علي لّطيف
الحوار المتمدن-العدد: 4339 - 2014 / 1 / 19 - 03:26
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الإنتقام كريه
جورج أورويل*
كلما قرأت عبارات مثل (محاكمات جرائم الحرب), (معاقبة مجرمي الحرب).. إلخ, تعود بي ذاكرتي, إلى ذكرى معينة لشئ رأيته في معتقل لسجناء الحرب في جنوب ألمانيا, باكراً خلال هذه السنة.
أحد المراسلين وأنا زرنا هذا المعتقل في جنوب ألمانيا, كان دليلنا – أحد يهود فيينا الذي كان مجنداً في أحد فصائل الجيش الأمريكي المختصة بالتحقيق والإستجواب- يرينا هذا المعتقل. الرجل كان متأهباً, ذو شعر جميل, بالمجمل كان الرجل شاباً حسن المظهر, يبلغ من العمر تقريباً خمس وعشرون سنة, وسياسياً كانت معرفة الشاب جيدة جداً, مقابل معرفة الضابط الأمريكي المعتاد, الذي كان بدواعي سروري أن أكون بصحبته. المعتقل كان على مهبط طائرات, وبعد جولتنا بجانب الزنزانات العادية, قادنا دليلنا إلى حظيرة في المهبط, حيث يوجد عدة مساجين من صنف مختلف عن الأخرين, يتم ’فحصهم‘.
في أحد نهايات الحظيرة, دزينة من الرجال كانوا مستلقين في صف واحد على الأرضية الإسمنتية. هؤلاء, كما تم الشرح لنا, ضباط من وحدة إس إس الألمانية, الذين فُصلوا عن المساجين الأخرين. بينهم كان رجل بلباس مدني قذر, يضع ذراعه على وجهه, ويبدو أنه نائم. كانت قدماه تبدوان غريبتا الشكل ومشوهتين بصورة رهيبة. كلا القدمين تبدوان متطابقتين, لكن يبدو كأن القدمين ضُربا حتى أصبحا كشكل كروي غريب, الذي جعلهما تبدوان كحافر حصان أقرب إلى أي شكل بشري. بينما كنا نقترب إلى المجموعة, بدات حالة دليلنا اليهودي الشاب تتحول إلى حالة من الحماس.
’هذا هو الخنزير الحقيقي!‘ قال الدليل, وفجأةً هاجم بجزمته العسكرية الثقيلة الرجل المنهك, ووجه إليه ضربة رهيبة على إحدى إنتفاخات قدميه المشوهتين.
’إنهض, أيها الخنزير!‘, صاح الرجل على السجين بينما كان يستيقظ هذا الأخير, وثم كرر ذات الجملة باللغة الألمانية. السجين صارع ليقف على قدميه, ووقف في النهاية بشكل أخرق في حالة إنتباه. بذات حدة حماسته – حقاً كان الشاب يرقص بينما كان يتكلم- روى لنا الشاب اليهودي تاريخ هذا السجين. كان نازياً حقيقياً, رقمه الحزبي يدل على أنه عضو في الحزب منذ الأيام الأولى, وقد شغل منصباً كمساعد لجنرال في الفرع السياسي لوحدة إس إس. يمكن أن يكون من المؤكد أن هذا الرجل كان على رأس أحد معسكرات الإعتقال, وكان مسؤولاً على التعذيب والإعدامات التي حدثت في مثل هذه المخيمات. ببساطة, هذا السجين يمثل كل شئ كنا نحاربه في السنوات الخمس الماضية.
في نفس الوقت, كنت أتأمل مظهر السجين. بغض النظر عن مظهره الرث, الجائع, الغير مهذّب, الذي بالعادة يكون هو المظهر العام للسجناء الذين تم القبض عليهم حديثاً, الرجل بدا كنموذج مقزز جداً. لكنه لم يبدو قاسياً ولا حتى مرعباً, مجرد رجل مصاب بالعُصاب, و بطريقة ما بدا مثقفاً. عيناه الشاحبتين الماكرتين بدا مشوهتين من رؤية مناظر مرعبة صادمة. يمكن أن يكون رجل دين, ممثل سكير, أو وسيط روحاني. لقد رأيت العديد ممن يشبهون مظهر هذا الرجل في لندن, في بيوت الإيواء, وكذلك في غرفة القراءة في المتحف البريطاني. من الواضح أنه غير متزن عقلياً – حقاً, يبدو عاقلاً بشكل مريب فحسب, مع ذلك في هذه اللحظة, يبدوا أنه واعي بما فيه الكفاية ليخاف من ركلة أخرى. مع هذا, كل ما أخبرني به اليهودي عن تاريخ هذا السجين, يمكن أن يكون حقيقياً, ومن المحتمل أن يكون حقيقياً!, هكذا اذاً, هذا الجلاد النازي, معذب خيال الجميع, الشخصية المرعبة التي حوربت لعدة سنوات, تضاءلت هكذا إلى هذا المظهر التافه البائس, الذي من الواضح عليه أنه يبدو كشخص, لا يحتاج إلى العقاب, بل إلى علاج نفسي من نوع ما.
لاحقاً, كان هناك العديد من الإهانات المتكررة. ضابط أخر من وحدة إس إس, رجل قوي البنية, تم إرغامه على التعرى حتى خصره, وأن يُظهر رقم فئة دمه الموشومة أسفل ذراعه اليمنى, سجين أخر أُرغم أن يشرح لنا, عن كيف حاول أن يكذب, على أنه ليس عضوا في وحدة إس إس, ومحاولته لخداع معتقليه,على أنه مجرد جندي عادي من الفيرماخت - الجيش الألماني-. تساءلت إذا كان الشاب اليهودي يتحصل على أي متعة من هذه السلطة الجديدة التي يمارسها, إستنتجت أنه لا يستمتع بذلك بتاتاً, وأنه على العموم مثله مثل – رجل في بيت دعارة, أو طفل يدخن أول سيجارة له, أو سائح في نزهة يلتقط الصور, يقول لنفسه مراراً وتكراراً أنه يستمتع بما يقوم به, ويتصرف كما خطط للتصرف في الأيام التي كان فيها يشعر بالعجز.
من السخافة أن نلوم أي الماني أو نمساوي يهودي, على إسترجاع حقه من النازيين, الرب وحده يعلم كم من الحسابات, يجب على هذا الرجل بالذات أن يمحى؛ من المرجح أن عائلته بالكامل قد قُتلت. وفي النهاية, ركلة طائشة لسجين ما, فعل صغير جدا, بالمقارنة بالفظائع التي إرتكبها نظام هتلر. لكن هذا المشهد, والكثير من الذي شاهدته في ألمانيا, جعلني أعتقد أن الفكرة العامة للإنتقام والعقاب, مجرد حلم يقظة طفولي. إلى حد ما يمكنني أن أقول, أنه لا يوجد شئ يدعى بالإنتقام, الإنتقام فعل تريد أن تقوم به عندما تكون عاجزا, وبسبب الضعف الذي يعتريك, وعندما يتلاشى سبب عجزك, الرغبة في الإنتقام تتلاشي أيضاً.
من لم يكن سيقفز فرحاً, في 1940, عند فكرة رؤية ضابط من وحدة إس.إس يُضرب ويهان؟, لكن عندما أصبح هذا ممكناً, أصبح مجرد شئ يثير الشفقة والقرف. قد قيل, أنه عندما عُرضت جثة موسيليني في العلن, امرأة مسنة أخرجت مسدساً, وأطلقت خمس رصاصات في جثة موسيليني, وصرخت قائلة: ’هذا من أجل أبنائي الخمسة‘, هذا نوع من القصص التي تختلقها الصحف, لكن ربما تكون القصة حقيقية. أتساءل عن مدى الرضا الذي تحصلت عليه هذه المسنة من إطلاق الرصاصات الخمس, التي بدون شك, حلمت بهذه اللحظة منذ فترة طويلة. فالحالة الوحيدة التي كان بإمكانها أن تقترب من موسيليني, لتطلق النار عليه, هي أن يكون موسيليني مجرد جثة هامدة.
إلى حد بعيد, جماهير هذا البلد مسئولة على إتفاقية السلام المجحفة, التي تم فرضها على ألمانيا, فقد كانت بسبب فشلهم عن رؤية أن عقاب العدو, حقيقةً لا يجلب أي رضا. نحن رضخنا للجرائم التي تقام بحق الألمان, كطردهم من جنوب بروسيا - وجرائم أخرى التي لم يكن بإمكاننا أن نوقفها, لكن كان بإمكاننا على الأقل معارضتها – ولكننا رضخنا لجرائمنا, ذلك لأن الألمان أغضبونا, أرهبونا, ولهذا كنا واثقين أنه عند سقوطهم, لن نشعر أبداً بأي شفقة أو أي رحمة إتجاههم. نحن نستمر في هذه السياسات, أو ندع الأخرين يستمرون في القيام بها, ذلك بسبب شعور غامض يمتلكنا, أننا عندما عاهدنا أنفسنا على معاقبة ألمانيا, يجب علينا أن نوفى العهد, ونمضي في فعل ذلك. في الواقع, تبقى القليل من الكراهية لألمانيا في هذا البلد, وأقل كما أتوقع أن أجد, في صفوف جيش الإحتلال؛ فقط قلة من السادييين, التي كانت (الفظائع) هنا وهناك, من الواجبات عندهم, الذين يتحمسون كثيراً في مطاردات مجرمى الحرب والخونة. لو سألت رجل عادي, عن جرائم غورينغ, ريبنتروب, والآخرين الذين ستتم محاكمتهم, لن يستطيع الرجل أن يجيبك. بطريقة ما, معاقبة هؤلاء الوحوش تفقد جاذبيتها, عندما يصبح الأمر ممكناً؛ بالفعل عندما يكونون وراء القضبان, لا يظهرون كالوحوشِ تقريباً.
لسوء الحظ, هناك ضرورة عادةً, أن يمر الشخص بحادثة ملموسة وصادمة, قبل أن يكتشف حقيقة ما يشعر به. هنا سأذكر ذكرى آخرى مررت بها في زيارتي لألمانيا؛ بعد عدة ساعات من سقوط بلدة شتوتغارت في يد الجيش الفرنسى, مراسل بلجيكي وأنا دخلنا إلى البلدة, التي كانت مازالت تمر بحالة من الفوضى. المراسل البلجيكي كان يذيع أخبار الحرب للقسم الأوروبي من محطة ال(بي.بي.سي), وككل الفرنسيين أو البلجيكيين, كان يملك سلوكاً أكثر قسوة وصرامة إتجاه (البَّش) – أي الألماني – بالمقارنة بالرجل الإنجليزي أو الأمريكي. كل الجسور الرئيسية للبلدة نُسفت, فاضطررنا إلى الدخول للمدينة عن طريق جسر صغير للمشاة, الذي حاول الألمان الدفاع عنه بكل جهد يملكونه. جندى ألماني ميت كان مُلقى أسفل دُرجات الجسر, وجهه كان أصفر اللون, على صدره يبدو أن أحدهم وضع بعض الزنابق, المزهرة والمنتشرة في كل مكان.
المراسل البلجيكي, حاول تفادى النظر بينما مررنا. وعندما كنا فوق الجسر, أخبرني المراسل البلجيكي, أن هذه المرة الأولى في حياته التي يرى فيها جثة رجل, أظن أن عمره كان حوالي الخمس وثلاثين سنة, ولمدة أربع سنوات كان يقوم بالدعاية للحرب عبر الراديو. بعد عدة أيام من هذه الحادثة, سلوك الرجل البلجيكي تغير تماماً عما كان عليه في البداية, أصبح ينظر بإشمئزاز للبلدة المدمرة بالقنابل, والإهانات المذلة للجنود الألمان التي كان تحدث بإستمرار أمامنا, وحتى أنه تدخل أحد المرات ليمنع واقعة سيئة جداً من النهب كانت تحدث بالقرب منا. عندما غادر, أعطى بقية القهوة التي أحضرنها معنا للألمان الذين سكنا في منزلهم. أسبوع قبل ذلك على الأرجح, كانت مجرد فكرة إعطاء القهوة لل(البَّش) – الألماني-- مروعة ومهينة جداً بالنسبة له. لكن مشاعره كما أخبرني, مرت بتغيرات جذرية عند رؤيته لمشهد هذا الميت المسكين بجانب الجسر, فجاةً قد جلب له المشهد المعنى الحقيقى للحرب. وعلى رغم ذلك, لو حدث ودخلنا البلدة من طريق أخر, لربما سيُعفى من تجربة مشاهدة جثة واحدة من العشرين مليون جثة تقريباً التي أنتجتها هذه الحرب.
#علي_لّطيف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟