الدين/الماركسية من اجل منظور جديد للعلاقة نحو أفق بلا إرهاب - الجزء الثالث
محمد الحنفي
2005 / 6 / 11 - 11:11
عمومية العقيدة و خصوصية العبادة :
و بوقوفنا على علمية نسبية و تاريخية الدين و اطلاقيتها و علمية نسبية و تاريخية الماركسية و اطلاقيتها ننتقل إلى النظر في "عمومية الدين و خصوصية العبادة " لتعميق النظر في جانب من جوانب الموضوع.
فوجود دين معين معناه وجود معتقد معين و المعتقد لا يعني إلا الإقرار بوجود شيء معين فوق الإدراك يتحكم في مصير البشرية، و يقرر ما يكون عليه ذلك المصير، و تعدد الديانات معناه تعدد المعتقدات الذي لا يعني إلا تعدد من يتحكم في مصير الكون و في مصير البشرية و هو ما ورد في شأنه في القرآن "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا".
و تعدد العقيدة و وحدتها لها علاقة بتخلف و تقدم البشرية، فالمرحلة التي عرفت فيها البشرية تعدد المعتقدات هي مرحلة لازالت البشرية فيها تعاني من كل أشكال التخلف، و تبحث عن طريق العبادات المختلفة و المتعددة عن الخلاص من أشكال العذاب الذي تعاني منه، كما أن الجنوح إلى وحدة العقيدة ناتج عن التطور الذي عرفته البشرية في مرحلة تاريخية معينة تأكد معه أن تعدد المعتقدات لم يعد يتناسب مع إنسانية الإنسان الذي يميل إلى وحدة الحكم، و وحدة الفكر، و وحدة المجتمع. و بما أن تعدد المعتقدات التي يترتب عنها تعدد العبادات لا يمكن أن تؤدي إلا إلى تمزق البشرية فإن ذلك التعدد لم يعد مرغوبا فيه. فظهر من يدعو إلى عبادة اله واحد . تمت تسميته باسم الله في الديانات السماوية ديانة موسى و ديانة عيسى و ديانة محمد التي صارت تعرف بالديانات الكبرى، اليهودية و المسيحية و الإسلام، تبعا لوحدانية عبادة الله التي أدركها إبراهيم عن طريق التأمل في الكون كما جاء في القرءان "فلما رأى القمر بازغا قال ربي، فلما افل قال لا احب الآفلين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا اكبر، فلما افلت قال يا قوم اني برئ مما تشركون، اني وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا، و ما أنا من المشركين" و لذلك دعا القرءان إلى اتباع ملته عندما جاء فيه " ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل و في هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم و تكونوا شهداء على الناس" و تحقق وحدة العقيدة في الديانات الكبرى كان يجب أن يستلزم وحدة العبادة في كل ديانة على المستوى الكوني. إلا أن التحريف الذي لحق دين موسى، و دين عيسى من بعده حول ديانة موسى إلى أن يعتقد المومنون به أن هناك آلهة ثلاثة، و كذلك ديانة عيسى، الله، و ابن الله، و زوجة الله كما جاء في القرءان "إن الله ثالث ثلاثة" و "قالت اليهود عزير ابن الله، و قالت النصارى المسيح ابن الله" الأمر الذي أعطى الحق للمؤولين للدين اليهودي، أو الدين المسيحي أن ينتجوا طرائق في العبادة تتناسب مع خدمة المصالح الطبقية لليهود أو للمسيحيين. و بالنسبة للدين الإسلامي فإنه يختلف عن اليهودية و المسيحية لأنه لم يقل بالرهبانية التي سادت فيهما، و التي أدت إلى تحريف الديانتين بسبب ادلجتهما، إلا انه لم يسلم منذ البداية من الادلجة فشيعة علي لهم تأويلهم، و اتباع معاوية لهم تأويلهم، و آل الزبير لهم تأويلهم، و الخوارج لهم تأويلهم. و هذه التأويلات المختلفة التي لا يمكن تفسيرها إلا بالمصلحة الطبقية، و المصلحة السياسية التي تعتبر امتدادا للمصلحة الطبقية، أدت و تؤدى على يد جميع المؤدلجين في جميع العصور، و في جميع البلدان إلى الاختلاف في طرق أداء الطقوس الدينية، خاصة و أن كل فرقة مؤدلجة للدين الإسلامي تعتمد مذهبا من المذاهب السنية أو الشيعية. ففي المذاهب السنية نجد المذهب المالكي، و المذهب الشافعي، و المذهب الحنفي، و المذهب الحنبلي. و هذه المذاهب لها تأويلاتها و اجتهاداتها التي قادت إلى الاختلاف في أداء العبادات التي تتأثر في كل مذهب باختلاف الأزمنة و الأمكنة التي تؤدى فيها، كما تختلف باختلاف الاجتهادات التي تحدث في كل مذهب، و درجة توظيفه من قبل مؤدلجي الدين الإسلامي في كل عصر، و في كل بلد من بلدان المسلمين.
و هذا التطور الذي عرفه الدين من تعدد المعتقدات إلى وحدة العقيدة، و من تعدد العبادات، إلى الاختلاف في أداء العبادة الواحدة و في إطار دين واحد. لا يمكن أن نستنتج منه إلا أن تعدد الديانات كان مصحوبا بوحدة العقيدة .فالديانة الوثنية التي تنتج بطبيعتها اختلافا في العبادات من دين إلى آخر، لأن عابدي الأوثان كان كل واحد منهم يعبد وثنه بالطريقة التي يراها، و في الوقت الذي يراه، و بتغير المعتقد صار الناس يعبدون إلها واحدا، و لكن طرق أداء العبادات يختلف من حزب إلى آخر، و من مذهب إلى آخر، و من بلد إلى آخر. و بناء على ذلك، فالدين عام، و العقيدة خاصة. لأن الدين إيمان، و العقيدة هي موضوع الإيمان، و قد تصير العقيدة ذات طابع عام إذا تخلص الإنسان من الاهتمام بالأمور التي تكرس دونية الإنسان و عدم قدرته على التجريد الذي يحقق الوحدة بين الدين و العقيدة كما هو الشأن بالنسبة للدين الإسلامي الذي يمكن تسميته بالعقيدة الإسلامية أيضا. لأن الإسلام يعني وحدة العقيدة، و العقيدة تعني وحدة المعتقد الذي هو الله الذي لم يعد قائما في الواقع و لم يعد في الإمكان تمثله و تمثيله "ليس كمثله شيء" "لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار" .فالدين و الاعتقاد، وجهان لعملة واحدة هي الإسلام. فإذا داخلها اعتقاد بوجود مقدس إلى جانب المقدس الرئيس الذي هو الله صارت شيئا آخر لا يصح تسميته بالإسلام. و لذلك فكل الذين يؤدلجون الدين الإسلامي يضطرون إلى الاعتقاد بوجود مقدس آخر تقتضيه ادلجة الدين الإسلامي، فإنه يفقد أن يكون إسلاما بقدر ما يصير حزبا سياسيا له زعيم تقتضي السياسة تقديسه لضمان وحدة المنتمين إلى الحزب المؤدلج للدين الإسلامي، و القيام بممارسة طقوس العبادة على أساس تلك الادلجة يجعل تلك العبادة بعيدة عن الإسلام و بريئة منه لتناقضها مع وحدة الدين و العقيدة التي داخلها عنصر يبعدها عن حقيقة الإسلام. و ما قلناه عن الحزب المؤدلج للدين الإسلامي نقوله عن المذهب السني، أو المذهب الشيعي الذي يصير صاحبه مقدسا لأنه يقود إلى تكريس الاختلاف في طريقة العبادة التي لا تفسر إلا بتعدد المعتقد و هو ما يجعل أصحاب المذهب يخدشون وحدة الدين و العقيدة في الإسلام الذي تميز بهذه الخاصية عن سائر الأديان السماوية. فاليهودية و المسيحية فيهما ثلاثية الاعتقاد " إن الله ثالث ثلاثة". و لذلك جاء الإسلام للتخلص من تلك الثلاثية لتحقيق وحدة الدين و وحدة العقيدة. لأن وحدة الدين تقتضي جعل الناس جميعا يعتقدون بوجود اله واحد لا شريك له بهدف تحرير الإنسان من المعتقدات التي لا تتناسب مع ما يجب أن يتمتع به الإنسان من كرامة و عزة نفس و إباء، و ترفع عن الدنايا، و رفض لكل أشكال الاستغلال التي تمارس عليه على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية و العقائدية قبل مجيء الإسلام و بعده. و لضرب هذا المستوى من الحرية التي تتحقق بوحدة العقيدة و الدين كانت ادلجة الدين الإسلامي، و كانت المذاهب الدينية التي تؤدي إلى ضرب وحدة العقيدة. و تبعا لذلك ضرب وحدة الدين، لأن كل منخرط في ادلجة الدين الإسلامي يقدس زعيم تلك الادلجة التي يعتقدها، فيصير بذلك مخالفا لجوهر الاسلام. و كذلك الشأن بالنسبة لكل منخرط في مذهب معين، فكأننا أمام أديان متفرعة عن الدين الإسلامي، و لسنا أمام دين واحد. و لذلك لا نستغرب إذا وجدنا كل صاحب مذهب يعتبر أن غيره من المذاهب مخالف للإسلام. و أن كل صاحب ادلجة معينة يعتبر غيرها من الادلجة الأخرى مخالفة للدين الإسلامي، ليتحقق بذلك هذا التنوع في المذاهب، و في الأحزاب المؤدلجة للدين الإسلامي التي لا يمكن تفسيرها إلا بتعدد المعتقدات. مما يجعلنا نتساءل، هل نحن أمام إسلام واحد تتحقق فيه وحدة الدين و العقيدة، أم أننا أمام أديان و معتقدات منسوبة إلى الإسلام. و الغريب أن من يسمون ب"علماء الدين الإسلامي" يتحولون إلى منظرين لهذا التعدد في الأديان و المعتقدات المنسوبة إلى الإسلام. و لا يفكرون أبدا في الحرص على وحدة الدين و العقيدة التي هي جوهر الإسلام لأنهم يحرصون على خدمة مصالحهم الطبقية إلى جانب خدمة مصالح الطبقات الحاكمة في بلدان المسلمين أو انهم يتحولون بذلك إلى مؤدلجين للدين الإسلامي فيصيرون زعماء دينيين يفرضون تقديس اتباعهم لهم تأسيسا للاستبداد بالمجتمع أو تكريسا له ليساهموا بذلك في بناء أديان جديدة لا علاقة لها بالدين الإسلامي، و لكنها في نفس الوقت تستغله لإيهام الناس باسلاميتها، و لجعل الدين الإسلامي يخدم مصالحها الطبقية.
و وحدة الدين و العقيدة لا ينفي خصوصية العبادة التي ترتبط ب :
1) كثرة المذاهب التي حاولت و تحاول تأويل النص الديني لإعطاء صيغة محددة لطريقة العبادة التي تختلف من مذهب إلى آخر، فطرائق المذاهب السنية تختلف جملة و تفصيلا عن طرائق المذاهب الشيعية، و لكل مذهب سني أو شيعي طريقته، و داخله توجد توجهات لكل منها طريقته. فالمذاهب السنية تجعل العبادة تختلف من مذهب إلى مذهب آخر إلى درجة التناقض أحيانا، و نحن إذا حاولنا أن نسجن أنفسنا داخل مذهب معين، فإننا نجد أنفسنا نعتبر أن ما عليه المذاهب الأخرى لا علاقة له بالإسلام و كذلك بالأمر بالنسبة للمذاهب الشيعية، و الأحزاب المؤدلجة للدين الإسلامي.
2) اختلاف العادات و التقاليد و الأعراف من مجتمع للمسلمين إلى مجتمع آخر للمسلمين يؤدي كذلك إلى اختلاف العبادة التي تداخلها المعتقدات الخرافية السائدة في كل مجتمع على حدة لدرجة أننا إذا حاولنا تشريح تلك العبادات، سنجد أنها لا تتناسب مع حقيقة الإسلام.
3) تحول "العلماء" و "الفقهاء" إلى رجال الدين الذين يرتبطون في الديانات السابقة على الدين الإسلامي بالرهينة التي تحتكر المعرفة الدينية، و تحاول أن تسيطر على المجتمع انطلاقا من ذلك الاحتكار. و وحدة الدين و العقيدة في الإسلام تجعل الحاجة إلى رجال الدين غير واردة. و لكن، و مع ذلك فظاهرة "العلماء" و "الفقهاء" التي تسود في مجتمع المسلمين تجعل طريقة العبادة تختلف من رجل دين إلى رجل دين آخر. فكأننا أمام عبادات لأديان مختلفة، و كأننا أمام رجال الدين الذين لكل واحد منهم دينه الخاص.
4) سيادة الجهل و الأمية في مجتمعات المسلمين يجعل المومنين بالدين الإسلامي يؤدون العبادات بشكل مختلف تماما عن حقيقة العبادات و هذا الاختلاف يتحقق حتى في الأشخاص الذين يختلف كل واحد منهم عن الآخر في طريقة عبادته. فكأننا أمام مجتمع تسود فيه عبادة الأوثان ، و يعبد فيه كل شخص وثنه بطريقته الخاصة و هذا النوع من الاختلاف ليس ناتجا عن توجه مذهبي أو توجه مؤدلج للدين الإسلامي بقدر ما يحصل نتيجة للامية و الجهل، كما انه لا علاقة له لا بالمصلحة الفردية و لا بالمصلحة الطبقية. و هذا النوع من الاختلاف التلقائي في العبادات هو الذي تشيع تسميته ب"الإسلام الشعبي" الذي يمكن اعتباره القوة المادية الحقيقية التي يجب اعتمادها في تعبئة الجماهير الشعبية الكادحة في محطات تاريخية معينة من قبل الحركة الماركسية المناضلة.
و هذه الأشكال من العبادات في إطار وحدة الدين و العقيدة لا يمكن أن تقودنا إلا إلى الإقرار بخصوصية العبادة التي تتحكم فيها أمور أخرى غير وحدة الدين و العقيدة، التي تتحكم فيها الشروط الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية التي تختلف من مجتمع للمسلمين إلى مجتمع آخر للمسلمين.
و للعقيدة علاقة بالواقع من خلال الحاملين لتلك العقيدة في مجتمعات المسلمين تؤثر في حياتهم الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. و تتأثر بها من خلال المسلمين، فيزداد التمسك بالعقيدة أو يضعف أو يتم استغلالها من قبل الطبقات الحاكمة أو من قبل من صاروا يسمون ب"الفقهاء" و "العلماء" و "رجال الدين" للتحكم في توجيه الجماهير الشعبية الكادحة لخدمة المصالح الفردية للعلماء و الفقهاء و رجال الدين من جهة و للطبقة الحاكمة من جهة أخرى، و من الأحزاب المؤدلجة للدين الإسلامي بدرجة أو بأخرى، سعيا إلى الوصول إلى مراكز القرار السياسي من اجل التأثير عن طريق استغلال العقيدة للتأثير في الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية التي تصير وفق ما تقتضيه ادلجة الدين الإسلامي. و لذلك فعلاقة العقيدة بالواقع يمكن إدراجها في إطار علاقة العام بالخاص. لأن العقيدة الإسلامية بالخصوص هي عقيدة عامة لجميع المسلمين مهما كان لونهم أو جنسهم أو لغتهم أو عقيدتهم، و كل واحد ممن يستغلون هذه العقيدة يسعى إلى توظيفها في واقع خاص. و إذا كانت العقيدة على مستويين، مستوى العقيدة التي ترتبط بعقيدة معينة حيث نجد أنها تعبر عن التشبع بتلك العقيدة أو التوسط في الارتباط بها، أو ضعف ذلك الارتباط، كما هو الشأن بالنسبة للصلاة و الزكاة و الصوم و الحج في العبادات الخاصة بالدين الإسلامي، و الحج إلى كنيسة القيامة، و الصلاة في مختلف الكنائس بالنسبة للمسيحية، و الحج إلى حائط المبكى بالنسبة لليهودية. فكل عبادة تعبر عن عقيدة معينة، و درجة الإيمان بتلك العقيدة. و العبادة في نفس الوقت تعكس الارتباط بواقع معين، بعاداته و تقاليده و أعرافه، و مستوى الناس الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي و طموحاتهم و تطلعاتهم، و رغبتهم المستمرة في تحسين أوضاعهم المادية و المعنوية. فالعبادة لا يمكن تجريدها من الواقع، و القرءان نفسه نص على هذا الارتباط في سورة الجمعة حيث نجد "يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله و ذروا البيع، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض و ابتغوا من فضل الله و اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون" و معلوم أن صلاة الجمعة واحدة، و لكن وقتها يختلف من بلد إلى بلد آخر، و الناس الذين يقومون بها تختلف عاداتهم و تقاليدهم و أعرافهم من بلد إلى بلد آخر، و لابد أن ينعكس ذلك الاختلاف على طريقة العبادة.
و لذلك كانت العبادة و لازالت و في جميع الديانات مجسدة للعقيدة و الواقع معا، مما يسهل أمر معرفة قوم معينين بطريقة عبادتهم و معرفة عقيدتهم بواسطة تلك العبادة.
فهل الإنسان حر في اختيار عقيدته، و طريقة عبادته ؟ أم انه مجبر على ذلك ؟
إننا بحكم العادات و التقاليد و الأعراف التي تحكم المجتمعات الاستبدادية و منها مجتمعات المسلمين فإن أي متدين يجد نفسه يهوديا أو مسيحيا أو مسلما أو بوذيا، أو غير ذلك من الديانات التي تكون سائدة في هذا البلد أو ذاك. و بعد ذلك لا يستطيع أن يعبر عن عقيدته نظرا للضغوط التي يتعرض لها في المجتمع الذي يعيش فيه. و لذلك يصعب القول بأن الإنسان غير حر في اختيار عقيدته، و هذا التوجه هو الذي اقره الحديث الذي يروى عن الرسول " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" و هذا الحديث فيه إقرار بدور الوسط الذي يعيش فيه، و نظرا لطابعه القسري، في اعتناق عقيدة معينة. و لذاك لا يمكن القول بأن الإنسان يتمتع بحق اختيار العقيدة التي يعتنقها، و يومن بها. فالإنسان في البلدان ذات الأنظمة الاستبدادية يكون مجبرا على اعتناق ديانة معينة، قد تكون يهودية أو مسيحية أو إسلاما. إلا أن الإنسان في البلاد الديمقراطية التي تحترم فيها حقوق الإنسان يستطيع أن يختار عقيدة معينة بعد أن يدرسها و يتعرف على خصائصها و دون إرغام من أحد، و دون ارتباط بالعادات و التقاليد و الأعراف التي تتلاشى بحكم الممارسة الديمقراطية التي تدب في نسيج المجتمع. لأن الديمقراطية تحقق مجموعة من الأمور التي تساعد على احترام كرامة الإنسان.
1) ملاءمة القوانين المحلية مع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.
2) العمل على إيجاد دستور ديمقراطي يكرس سيادة الشعب، أي شعب على نفسه.
3) تمتع الشعب، أي شعب، بحق تقرير مصيره الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي بنفسه.
4) الاختيار الحر و النزيه لممثلي الشعب الحقيقيين في مختلف المؤسسات المحلية و الجهوية و الوطنية حتى تكون تلك المؤسسات قادرة على خدمة مصالح الشعب و حماية تلك المصالح.
5) إيجاد حكومة من أغلبية البرلمان تكون مهمتها خدمة مصالح الشعب من خلال تطبيق القوانين القائمة و المتلائمة مع المواثيق الدولية.
و بما أن الإنسان في المجتمع الديمقراطي يستطيع أن يختار عقيدته، فإنه يستطيع كذلك أن يتخلى عن تلك العقيدة إذا لم يعد مقتنعا بها ليختار عقيدة أخرى و هو ما يمكن أن نفسر به لماذا يتخلى بعض المسيحيين عن عقيدتهم الأصلية لاعتناق عقيدة أخرى كالإسلام مثلا، هل يرغمهم أحد على ذلك؟ إن الديمقراطية وحدها هي التي مكنتهم من التمتع بذلك الحق، و كيفما كان الحال، و سواء أرغم الإنسان على اعتناق عقيدة معينة بحكم النشأة في وسط اجتماعي محكوم بالاستبداد، أو اختار العقيدة بنفسه بحكم وجوده في مجتمع ديمقراطي، فإنه بعد اعتناقه لعقيدة معينة يجد نفسه ملزما بالعبادة التي تتناسب مع تلك العقيدة. لأن عبادة الأوثان، ليس هي العبادة في المجتمع اليهودي، و ليست هي عبادة المسيحية، و ليست هي عبادة المسلمين. و قد يجد الإنسان نفسه مرغما على ممارسة العبادة في إطار مذهب معين إذا عاش في وسط يسود فيه الاستبداد. و إذا كان يعيش في بلد تسود فيه الديمقراطية، فإنه يختار أن يتمذهب في عبادته، أو يعبد بناءا على ما كانت عليه العبادة في بداية ظهورها، و خارج اختيار المذهب لا يمكن لأي معتنق لعقيدة معينة أن يختار العبادة التي يشاء. فالعبادة تظهر مصاحبة لظهور دين معين، و تعتبر جزءا من ذلك الدين، و مكونا من مكوناته، و الغاية منها تكون مقررة سلفا كما جاء في القرءان " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر" و قول الرسول في حديث قدسي في عبادة الصيام "كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي، و أنا اجزي به" و لعل تحديد الغاية من العبادة هي جعل الناس يتجنبون توظيف الدين في أمور لا علاقة لها بالدين، كتوظيفه في أمور الشعوذة، و استغلاله في الأمور السياسية عن طريق الادلجة ...الخ.
و بذلك نجد أن الإنسان ليس حرا في اختيار عقيدته في مجتمع يسود فيه الاستبداد، و في نفس الوقت نجده يتمتع بكامل الحرية في اختيار عقيدته في المجتمع الذي تسود فيه الديمقراطية. و هو مجبر على العبادة المتناسبة مع العقيدة التي يختارها أو يرغم على اعتناقها، و لكنه عندما يتعلق الأمر باختيار مذهب من مذاهب العبادة، فإنه يرغم على اتباع مذهب معين في المجتمعات التي يسود فيها الاستبداد، و يختار المذهب الذي يناسبه في المجتمعات الديمقراطية.
و تجدر الإشارة إلى انه ورد في القرءان "فمن شاء فليومن و من شاء فليكفر" كما ورد فيه "لا إكراه في الدين" و هو ما يدل على أن الأصل في العقيدة أن تكون مختارة، و أن السبب في جعل الناس يعتنقون عقيدة معينة هو استغلال الدين، أي دين لصالح السياسة. و بالتالي فلا حق لأحد أن يكره أحدا على اعتناق دين معين، لأن ذلك يتنافى مع إنسانية الإنسان الذي يجب أن يتمتع بالحق في الحرية، و في الديمقراطية و في العدالة الاجتماعية، و بعد ذلك فهو يختار العقيدة التي يشاء و يمارس العبادة التي تناسبها.
فهل ترقى البشرية إلى مستوى ما ورد في القرءان ؟
وما هو دور العقيدة في تحقيق وحدة الشعب و ما دور العبادة في تمزيق تلك الوحدة ؟
و وحدة العقيدة عندما تتحقق بفعل استبداد الدولة المؤدلجة للدين بنسبة أو بأخرى أو بفعل الاختيار الحر و النزيه من قبل أفراد شعب معين، فإنها تصير قوة مادية. و هذه القوة تلعب دورا كبيرا في تحقيق وحدة الشعب على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. إما بفعل قوة الاستبداد أو بفعل سيادة الاختيارات الشعبية و الديمقراطية. فدور العقيدة الذي يتحول إلى قوة مادية في توحيد شعب من الشعوب اصبح مسألة مؤكدة, لأنه يدل على أن المنتمين إلى نفس العقيدة يحرصون على أن تجمعهم نفس القيم التي تتناسب مع تلك العقيدة، و يحرصون على ممارسة نفس التعليم، و نفس العادات و التقاليد و الأعراف. و في أفق تكريس تلك الوحدة تحضر العبادات و وحدتها كما هو الشأن بالنسبة للعبادات الإسلامية الصلاة، و الزكاة و الصيام و الحج. وهي عبادات لا يتوقف تأثيرها في حدود دولة معينة، بل يتجاوزها إلى معظم الدول التي تعتنق شعوبها الدين الإسلامي لولا الاختلافات القائمة في التقاليد و الأعراف و العادات و لولا الاختلافات المترتب عن اختلاف المذاهب الدينية المتبعة في كل شعب على حدة. إلا انه غالبا، ما نجد في نفس الدولة نفس المذهب و نفس العادات و التقاليد و الأعراف. و هو ما يعتبر قوة مادية لذلك الشعب تستطيع أن تجعل منه شعبا قويا قادرا على مواجهة متطلبات الحياة إذا أضاف إلى ذلك تحقيق الديمقراطية في أبعادها المختلفة و احترام حقوق الإنسان، و في مقدمتها الحق في تقرير المصير، ليكون الشعب بذلك ساعيا إلى تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية كثالوت لتحقيق القوة اللازمة لمواجهة همجية اقتصاد السوق. و لذلك فالماركسيون الذين لا يعتبرون قوة وحدة العقيدة، و وحدة العبادة، فإنهم يفقدون بذلك عاملا من عوامل قوتهم في حالة سعيهم إلى تحقيق الدولة الاشتراكية، و في حالة وصولهم، و الشروع في قيام تلك الدولة.
فما هو اثر خصوصية العبادة في تعدد المذاهب ؟
إن "اجتهادات" "الفقهاء" و "العلماء" و "رجال الدين" في مجال العبادات، اثرت على مسار وحدة العبادة في الدين الواحد، و خاصة في الدين الإسلامي, فهناك العبادة على الطريقة المالكية، و العبادة على الطريقة الشافعية، و العبادة على الطريقة الحنفية، و العبادة على الطريقة الحنبلية، بالإضافة إلى العبادات على الطرق المتفرعة عن المذاهب الأربعة، و إلى جانب ذلك هناك العبادات على طرق المذاهب الشيعية، و العبادة اليهودية بمذاهبها المختلفة، و العبادة المسيحية بمذاهبها المختلفة أيضا. و هذا التنوع في العبادات لابد أن يؤدي إلى تحويل مجتمعات المسلمين إلى طوائف، و كل طائفة تعمل على أن تكون هي المتحكمة في بقية الطوائف الأخرى. و إذا أضفنا إلى ذلك ادلجة الدين أي دين، و ادلجة طريقة العبادة، أي طريقة، فإننا نستطيع أن ندرك مدى خطورة التمزق الذي لحق المجتمع من جراء تعدد طرق العبادات في إطار الدين الواحد، فإننا نستطيع أن نقرر أنه بقدر ما تعمل العقيدة على تحقيق وحدة شعب من الشعوب، بقدر ما تؤدي الطرق المتعددة للعبادة إلى شرذمة الشعوب و تحويلها إلى مجموعة من الطوائف التي تصير قنبلة موقوتة لتخريب شعب معين عن طريق إثارة النعرات الطائفية من قبل جهات خارجية كما حصل في لبنان. و كما قد يحصل في مصر، و في المغرب، و في الجزائر و في العراق، و في أي بلد آخر. فتقوم حرب طائفية كان يجب تجنبها بالعمل على وحدة العبادة في إطار الدين الواحد حتى لا ينحرف الصراع عن حقيقته. لأن حقيقة الصراع لا تكون إلا طبقية، و أي صراع لا يتخذ طابعا طبقيا هو صراع تحريفي، يهدف إلى تضليل الكادحين حتى لا ينتبهوا إلى ما يمارس على الجماهير من استغلال بافتعال الصراع بين الأديان، أو بين المذاهب المتواجدة في نفس البلد.
فما العمل من اجل الحيلولة دون قيام صراع ديني- ديني ؟
إن تجنب صراع من هذا النوع يقتضي الحرص على دمقرطة المجتمع و الحياة، و تمتيع الناس بالحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، كما هي في المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، و ملاءمة القوانين المحلية مع تلك المواثيق، و العمل على وضع حد للأمراض الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية حتى تتحقق بإزالتها كرامة الإنسان التي هي مصدر كل ما يسعى الإنسان إلى تحقيقه في الحياة، و جعل الناس يتمتعون بكامل الحرية في اعتناق الدين الذي يريدون، أو المذهب الذي يريدون، أو طريقة العبادة التي تناسبهم حتى يتحقق بذلك كونهم بشرا، و كون الناس كرماء، و كون الكرم يسود فيما بينهم و كون المصلحة العامة حاضرة في سلوك الناس بالدرجة الأولى ثم المصلحة الطبقية، ثم بعد ذلك يمكن للإنسان أن يحيا في إطار ممارسة الصراع الطبقي في مستواه الإيديولوجي الديمقراطي التنظيمي السياسي. لنصل بذلك إلى تجنب الصراع الطائفي الذي يلحق الضرر الكبير بالشعوب، و لا تستفيد منه إلا الجهات الخارجية التي تحشر انفها لتعميق سيطرتها على الشعوب.
فلماذا لا تسود إلا عقيدة واحدة في البلد الواحد و في جميع بلدان المسلمين ؟
إن عدم سيادة عقيدة واحدة في بلد واحد مبعثه، و منذ مقتل عثمان، أن كل جهة نافذة أو تسعى إلى أن تصير نافذة. فإنها توظف الدين الإسلامي في ذلك، مما أدى إلى ظهور تيارات مختلفة و متناقضة المصالح في بعض الأحيان. و هذه التيارات هي التي وقفت وراء ظهور مذاهب مختلفة "سنية" و "شيعية" يختص كل واحد منها بطريقة معينة بالعبادة. فكأننا أمام ديانات مختلفة و متناقضة و معبرة عن مصالح طبقية معينة. و لذلك فسيادة عقيدة واحدة متمثلة في الدين الإسلامي كما ورد في بداية ظهوره و بعباداته كما مورست في السنوات الأولى قبل أن يبدأ في التوظيف الإيديولوجي و السياسي للدين صار غير ممكن، لأن تعدد المذاهب و التيارات المؤدلجة للدين الإسلامي صارت واقعا قائما لا يمكن تجاوزه إلا بإنجاز ثورة ثقافية ديمقراطية تقود إلى خلخلة هذا التمزق المذهبي-الديني الذي صار يسود في المجتمع لتحل محله الممارسة الديمقراطية الهادفة إلى تمكن جميع الناس و على أساس المساواة فيما بينهم من المساهمة في التقرير في الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية التي يعيشونها يوميا، و يبقى الدين-المذهب، من شأن كل واحد على أن لا يتم استغلاله عن طريق الادلجة في الأمور السياسية، و حينها سوف تسود فعلا العقيدة الإسلامية القائمة على أساس "من شاء فليومن و من شاء فليكفر" و على أساس "لا إكراه في الدين" و على أساس "و أن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا" و انطلاقا من فصل الدين عن الدولة، و تجريم استغلال الدين في الأمور السياسية حتى يجتمع الناس على أمرهم و يسعون إلى إيجاد حلول للمشاكل القائمة في المجتمع على أسس ديمقراطية، و في إطار الصراع الديمقراطي المشروع.
و بناء على إمكانية قيام عقيدة واحدة في بلد واحد، فلماذا تعدد طرق العبادة في البلد الواحد ؟
و كما سبق أن قلنا في حديثنا عن تعدد الديانات و تعدد المذاهب التي تتحول مع مرور الأيام، و كما هو حاصل إلى ديانات متناقضة و متباينة، فإن تعدد طرق العبادة يكون نتيجة طبيعية لتعدد الديانات من جهة، و لتعدد المذاهب الدينية في إطار الدين الواحد من جهة أخرى. و لأن الطبقات الحاكمة في مختلف البلاد تعمل على إنضاج شروط قيام تعدد في العبادات لتكريس قيام حكمهم لانشغال الناس بعباداتهم المتعددة ، و لدخولهم في الخلافات التي قد تنجم عن ذلك و انصرافهم عن ما تقوم به الطبقات التي تمارس الاستغلال على المجتمع، حتى تكرس استغلالها الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي للمجتمع. و لذلك فتعدد الديانات هو نتيجة لاختلاف مصالح الطبقات، و تعدد العبادات هو تكريس للاختلاف على ارض الواقع خدمة للمصالح الطبقية للطبقات الحاكمة بالخصوص.
و في أفق تجاوز ما يحصل في المجتمعات البشرية، فإن العمل من اجل إقرار الممارسة الديمقراطية في جميع البلدان التي يسود فيها تعدد العبادات صار ضروريا باعتباره وسيلة لامتصاص إمكانية تشرذم المجتمعات البشرية، الذي يجعلها مرشحة للانهيار على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. و لتجنب ذلك الانهيار الذي لا يخدم إلا مصالح الطبقات الحاكمة المرتبطة و الموجهة من قبل جهات خارجية تحرص على شرذمة المجتمعات البشرية لإيجاد مبرر للتحرك من اجل السيطرة الاقتصادية و السياسية و العسكرية بدعوى محاربة الإرهاب الناجم عن توظيف الدين في الأمور السياسية، و عن تعدد الفرق القائمة بذلك و التي تحرص على اختلاف تمظهراتها.
و في هذا الإطار نجد أنفسنا أمام السؤال : ألا تعتبر العقلية الخرافية التي لاتزال مسيطرة في المجتمع هي المؤدية إلى هذا التعدد في المعتقدات و في العبادات من خلال علاقة العقيدة بالخرافة ؟
إننا نعلم من خلال معايشتنا للتخلف الذي يجثم على صدور الشعوب المقهورة و المغلوبة على أمرها نجد أن الأمية لازالت قائمة بنسب مختلفة قد تتجاوز في معظم الأحيان 50%، و هو ما يعتبر شرطا لانتشار الفكر الخرافي الذي قد نجد أن النخبة المثقفة تعمل على استثماره و على شرعنته من خلال ترويج الفكر الخرافي، و التنظير له عبر الإبداعات الثقافية التي يروجها الأشخاص المنتمون إلى النخبة المثقفة. و الفكر الخرافي هو فكر غيبي، و هو في ذلك يلتقي مع المعتقدات الدينية، مما يجعل الفكر الخرافي عاملا من عوامل تعدد المعتقدات و تعدد العبادات و خاصة تلك المعتقدات التي ترتبط بإحياء مواسم "الأولياء" و "الصالحين" الذين تنسج حولهم أساطير خرافية تشبه الأساطير التي عمل القرءان على تفنيدها عندما قال الله تعالى "إن هي إلا أساطير الأولين" .و بناء على سيادة العقلية الخرافية التي وقفت وراء شرذمة المجتمعات البشرية المتخلفة فإن للنضال من اجل التحديث الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي صار اكثر ضرورة لجعل المجتمع يتخلص من الأمية و من الفكر الخرافي كشرط للتخلص من المعتقدات الفاسدة التي وقفت وراءها الخرافات التي ساهمت و تساهم في تخلف المجتمعات البشرية.
و بما أن الخرافة تقف وراء تعدد المعتقدات الدينية الفاسدة، فإن نفس الخرافة تدفع في اتجاه القيام بممارسات على أنها عبادات، و الناس يدفعون إلى الاعتقاد بأنها كذلك، كما يحصل من طقوس في مختلف المواسم التي يسمونها مواسم دينية، تلك الطقوس التي لا يمكن اعتبارها إلا إنتاجا خرافيا ينبذه كل عقل سليم، و يسعى إلى محاربته كل ذي طوية طيبة لإساءته إلى كرامة الإنسان، و لدوسه لهذه الكرامة. و ما الطرق الصوفية في العبادة إلا دليل على ذلك و ما يقوم به الشيعة حول ضريح علي في النجف خير دليل على ذلك. و لذلك فمجمل العبادات الدينية، و خاصة في الديانات السماوية الثلاث، اليهودية و المسيحية و الإسلام تأثرت بالفكر الخرافي، و صارت مخالفة لحقيقة العبادة في الديانات الثلاث كمثال على ذلك. فما يحصل في بلدان المسلمين في شهر رمضان لا علاقة له بالدين الإسلامي، و الذي يتحكم فيه بالدرجة الأولى سيادة الفكر الخرافي، و ما يحصل في موسم الحج أثناء الإعداد و بعد الانتهاء من الحج يحكمه الفكر الخرافي، و التعامل مع المساجد، و الأضرحة و ما يقع فيها من ممارسات لا علاقة لها بالدين الإسلامي، و لا يمكن اعتبارها إلا نتيجة لتحكم الفكر الخرافي في عقول و ممارسات البشر، و شيوع الاهتمام بالأبراج ليس إلا ممارسة خرافية لا يمكن التخلص منها إلا بالقيام بثورة ثقافية ديمقراطية تستهدف هدم القيم المنبعثة من الفكر الخرافي السائد في المجتمعات البشرية بصفة عامة و في مجتمعات المسلمين بصفة خاصة، لأن سيادة الفكر الخراف لا يستفيد منه إلا من يمارس الاستغلال الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي و الإيديولوجي للمجتمع. و يمكن أن نعتبر أن تكريس الخرافة و المحافظة على دورها ليس إلا ممارسة إيديولوجية تستهدف تضليل الجماهير الشعبية الكادحة و طليعتها الطبقة العاملة من اجل تعميق استغلالها.
و سيادة العقلية الخرافية، و تأثيرها في المعتقدات و العبادات، ينقلنا إلى استحضار العادات و التقاليد و الأعراف التي تنقل الممارسة الخرافية إلى نسيج المجتمع، فتتحول المعتقدات الفاسدة و العبادات الخرافية المصاحبة لها إلى عادات و تقاليد و أعراف لتصير بذلك جزءا من كيانات الشعوب المختلفة، مما يجعل العمل على محاربتها مسألة صعبة، و كل من يعمل على محاربتها يصير مناهضا للشعب، و محاربا له عدوا و كافرا و ملحدا.
و تمكن الخرافة و المعتقدات الفاسدة، و العبادات المصاحبة لها من عقول، و وجدان الناس يجعل ادلجة الدين الإسلامي في شعوب المسلمين مسألة سهلة باعتبار ادلجة الدين الإسلامي هي مجرد تأويل للنص الديني، و للممارسة الدينية التي تتناسب مع المصالح الفردية و الطبقية للمؤدلجين، و باعتبار تلك التأويلات ليست إلا فكرا خرافيا. أي انه بقدر ما يسود الفكر الخرافي تسهل مهمة ادلجة الدين الإسلامي و بقدر ما تنتشر تلك الادلجة بقدر ما تسود الخرافة. فالعلاقة بين ادلجة الدين الإسلامي، و الخرافة هي علاقة جدلية. و النضال ضد الخرافة و الفكر الخرافي الذي يخالط المعتقدات و العبادات هو نفسه النضال ضد ادلجة الدين الإسلامي، و تخليص مجتمعات المسلمين من الفكر الخرافي هو نفسه تخليص هذه المجتمعات من أدلجة الدين الإسلامي.
و إذا كانت الخرافات تؤثر في العبادات و تخالطها فكذلك الشأن بالنسبة لأدلجة الدين الإسلامي التي تعيد صياغة العبادات بما يتناسب مع توجه كل جماعة من المؤدلجين حتى يصيروا متميزين مع اتباعهم عن باقي أفراد مجتمعات المسلمين، فيجعلون طريقتهم في الصلاة متميزة، و مساجدهم متميزة و صيامهم متميز، و عاداتهم و تقاليدهم و أعرافهم في مختلف المناسبات الدينية متميزة. لأنهم بذلك يسعون إلى خلق المجتمع المتميز في الأفراح و الاتراح، وصولا إلى بناء "الدولة الإسلامية" المتميزة، لإقامة "الحكم الإسلامي" المتميز. و بالتالي فتميز العبادات عند مؤدلجي الدين الإسلامي لا يخدم في نهايته المطاف إلا تحقيق أهداف مؤدلجي الدين الإسلامي التي لا تخدم إلا مصالحهم الفردية و الطبقية.
و لذلك فنحن نعتقد أن أهم ما تقوم عليه ادلجة الدين الإسلامي هو تحريف العقيدة و تحريف العبادات في نفس الوقت إلى درجة أن ما يعتقده مؤدلجو الدين الاسمي لا علاقة له بالدين الإسلامي و أن ما يمارسونه في العبادة لا علاقة له بالعبادة في الدين الإسلامي. لأنها لا يمكن تصنيفها إلا في العبادة الطرقية التي لا تمارس إلا في الزوايا التي يتم إنشاؤها لهذا الغرض و ما يمارس في تلك الزوايا لا علاقة له بالدين الإسلامي لا من قريب و لا من بعيد، إنه ممارسة سياسية محرفة للعقيدة، و للعبادات بما يخدم مصلحة الأحزاب السياسية التي قامت على أساس ادلجة الدين الإسلامي من اجل توظيف العقيدة و توظيف العبادات في نفس الوقت للوصول إلى السلطة السياسية، و فرض الاستبداد بالمجتمع.
فما هو الأصل في العقيدة الإسلامية ؟
و ما هو الأصل في عبادة المسلمين ؟
إن الأصل في العقيدة الإسلامية هو الإخلاص في الخضوع لله دون سواه و التحرر من تقديس الغير مهما كان، و كيفما كان كوسيلة لممارسة الحرية التي هي شرط تحقق كرامة الإنسان مهما كان هذا الإنسان و سواء قل شأنه أو عظم و السعي الدؤوب إلى حفظ تلك الكرامة على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، لأن كرامة الإنسان لا تتجزأ، فهي كونية و شمولية تفترض تمتيع الإنسان، أي إنسان بجميع حقوقه، و عندما تتحقق إنسانيته تتحقق وحدانية قداسته لله، الذي لا يعني في نظر المسلم إلا التمتع بالحرية عن طريق التبعية لله في ظل سيادة الدين الإسلامي. و إذا تتبعنا ما ورد في القرءان ، فإننا نجد أن ما وصلنا باعتباره اصح ما وصلنا، إذا أسقطنا منه الآيات المنسوخة فإنه يسير في اتجاه تكريس جعل الدين وسيلة للتحرر من التبعية لغير الله، و هو ما يعني أن الأصل في العقيدة هو التربية على الحرية في كل شيء بما في ذلك الاعتقاد بعقيدة معينة أو بدون عقيدة. و إلا فلماذا ورد في القرءان "فمن شاء فليومن و من شاء فليكفر". كما ورد فيه "لا إكراه في الدين" و ورد فيه " و أن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا" و ورد فيه أيضا "يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم أن لا نعبد إلا الله " و آيات أخرى لا داعي إلى ذكرها هنا لكفاية ما ذكرنا لأنه يؤكد حقيقة العقيدة الإسلامية التي لم تكن تعد وسيلة لتحقيق المصالح الفردية و الطبقية، بقدر ما كانت، و منذ البداية تحريرا للإنسان من التبعية لغير الله كما ورد في القرءان "و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون" و دون غاية تذكر من تلك العبادة " ما أريد منهم من رزق و ما أريد أن يطعمون" بل إن الغاية من العقيدة هي تحقيق غاية الإنسان "إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين" و هذه الآيات التي أوردناها في هذا السياق، إنما تؤكد انه في نضال البشر يصير الدين وسيلة لتحرير البشر من العبودية و من الاستغلال بكافة أشكاله حتى يصير سيد نفسه. كما هو الشأن بالنسبة للإسلام الذي فرض على المسلمين تحرير العبيد و شجعهم على ذلك إذا قاموا بممارسات معينة، أو اختاروا ذلك. فقد ورد في القرءان "و الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا" و هذا هو الفهم الذي استوعبه بعض المسلمين الأوائل عندما سارعوا إلى اعتناق الإسلام ليتحرروا من العبودية، أو من استغلال الأرستقراطية القرشية، و من الأسياد، و من الفقر الذي يؤدي إلى استعبادهم. و هذا هو الفهم الذي استقر في فكر و في ممارسة المسلمين الأوائل الذي نذكر من بينهم عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي كان إذا رأى عبدا يدخل مسجدا يشتريه و يحرره حتى اشتهر بذلك فصار العبيد يذهبون إلى المساجد ليراهم عبد الله بن عمر بن الخطاب ليشتريهم و يحررهم، فلما قيل له انهم يخدعونك لتشتريهم و تحررهم، قال قولته المشهورة " من خدعنا بالله انخدعنا له". و لذلك نرى أن الأصل في الدين الإسلامي هو تحقيق تحرير الإنسان من كل ما يسيء إلى كرامته و التي يجب أن تصان كما ورد في سورة الإسراء "ولقد كرمنا بني آدم" و هذا التكريم و بهذه الصيغة التي سرت على الزمن الماضي كما تسري على الحاضر و على المستقبل كما يقول المفسرون و علماء الصرف و النحو الذين يذهبون إلى أن الزمن الماضي في القرءان ينسحب على الحاضر و على المستقبل.
أما الأصل في العبادة، فليس هو القيام بطقوس معينة و بطريقة معينة قررها فلان أو علان من أصحاب هذا المذهب أو ذاك أو يراها هذا المؤدلج للدين أو ذاك. بل إن الأصل في العبادة هو استحضار المفصل القائم بين عبودية الإنسان و حريته، و بين تبعيته للبشر و تحرره من تلك التبعية، بين عبادته للأوثان التي كان يصنعها بيده و بين ترفعه عن ذلك الشكل من العبادة، بين تقديسه للبشر و بين تخلصه من ذلك التقديس، بين اعتبار الله ثالث ثلاثة و بين اعتباره واحدا أحد، بين عبادة الأموات باعتبارهم وسطاء بين الله و بين البشر، و بين نبذ ذلك الشكل من العبادة، بين تقديس الرهبان الذين صاروا يوجدون حتى في الدين الإسلامي و بين نبذ ظاهرة الرهبانية من منطلق انه لا رهبانية في الإسلام. فالعبادة في الدين الإسلامي في حقيقتها هي لحظة دقيقة ينتقل فيها الإنسان من مرحلة اللاإنسانية إلى الإنسانية. و حتى الأمر بحكم ما انزل الله كما ورد في القرءان " و أن احكم بينهم بما انزل الله، و لا تتبع أهواءهم" و ما انزل الله في القرءان ليس إلا كل ما يحقق كرامة الإنسان، و ما يحمي تلك الكرامة. و ما ورد فيه مما يمكن اعتباره غير حاسم مع الكثير من السلبيات التي كانت سائدة قبل مجيء الإسلام إنما يدخل في إطار مراعاة الشروط التي ظهر فيها الإسلام و التي اقتضت عدم الحسم في الكثير من الأمور إلا في مراحل معينة. كما حصل بالنسبة للموقف من الخمر. فقد ورد فيه في البداية " و من الثمرات و النخيل و الاعناب تتخذون منه سكرا و رزقا حسنا" و بعد ذلك ورد فيه " و يسألونك عن الخمر و الميسر، قل فيهما إثم كبير و منافع للناس" ثم بعد ذلك ورد فيه " لا تقربوا الصلاة و انتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون" ليصل في النهاية إلى الموقف النهائي عندما ورد فيه " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الازلام رجس من عمل الشيطان، فاجتنبوه لعلكم تفلحون". و حتى في هذا الموقف نجد "اجتنبوه" التي قد تفيد معنى الاختيار، و قد تفيد معنى التحريم النهائي بدليل أن القرءان لم ينص على حكم محدد بالنسبة لشارب الخمر. و الأحكام التي وصلتنا إنما هي من وضع البشر الذين فهموا من قوله "فاجتنبوه"معنى التحريم. و التحريم إذا ورد في القرءان يكون مصحوبا بحكم معين يهف إلى فرض احترام كرامة الإنسان كما ورد في حق الزناة في سورة النور "الزاني و الزانية فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة و لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله" و في قراءة عبد الله بن مسعود كما ورد في بعض التفاسير " و الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما" و المراد بالشيخ و الشيخة هما اللذان يعيشان حالة الزواج، أو سبق لهما أن عاشا حالة الزواج. لنصل إلى خلاصة أن الأصل في العبادة هو الانتقال بالضمير و بالوجدان و بالعقل من حالة اللا إنسان إلى الإنسان. و لذلك نجد أن تحقيق إنسانية الإنسان في الذات الفردية عبر احترام كرامته من خلال الحرص على تمتيعه بحقوقه الإنسانية سواء كان رجلا أو امرأة و مهما كان لونه أو عرقه أو جنسه أو لغته أو عقيدته. كما جاء في القرءان " و المومنون و المومنات بعضهم أولياء بعض" و كما جاء في الحديث " الناس كأسنان المشط" و " لا فرق بين عربي و عجمي و لا بين ابيض و اسود إلا بالتقوى".
و لذلك نرى أن جوهر العبادة و حقيقتها هي تحقيق الكرامة الإنسانية، و حفظ تلك الكرامة و إنضاج شروط تلك الكرامة، حتى يعيش الإنسان حياة الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية.
و نحن في تتبعنا لتطور العقائد و اختلافها من زمن إلى زمن و من مكان إلى مكان نجد أن كل عقيدة تنتج طريقة معينة في العبادة تتناسب مع الشروط الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية التي يعيشها الناس في التشكيلة العبودية، أو في التشكيلة الإقطاعية باعتبار هاتين التشكيلتين هما اللتان عرفا ظهور مختلف الديانات من الوثنية إلى ظهور الإسلام. و ظهور الإسلام في الجزيرة العربية لا يخرج عن هذه القاعدة، لأن المرحلة كانت خليطا من استمرار العبودية في الأطراف و في المركز الأوربي، حينذاك، إلى جانب سيادة الإقطاع في أوربا. بالإضافة إلى أن الإسلام لم يحسم مع العبودية، و لم يحسم مع الإقطاع، بل تعرض لملكية العبيد و للملكية بصفة عامة و أنها أمر طبيعي ، فقد ورد في القرءان " احل لكم من النساء مثنى وثلاث و رباع، فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت إيمانكم" و المراد بما ملكت إيمانكم هو الجواري حتى و إن كثر عددهن.
و هذه الديانات التي ظهرت في التشكيلتين السابقتين على التشكيلة الرأسمالية لكل منها طريقة تناسبها في العبادة.
و قد يقول البعض لماذا هذه المذاهب في الدين الإسلامي ؟ فنرد عليه، بأن التعدد الطبقي في المجتمع الذي يعيش فيه المسلمون بمقتضى إعطاء تأويلات متعددة لنفس النص الديني لجعله يخدم مصالح مختلف الطبقات، فتظهر تلك المذاهب و كأنها ديانات جديدة تقتضي طرقا جديدة للعبادة. و هو ما يجعلنا نطرح السؤال :
هل يمكن أن يؤثر تعدد العبادات على مصير العقيدة الإسلامية ؟
إن آية وردت في القرءان " انا نحن نزلنا الذكر، و انا له لحافظون" تدل على أن المراد بالذكر هو القرءان الذي هو مصدر العبادة . و هو ما يمكن أن نستعين به للقول بأنه لا خوف على العقيدة و على وحدانية العبادة من تعدد العبادات المترتبة عن تعدد المذاهب. و الأحزاب المؤدلجة للدين الإسلامي، لأن كل تلك المذاهب و تلك الأحزاب إنما تؤول النص الديني بما يخدم المصلحة الفردية و المصالح الطبقية لأصحاب المذاهب، أو لمروجي تأويلاتها و لأصحاب الأحزاب المؤدلجة للدين الإسلامي. و تلك التأويلات تتغير باستمرار مما يدل على أن تحريفيتها و كثرة تفرعاتها تفرض الرجوع إلى الأصل الذي لا يتم إلا بتحريم استغلال الدين لخدمة المصلحة الفردية و المصلحة الطبقية، و في جميع بلدان المسلمين حتى يبقى الدين خالصا لله، لا يجوز استغلاله أبدا نظرا لما يترتب عن استغلاله من أمور تسيء إلى الدين، و تجعل العبادة مشبوهة. و فرض تكريس فصل الدين عن الدولة الذي يجنب البشرية الكثير من الكوارث التي تصيبها بفعل اعتبار الدين أو العقيدة مصدر الحكم. و بالتالي فكل حاكم صاحب مذهب أو مؤدلج للدين الإسلامي يعتبر نفسه حاكما باسم الله، و في مثل هذه الحالة، فإن تعدد العبادة سوف يؤدي إلى التشويش على العقيدة الصحيحة كما بسطناها سابقا. و لكنه لا يؤثر على جوهر العقيدة الذي يتخذ طابع المطلق الذي سيكون منطلقا للعمل من اجل فصل الدين عن الدولة. لأن الدين الإسلامي علماني بطبعه، و ربطه بالدولة من فعل مؤدلجي الدين و مستغليه للوصول إلى سلطة الدولة التي يعتبرونها سلطة دينية.
فما العمل من اجل حماية العقيدة من التحريف ؟
إننا في الواقع لا نستطيع أن نقول إن العقيدة الإسلامية في حاجة إلى حماية لأنها تحمل في بنيتها ما يجعلها قادرة على حماية نفسها من التحريف فمناعتها قائمة في النصوص الثابتة. و نحن الذين علينا أن نحرص على التعامل مع النص الديني بأمانة و أن لا نفهم إلا ما يخدم صحة العقيدة باعتبارها مصدر تحقيق كرامة الإنسان عن طريق تغديته الروحية بقيم الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية. و حماية ممارستنا الدينية من التحريف تقتضي العمل على عدم توظيف الدين في خدمة المصالح الفردية و الطبقية و الحزبية، و ادلجة الدين الإسلامي باعتبارها قمة تحريف الممارسة الدينية التي لا علاقة لها بالدين الإسلامي. و لذلك فإننا نجد أنفسنا مضطرين لاستيعاب مضامين النصوص الصحيحة و الثابتة، و استيعاب الشروط التي وردت فيها، و استيعاب التطورات التي حصلت في مختلف العصور حتى نقف على ما مارسه مؤدلجوا الدين الإسلامي و العوامل التي أدت بهم إلى ممارسة تلك الادلجة، وصولا إلى غربلة العقيدة مما لحق بفهمها من تحريف أساء إلى المؤولين و مؤدلجي الدين الإسلامي. أما النص الديني فيبقى مصدرا لكل إعادة نظر في الممارسة الدينية الموروثة عن العصور السابقة، و التي لا علاقة لها بأصل الدين كما هو في النصوص الثابتة.
و ما العمل من اجل حماية العبادات من الاستغلال الإيديولوجي ؟
لأن مناسبة القيام بالعبادات هي المناسبة التي يستغلها مؤدلجو الدين الإسلامي لفرض وصايتهم على الدين الإسلامي و الشروع في توجيه كيفية أداء العبادات المختلفة و ربطها بمرجعيات معينة مما يجعلها غير قادرة على إكساب المعتقدين بالدين الإسلامي الشعور بالحرية و بالحق في الممارسة الديمقراطية، و بالرغبة في تحقيق العدالة الاجتماعية باعتبارها قيما تؤدي إلى تحقيق كرامة الإنسان. و هذا التحقق سيكون ممتنعا للانشغال بأدلجة الدين الإسلامي، و بإعادة صياغة العبادات حتى تتناسب مع تلك الادلجة. و لذلك فلحماية العبادات من الاستغلال الإيديولوجي يجب أن يكون الناس على يقين تام من أن أي دين لا يمكن الاقتناع به إلا من خلال التعامل مع النصوص التي تعتبر مصدرا لذلك الدين، و اعتبار أن كل التفاسير التي وردت من خارج تلك النصوص ما هي إلا تأويلات محكومة بالمصلحة الفردية، أو الطبقية أو الحزبية. و بالنسبة للدين الإسلامي، فإن النص الأصلي هو القرءان الذي يعتبر مصدرا للدين الإسلامي، و ما سوى ذلك ليس إلا تأويلات الشيعة، و السنيين، و الخوارج، و آل الزبير، و المالكية، و الشافعية و الحنفية و الحنبلية و ما أتى بعدها من تأويلات لا حدود لها خلال أربعة عشر قرنا أو يزيد من التأويلات المحكومة بالمصالح المتنوعة التي حولت الدين إلى مجموعة من الإيديولوجيات التي لا علاقة لها بحقيقة الدين الإسلامي.
فهل تسمح ادلجة الدين الإسلام من خلال ادلجة العبادات بتحويل الدين إلى قوة مادية ؟
إننا في الواقع أمام إشكالية علاقة الدين الإسلامي بالسياسة، أي بالدولة، و ادلجة الدين الإسلامي في عمقها لا تهدف إلى تقوية الدين الإسلامي لأنه قوي بنفسه بقدر ما تهدف إلى إضعافه من خلال تحويله إلى فرق تابعة لمختلف المؤدلجين من خلال عملية التجييش الممارسة سعيا إلى المواجهات المحتملة بين المؤدلجين فيما بينهم، أو بين المؤدلجين من جهة، و من يعتبرونهم ملحدين، و كفرة، و غربيين و صهاينة، و غير ذلك من العبارات التي لا علاقة لها إلا بالممارسة الإيديولوجية.
و اعتبار الدين الإسلامي قوة مادية فاعلة في وحدة المجتمع و في الدفع به في اتجاه البناء الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي، يقتضي القيام بمحاربة ممارسة ادلجة الدين الإسلامي التي تضعف قوة تأثير الدين في تحقيق الوحدة الشعبية و الجماهيرية في قضية من القضايا. و المحاربة لا تتم إلا بإعادة الاعتبار لأصالة الدين في تربية الناس على حب الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية.
فهل تعتبر ادلجة الدين وسيلة لتكريس العقيدة الفاسدة ؟
إن مقياس صحة عقيدة الدين أو فسادها هو مدى احترام تحقق كرامة الإنسان، أو عدم تحققها. فإذا كانت عقيدة ما تنتج في ممارستها شيوعا لقيم ذات أبعاد اقتصادية و اجتماعية و ثقافية و مدنية و سياسية تتحقق بممارستها كرامة الأفراد و المجتمعات، فإن تلك العقيدة تكون صحيحة. أما إذا كانت العقيدة تنتج ممارسة غير صحيحة على مستوى القيم و لا تحقق كرامة الأفراد و الجماعات، فإنها تصير فاسدة. و الدين الإسلامي في اصله و بعد ظهوره مباشرة كان ينتج قيما تجعل الإنسان يسعى إلى تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية كممارسات إنسانية نابعة من القيم التي يشيعها الدين الإسلامي في المجتمعات البشرية بقطع النظر عن إيمان الناس بالدين الإسلامي أو عدم إيمانهم به، و كمثال على ذلك ما تحقق في عهد عمر بن الخطاب من عدالة اقتصادية و اجتماعية وثقافية و سياسية، و كمثال على ذلك أن عمر بن الخطاب و هو يتجول منفردا، و دون حرس في يثرب وجد يهوديا هرما يعمل، فسأله لماذا تعمل و أنت في مثل هذه السن فقال له اليهودي لأؤدي الجزية، فأمر له بالعطاء من بيت مال المسلمين و قال له " ما كنا لنأخذ منك الجزية و أنت قادر على العمل، و نمنع عنك العطاء و أنت عاجز". و هذا الفهم الذي كان في ذهن عمر بن الخطاب لا يمكن أن يعبر إلا عن حقيقة العقيدة الإسلامية لأن الدين في مثل هذه الحالة يسعى إلى تحقيق كرامة الإنسان، مهما كان هذا الإنسان، و على جميع المستويات التي لها علاقة بالعبادات المنتجة للقيم الرفيعة بعيدا عن توظيف الدين لتحقيق أغراض فردية أو طبقية أو إيديولوجية أو سياسية ، فإذا تحولت العقيدة الإسلامية إلى وسيلة لتحقيق هذه الأغراض صارت عقيدة فاسدة، لأنها انحرفت عن أن تسعى إلى تحقيق كرامة الإنسان، و حفظ تلك الكرامة. و لذلك نجد أن ادلجة الدين الإسلامي لا يمكن أن تكون إلا منتجة للعقيدة الفاسدة بسبب ادلجتها للدين الإسلامي الذي يصير مجرد تعبير عن مصالح مؤدلجيه كيفما كان مستوى هذه الادلجة، و سواء كانت تلك المصالح فردية أو طبقية أو حزبية أو غير ذلك. كما يصير مجرد وسيلة لتضليل الجماهير الشعبية الكادحة حتى يسهل استغلالها و جعلها تخدم مصالح مؤدلجي الدين الإسلامي. فالعقيدة الفاسدة لا تكون إلا نتيجة لأدلجة الدين، و ادلجة الدين لا تنتج إلا العقيدة الفاسدة. و لذلك نعتبر أن ادلجة الدين التي تقوم بها عدة جهات إهانة للمسلمين في عقيدتهم التي تصير فاسدة بسبب تلك الادلجة. فهل يمكن تخليص العبادات من ادلجة الدين الإسلامي حفاظا على سلامة العقيدة الإسلامية من التحريف الإيديولوجي المؤدي إلى فسادها ؟
إن قيام المسلمين بالانكباب على دراسة عقيدتهم من خلال مؤسساتهم الدينية التي تكون مهمتها الحفاظ على سلامة العقيدة من التحريف، من اجل الوقوف على مظاهر الادلجة التي تلحق الدين على جميع المستويات و في جميع العبادات، في الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج، يعتبر مهمة المسلمين جميعا، و مهمة المشرفين على المؤسسات الدينية بالخصوص، و مهمة الهيأة الوطنية المشرفة على المؤسسات الدينية في كل بلد من بلدان المسلمين. و المرجعية التي تعتمد في ذلك هو ما جاء في القرءان ، و ما اجمع الرواة على روايته من الأحاديث الصحيحة، و من أخبار المسلمين الأوائل الذين عايشوا ظهور الدعوة الإسلامية، من اجل استعادة صفاء العقيدة من خلال تطهير العبادات الإسلامية من كل مظاهر الادلجة التي لا تخدم إلا مصالح المؤدلجين حتى تصير الصلاة صلاة و الزكاة زكاة و الحج حجا و الصوم صوما، و هكذا، و دون تحول المسلمين إلى مراقبة بعضهم البعض فيما يخص القيام بتلك العبادات ، مادامت تهم علاقة الفرد بخالقه، سعيا إلى تحقيق حرية الأداء في العبادات تحقيقا لجوهر الدين الإسلامي المختصر في قوله تعالى "لا إكراه في الدين" و حتى تصير الحرية شرط قيام العقيدة الإسلامية الصحيحة التي لا تصير كذلك إلا بغربلة العبادات من الادلجة.
و بهذا التناول المسهب لفقرة عمومية العقيدة و خصوصية العبادة نكون قد حاولنا مقاربة تعدد الديانات و خصوصية العقيدة، و وحدة الدين و عمومية العقيدة، و تعدد المذاهب و خصوصية العبادة، و علاقة العقيدة بالواقع، و تعبير العبادة عن العقيدة، و الواقع، و حرية العقيدة و إجبارية العبادة، و دور العقيدة كقوة مادية في وحدة الشعب، و دور العبادة في تمزيق تلك الوحدة و اثر خصوصية العبادة في تعدد المذاهب، و لماذا تسود عقيدة واحدة ؟ و لماذا تعدد طرق العبادة في البلد الواحد ؟ و علاقة العقيدة بالمعتقدات الخرافية، و علاقة العقيدة بالعادات و التقاليد و الأعراف. و العقيدة و ادلجة الدين، و العبادة و ادلجة الدين، و دور ادلجة الدين في تشكيل طريقة العبادة. و وقفنا على أن الأصل في العقيدة في حرية اختيارها، و أن الأصل في العبادة في الالتزام بأدائها. و حاولنا مقاربة السؤال : هل تجدد العقيدة ينتج تجدد العبادة ؟ و السؤال : هل تأثر العبادات يؤثر على مصير العقيدة، و ما العمل من اجل حماية العقيدة من التحريف ؟ و ما العمل من اجل حماية العبادات من الاستغلال الإيديولوجي ؟ و هل تسمح ادلجة العبادات بتحويل الدين إلى قوة مادية ؟ و ألا تعتبر ادلجة الدين وسيلة لتكريس العقيدة الفاسدة ؟ و هل يمكن تخليص العبادات من الادلجة حفاظا على سلامة العقيدة منها ؟
و غايتنا من مقاربة هذه الأسئلة تكمن في سعينا المستمر و الحريص على إبعاد الدين الإسلامي بالخصوص عن الإيديولوجية حتى يستمر فعلا في تغذية الواقع بالقيم الروحية التي تنتج العمل على حفظ كرامة الإنسان، و حماية تلك الكرامة ليصير الدين بقيمه النبيلة و الرفيعة قوة مادية قائمة في الواقع.