|
طنجة؛ مدينة محمد شكري
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 4276 - 2013 / 11 / 15 - 07:32
المحور:
الادب والفن
الزيارة الأولى: قبل خمسة أعوام، حينما زرت " طنجة " مُصادفةً، كان قد مرّ نفس العدد من السنين تقريباً على رحيل رمز هذه المدينة؛ الكاتب محمد شكري ( توفي في 15 نوفمبر / تشرين الثاني 2003 ). تشديدي على أن تلك الزيارة كانت اتفاقاً، فلأني لم أكن في وارد التفكير بها آنذاك: لقد تواجدتُ مع قرينتي في العاصمة المغربية، لكي نراجع السفارة السويدية فيها، ثمة حيث أعلمونا بأن بعض الأوراق تحتاج لمزيد من الوقت. إذاك، تبادر لذهني حالاً أن نتوجّه إلى " طنجة " بدلاً من العودة مجدداً إلى " مراكش "، التي تقيم فيها أسرة زوجتي. " الأكثر عبثاً، هو عندما نتحسّر على طنجة ـ الأسطورة؛ طنجة، التي لم نعد نجد فيها ما كنا نجده فيها ويلائمنا؛ طنجة، التي أصبح يحن اليها، من بعيد أو قريب، هؤلاء الذين لم يعيشوا أبداً فيها ": هكذا يسجّل محمد شكري ملاحظته البليغة، الصائبة، في كتابه عن نزيل طنجة؛ الكاتب الأمريكي بول بولز. ولكن، ما لم يُدر بذهن شكري عندئذٍ، هو أنّ كثيرين سيدّعون أيضاً كونهم جزءاً من " الأسطورة "، التي أحيط بها اسمه بالذات، وعلى الرغم من أن " هؤلاء " لم يعرفوه عن قرب أبداً. أحدهم، كان معنا في التاكسي المتجه من محطة قطارات المدينة إلى أحد فنادقها، حيث ما لبث أن تنطّع للزعم بأنه كان على معرفة بهذا " الكاتب الشاذ، الذي رسّخ فكرة مستهجنة عن طنجة "، على حدّ تعبيره.. في صباح اليوم التالي، وفيما كنت أنتظر قريتني في حجرة الاستراحة على الطابق الموجود فيه غرفتنا بالفندق، برز فجأة رجلٌ عملاق يبدو في العقد السادس من العمر، وكان يترنح قليلاً بفعل تأثير الخمرة. تبادلت الكلام معه بودّ، بعدما فهمت منه أنه عاش لثلاثة عقود في هولندة كلاجيء سياسيّ. ولكنه احتدّ بشدة، حالما تطرق الحديث إلى الوضع السياسي الحالي في المملكة: " جميعهم غدوا عبيداً للبلاط، بعدما باعوا مبادئهم وتاريخهم النضالي في سبيل منصب أو وظيفة "، قال لي العملاق الطنجاوي وهو يعني الزعماء اليساريين. أخذتُ بعدئذٍ النقاشَ إلى جهة الأدب، وإذا بمُجادلي يصبّ أيضاً غضبه على كلّ من محمد شكري ومحمد خير الدين، واصماً إياهما بالارتزاق ومحاباة السلطة الحاكمة، مؤكداً أنه كان يعرفهما عن قرب في زمن الشباب " لما كان كلاهما يتضوّر جوعاً ولا يكاد يعرف اللغة العربية ". نعم، إن " المحمّدَيْن "، وهما من أشهر كتّاب المغرب المعروفين عالمياً، كانا من أمازيغ الريف الشمالي ( أو " الريافة " باللهجة المحلية )؛ وهيَ المنطقة الجبلية الوعرة، القريبة من مدينة طنجة. وباعتقاد العديد من المغاربة، وكذلك من المقيمين الأجانب، فإنّ شهرة المدينة بالعنف ( المبالغ بها أحياناً ) إنما يعود مصدرها إلى أولئك " الريافة "، الذين سبق وهاجر أسلافهم إليها واستقروا فيها. فبحسب السيرة الذاتية لمحمد شكري ( في الجزء الأول " الخبز الحافي "، الذي ترجم إلى حوالي أربعين لغة )، أن مجاعة رهيبة ضربت منطقة الريف لما كان هو بحدود سن السابعة من عمره، مما دفع عائلته للنزوح مع آلاف الأسر الأخرى باتجاه مدينة طنجة. لقد تسنى لي، عندما كنت في القطار، رؤية تلك الجبال العصيّة عن بعد وهيَ مجللة بخضرة الغابات. فما أن توقف القطار في إحدى المحطات، حتى سمعنا أصوات الأقدام المهرولة فوق سطح العربات: " إنهم الشفّارة.. "، همست لي قرينتي في شيء من الرهبة. و" الشفارة "، بالدارجة المغربية، تعني اللصوص وقطاع الطرق. حتى أولاد أولئك الريفيين، فإنهم كمنوا لاحقاً لقطارنا كي يرجموا نوافذ عرباته بأحجارهم. فيما بعد أيضاً، لما علِمَ عديلي ( الفرنسيّ الأصل ) أننا غشينا حيَّ " القصبة " وقضينا فيه جلّ نهار يومنا الأول في طنجة، فإنه هنأ كلانا جاداً بالسلامة. ويبدو أنّ الأجانب، من مقيمين وعابرين، قد اعتادوا على اظهار حذرهم وريبتهم حينما يتمّ التطرق لذكر هذا الحيّ العريق. ففي معرض اشارته للكاتب الأمريكي ترومان كابوتي، يقول محمد شكري أنه : " كان يرفض الذهاب الى المدينة القديمة، أو القصبة.. كان يخاف ". من جهتي، فقد تحمّست فوراً للذهاب إلى " القصبة "، حالما تبّدى لي مشهدها الرائع؛ هيَ المغطية أعلى هضاب المدينة الثلاث، المأهولة، والشبيهات إلى حدّ ما بأحياء ركن الدين والصالحية والمهاجرين في سفح جبل قاسيون الدمشقي. ثمّة، في المكان الأعلى بالمدينة القديمة، المطلّ على مشهد طنجة الساحر، تذكّرتُ وقفة الرحالة المغربي الأشهر، " ابن بطوطة "، فوق جبل قاسيون ووصفه للشام بأنها: " جنة المَشرق، ونورُهُ المُونق المُشرق ". وكما هوَ معروف، فإن هذا الرحالة العظيم كان من طنجة وبعد عودته من أسفاره، التي استغرقت حوالي ثلاثين عاماً، استقرّ في مدينة مراكش وفيها توفيَ ودفن. من ناحيته، فإن محمد شكري أيضاً كان يعتقد بفرادة طنجة. بيْدَ أنّ نزيل المدينة، الكاتب الفرنسي الكبير جان جينيه، يجيب سؤال شكري عن رأيه بأن " طنجة هيَ أجمل مدن العالم " بالقول مؤكّداً: " ليس صحيحاً. هناك مدن في آسيا أجمل بكثير ". وحسبما نعرفه عن سيرة هذا الكاتب الفرنسيّ، فهل يمكن أنه كان يقصد دمشق ـ كمدينة آسيوية؛ هو من عاش فيها عامين خلال تطوعه بجيش بلاده في عشرينات القرن المنصرم..؟ لما انحدرنا عائدين من " القصبة "، فقد خطت أقدامنا فوق نفس الدرجات الحجرية، العديدة، التي سبق وأن ارتقيناها. إلا أن كون الأزقة ثمّة أشبه بالمتاهة، فإننا حصلنا على ارشادات العابرين من سكان المحلّة. أحياناً، كنا نشمّ رائحة الحشيش، بل ونعاين دخانه المتصاعد من هذا المقهى أو ذاك. وبحسب سيرة محمد شكري، فإنّ " الكيف " حتى إلى زمن شبابه كان يباع علناً بالمحلات التجارية في طنجة. وها نحن نصل إلى باب " السوق الداخلي "؛ الذي اعتمده كاتبنا كعنوان لروايته الوحيدة. وقد سبق أن احترت في هذه التسمية للسوق، طالما أنه يقع خارج المدينة القديمة ( القصبة ) لا داخلها. غير أنني مع معرفتي القليلة لاحقاً لخبايا اللهجة المحلية، أدركتُ أن المقصود بكلمة " الداخلي " كونه المدخل لهذا الحيّ. فما أن خرجنا منه، وكان الوقت قد شارف على المساء، حتى رأيتنا نرتاح في رحبة مقهىً شعبيّ أشبه بالحديقة المكتنفة بظلال الأشجار الباسقة. مقهى آخر، في مقابل جلستنا، يلفت نظري باللافتة المضيئة التي تحمل اسمه؛ " طنجيس ". فأتذكّر القصيدة الحاملة نفس العنوان، والتي اختتم بها محمد شكري الجزء الثاني من سيرته " زمن الأخطاء ". ما أن صرنا بمحاذاة الكورنيش البحري، حتى انفتح أمامنا طوار الشارع الرئيس، المتراصفة فيه المطاعم والمقاهي والفنادق ومقار الشركات المختلفة. أمام مكتب " ابن بطوطة للسفريات البحرية "، كان رجلٌ ملتحٍ بملابس تقليدية ينتصب هناك على المدخل بصفة حارس أو ربما آذن. أومأت إلى ناحية الرجل برأسي، هامساً لرفيقتي: " هوَ ذا ابن بطوطة، العائدُ من رحلاته.. ". < للرحلة صلة..
مراجع: 1 ـ محمد شكري، بول بوولز وعزلة طنجة ( مذكرات ) 2 ـ محمد شكري، جان جينيه في طنجة ( يوميات ) 3 ـ محمد شكري، الخبز الحافي ( سيرة ) 4 ـ محمد شكري، زمن الأخطاء ( سيرة ) 5 ـ محمد شكري، السوق الداخلي ( رواية )
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سيرَة حارَة 7
-
في عام 9 للميلاد
-
سيرَة حارَة 6
-
سيرَة حارَة 5
-
سيرَة حارَة 4
-
في عام 10 للميلاد
-
سيرَة حارَة 3
-
في عام 11 للميلاد
-
سيرَة حارَة 2
-
في عام 12 للميلاد
-
سيرَة حارَة
-
جريمة تحت ظلال النخيل
-
جريمة في فراش الزوجية
-
جريمة عند مدخل الرياض
-
جريمة من أجل كنز
-
جريمة حول مائدة السّادة
-
جريمة في منزل الضجر
-
في عام 13 للميلاد
-
جريمة على الطريق العام
-
حكاية من - كليلة ودمنة - 8
المزيد.....
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|