|
إداورد سعيد رمزًا للتسامح الأندلسي - في ذكرى رحيله
خالد سالم
أستاذ جامعي
(Khaled Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 4304 - 2013 / 12 / 13 - 16:41
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إداورد سعيد رمزًا للتسامح الأندلسي في ذكرى رحيله لئن أصبحت الأندلس حائط مبكي العرب الأخير، قبل فلسطين، فإنها كانت نقطة شارحة لماضي الإسبان وحاضرهم، جسرًا للتواصل مع ماضيهم العربي وحاضرهم الغربي، متخذين بعض شخوص الساحة الثقافية العربية عروة توثقهم بجنوب بحر الروم. برز بين هؤلاء الشخوص إدوارد سعيد الذي مَثّل رباطَا وثيقًا يصل الماضي، الأندلس بشقيها العربي واليهودي عبر الرباط المسيحي، بالحاضر المضطرب. فهم إدوارد سعيد روح الأندلس عبر قراءة مغايرة، خارج السرب، لظاهرة الأندلس، حقبة التلاقح بين الثقافتين العربية الإسلامية والغربية حيث خضب التسامح روحها، رغم الأحمر القاني المتناثر على مسارها، الروح التي ارتوى منها الأحفاد الإسبان، وهي التي تهيم على وصل صاحب سفر "الإستشراق" المتعدد الدلالات بين هاتين الثقافتين الجارتين المتنافرتين. تجلى تسامح الثقافة العربية الإسلامية في الأندلس فسمح بتعايش مثالي بين الأديان الثلاثة لم يتكرر منذ اكتمال الدائرة بمولد الإسلام. انطلاقًا من تلك الروح، الرغبة في الاقتراب من الآخر، القريب البعيد، اهتم ورثة الأندلس "الآخرون" بنتاج الشق الآخر من ورثة الأندلس "الأصليين"، فكان إدوارد بين أوائل الذين عني الإسبان بفكرهم، فنقلوا أهم أسفاره إلى لغة ثربانتيس، عبر جسر فاعل ومؤثر بين الثقافتين. وكان الكاتب خوان غويتصولو، بعد أن تعرف إليه في أميركا في شبابهما، فترة مولد رواية الأخير الرمز، فعنونها بلفظ عربي صوره بحروف لاتينية، "مقبرة"، بينما كتب خلالها المفكر الفلسطيني كتابه الأبرز حول إرث الإستعمار في الشرق. كان غويتصولو وراء مشروع ترجمة "استشراق" فور صدوره، لكنه تأخر قليلاً ليرى النور ضمن سلسلة للتعريف بالأدب والفكر العربيين عبر دار ليبرتاريس، وكان لي إسهام في ذلك المشروع الذي قدم كتابًا عربًا كثيرين، من بينهم نجيب محفوظ وصنع الله إبراهيم والغيطاني والخراط، إلى جانب آخرين من عرب وأكراد وأمازيغ. عرف الإسبان في إدوارد سعيد مفكرًا عربيًا كونيًا يمثل الآخر وتماس الحدود منذ الإمبراطورية الرومانية مرورًا بزمردة تاج البشرية في التسامح والتلاقي، الظاهرة التي اقتصر وجودها على شبه جزيرة أيبيريا، آخر نقطة في أوروبا على بحر الظلمات. تمثل الحالة الإسبانية البرتغالية نقطة عجائبية في الوشائج العربية الغربية تضرب بجذورها في الأندلس، وهو ما تمثله إدوراد الذي ترعرع نتاجه الفكري والمعهدي في تراب أمريكي واحتفظ برمزية العمل من أجل شعبه بعضويته في المجلس الوطني الفلسطيني لسنوات طويلة. هذا الدور المفصلي، الجسر الممتد بين ثقافتين، خص به مثقفون وأساتذة جامعات وصحفيون إسبان عبر أرض التلاقح الأندلسية من خلال ترجمات لكتابه المبرَّز ومقالاته إلى جانب ندوات عجت بها قاعات مراكز بحث وجامعات تدرس نتاجه الفكري. تعامل الإسبان مع فكره من منطلق "الآخر" الذي قد يفيدهم رغم ثقافتهم الغربية الإستعلائية، وهذا الآخر يمثل عالمًا مجاورًا توضع عليه علامات استفهام وتعجب انطلاقًا من الاستعلائية الأوروبية تجاه البرابرة، إرث الإمبراطورية الرومانية. لقد فهموا أفكار ورسائل سفر "الاستشراق" أكثر من بني جلدته، إذ حاولنا تطويعها انطلاقًا من نظرية المؤامرة التي تلاحقنا منذ سلم أبو عبد الله الصغير مفاتيح غرناطة، آخر معقل أندلسي، الحدث الذي أفُل معه نجم الحضارة العربية ولم يُشعل بعد. عاود الإسبان اقترابهم من شخصية وفكر وروح إدوارد سعيد بمنحه أهم جائزة لديهم، تحمل اسم ولي عهد إسبانيا، جائزة أمير أستورياس للوفاق، مناصفةً مع الموسيقار الأرجنتيني الإسرائيلي دانيال باريمبويم "لعطائهما السخي من أجل التعايش والسلام"، وهي الجائزة التي حازها فلسطيني آخر، الراحل عرفات. بروح أندلسية شهدت إشبيلية إحدى حواضر الأندلس مولد مؤسسة باريمبويم-سعيد، بعد قليل من رحيل المفكر الفلسطيني، وهي مؤسسة عامة تابعة لرئاسة حكومة إقليم الأندلس، جنوبي إسبانيا، مهمتها الرئيسة التثقيف الموسيقي للمجتمع، بعد تأسيس أوركسترا الديوان الشرقي الغربي الذي يضم موسيقيين شبابًا من الشرق الأوسط وإسبانيا، وأكاديمية الدراسات الأوركسترالية، ومقرهما إشبلية، وفرقة أخرى لموسيقيي فلسطين الشباب ومقرها رام الله. تأسست الأوركسترا في العام التالي لرحيل إدوارد سعيد تجسيدًا لمشروعه المشترك مع بارينبويم الذي وضعاه عام 1999 انطلاقًا من روح الوفاق لتضم شبابًا نابغين في عالم الموسيقى، إلى جانب منتدى للحوار والتأمل حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. جاء المشروع في أساسه استلهامًا لديوان الشاعر الألماني الشهير غوته "ديوان الشرق والغرب". فكرة الوفاق التي نودي بها، استلهامها للتعايش بين الحضارتين العربية والغربية، امتثالاً لروح الأندلس، بدلاً من صراع الحضارات. وكان أبرز المنادين بهذه اليوتوبيا المستشار الألماني الأسبق هلموت شميت الذي طرحها في أثناء أزمة الحضارتين جراء حرب الخليج الثانية عام 1991، مطالبًا الإسبان باستلهام الأندلس لبناء الثقة بين ضفتي بحر الروم، وإنشاء مؤسسة جسر بينهما على أرضها. إلا أن لا أحد اهتم بالفكرة رسميًا إلى أن التقطها قطبان، سعيد وبارينمبويم، يمثلان شعبين عرفا المعاناة، فوضعا مشروعهما ونفذه الإسبان مستلهمين الموروث الأندلسي في التعايش والتسامح. خلال العقد الماضي، منذ رحيل إدوارد، تواترت الفعاليات التي تحمل روحه من حفلات موسيقية لديوان الشرق والغرب وندوات في إسبانيا، كان آخرها ندوة أقامتها مؤسسة البيت العربي في مدريد –تابعة لوزارة الخارجية الإسبانية- الصيف الماضي بمشاركة اخصائيين في إرث المفكر الفلسطيني والفكر العربي الإسلامي. إيمان أحفاد الأندلس الآخرين جعلهم يثابرون في دربهم نحو خلق مناخ تسامح بين طرفي أطول صراع في العصر الحديث، فأضافوا حلقة جديدة لتكريمه في ذكراه العاشرة، تكريم على مستوى راقٍ في أغسطس، شارك فيه شخصيات عامة بآرائهم. وكان بينهم صديقه الحميم خوان غويتصولو، برناردينو ليون المبعوث الأوروبي لجنوبي المتوسط وأحد مؤسسي مؤسسة بارينبويم-سعيد للموسيقى والفكر فأكد أن المفكر والسياسي الفلسطيني كان يتميز بقدرته على وضع نفسه في موضع "الآخر"، وسامي نائر مدير مركز المتوسط الأندلسي في إشبيلية. من هذه الروح العصية على التكرار على ضفتي المتوسط اليوم التقط فليبي غونثاليث، رئيس الحكومة الأسبق وراعي المؤسسة، الخيط السياسي لهذا الرمز الفلسطيني، مولجًا في ذاته السياسية التي خبرته أن الاستقطاب في الصراعات لا يؤدي إلى حلول إيجابية، وهو ما تمثله سعيد المفكر والإنسان. ويرى أن سعيد عاني كغيره ممن يحافظون على توازنهم واتزانهم في نزاع يعمه الاستقطاب ما أدى إلى عدم فهمه من قِبل قطاع من العرب ومن الآخرين. عاش إدوارد سعيد يعمل من أجل الحوار، التفاهم، التسامح، مفاهيم ارتوت بنسغ الثقافة العربية الإسلامية، في أزهى عصورها، ونمت في تربة أندلسية لتواصل مسارها في عالمنا المضطرب انطلاقًا إسبانيا البلد الأوروبي الوحيد الذي أسس العرب عاصمته، مدريد –مجريط العربية- بينما السابقة عليها تحمل اسمًا عربيًا، بلد الوليد، الأمر الذي يفك شفرة علاقة الإسبان بنا.
#خالد_سالم (هاشتاغ)
Khaled_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من أدب الصعاليك الإسباني (حياة لاثاريّو دي تورمس، حظوظه السع
...
-
لن تتحرر المرأة إلا إذا كانت قوة ضاغطة تغير القوانين والفكر
...
-
في ذكرى رحيل خوسيه ثيلا خامس وأخر نوبل إسباني للآداب
-
حضارة الفرجة: صناعة الرموز الرخيصة وشيطنة الآخر
-
زمن الفرجة: صناعة الرموز الرخيصة وشيطة الآخر البرادعي نموذجً
...
-
نطاق خشبة المسرح بين التقليد والتجديد
-
تطور حركة الإستعراب الإسباني
-
الكاتب الإسباني أنطونيو غالا: الأندلس تتملكني، فهي الهواء ال
...
-
تأثير نوبل نجيب محفوظ على الترجمة من العربية إلى الإسبانية
-
عالم الأندلسيات محمود مكي يترجل إلى الآخرة من بلاد الأندلس
-
الغيطاني وجدلية المجرد والمحسوس في -متون الأهرام- *
-
الشاعر رفائيل ألبرتي : تأثرت بالشعر العربي الاندلسي وغارثيا
...
-
الإسلاميون والديمقراطية في مفترق طرق
-
سورية في قلب أم الدنيا
-
الرؤيا في شعر البياتي
-
لا تجبروا جيش الشعب المصري على أن يكون فاعلاً على غرار جيوش
...
-
أزمة اللغة في -المسرح الجديد- في إسبانيا
-
مشاهد بعد معركة الإخوان المسلمين
-
العرب بين الإنتحار واللهو بتطبيق الشريعة: مصر على شفا جَرف ه
...
-
من البنية إلى البلاغة في السميوطيقا البصرية
المزيد.....
-
بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
-
قائد الثورة الاسلامية آية اللهخامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع
...
-
اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع
...
-
إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش
...
-
مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -أفيفيم- بصلية صا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -ديشون- بصلية صار
...
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
-
أسعد أولادك…. تردد قناة طيور الجنة التحديث الجديد 2025 على ج
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|