ماوراء حيْرة رزكار عقراوي في منح صوته في الانتخابات البرلمانية الكردستانية
بهروز الجاف
2013 / 9 / 11 - 00:01
في مقاله المعنون "لمن نصوت؟ الشيوعي الكردستاني ام حركة التغيير في انتخابات برلمان اقليم كردستان – العراق! " أوقع رزكار عقراوي نفسه، مرغما، ضمن مايسمى بمجموعة "الناخبين المترددين" في الانتخابات البرلمانية المقبلة في اقليم كردستان. ولكن التردد عنده محصور بين فكي كماشة "اليسارية المعارضة" و احدى واجهاتها الرئيسية, الحزب الشيوعي الكردستاني، الذي لاتبدو معارضته واضحة. وقد أظهر السيد عقراوي عيوب كل منهما، فيما خلص الى ميله لمرشحين، أفراد، ضمن القائمة الشيوعية، ومتمنيا أن لايذهب صوته سدى. ينطلق السيد عقراوي، في حيرته، من منطلقين متضادين، هما انتقامي حيال حركة التغيير وزعيمها نوشيروان مصطفى، ونقدي حيال قيادات الحزب الشيوعي.
ولان السياسة فيها من المواقف حينما تتعرض فواعلها لاحداث مصيرية لايمكن تنزيهها على طول الخط، لاتعد ديمومة الاحزاب والحركات، بالضرورة، نجاحا لطروحاتها، أو نظرياتها. ان العائق الرئيس الذي تتعرض له الاحزاب في ديمومتها، هو التكتيك غير الصائب، وخصوصا في مراحل، أو في خضم احداث، تتطلب موقفا، واقعيا، تستوجبه المتغيرات، والاتجاه العام، اثناء وقوع الحدث. وهذا هو صميم الفعل السياسي الذي يحافظ على الثوابت ويجاري المتغيرات.
ذهب السيد عقراوي في تشخيصه لواقع الحزب الشيوعي الكردستاني الحالي، الى "هامشيته" و "عدم تأثيره" في الواقع السياسي الكردستاني، وعزا ذلك بقوله "ان عدد غير قليل من قادته ارتبطوا بشكل او آخر بالحزبين الحاكمين بكافة ممارستهم!، وفي أحيان كثيرة كانوا عمليا جزءا منهم ومن سياستهم الكالحة والفاسدة.". اذن فأين تكمن المشكلة في مسيرة الحزب الشيوعي، في العراق، و كردستان بشكل خاص؟
ولكي لانربط مراحل صعود وهبوط جماهيرية الحزب الشيوعي بما آلت اليه المسيرة الشيوعية في العالم، اذ لايُنكر الربط بينهما, يجب تشخيص الحالة "المضطربة" التي عاشتها "قيادات" الحزب في تناقض رؤيتها للاحداث، ذات العلاقة بالواقع المخالف لتوجهات الحزب، وخصوصا اثناء فترة الكفاح المسلح للحركة الكردية، والذي انعكس ضعفا استراتيجيا، وتكتيكيا، في قراءته للاحداث، مما ساعد في "الانشقاقات" و "النكسات" و أخيرا "التهميش" الذي اصاب بوصفه السيد عقراوي، وهو في الحقيقة تهميش ذاتي.
انخرط الكرد في الحركات اليسارية، وخصوصا الشيوعية، بشكل واسع، في فترة الحكم الملكي في العراق، كردّة فعل على النظام الاقطاعي، وفقدان الحرية، والعدالة الاجتماعية، للغالبية العظمى من المجتمع المسحوق تحت ضغط الفقر والجهل والمرض. ولما جاء انجذاب الكرد الى اليسارية من منطلق استعداء الاقطاع، لمجتمع فلاحي ذو أهداف قومية، فان ثورة الرابع عشر من تموز في عام 1958 حسمت الخيار لشريحة واسعة من المجتمع الكردستاني، كالفلاحين والمتنورين، وبدأت آمالهم الحقيقية، القومية، تبرز أكثر، بعد انتهاء سلطة الاقطاع، وقيام النظام الجمهوري.
لم تكن مواقف الحزب الشيوعي "مشرفة" تجاه أماني الكرد في مرحلة الحكم الجمهوري، اذ وقف الحزب مناصرا للحكومة بالضد من الثورة التي اشتعلت في عام 1961 في جبال كردستان، ولو شكل هذا الموقف سجالا مازال قائما بسبب حداثة الثورة، في بغداد، وعدم توفر الارضية الدستورية، والقانونية، والتناقض في مواقف قياديي الثورة، بالاضافة الى العوامل الخارجية التي كانت تتربص بتجربة الحكم الجمهوري، وعبد الكريم قاسم بالذات، شرا.
المرحلة التالية في "عداء" الحزب الشيوعي للحركة الكردية، تمثلت في مظهرين أساسيين، في عقد السبعينيات، هما اشتراك الحزب في الجبهة الوطنية والقومية التقدمية مع حزب البعث الحاكم، على حساب الكرد، ومشاركة مقاتليه العسكرية، جنبا الى جنب مع الجيش العراقي، في اخماد الثورة الكردية بين عامي 1974 و 1975.
ولما استدرك الحزب خطأه حين تجاوز نظام البعث معاهدة الصداقة والتعاون مع الاتحاد السوفيتي، وترك الحزب يتيما، في عام 1978، بدا أن قيادته لم تنحى سلوكا سياسيا، وكذلك اجتماعيا وثقافيا، يتوافق مع ايديولوجية الحزب في مواجهة الواقع الجديد، بل انزلقت أكثر من خلال البحث عن "آباء جدد".
لما اشتعلت الحرب العراقية في عام 1980، كانت الفرصة مواتية للملمة الشمل والبدء بمرحلة جديدة، قد تكون ردة فعل، ندما، على موقف قيادة الحزب في عام 1969 والذي تسبب في خروج ما يسمى ب" القيادة المركزية" عن صفوف الحزب، ولكن الحنين الى القتال، بقوة، اوقع الحزب في تناقضات متعددة مع طروحاته، حين وجد نفسه مناصرا لحكم ثيوقراطي، خارجي، وحاشرا نفسه في اتون حرب "قومية" داخلية.
كانت اهداف ما يسمى ب"حركة الانصار" تتقاطع مع اتجاهين متناقضين فيما بينهما، يتمثل الاتجاه الاول في "الاستعداء المجبر" تجاه بعض اطراف الثورة الكردية، وخصوصا تلك التي لم تكن على وئام مع النظام الاسلامي في ايران آنذاك، ففي حين لم يكن هنالك تجانسا بين ماتصبوا اليه الحركة الشيوعية، الثورية، التي كانت تضم عربا واكرادا واقليات اخرى، في مقاومتها لحكومة البعث، في بغداد، وما تبتغيه الثورة الكردية، المتمثلة بالاحزاب الكردستانية، القومية الهدف، المسلحة، من حقوق قومية ربما لاتكون، بالضرورة، مرتبطة بنظام معين في بغداد. الاتجاه الثاني كان في موقف الحزب من الحرب، ويتمثل في مظهرين آخرين كلاهما مرّ، فاذا نظر الشيوعيون الى انفسهم كوطنيين عراقيين يتهدد بلدهم عدوان خارجي، استوجب ذلك عدم محاربة النظام، في أقل تقدير، واذا رأوا ان الحرب ظالمة بدأها صدام حسين ضد النظام الاسلامي الجديد في ايران، فعليهم الاستمرار بال "جهاد" ويكون في ذلك نصرة للنظام في ايران.
انعكست الضغوط الفكرية والسياسية على الحزب من خلال تخبطه في الدخول في تحالفات مع أطراف "متحاربة" فيما بينها ضمن الحركة الكردية، وتارة أخرى معاداة بعض الاطراف فيها، وهي مظاهر كانت تمليها مشيئة قيادات الحزب الفاعلة، عسكريا، طبقا لما تمليهما عليهم قيادتا حكومتي ايران وسوريا الداخلتين في تحالف حربي، بالضد من نظام صدام حسين، في ذلك الوقت، وهو ما أوقع الحزب في مأزق سياسي، وعسكري، كانت ذروته النكسة التي حدثت له في بشت آشان في عام 1983، والاحداث المؤسفة التي رافقتها، حين عادى الحزب الحركة الكردستانية الاكبر على الساحة الكردستانية، آنذاك، وهو الاتحاد الوطني الكردستاني. والمظهر الاخر الذي بان على "ازدواجية" الحزب السياسية، هو مقررات المؤتمر الثامن للحزب، الذي عقد في الجبل، ومبقيا على فكرة الكفاح المسلح في عين الوقت الذي أبقى فيه على قيادات بارزة مؤتلفة ضمن الحكومة العراقية، كان من بينهم وزراء ومدراء عامون وشخصيات مؤثرة معروفة.
بعد انتفاضة عام 1991 في كردستان العراقية، التي احتضنت الشيوعيين العراقيين للمشاركة في العمل السياسي المدني، أثرت التناقضات السالفة الذكر في الحزب أكثر، وخصوصا وان المرحلة الجديدة تطلبت رؤية أوضح ومواقف اكثر تميزا.
كان الاجراء الذي تصورته القيادة الشيوعية، هو الانجع، في مرحلتها الجديدة، فصل "الهيئة الكردية" عن قيادة الحزب بصورة حزب جديد هو "الحزب الشيوعي الكردستاني"، فمثل ذلك توقفا في محطة جديد أخّرته عن مواكبة نشوة الانتصار لاقرانه من الاحزاب الكردستانية الاخرى. أما الطامة الكبرى فنزلت حين انهار الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية في اوربا الشرقية في عام 1992 وما بعده، فكانت الضربة القاضية التي أجهزت على الحزب وأحالته الى "الهامشية" التي ذكرها عقراوي.
وبدل أن تعتصم قيادة الحزب بنظريتها الاشتراكية، الشيوعية، والبدء بمرحلة جديدة، من خلال العمل الدستوري، بعيدا عن التأثيرات الحزبية الاخرى، في كردستان، والعراق، وخصوصا بعد سقوط النظام في عام 2003 واختفاء كل التحديات التي اثرت سلبا في مسيرة الحزب، تخلت القيادات، الكلاسيكية، عن الحزب وتركته طعما للقوى المتنفذة، تجتذب افراده، وخصوصا المثقفين والاعلاميين منهم، تاركة البقية الباقية متمسكة بالحزب طالما تسلم منحة مالية من الحكومة، أو مساعدات من بعض الاحزاب الشيوعية في العالم.
هذا هو الوضع الذي أباح ببعضه السيد عقراوي وجعله حائرا لمن يعطي صوته، هل للفكرة اليسارية، المعارضة، أم للحزب الشيوعي؟ ويبدو انه حسم موقفه لصالح، أشخاص، توسّم فيهم محافظتهم على نزاهتهم، وممارسا لحقه في التصويت.