أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حاتم التليلي - زمن الكاووس : قراءة في رواية جرحى السماء لأم الزين بنشيخة المسكيني















المزيد.....

زمن الكاووس : قراءة في رواية جرحى السماء لأم الزين بنشيخة المسكيني


حاتم التليلي

الحوار المتمدن-العدد: 4201 - 2013 / 8 / 31 - 17:24
المحور: الادب والفن
    


زمن الكاووس :

قراءة في رواية جرحى السماء لأم الزين بنشيخة المسكيني

بقلم حاتم التليلي – باحث في الأدب المعاصر
اضاءة :
تأخذنا رواية جرحى السماء ( بيروت: دار جداول، 2012) الى مناخ ينفلت عن كلّ الأنظمة السلطوية ، اذ يحرّكها في ذلك هدف الاقامة على فوهة المستقبل ، و الحلم بالخروج من منفى الجحيم الواقعي .فهي جمع من الشتات و جسد قوامه أحوال تتقلّب على أحوال .لا شيء يجعلها رهينة أنساق معيّنة أو سجينة مسار خطّي أن نضغط بالجنس الهجين ، المتمرّد على سلالته و المتنكّر لأصوله الروائية شكلا و مضمونا ، ذلك أنّها تتموطن في مجال اللامتوقّع متجاوزة الحركات النقدية و آليّات اشتغالها .و لأنّها مثّلت شهادة ادانة ضدّ الثبات و كل الأصوليات .و عبثت بالمألوف و العاديّ و تموطنت في الغريب، مستبدلة النظام بالفوضى و المؤسّس بالمخرّب و الأصيل بالهجين ، فانّها حتما ستفلت عن كل محاولة كلاسيكية في النقد ، ممّا يجعل من انبعاث شرائع جديدة لمغازلتها أمرا ضروريا ، ذلك أنّها تأبى التعرّي الاّ أمام مغامرة في البحث تضاهي شهوتها الأدبية .
فهنا نصّ روائي متعدّد و متناقض ، تحيا في تخومه شخصيات متنافرة و تتوارى في أغواره الأحداث متشظّية بين حقيقة ومجاز .أمّا الأزمنة و الأمكنة فضرب من التموّج بين الفعل الفيزيائي و النفسي .و لأنّ لحظة الكتابة لا قرار لها الاّ بالنزوح الى تفاصيل برزخية لا تُقال ، و لم تتموطن بعدُ في حقول المفاهيم ، نحاول امساكها لكنّها تغيب أمام التصادم بين أكثر من جنس أدبي ، و تسابق الروافد و غزارة الأصوات – حتى أنّ أبطال الرواية أصبحوا بمثابة أرواحا تغادر أجسادها ثمّ تعود اليها فلا هي واقعية و لا هي مجازية من وحي الورق و الخيال ، و لا هي أسطورية بتبدّل أقنعتها و تبادلها المواقع من حيث صنع الحدث.عالم الكتابة هنا أشبه بالسّعير: تجاويف اليها ترحل جميع أشياء العالم لترجع الى لحظتها الأولى ، الى نطفتها المتناقضة و الى الجينات الأولى قبل فزع الخلق و التكوين في زمن السديم – عبث بالواقع و عودة الى جراح الكاووس – نحن لا نقرأ رواية وحسب ، بل نجد أنفسنا واقفين أمام الكتلة الأوّلية للكون ، نقلّب الصفحات و نقرأ ، و القراءة هنا وجع و تيه ، رواية هي نفسها سفر الخروج من المنفى الى منفى آخر أكثر تعقيدا .
انّ همجية الواقع الثوري ، الملفّع بغير قليل من الأوهام الزائفة ، علامة فريدة على خصي الشفافية و الوقوف بها على شفا جرف من المقابر ، حيث الزمن هنا ، زمن لرقش الدماء و املاء من شأن قرف لا ينتهي .فالوطن كل الوطن ، مجرّد مستنقع تتناسل فيه بكتيريا الأصوليات المعاصرة – و الثورة ظلّت مجرّد انفلات لسنوات الغلّ و النقمة و التشفّي و ولع طافح في الانتقام .أمّا الرواية فعالم هذا الحكي ، تشرّد جراح الواقع الفوضوي بتشتته ،و لأنّها مصحوبة بوعي الذات الكاتبة فانّها – رغم انسرابها في العماء- ظلّت تشتهي حقول المستقبل ، فمن البدء – العماء – الهيولة – الكاووس- نشأت عناصر الحياة ، و هنا يكمن الحلم في تغيير العالم كتابيا .
سؤال الكتابة :
حين تصبح الثورات مجرّد جيفة شهية لم تبرأ من دودها و عفنها ، يموت الانسان و يجوب الفنّ أصقاع الروح باحثا عن سرّ جديد للحقيقة ، و تعلن الكتابة نواحها في زمن الغيب و المفاهيم المجرّدة و طقوس الذبح و ضرب الأعناق .
و أمام هذا القرف الأعمى الشبيه بقبر الشهيد المهدّد بالنبش ، تولد الأسئلة الموغلة في الوجع و تكتب " الروائية " نصّها في مكان ما ، بشفرة من جذع الروح و بحبر محموم ، و تقيم عرشا لادانة العهر الثقافي و السياسي ، و هنا تصبح الكتابة مهمومة باشعال الحرائق في القمم الشاهقة ، و مدعوّة للاقامة في فوهة العصيان و التخريب ، تحمل فوضاها و تنتقل من حال الى حال ،هو زمن الكاووس على ما يبدو ، فلا صدى الاّ صوت ما قبل الوقت .
لماذا نكتب ؟ و كيف ؟ و ما أفق الكتابة ؟ هي أسئلة تحشر نفسها في الرواية لأنّ فعل الكتابة يقتضي شهوة ما ، أمّا زمنها فرسم لأحوال الذات الكاتبة وهي تقيم في مدار الرعب (1) بحثا عن الأفق البديل و رغبة طائشة كالحلم بتغيير الحياة و العالم .لم تكن الرواية قبل زمن كتابتها في العدم ، و انّما سُبقت بشيء آخر ، هو نفسه مسار من تحوّلات غير مرئية و اعتمال نفسي جاهز للانفجار ، و تاريخ تسطّره العشوائية على صفحة الليل و الشمس ، لأنّ كلّ شيء يتحرّك في الرمز قبل أن يُهدّد النجم الذي تحرسه الآلهة ،و قبل التأريخ – فوضى التكوين –أنشدت الروائية " قبل أن تداهمها شهوة الأدب " (2).
هنا يكمن الطموح في رؤية العالم كتابيا قصد تمعينه ، و هنا يحضر السؤال المرّ حول زمن الكتابة و أحوالها و تقنياتها، فهي تظلّ دائما في حاجة الى حافز ما ، حيث تكتب الروائية متحدّثة عن نفسها لتقول :" لا تعرف هل بوسعها أن ترقص مثل الجميع ..أم هي مجرّد تعلّة لكتابة رواية يسعد بها آخرون ، هل تغريها شهوة الأدب أم شهوة الشبق ؟ "(3). وهو ما يمكّننا من العودة الى الرواية في لحظة انبعاثها و طقوس نزعها الأوّل ،فلا نقرأ حدثا واحدا بعد أن تمّ تفجير التسلسل المنطقي و الخطّي للبنية الدرامية ، و انّما نكتشف أنّ الرواية روايات و أنّه لا حدث رئيسي يطغى على آخر ، و لأنّ الأمر يتحرّك في مناخ العشوائية الصرف .أمّا الروائية ، فتتقلّب من حال الى حال و تنفلت من قصّة الى أخرى ، فلا هي متموقعة في حقول التجريب و لا في فعل مسرحي هدفه زعزعة القارئ بضرورة اقحامه لعبة الكتابة .على العكس ، فهي تماما ، كالاكترون ، لا نعرفها الاّ من أثرها .تكتب لنقرأ ما يلي : " تاهت عن قصّته ، قررت أن ترسم وجها آخر للرواية " (4) ، ثمّ تضيف " في الجهة الأخرى يلتحق زعفران و ياسمين بالحريق "(5).
كل شيء هنا يظلّ رهين العبث و القسوة ، و كأنّ الكتابة هنا رواية الخروج من العقم الثوري الى منفى أكثر قساوة ، حيث تؤسسه العشوائية و العماء ، فيزيائيا ، و تصرّ نظرية الفوضى على القول بأنّ ما هو فوضوي و موغل في التلاشي و الابهام يبقى رهين قوانين دقيقة يتعين اكتشافها (6). أمّا أدبيا فانّ الأمر في هذا السياق راجع الى شهوة الكتابة لدى الروائية أو ما يمكن أن نسمّيه باللعب ، لا على الطريقة الديونيزية و انّما عبر التشاكل مع الاه آخر ، مجهول يجمع بين القسوة و الحبّ و القتل و الشرّ ، و يضع الانسان حائرا أمام بؤس واقعيته، ، حيث "سيتقلّص وجه العالم ، و ستصير كلّ الأشياء قريبة من الزوال و هذا اليوم لا يبدو بعيدا ".تشعر الروائية بهذا الخطر المحدق فتتحد بأشكال الواقع الهمجي من لصوص و سياسيين و أشباه شعراء و حرائق و موت و رعب و أصوليات ، لتنضج جميعها في الرواية "و نضحّي بهم قربانا للورق " (7).لكنّ هذا الورق لا يتّسع ، و الكتابة أضيق من كلّ ...فهي "كانت تعرف أيضا أنّ في الأمر أكثر من حكاية ..و أنّ ما تكتبه ليس رواية " (8)و كأنّها بهذا تكتب و توجّه أصابع الاتهام الى عالم الأدب و انحباسه في أطر و تقنيات جعلته رهينها، ذلك أنّها أوغلت في رسم عبثية الأشياء و صرّحت للقسوة أن تنضج فشوّهت ما يبدومألوفا لأنّها هي الأخرى ، جريحة شهوتها الأدبية ، حينها تعلن ادانتها في وجه الجميع و تتساءل " أم سنظلّ نحمّل الكتابة هزائمنا و فضائحنا "(9).
انّ سؤال الكتابة الذي قادنا الى هذا الحقل الشاسع من العبثية، لم يتأتّ بمجرّد رغبة طائشة في عقد نسيج لغوي ، و انّما هو نتاج انفلات يقتات من عناصر الحياة اليومية لواقع ثورة مغدورة شوّهت جرحاها و مثقّفيها ، و أوغلت في حصد المستقبل وهي تجرف حنينها الى حقول الماضوية الزائفة –هي كتابة عبر الشفافية الغائبة و برعشة دم الأعصاب .
سحر الكتابة :
للكتابة مجازها ،و هذا المجاز ضوء ينبجس في عالم الأحداث و الشخصيات و يتموّج داخل النسيج اللغوي .لكنّ هذا النسيج ظلّ رهين الالتباس اذ فتح رهانات عديدة للتأويل و التساؤل .فبنية الرواية –كتابيا-انطلقت من الشعر و عادت اليه ، و هنا جمع بين مختلف الأجناس الأدبية اذ لم تكتف الروائية بذلك فحسب، بل أقحمت الكتابة المسرحية و وظّفت التقنيات السينمائية فكان الزمن متموّجا بين الوجود الفيزيائي و الوجود الرؤيوي و كانت الصورة موغلة في التشظّي.
المجاز هنا هو الحلقة العليا التي تجمع الشيء بنقيضه ، فلا حوار بين السماء و الأرض ، بينهما الجرحى و الجرح فاتحة للتساؤل من بداية الرواية و منطلق تخومها و مردّها .على هذا النحو كان قانون الكتابة موغلا في البحث عن فلسفة ثالثة تبحث عن مربّعات الالتقاء بين المثالية و المادية و بين المرئي و اللامرئي ، و لأنّ الأمر يجري لتعويض ما ذهب اليه جوج بوليتزرفي كتابه المبادئ الأساسية في الفلسفة ،بالقول الى أنّه لا توجد نقطة جامعة و فاصلة بين عالمين –في نفس الوقت-ما هو الاّ ضرب من تعميق الاغتراب داخل الانسان ، اذ يكشف لنا مارلوبونتي، على غرار ليبنتز، عن ضرورة فصل المعرفة الانسية عن كل فاصل يفصلها عن الحقيقة ، و الحقيقة مغامرة التيه و بحث عن جوهر الأشياء غير المرئي ، فللأساطير جذورها .. و للمادّة الكتروناتها التي لم تحدّد أمكنتها بعدُ اذ لا نعرفها الاّ بأثرها .
نفس الشيء تقريبا في رواية جرحى السماء، اذ تتقلّب شخصياتها بين التاريخي –الواقعي – و الأسطوري –المجرّد-، فهي في العديد من الأحيان تحمل اشارات و دلالات تقول بواقعيتها لكنها في أحيان أخرى تنفلت عن ذلك لتتوارى و تغيب لتعود في صورة أشباح و أصوات غابرة ، و كأنّنا بالروائيّة تذهب بأبطال روايتها الى حقول تنضج " باعادة ترتيب الخلايا التفسيرية الأسطورية".(10).فهنا صدى الأصوات الغابرة ، الخنساء و البسوس و الحلاّج و التوحيدي و عائشة و شهرزاد و شهريار،و هنا أيضا أبو القاسم الشابي و محمود درويش ،و هنا صداهم جميعا في حقل واحد، هو حقل الرواية التي استعاضت عن السياق الزمني و ارتفعت عن سلطة الجغرافيا لتجعل من جميعهم جاهزين في عالم الجمع بصيغة المفرد ،و المفرد هو الآخرشتات في أبطال الرواية المشوّهين ، حيث تحضر ياسمين و زعفران و حلمي و نجم لتتبدّل علاقاتهم من حال الى حال ، فمن أخوة الى أزواج ، أي أنّهم مجموعة من الذرّات الهائمة في السديم الورقي،و هذه الذرّات المتشظّية تتعالق جميعها لتصبح بمثابة المرآة التي تعكس صورة البطلة الحقيقية " أقحوانة رمز التكوين الأول حيث انبعثت عناصر الحياة الأربعة ، وهي عناصر ان كانت مألوفة فانها في تفاعلاتها انزاحت في التشتت حيث تعدّدت و انشطرت بعد أن أباح كل عنصر نفسه مشاعا للانسياب في أشياء الكون، التي حملت تيهها و حلّت في الغياب. و أمام الفجوة التي أحدثتها التناقضات ، لزاما أن تعود هذه التناقضات لتجتمع، أي أن يظلّ السديم –موطن السيولة –متأهّبا لردع انفلات الأشياء عن مسارها الحقيقي.و هنا تنضج أقحوانة لتأخذ رمزية هذا الكاووس فتبيح الموت و الحياة لجميع الشخصيات المصاحبة لها في الرواية .و هي بشكل آخر تظلّ مجازا لصورة الروائية، حيث تحضر اشارات عديدة تدلّ على ذلك ،فزعفران الذي "تربّى على الموسيقى "هو في حقيقة الأمرالابن- الواقعي- لأمّ الزين بن شيخة كاتبة الرواية التي بدورها تلعب دور شخصية أقحوانة –و شخصية "فتحي "هي الأخرى احالة على زوجها الحقيقي، و هذا ما يؤكد صحة ما ذهبنا اليه – فالرواية روايات مشتّتة و عناصر متهالكة من الكون، و جراح على ذراع الواقعية- أمّا أحداثها ،فقد كانت موغلة في التسارع و ملفّعة بغير قليل من الفجوات ، يسيّرها المجهول و ترتفع عن ادارة الشخصيات.و هي بذلك نوع من ادانة الواقع المتشبّه بالثورية، فالثورة تُصنع قدرا و تسير في غير اتّجاهها و تحرّكها أكثر من يد ترغب في الاجهاض عليها ، أمّا الذين صنعوها "فثوّار يشنقون أنفسهم ".
ضوء الكتابة :
ولدت الكتابة في مناخ جنس أدبي هو الرواية و تموطنت ضمن هذا الحقل ،الاّ أنّ نظامها المشتّت ، المتحرّك في دوائر عشوائية جعلها ترتفع عن ذلك، فهي ليست تأريخا لواقع أو وقائع كما يتبين في الوهلة الأولى انما هي شهادة ادانة لعصر انفلتت فيه الأشياء عن السلطوية ، أو بالأحرى من الممكن أن نقول بأنّها رواية الرحيل من السلطة ،الى منفى الفوضى .انّ هذه الفوضوية لم تأت من عدم محض ، بل هي انعكاس لما يجري هنا و الآن ، لذلك كانت الرواية بمثابة التحقيق الذي يعرّي و يكشف جلّ الهفوات كأن تهاجم الجلاّد و الضحية في نفس الوقت.
سياسيا ذهبت أمّ الزين بن شيخة الى استقبال الواقع من موقع آخر،و هذا الموقع لا يهدأ الاّ اذا كان بمثابة الاحتجاج الذي يعصف بالصمت و يخرّب وهم الطمأنينة، فالأحزاب بورصات و الايديولوجية أصنام و غرانيق شفاعتها ما عادت تُرتجى،و الشعوب أرقام و عبيد ، و النقابات مواخير و ابداع في التسوّل،و هؤلاء الشعراء و الفنّانون و الأطباء و القضاة و المحامون و الجامعيون و الديمقراطيون و الرجعيون،هم مجرّد غبار نفسي لأجساد راقصتها حتى الانتهازية و لوعة بناء الآتي عبر طرق الارتداد الى الخلف ،وهم أيضا مجرّد هستيريا صناديق الانتخابات في سباق الضباع للفوز بجيفة وطنية.
فكريا رسمت لنا الروائية طبيعة هذا الشعب الذي فاخر في ضربة وقت طائشة و حدّث أنّه صنع ثورة رحّب بها العالم – لقد حادت المعركة الحقيقية عن مسارها ممّا جعل من هذه الثورة عدمية بامتياز ،خاصة بعد سقوط معظم مثقّفيها في مستنقع البحث عن الهوية، فهنا يعلن الغيب زمن المفهوم المجرّد و طقس الذبح و ضرب الأعناق ،و هنا أيضا توغل الأرض في وثنيتها ، و لأنّ الزمن لا يتموقع الاّ باعلان عصور الدم و طقوس الشريعة و دفع الجزية- لقد أصبح الجميع يسارا و يمينا نموذجا فذّا في التعبير عن "الأصوليات المعاصرة "(11). أمام هذا القرف الأعمى" ندم الشهداء" أمّا الثوّار فقد حوكموا لأنّهم اتّجهوا الى شنق أنفسهم وهو ما لا يمكن أن يقبله المنطق – لكن و بما أنّ هذا وقع فعلا ، فانّ الأمر يكشف عن مدى جراح الانسان في وطن يتنكر للجميع و يخون ثوّاره و شعبه.
هنا تفتح لنا الروائية مسارا آخرا و تتساءل عن المستقبل ، فاذا كان الواقع الحالي مجرّد عبث على ركح القساوة و عدمية تتبرّج و تمعن في الاغتراب و الاستلاب ، فأيّ سرّ في المستقبل في ظلّ الجوع و القمع و التباس الهوية ؟
بشيء من التهكّم الساخر، رسمت لنا أمّ الزين مشهدا للعري ، جمع السافرة بالمتحجّبة و المتنقّبة في مكان استوجب منهنّ أن تكنّ عاريات ، ذلك أنّها أعلنت بشيء من العصيان و التخريب أوهام الصراعات الحالية ، ثمّ فتحت مسارا آخرا ، و مسلكا يتجاوز الآنية المقرفة –رغبة منها في انقاذ شفافية الانسان ،و هنا نكتشف صورة المستقبل كنوع من الحدس و النبوّة الأدبية حيث الأطفال في المساجد يلعبون ،و الحرية مطلقة في نشوءها و ما مشهد العري الاّ تلميح الى جوهر الانسان الأوّل ، في مناخ البدائية.
من هنا تكاد الروائية تجزم، بأنّ الانسان ، هذا الشخص المتعطّش للحبّ و الكمال ، يبقى صامتا لدهور ، لكنّه في كل مرّة يُبعث حيّا من بركنة محرقته، و بصوت الاحتجاج و الارتجاج لزلزال يأتي شبقا للتخريب و حالما باعادة الأرض الى سديمها و الى عذريّتها الأولى حتى تكون جديرة بالحبّ .و يبقى هذا الانسان جاهزا للتحوّلات القصوى ، تفنيه كل مرّة انهزاماته و انكساراته ، لكنّه يعود مجدّدا كالسيل ، محمسا مزبدا ضدّ السيزيفية و يتجه الى تغيير العالم والحياة بعناد الصخر و نقمة البراكين ..
هوامش :
1)العبارة لمحمد لطفي اليوسفي " لحظة المكاشفة الشعرية – مدار الرعب -.
2)د.أمّ الزين بن شيخة المسكيني " جرحى السماء" ص.7
3)م.ن ص .32
4)م.ن ص.15
5)م.ن ص.37
6) جايمس غليك ، نظرية الفوضى:عالم اللامتوقّع ، ترجمة أحمد مغربي ، دار الساقي ،2008 ،ص.19
7)أم الزين بن شيخة ،م ن، ص.19
8)م.ن، ص.23
9)م.ن ، ص.13
10)ليفي شتراوس ، الأسطورة و المعنى ،ترجمة صبحي حديدي،دار الحوار، اللاذقية ،1995،ص.63
11)العبارة لروجيه غارودي من كتابه " الأصوليات المعاصرة ".



#حاتم_التليلي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
- مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
- إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
- الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
- يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
- معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا ...
- نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد ...
- مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
- مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن ...
- محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حاتم التليلي - زمن الكاووس : قراءة في رواية جرحى السماء لأم الزين بنشيخة المسكيني