من مشروع هيغ الى مشروع اوباما المقاومة الوطنية هي الحل
ماري ناصيف
2013 / 9 / 14 - 14:00
ليس من قبيل الصدفة، ولا فقط من قبيل تقديم آيات التقدير والاجلال للشهداء، أن نتوقف في السادس عشر من أيلول من كل عام لنتحدّث عن تجربة فريدة، هي تجربة انطلاقة "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية". فعندما نستعيد تلك التجرية، إنما نفعل لنناقشدور تلك الجبهة في اطلاق مرحلة نضالية جديدة نوعياً على الصعيدين اللبناني والعربي استطاعت حتى الآن، بفعل الاستمرارية عبر كل الحركات التحررية والتغييرية التي اجتاحت وتجتاح العالم العربي منذ أكثر من ثلاثين سنة، أن تقف حجر عثرة في وجه انجاز المشروع الامبريالي-الصهيوني الهادف الى وضع اليد على المنطقة العربية، وشعوبها، والى تصفية القضية الفلسطينية ووضع حدّ نهائي للصراع العربي-الإسرائيلي.
وليس من قبيل الصدفة، كذلك، أن تكون تلك الانطلاقة قد تمّت من خلال فعل إرادة حزب شيوعي استطاع، رغم تخاذل الطبقة السياسية الحاكمة، بل رغم كل ما أحدثته الحرب الأهلية الطائفية التي كادت تودي بوطنه الى الاندثار، نتيجة الدمار الهائل على المستويات كافة، أن يبقى هو الخيط الجامع بين دفتي الوطن وأن يعيد صياغة الأولويات الوطنية لبنانياً وعربياً، في وقت كانت فيه الرجعيات العربية، كلها ودون استثناء، توظّف طاقاتها في اتجاه آخر، نقيض، هو اتجاه الخيانة، بينما القيّمون على الأنظمة "التقدمية"، الذين وصلوا الى السلطة تحت شعارات استرجاع فلسطين وبناء الوحدة العربية، لم يركّزوا كل الجهد والمال لأولوية تنظيم مشروع المقاومة، كما كان يفترض، بل انهم أعطوا تلك الأولوية لبناء شبكات أمنية تحفظ لهم مواقعهم على حساب طموحات شعوبهم في الإصلاح والتقدم الاجتماعي.
والباحث في تاريخ "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية"، والمقاومة الوطنية عموماً، وفي دورها الحاضر والمستقبلي، لا بد وأن يتوقف لدراسة أهمّ الأحداث التي سبقت انطلاقتها في 16 أيلول 1982 والتي تفسّر الكثير مما يجري اليوم داخلياً وفي المحيط الإقليمي، على الرغم من التغيّرات الكبيرة التي طرأت على الوضع الدولي... تلك التغيرات التي تحاكي مرحلة أخرى مرّت منذ مائة عام، هي بدايات القرن العشرين الماضي وما تخللها من أزمات وحروب بين الدول الرأسمالية لاقتسام العالم.
لذا، سنتوقّف عند حدثين أساسيين سبقا الحرب العدوانية الإسرائيلية على لبنان في العام 1982 وأسسا، بالتالي، الى دفع الحزب الشيوعي اللبناني، بالتكامل مع حلفائه، باتجاه الاصرار على التحضير لمقاومة وطنية شاملة.
الحدث الأول هو المشروع الذي طرحه وزير الخارجية الأميركية آنذاك، ألكسندر هيغ، في نيسان 1981 تحت عنوان استعيد في العام 2006: "الشرق لأوسط الجديد". فقد بني هذا المشروع على ثلاثة أسس لا تزال قائمة بمعظمها، وهي: التوصّل الى عملية سلام (أو استسلام) شامل وغير مشروط مع الكيان الإسرائيلي، والتعاون الأميركي-العربي-الإسرائيلي في مجال الأمن على صعيد المنطقة باتجاهين، الأول نحو القرن الأفريقي والثاني نحو الشرق الأوسط والأقصى؛ كل ذلك بهدف "مواجهة التهديدات السوفياتية" للمنطقة، واستعادة السيطرة على البلدان التي تحالفت مع الاتحاد السوفياتي... الى آخر المعزوفة المعروفة التي تؤدي الى تثبيت الهيمنة الامبريالية على كامل المشرق والمغرب العربيين وعلى النفط والغاز اللذين نزخر بهما الأرض العربية عموماً.
أما الحدث الثاني، فتجلّى في المبادرة التي تقدم بها ولي العهد السعودي آنذاك، الذي أصبح في ما بعد الملك فهد بن عبد العزيز، بعد أربعة أشهر فقط على المبادرة الأولى؛ هذه المبادرة التي توزّعت على ثمانية بنود أهمها وأخطرها البند السابع الذي يؤكّد على "حق دول المنطقة في العيش بسلام"، بما يعني وقف الصراع العربي - الإسرائيلي والاعتراف بإسرائيل دولة ذات سيادة في المنطقة... وإذا كان البند السادس من تلك "المبادرة" قد أشار الى قيام "دولة فلسطينية مستقلة، بعاصمتها القدس الشرقية"، إلا أن السكوت كان مُطبقاً حول تنفيذ القرارات الدولية حول فلسطين وبالتحديد حق العودة للاجئين الفلسطينيين.
بماذا تذكرّنا تلك المرحلة الممتدة من مشروع هيغ الى مشروع باراك أوباما، وفي كل مرّة دور المقاومة المواجه لهذه المشاريع؟.
انها تذكّر بدون أدنى شك بما يجري اليوم على الساحات العربية كلها، والدور الذي تحاول الامبريالية الأميركية أن تصبغه على الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي المستظلين في ظل حربها لامرار نسختها الجديدة من "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، دون تغيير كبير في أهدافه القديمة الأساسية، أي انهاء الصراع العربي-الإسرائيلي بعد إعادة النظر بقيام ما سميّ "الدولة الفلسطينية المستقلة" وكذلك بعد تنفيذ ما رسم من حدود جديدة للدول المكونة لهذا الشرق الجديد. حدود تقوم على أساس العصبيات الدينية والطائفية وكذلك الاثنية، بما يحول المشرق العربي، ونسبياً المغرب، الى مجموعة دويلات متقاتلة وأنظمة رجعية ضعيفة تنشد كلها الدعم الخارجي، الامبريالي بالتحديد، من أجل البقاء على قيد الحياة.
في هذا الاطار كانت الحرب الأخيرة على لبنان ومن بعدها الحرب على العراق. وفي هذا الاطار أيضاً تجري الحرب اليوم على سوريا وشعبها ويتم تجميع فلول المرتزقة من كل أصقاع الأرض للمشاركة فيها.
حروب تأخذ كلها لوناً واحداً، هو اللون الطائفي، وتستند كلها الى كيفية ازالة العقبات الكأداء من أمام الكيان الإسرائيلي الذي لا يزال يحتل الموقع الأول في الاستراتيجية الامبريالية المتعلقة بالمنطقة، طالما لا تزال تزخر بهذا الكم الهائل من احتياطي الطاقة، وآخره الاكتشاف الذي تم في المياه الإقليمية الممتدة من فلسطين المحتلة حتى شمال الساحل السوري، مروراً بكل لبنان، وطالما أن قسم كبير من طرق إمداد العالم بالطاقة تمر عبر هذه المنطقة.
لذا تستعجل الإدارة الأميركية السيطرة الكاملة والسريعة على أرض العرب. كما تستعجل إعادة استنهاض دور حليفتها إسرائيل، من خلال العمل على اتجاهين في آن معاً.
يقوم الاتجاه الأول على الخلاص من الالتزامات الدولية تجاه قضية شعب فلسطين عبر محتوى مبادرة وزير الخارجية الأميركية جون كيري وما ينجم عنها اليوم من عودة الرئيس الفلسطيني محمود عباس الى طاولة المفاوضات، بعد التخلي حتى عن الشروط الشكلية المتعلقة بوقف كل التعديات الاستيطانية، وفي ظل الدعوات الواضحة الموجهة الى الجانب الفلسطيني لتقديم التنازل من جانب واحد... تلك الدعوات التي وصلت بها الوقاحة الى حد محاولة انتزاع إعلان فلسطيني "رسمي" بالتخلّي النهائي عن حق العودة وعن القدس وكذلك عن ازالة كل المستوطنات المزروعة في عمق الضفة الغربية.
أما الاتجاه الثاني فيقوم على إزالة العقبة المتمثّلة بامتلاك سوريا للأسلحة الكيميائية، التي كانت حتى الأمس القريب تشكل نوعاً من التوازن الاستراتيجي مقابل ما يمتلكه الكيان الإسرائيلي من مخزون لأسلحة الدمار الشامل، واستكمالاً على فرط عقد الجيش السوري (آخر الجيوش العربية التي قامت بحروب مواجهة مع إسرائيل)، بعد أن انهكته المعارك الدائرة منذ سنتين ونيّف... وهنا، لا بد من التوقّف عند "المبادرة الروسية" لمنع العدوان على سوريا. صحيح أن هذه المبادرة، التي شكّلت انتصاراً للدبلوماسية الروسية، قد استطاعت تأجيل خطر العدوان الامبريالي على الشعب السوري، دون أن تضع حداً نهائياً له، إلا أنها وفّرت، من جهة، لباراك أوباما المزيد من الوقت لإعادة صياغة حملته، إن داخل الكونغرس أم باتجاه الأغلبية الشعبية التي قالت لا للحرب. كما انها أعطت، من جهة ثانية، لإسرائيل، وبدون أية دعوة لها لتقديم تنازل في مجال حيازتها أسلحة الدمار الشامل، ورقة تحييد السلاح الكيميائي السوري المترافق مع مطالبة سوريا بالتوقيع على معاهدة حظر هذا السلاح.
إلا أننا، وبالرغم ممّا تقدم، نود لفت نظر من لم يتعلّم، داخل الإدارة الأميركية والأنظمة الرجعية العربية التابعة لها، من دروس السقوط الكامل لمشروع هيغ بفعل المقاومة الوطنية اللبنانية في العام 1982، وبعده مشروع كوندوليسا رايس بفعل المقاومة نفسها في العام 2006، وما تبع سقوط المشروعين وسبقهما من مقاومات مسلّحة وشعبية في فلسطين، وكذلك نظر من ظن أن الانتفاضات والثورات العربية مدبّرة، أو من لم يفهم التغيّرات التي طرأت على ثورتي مصر وتونس، أن مجرى الريح يتجّه الى غير صالح الامبريالية وتوابعها ومريديها وكل من اعتقد يوماً أن بإمكانه الاعتماد عليها من أجل إعادة التاريخ الى الوراء. فالتاريخ، كما قال ماركس، يعيد نفسه كمهزلة... حتى وإن تكبّدت الشعوب أثناء إعادته خسائر يمكن أن تكون كبيرة.
فما يعتمر في داخل شعوب المنطقة العربية من طموحات يؤسس لقيام حركة تحررية من نوع جديد، حركة تعتمد على قواها الذاتية وتستند الى برنامج واضح في مجالي التنمية والتغيير الجذري. وكما فشل الاعتماد الامبريالي على القوى السياسية الدينية التي تهاوى مشروعها بأسرع من لمح البصر، رغم كل الدعم السياسي والمادي الذي قُدم له، كذلك ستفشل الامبريالية في تغيير موازين القوى لصالحها. وما تهديدها بالحرب الشاملة إلا دليل آخر على الوهن الذي يعتريها.
لذا نحن مطالبون اليوم بإعادة النظر في استراتيجياتنا للتغيير الجذري، بحيث يأتي إسهامنا في الفعل المقاوم كمقدمة لانجاح هذا التغييرولترسيخ أسسه الوطنية والطبقية، مستفيدين من كل الثغرات التي شابت مرحلة أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي.