قراءة في قوانين الاحوال الشخصية في العراق
سعد محمد حسن
2013 / 12 / 2 - 17:50
جاء الآعلان الأخير لوزارة العدل العراقية عن استكمال دوائرها المختصة صياغة قانوني الأحوال الشخصية والمحكمة الشرعية وفق المذهب الجعفري ليثير لغطا بين أوساط اجتماعية عديدة وردود فعل متباينة ومتناقضة بين مؤيد لهذين القانونين وبين معارض لهما , ففيما أيدته المرجعيات الدينية و قوى الأسلام السياسي" الشيعية " منها تحديدا, رأت أوساط اليساريين والديمقراطيين والعلمانيين بأن القانونين يعدان سابقة خطيرة قد تهدد في حال تشريعهما و أقرارهما وحدة النسيج الاجتماعي في العراق بتكريسهما الانقسام الطائفي اجتماعيا و اشاعة ثقافة الكراهية وعقبة على طريق تحديث المجتمع وضمان تطوره اللاحق و انتهاكا فظا لحقوق العراقيين بشكل عام وفي المقدمة منها حقوق المرأة والطفل.
الجدير بالذكر أن وزارة العدل في صياغتها لهذين القانونين قد استندت في ذلك على نص دستوري ( المادة 41) والتي أثارت لغطا هي ألأخرى بين أوساط المجتمع المدني وخاصة المنظمات النسوية , ا حيث تنص (على أن العراقيين أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية, حسب دياناتهم ومذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم وينظم ذلك بقانون) .
لذلك فأن مسألة تنظيم العلاقات الاجتماعية رسميا من شروط الحياة الزوجية وفسخها والحقوق والواجبات المتبادلة بين النساء والرجال و الآباء و الأبناء قد شكلت ومنذ المحاولات الأولى لتشريع قانون الأحوال الشخصية في ثلاثينات القرن الماضي ساحة صراع بين معارضة المؤسسة الدينية الساعية لفرض تصوراتها المستمدة من قراءة محددة للشريعة ودون القراءات الأخرى عند صياغة قانون ينظم أحوال العراقيين الشخصية , وبين التطلع نحو سن وتشريع قانون يؤسس لمجتمع قائم على العدالة والاستقرار.
ففي العام 1933 جرت محاولة لاصدار قانون الأحوال الشخصية , قام بها التدوين القانوني ووضعت لائحة لهذا المشروع غير أنها تعثرت (1). ويذكر أن القضاء الشرعي كان ينقسم الى محاكم شرعية تختص بأحوال المسلمين ومجالس روحانية تختص بالأحوال الشخصية للمسيحيين والموسويين تتمتع بسلطات قضائية وفق القانون وبموجب هذا التحديد فأن أتباع الديانات الأخرى كالصابئة والأيزيديين ليس لهم حق التقاضي استنادا آلى أحكامهم الدينية (2) ألا أن هناك مستشارون في المحاكم المدنية مختصون بالأمور المتعلقة بالصابئة المندائيين والأيزيديين (3) .
و في العام 1945 جرت محاولة أخرى عندما أصدرت وزارة العدل العراقية أمرا بتشكيل لجنة مكونة من أربعة أعضاء عهدت أليها وضع لائحة قانون الأحوال الشخصية وأنجزت هذا المشروع ألا أن اللجنة لم تتمكن من تجاوز المادة (77) من القانون الأساسي العراقي لسنة 1925 التي تنص على (أن القضاء في المحاكم الشرعية أنما يجري وفقا للأحكام الشرعية الخاصة بكل مذهب من المذاهب الأسلامية ) . لذا فأنها أخذت الفقه الاسلامي أساسا لمشروعها كوحدتين أساسيتين : هما المذهب السني والمذهب الجعفري, فدونت ما أمكن الاتفاق عليه , ولم يقدر لهذا المشروع أن يصبح قانونا يعمل به (4) حيث واجه معارضة المرجعية الدينية ( الشيعية ) على وجه التحديد التي أبدت امتعاضها منه ومارست شتى الضغوط لحجبه والحيلولة دون تشريعه , ولعل السبب وراء موقف المرجعية , ذلك أن المشروع يؤدي الى أضعاف سلطة الفقيه الشرعية بوجود المحاكم المدنية (5) كما أن التقريب بين المسائل الفقهية بين المذهبين سيقلص من خصوصية هذا المذهب أو ذاك, ويؤثر على مجمل التمايز الطائفي, وهذا بالتأكيد ليس من مصلحة المؤسسة الدينية عموما , التي تستمد قوتها من التفاف الاتباع حولها في أمور الشريعة (6) . ولقد ظهر ذلك واضحا في الرسالة التي وجهها محسن الحكيم لقادة انقلاب شباط 1963 والتي أبدى فيها تأييده لهم مطالبا في الوقت نفسه بألغاء القانون رقم 188 لسنة 1959 حيث قال فيها " وأضيف هنا أن حكومة العهد الملكي سبق وأن شرعت قانونا للأحوال الشخصية خالفت فيه الشرع الأسلامي , وعرضته على مجلس النواب, فأرسلت أحد أولادي للاتصال بالنواب و أبلاغهم استنكاري لهذا القانون, ووجوب الغائه , وأصدر رأيي بهذا الشأن. مما حدا بالنواب ألى معارضته, فاضطرت الحكومة الى أحالته على لجنة مختصة لدراسته و أعادة النظر فيه .(7) . الجدير بالذكر أن بلدانا أسلامية مثل مصر, الأردن , سوريا , المغرب , , تونس , قد صدرت فيها قوانين تنظم الأحوال الشخصية لمواطنيها . .
أستمر القضاء الشرعي خاضعا للمذهبين الرئيسيين حتى أواخر خمسينات القرن الماضي , حين أصدرت ثورة 14 تموز قانون الأحوال الشخصية المرقم 188 في العام 1959 والذي شملت أحكامه جميع المسلمين وغيرهم ألا من استثنوا بقوانين خاصة وهم المسيحيون واليهود, ( المادة الثانية / الفقرة1) . ولقد كانت غاية القانون هو تحقيق الاستقرار في الحياة ألأسرية و أنهاك الارتباك و التناقض في أحكام القضاء الشرعي مستندا في صياغة أحكامه على أحكام الشريعة الأسلامية مستمزجا فقه المذاهب الأسلامية دون تحيز . مستندا بذلك على ما هو متفق عليه من أقوال الفقهاء وماهو متلائم والمصلحة الزمنية. فيما كان القضاء الشرعي يستند في أصدار أحكامه الى النصوص المدونة في كتب الفقه والى الفتاوي في المسائل المختلف عليها والى القضاء في البلاد ألاسلامية ( الاسباب الموجبة) , فيما "وقد وجد في تعدد مصادر القضاء و اختلاف ألأحكام ما يجعل حياة العائلة غير مستقرة وحقوق الفرد غير مضمونة, فكان هذا دافعا للتفكير بوضع قانون يجمع فيه أهم الأحكام الشرعية المتفق عليها " ( الاسباب الموجبة ) , على أن تعدد مصادر القضاء واختلاف الأحكام مما يهدد استقرار العائلة العراقية , وأن تشكل عرضة لانتهاك حقوق المواطنين وتقويض لأسس العدل والمساواة , كما أقر القانون مبدأ وحدانية الزواج بشكل عام أي أنه لم ينظر الى مسألة تعدد الزوجات على أنه حق للرجال, لذلك أعتبر أن الزواج بأكثر من واحدة يعد جريمة يعاقب عليها القانون بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بالغرامة بما لا يزيد على مئة دينار أو بهما ( الفصل الأول , المادة 3 , الفقرة 6) , أذا لم يحصل الزوج على موافقة القاضي الذي يشترط لاصدار الأذن ان تكون هناك مصلحة مشروعة في الزواج بأخرى .وأن يتمتع الزوج بكفاية مالية تؤهله لآعالة أكثر من زوجة .( المادة 3 / الفقرة الرابعة) فيما أ أكدت الفقرة خامسا من المادة نفسها على أنه " أذا خيف من عدم العدل بين الزوجات فلا يجوز التعدد , وترك تقدير ذلك للقاضي( المادة3 / الفقرة 5 ) " , الجدير بالذكر أن وضع شروط التعدد والاتجاه لتقليص دائرته لم يكن خطوة فريدة من المشرع العراقي , فالقانون المغربي قيده اْيظا ومنعه التشريع التونسي مطلقا (8).
وعلى أثر أنقلاب شباط 1863 قام البعثيون قادة الانقلاب بأصدار قانون أخر للأحوال الشخصية برقم 11 لسنة 1963 حيث تم وعلى وجه الخصوص تعديل المادة الخاصة بألأرث ليكون " للذكر مثل حظ الآنثيين" ألا أن المرجعية الدينية ظلت على أضرارها في مطالبتها باْلغاء القانون كله , ذلك أن وجود مثل هذا القانون يعطي للقاضي سلطة الفقيه ويسد باب الاجتهاد في ألأحكام (9) .
تجدر الأشارة الى أن هذا القانون قد جاء مخالفا للدستور المؤقت للجمهورية العراقية , في جوانب عدة فقد وقع للمصادقة عليه اثنان من أعضاء مجلس السيادة, بينما لاتتحق شخصية رئيس الجمهورية الا بالأعضاء الثلاثة للمجلس , كما وفيه تحديد لطبيعة القضاء , بينما القضاء لا يحدد بقانون, و أنما بالشرع و باب الاجتهاد مفتوح فيه, كما وتعارض العديد من مواده وأراء المذاهب الاسلامية, مثل اختيار الزواج والطلاق بشهود, بينما الحنفية لا تشترط الشهادة في الطلاق والشيعة لا تشترط الشهادة في الزواج وما الى ذلك (10)..
لقد ظل القانون 188 ساري المفعول على الرغم من التعديلات التي جرت عليه في ثمانينات القرن الماضي, والتي قد خصت مسألة التفريق بين الازواج (11) ورغم أجراء تلك التعديلات , خاصة بالمواد التي تتعلق بحقوق المرأة ألا أنه أصبح محل جدل وصراع بين الدولة بمؤسساتها ذات العلاقة بالتشريع وبين المرجعية الدينية والتي لم تكتف مطالبتها ألآ بالغاء القانون (12). وفي سياق المحاولات هذه , سعى عبد العزيز الحكيم( نجل (محسن الحكييم ) وأثناء ترأسه لمجلس الحكم لشهر كانون الاول 2003 الى الغاء القانون و ذلك باصدارة القرار الموقم ( 137 ) ألا أن هذا القرار قد واجه معارضة نسائيية وليبرالية عربية وكردية , داخل المجلس وخارجه, حتى ألغي قرار الألغاء بعد تصويت الأكثرية في مجلس الحكم ضده (13) الجدير بالذكر أن المرجعية الدينية في اصرارها على المطالبة بالفاء قانون 188 . والعودة الى ما كانت الاحكام الشرعية عليه أيام الخلافة الاسلامية بكشف لنا عن بعض أوجه بنية الخطاب الديني في دلالته ألاجتماعية كبنية ذكورية تسعى الأحكام الشرعية ا لتكريسها اجتماعيا. .
الهوامش :
(1) علاء الدين خروفة : شرح قانون الاحوال الشخصية الجزء ألاول .ص23تجدر الاشارة بأن أسم المحاكم الشرعية قد تغير بعد تأسيس الدولة العراقية أوائل عشرينات القرن العشرين ليصبح أسمها محاكم الاحوال الشخصية وكان هذا المصطلح قد استعمل لاْول مرة في كتاب لمحمد قدري باشا بعنوان" الاحكام الشرعية في ألآحوال الشخصية "الذي صدر أواخر القرن التاسع عشر . أنظر القاضي زهير كاظم عبود . الموقع الالكتروني للصابئة المندائيين
(2) بدور زكي محمد: قانون الاحوال الشخصية رقم 188 لعام 1995 مزاياه وعيوبة وتعديلاته. مأزق الدستور. نقد وتحليل ز ص253 الجدير بالذكر أن كلا الطائفتين الصابئة وألآيزيديين لم تعترف بهما الدولة العثمانية حتى خروجها من العراق. انظر : حارث يوسف غنيمة: الطوائف الدينية في القوانين العراقية. مجلة بين الرافدين العدد68 لسنة1989 .
(3) د. رشيد الخيون . مأزق الدستور مصدر سابق ص221. (4) علاء الدين خروفة. مصدر سابق. ص 34.
(5) د . رشيد الخيون . مصدر سابق .ص 233.
(6) د . رشيد الخيون . مصدر سابق ص 233.
(7) محمد بحر العلوم . أضواء على قانون الاحوال الشخصية . ص.10. تجدر الأشارة الى المواقف المعادية والتحريضية ضد ثورة تموز 58 التي اتخذها محسن الحكيم التي صبت بالنتيجة في صالح انقلابي شباط 63. وأبرزها معاداته للشيوعية واعتبارها كفر وألحاد, وكذلك موقفه المعادي لقانون الأصلاح الزراعي وتوزيع الاراضي على الفلاحين . وغيرها.
(8) بدور زكي محمد . مصدر سابق .ص 257.
(9) د . رشيد الخيون . مصدر سابق . ص 228.
(10) محمد بحر العلوم . مصدر سابق ص14 ـ 37 .
(11) أنظر قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل ذات الارقام التالية (1708 في17/12م1981 ) والمتضمن( أعطاء الحق للزوجة, التي صدر حكم قضائي بأدانة زوجها بجريمة خيانة الوطن أن تطلب التفريق ). والقرار المرقم(1529 في31/12/1985 )الذي أتاح للزوجة التفريق من زوجها أذا تخلف أو هرب من الخدمة العسكرية و( جواز لوالد الغائب خارج العراق طلب التفريق بين ولده الغائب وزوجته بسبب الزنا ) أنظر قانون الاحوال الشخصية وتعديلاته رقم 188 لسنة 1959 . الطبعة الخامسة 1989 , الجدير أن الدستور المؤقت الذي صدر في العام 1968 قد وضع مادة صريحة لطمأنة المرجعية الدينية في عدائها للقانون188 ومادته الرابعة والسبعون حيث جاء في الدستور في مادته السابعة عشر , الفقرة ب ما نصه (الآرث حق تحكمه الشريعة الأسلامية ) .
(12) جاء في رسالة السيد محسن الحكيم الى قيادة انقلاب شبا ط 1963 " أرجاع الأمور الى العهد الذي كانت عليه سيرة منذ أيام الخلافة ألاسلامية , وأن موقفنا هذا هو نفس موقفنا الذي وقفناه منذ صدور القانون , حتى يومنا هذا, وألى أن يتم رفعه " أنظر محمد بحر العلوم . مصدر سابق .ص 10 . كما سبق للمرجع الديني محمد حسين كاشف الغطاء أن أعطى رأيه في المادة (1801 ) من المجلة العثمانية التي قيدت الفضاء بشخص وزمان ومكان محددين قوله " أن القضاء والحاكمية عند ألامامية منصب ألهي لادخل له بالسلطان ولا بغيره , ينصبه العدل وجامعية الشرائط ويعزله زوال بعض الصفات الركنية من العقل والعدالة والأجتهاد, فلا يتقيد بزمان ولا مكان , بل له الحكم في كل مكان وكل زمان " . محمد بحر العلوم مصدر سابق . ص 30 .
(13) د . رشيد الخيون . مصدر سابق . ص230.