيتها الاجتماعية للمدن الحديثة والمتحضرة , على الرغم من مظاهر التمدن الشكلي الظاهر عليها . فليس من الغرابة أن تطغي مفاهيم (النهوة والكومة والفصل العشائري والتفاخر بذلك) في صياغة وتشكيل العلاقات الاجتماعية بدلا من مفاهيم الحقوق والواجبات وسيادة القانون , بل وأن نجد عبارات " مطلوب عشائريا " وقد خطت بوضوح كبير على جدران العديد من منازل الأحياء السكنية الراقية والمتحضرة , وأن تجبر القيم العشائرية , أغلب العائلات البغدادية إلى التفكير الجاد بإعادة الاعتبار لهويتها وارتباطها العشائري .
الهوامش:
(1 ) جان أيتين / الحداثة والتقليد السوسيولوجي . موقع مركز أفاق للدراسات والبحوث .
* على الرغم من وجود الاختلاف في وجهات النظر حول تاريخ الحداثة وعلى يد من كانت فأن الكثير ممن أرخوا للحداثة يتفقون على أن تاريخها يبدأ منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي على يد بودلير وهذا لا يعني أن الحداثة قد ولدت من فراغ, فأن الثابت أنها ورغم تمردها وثورتها على كل شيء قديم , فأنها تظل إفرازا أطبيعيا للمدنية الغربية التي قطعت صلتها بالدين لذلك فأن الإرهاصات الأولى لملامح الحداثة تعود بالأساس إلى حركة الإصلاح الديني خلال القرن السادس عشر, التي تزعمها مارتن لوثر والتي تمايزت بها أوربا المسيحية آنذاك عن العالم الإسلامي وبرزت بشكل واضح في الصراع بين أنصار القديم وأنصار الجديد وهو الصراع الذي أخذ شكلا أدبيا . و عربيا فأن العديد من الباحثين يذهبون للقول أن مفهوم الحداثة قد دخل في مجال التداول عربيا بتأثير من الحداثة الغربية , وقد ظهر التأثير الغربي على أول مجلة عربية حداثية متخصصة في الشعر أصدرها يوسف الخال سنة 1957 هي مجلة شعر التي تبنى فيها الأصوات الشعرية الحديثة , تماما كما فعل الشاعر عزرا باوند في مجلته ( الشعرية =ب يوتري ) أنظر المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين . ص 58 .
(2) جان أيتين . مصدر سابق
(3) فالح عبد الجبار . معالم العقلانية والخرافة في الفكر السياسي العربي. دار الساقي . ص 9 .
(-4) فالح عبد الجبار . مصدر سابق . ص11.
(5) فالح عبد الجبار . مصدر سابق . ص11. .
(6) بومدين بو زيد. الفكر العربي المعاصر وإشكالية الحداثة. ضمن مركز دراسات الوحدة العربية. قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر العدد 18 .
(7 )علي وطفة مقاربات في مفهوم الحداثة وما بعد الحداثة . الموقع الإلكتروني.
(8) جان بودريار . الحداثة ترجمة محمد سبيلا. موقع الكاتب
(9) د . أحمد جابر الصعب . السياسيات الحكومية وأثرها على التغيير المكاني للسكان في العراق من 1957 إلى 1977. لموقع الإلكتروني لمؤسسة الشهداء في العراق .-
(10) تشير معدلات الهجرة والنزوح إلى بغداد إلى أن معدل الهجرة في عام194 هو 22% ليرتفع إلى معدل 25% في العام 1957 .الإحصاء السكاني في العراق لعام 1957 . كما وأن التعداد السكاني لعام1965 قد بين أرتفاع أعداد سكان المدن و انخفاض واضح في عدد سكان المحافظات الجنوبية ( الألوية وبخاصة في االعمارة والبصرة والناصرية والديوانية وقد قدر عدد النازحين من عامي 1957 إلى 1965 إلى المدن الكبيرة بثلاثمائة وثلاثين ألف نسمة تقريبا . وكانت أغلبية النازحين من محافظة ميسان تليها ذي قار ثم ديالى ثم نينوى . أنظر التعداد العام للسكان لسنة 1965 . وزارة التخطيط .
(
(11) إبراهيم الحيدري . الهجرة من الريف وترييف المدن . الموقع الإلكتروني للكاتب .
(12) إبراهيم الحيدري . مصدر سابق .
.(13) إبراهيم الحيدري . مصدر سابق .
(14 ) إبراهيم الحيدري . مصدر سابق .
i. إبراهيم