|
الهوية وإشكالية التمثيل: صورة الذات.. صورة الآخر
سعد محمد رحيم
الحوار المتمدن-العدد: 4341 - 2014 / 1 / 21 - 19:39
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الانهمام بالهوية نزعة ذاتية، نفسية ـ اجتماعية بحثاً عن المكانة والمعنى.. نزعة تفضي إلى الإحساس والوعي بأن المرء ليس إلا جزءاً من جماعة أوسع تربطه بها قواسم مشتركة؛ دم، عرق، دين، طائفة، منطقة جغرافية، طبقة، مهنة، نشاط اجتماعي، إيديولوجيا، الخ.. وفي الأحوال كلها تأخذ الهوية بعداً ثقافياً، أو هي في الأساس ذات مضمون ثقافي. وينشأ هذا البعد الثقافي في لحظة التميّز؛ بسعي المرء لتمييز نفسه عن الآخرين، وسعي الجماعة لتأكيد ما يميّزها عن الجماعات الأخرى.. وإن افترضنا أن الكائنات البشرية جميعها متماثلة فلن تكون بحاجة ماسة للتفكير بهويتها، أو أن الهوية لن تكون لها جدوى في مجتمع متماثل بالمطلق.. وهذه بطبيعة الحال فرضية غير منطقية وغير واقعية بالمرة.. وإذن الهوية تبدأ مع التمييز؛ تميّز الأفراد والجماعات والأمم بعضها عن بعض. وحتى في المجتمعات المغلقة تبرز فروقات/ هويات، وغالباً ما تكون هذه المجتمعات مقسّمة عمودياً/ هرمياً تعطي لكل فرد منها مكانة/ هوية مختلفة. ووعي التمييز هو الوجه لآخر لعملية تكوين تصوّر عن الذات/ الفردية والجماعية، وعن الآخر/ الأفراد والجماعات الأخرى. يتمخض تصوير/ تمثيل ( الآخر ) عن عملية معقدة لإنتاج معرفة عنه. وحتى الصور النمطية التي نضع فيها ( الآخر )، وفي الغالب بعد تجربة مشتركة معه، تتبلور في ضوء مراقبته ومعاينته، قبل إصدار الحكم عليه. وبذا فإن السؤال الذي يلح بهذا الصدد هو؛ هذه الصورة التي يرسمها منتج المعرفة عن الآخر أهي نتاج اكتشاف موضوعي نقي لكينونة وماهية وهوية ذلك الآخر، قائم على معطيات واقعية، ومبرأ من الغايات الخاصة والتحيّزات المسبقة، أم هي إعادة صياغة له على وفق معايير وموجِّهات إيديولوجية متحكمة بخطاب المعرفة؟. وهنا يظهر الطابع الإشكالي للتمثيل بوصفه نشاطاً معرفياً بأفق سوسيو ـ سياسي تحفّه مشكلات وأسئلة متداخلة. وعموماً تصطبغ المعرفة الإنسانية بقيم منتج المعرفة؛ تفضيلاته وتحيّزاته، حتى وإنْ لم تكن واعية. وحين يكون موضوع المعرفة هو الآخر/ المختلف الذي لا ينتمي لـ ( جماعتنا ) فإن فاعلية القيم الذاتية تلك تأخذ بالتصاعد لاسيما إذا كانت عملية التعرّف تجري على خلفية نزاعات قائمة أو مرتقبة، وفي إطار علاقات قوة/ سلطة. ولابد من أن تكون المعرفة المنتجة عن الآخر لتسويغ عملية سيطرة وتحكم قائمة على أسس وافتراضات زائفة أو محرّفة ومضللة.. إن عمليات تصوير الذات والاخر وتمثيلهما تتبع فرضية مواقع القوة وتبدّلاتها. وإنّ صورتنا وصورة الآخر لن تكون هي ذاتها إذا ما انتقل، أو انتقلنا، من موقع قوة إلى موقع قوة جديد. يكمن الخطأ القاتل ( وأكاد أقول الخطيئة القاتلة ) في اختزال الآخر المختلف أو الذي نصنِّفه مختلفاً في صورة نمطية/ هوية مفردة، ورهنه في سجن عبارة قاطعة/ فكرة/ صورة مسبقة، وتعميم ما نظنّه عنه على أفراد جماعته التي ينتمي إليها متناسين أن كل جماعة تتجلى، بإطارها الإنساني، في تنوع هائل. وإن ما نظنّه عن فرد من جماعة ما قد لا ينطبق إلا على عدد محدود من تلك الجماعة. وحتى داخل الجماعة المغلقة تجد أن الأفراد يتميزون عن بعضهم بعضاً، وأن كل فرد له رؤيته الخاصة عن ذاته وعن الآخرين. وهذا التمايز يحدث في نسق اجتماعي ـ ثقافي تراتبي، وبتأثير شبكة علاقات القوة السائدة في المجتمع ذاك، فكيف يكون الأمر إذن مع مجتمعات مفتوحة بعضها على بعض في عصر المعلوماتية والاتصالات فائقة السرعة؟. يمكن للمرء أن يكون، في الوقت نفسه عضواً في حزب ما، وواحداً من نخبة مهنية ( مدرِّساً مثلاً )، وإدارياً في جمعية ثقافية، ومشجعاً لفريق نادٍ معين لكرة القدم، ومحبّاً للمقام العراقي، فضلاً عن حزمة انتماءاته؛ ( العرقي والديني والمذهبي والعشيري والمناطقي، الخ.. ).. إن أياً من هذه الانتماءات لا يلغي الآخر، وأن وعي حقيقة تعدد هويات الفرد الواحد هو المقدمة للعثور على مشتركات إنسانية لا تحصى.. هذه الحقيقة تدحض وتقوِّض ادعاء أصحاب الهويات الواحدة الضيقة ـ القاتلة. يقود الاختزال والتعميم إلى تمثيلات زائفة، وإلى سوء فهم مؤسِ ومزمن، وإلى اتخاذ مواقف خاطئة تعيسة. ويكون الأمر أدهى إذا ما اقترف هذه الحماقة أناس يتمتعون بمكانة معنوية ورمزية، أو هم في مراكز السلطة والقرار. حين نتحدث عن اثنية أو جماعة ما فنحن قطعاً لا نتحدث عن مجتمع متجانس تماماً. والأمر يصبح أكثر تعقيداً في راهننا حيث التواصل مع الآخرين والتفاعل معهم أوسع، والتغيّرات في البنى والمؤسسات والمعارف أسرع، فضلاً عن حالات الهجرات والاقتلاعات والنفي والتثاقف، والبحث الدائب لكثر من الأفراد عن فرص ومواقع وأدوار جديدة.. هذه كلها تجعل الهويات تتكوّن وتتحوّل في محيط تفاعلي يصعب معها على المرء أن يحافظ على هوية واحدة بخصائص قارّة ومحتوى ثابت. وبذا فإن صورة أية اثنية أو جماعة في عالمنا اليوم لم تعد مسطّحة، بل مجسّمة ومركّبة. وبقدر ما نستوعب هذه الحقيقة بمقدورنا أن نخلق تصورات وتمثيلات أصح وأدق عن الآخر، وعن أنفسنا. إن تحديد هوية الآخر ( تمثيله ) غدا اليوم صنعة مؤسساتية ذات صبغة سياسية ديدنها الهيمنة. وعبرها يتم تمثيل الآخر؛ ملاحظته وتقويله وتصويره، أي إعادة صياغته بالشكل الذي يتسق مع افتراضات وأحكام أولية مسبقة. ويبحث السعي عن الهيمنة عن مسوِّغات شرعية وأخلاقية ليجد ضالته في الحط من قدر الآخر ( المهيمن عليه ) وتصويره في وضعية المارق أو الجاهل أو السيء أو الضعيف أو العاجز عن تمثيل نفسه ناهيك عن قيادتها، والذي يحتاج إلى تقويم ورعاية وقيادة.. وفي الحقل السياسي تتجلى عمليات التمثيل فضلاً عن علاقات وممارسات القوة، وعلاقات الإنتاج عبر تشكّلات وممارسات خطابية تؤسس لهرميات فئوية وأنساق علاقات وأشكال هيمنة ظاهرة وخفية. هذه التشكّلات والممارسات الخطابية هي التي تنتج، في نهاية المطاف، إيديولوجيا الإرغام والإذعان والتضليل. وأخطر عمليات تمثيل الآخر هي التي تحصل بدعم مؤسساتي ذات موجِّهات سياسية للاستحواذ على مراكز سلطة ونفوذ في ضمن الحيّز؛ الوطني أو المناطقي أو العرقي أو المذهبي أو الحزبي، الخ.. لم يعد تمثيل الآخر وتصويره وتحديد هويته يخضع لأمزجة وأهواء وتجارب فردانية أو مجتمعية محدودة وحسب. بل غدا صنعة مؤسساتية ذات صبغة سياسية تحرِّكها إستراتيجيات ومصالح وأهداف كبرى، وذلك منذ بدايات عصر الاستشراق على الأقل، ومن ثم الاستعمار الكولونيالي وما بعده، وحتى اليوم، إذ باتت صنعة مؤسسات ونخب ومطابخ ثقافة محلية ودولية محكومة جميعها بمصالح وأهداف متباينة ومتناقضة. وكما قلنا فإن من أشد آليات تصوير وتمثيل الآخر فداحة تكمن في عمليتي الاختزال والتعميم.. اختزال الآخر في توصيف مبتسر قاطع وتعميم التوصيف هذا على جميع المنتمين إلى منطقة الآخر الجغرافية أو العرقية أو المذهبية، أو كلها معاً، بغض النظر عن تبايناتهم الفكرية والطبقية والسياسية وتنوع هوياتهم الفردية وتعددها. فتنميط الآخر في صورة ثابتة ينتج إما عن جهل وكسل ذهني، أو بدافع مغرض.. وفي سبيل المثال ومع عدم إنكار وجود أسباب تاريخية موضوعية للتصدّعات الاثنية في العراق، وهو ما حاصل في مجتمعات كثيرة والتي استطاع معظمها تجاوزها بالحوار العقلاني والتنمية المستدامة، فإن جانباً من تلك التصدّعات ( عراقياً ) كان استثماراً مؤسساتياً مربحاً، في معادلة؛ ( الثروة، السلطة، النفوذ ) والصراعات بشأنها لصالح نخب وشرائح تعتاش على ديمومة الانقسام المجتمعي، وعلى صناعة روحية الشك بالآخر، والكراهية. ها هنا لا يجري تصوير/ تمثيل الآخر بناءً على رؤية موضوعية لواقع شاخص بل ينطلق من التمركز على الذات ونظرة مسبقة للآخر مقتضبة وصارمة، تسندها حالات من سوء الفهم والريبية والخوف والشعور بالتهديد مدعوماً بمصالح مؤسسية وإستراتيجيات خطابية توظف في عمليات التمثيل والتقويم. وتتضمن عملية الاختزال شحنة من الازدراء إذ يقلّم تاريخ عريض وتنوع واسع وتعقيدات بنيوية عويصة في صيغ خطابية مبسّطة ومسطّحة. فالعقل الفئوي، سواءً أكان عرقياً أو طائفياً، أو حزبياً إيديولوجياً شمولياً، يطمئن إلى اختزال الآخر في عبارة أو بضع عبارات تصوِّره كائناً أدنى، وأقل قيمة إنسانية، خائناً أو كافراً، منحطاً ويستحق الازدراء والسخرية، وأحياناً الإبادة والموت. هذا العقل الفئوي يكون بالغ الخطورة حين يستسلم لسردية موهومة عن نفسها وعن الآخر، إلى صورة زائفة تجد نفسها من خلالها مختارة من القدر، وأرقى بالمراتب الإنسانية، حتى وإنْ كانت أقلها إنتاجاً في ميادين الفكر والثقافة والآداب والفنون والعلوم والتكنولوجيا، وواقفة عند الدرجات الدنيا من السلّم الحضاري. وبمرور الوقت تستحيل الصورة الزائفة تلك إلى كابح ذاتي يمنع التفاعل والتطور، وإرساء قواعد السلم الأهلي. ثمة فرق بين وعي الهوية وبين الانغلاق عليه.. وعي الهوية في طيف من الهويات المتداخلة والمتجاورة والمتفاعلة في مقابل السجن داخل هوية مفردة متمركزة على ذاتها تجعل المرء مع جماعته في عداء وصراع أبديين مع الآخرين. فالانعزال ونبذ التواصل والخوف من الآخر هو ما يخلق سوء الفهم، وسوء الحكم على ذلك الآخر. غالباً ما يجري إنشاء الهويات في تقابل مع الهويات الأخرى.. إنك لا تقول هذا أنا فقط، بل هذا ما أختلف فيه معك كذلك. والتأكيد على الاختلاف والتضاد عند أصحاب الرؤى ( الهووية الضيقة ) يكون طاغياً في مقابل تسفيه أو محو أي إشارة إلى ما يشترك فيه الفرد مع الآخرين. إن معضلة الهوية لا يمكن التعاطي معها نظرياً ومنهجياً من غير استحضار مفهوم الفضاءات البينية؛ تلك المساحات المشتركة بين الأنا و( آخرها ).
#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
معضلة الهوية ورهانات الثقافة العراقية: مدخل
-
قراءة في رواية ( الأمريكان في بيتي )
-
قراءة في مجموعة شريط صامت للشاعر عبد الزهرة زكي
-
لا بد من أن تكون للنخب الثقافية مشاركة فعالة في بناء الدولة
...
-
أناييس والآخرون
-
يوميات أناييس نن
-
المثقف والحيّز العمومي
-
المثقف الذي يدسّ أنفه...
-
أنسنية إدوارد سعيد
-
-لقاء- كونديرا
-
المثقف والسلطة، وحقل المعنى
-
حين يقيم الشعر نصباً للحرية؛ قراءة في مجموعة -بروفايل للريح.
...
-
رحلتي في عوالم جبرا إبراهيم جبرا
-
عن السرد والواقع والتاريخ
-
الكتب في حياتي
-
كامو والآخرون
-
جان وسيمون: وجهاً لوجه
-
رياض البكري شاعراً
-
الأسلمة السياسية في العراق
-
الإحساس بالنهاية: بين الذاكرة والتوثيق
المزيد.....
-
العثور على قط منقرض محفوظ بصقيع روسيا منذ 35 ألف عام.. كيف ب
...
-
ماذا دار خلال اجتماع ترامب وأمين عام حلف -الناتو- في فلوريدا
...
-
الإمارات.. وزارة الداخلية تحدد موعد رفع الحظر على عمليات طائ
...
-
صواريخ حزب الله تقلق إسرائيل.. -ألماس- الإيرانية المستنسخة م
...
-
كيف احتلّت إسرائيل جنوب لبنان عام 1978، ولماذا انسحبت بعد نح
...
-
باكستان ـ عشرات القتلى في أحداث عنف قبلي طائفي بين الشيعة وا
...
-
شرطة لندن تفجّر جسما مشبوها عند محطة للقطارات
-
أوستين يؤكد لنظيره الإسرائيلي التزام واشنطن بالتوصل لحل دبلو
...
-
زاخاروفا: -بريطانيا بؤرة للعفن المعادي لروسيا-
-
مصر.. الكشف عن معبد بطلمي جديد جنوبي البلاد
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|