|
الاتجاهات المثالية والمادية في الفلسفة الأوربية (الحلقة الأولى)
عدنان عباس علي
الحوار المتمدن-العدد: 4195 - 2013 / 8 / 25 - 16:47
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
سيجري الحديث في هذه الحلقة عن الاتجاهات المثالية والمادية في الفلسفة اليونانية. فهذه الفلسفة هي التي تناولت بقدر كبير من التحليل الدقيق والنظرة المتفحصة المسائل المتعلقة بالعالم المحسوس وعالم ما وراء الطبيعة.
فمع أن أفلاطون (428-348 ق. م.)، قد سار على نهج معلمه سقراط، فجعل من دراسة النفس الإنسانية نقطة البداية في كل بحث فلسفي، إلا أنه لم يلبث أن جعل الفلسفة ذات طابع عام يستوعب موضوعات الطبيعة والنفس الإنسانية والأخلاق وعالم ما وراء الطبيعة، عالم الميتافيزيقيا.
وفلسفة أفلاطون جاءت للرد على مادية الطبيعيين ونسبية المثل العليا عند السوفسطائيين. لقد ادعى الماديون "وحدة العالم": فهو لديهم عالم واحد يتكون من الوجود (الذرة) واللاوجود (الخلاء الذي تتحرك ضمنه الذرات). يرفض أفلاطون هذا الزعم ويؤكد أن الكون يشتمل على عالمين: عالم مادي يتكون من الأشياء المادية التي يمكننا التعرف عليها من خلال ما نمتلك من حواس، وعالم مثالي أعلى من عالمنا المادي، إنه عالم الجواهر الأزلية، الأبدية الثابتة، إنه عالم الخير والحق المطلق، بعبارة أخرى إنه عالم إلهي.
ولكن ما هو تفسير هذا؟ إن معناه هو أن عالمنا المادي عالم متحرك، وفي تغير مستمر، ولذا فإن ما نعرفه عنه اليوم، لن يكون بعد انقضاء فترة وجيزة على ما عرفناه، إنما سيكون قد تغير تماماً. ومن هنا فإن ما يعتبره الناس معرفة عن أحوال هذا العالم المادي هو في الواقع العملي ليس معرفة حقيقية مطلقة، بل هو إلى الظن أقرب.
إن المعرفة الحقيقية المطلقة لن نحصل عليها حسب رأي أفلاطون، إلا إذا كان ما نحاول أن نتعرف عليه ثابتاً، غير متغير، أزلياً. إن هذا هو عالم ما وراء الطبيعة، إنه عالم روحي وعقلي، وذلك لأننا لا نستطيع أن نتعرف عليه بالأحاسيس، إنما نستطيع أن نتعرف عليه بالعقل، وبالعقل فقط. ومغزى هذا هو أن أفلاطون لم يكن مهتماً بعلم طبيعي معين، لأن مثل هذا العلم لا وجود له، بل كان شديد الاهتمام بعلم يتعدى الإدراك الحسي ويمكن تحصيله بالفكر وحده: علم ما وراء الطليعة.
لقد كانت فلسفة أفلاطون وتأكيده على ثنائية الوجود، أي تأكيده على وجود عالم مادي نحس به في سياق تجاربنا اليومية، وعالم ميتافيزيقي، عالم روحي، عقلي، لا نستطيع أن نتعرف عليه من خلال حواسنا، وإنما من خلال العقل، بداية الاتجاه المثالي في الفكر الفلسفي والنقيض التام للاتجاه المادي.
ففي حين ينكر الاتجاه المادي وجود خالق عاقل ومدبر حكيم للكون، يصنف الاتجاه المثالي الوجود إلى عالمين وفي مراتب مختلفة، العالم المادي وفوقه العالم اللامادي، عالم الميتافيزيقيا، عالم ما وراء الطبيعة المادية، العالم الذي خلق العالم المادي.
ولا ريب في أن ثمة غموضاً يكتنف فلسفة أفلاطون وفكرته عن الله. فهو كثيراً ما أطلق اسم الإله على بعض المُثل كالخير والجمال والنفس العالمة.
كما يكتنف الغموض محاولته إثبات وجود الخالق تعالى أيضاً، فحسب اعتقاده لا بد أن يكون سبب الوجود، أو حسب تعبيره، العلة الحقة للوجود، عاقلة تدرك ما ترمي لإيجاده قبل وقوعه، فتضع كل ما تحتاج إليه من الوسائل بما في ذلك المادة، فتستخدمها العلة العاقلة كوسيلة لها وموضوع لفعلها فتوجهها إلى ما تعقل من أهداف.
وهذه الفكرة تنطوي على ما يقال عادة من أن الاتجاه المثالي يرى أن العقل سابق على المادة، تمييزاً له عن الاتجاه المادي الذي يرى أن المادة هي الأساس الأول للوجود وأن العقل قد انبثق بطريقة ما عن المادة، أي أن المادة سابقة على العقل.
وكما هو معروف، لم يكتف أرسطو بنقد آراء معلمه أفلاطون فقط، بل قدم إضافات عديدة في نطاق البحوث الفلسفية أيضاً، وبلور أفكاراً كانت قد لعبت دوراً مهماً في البحوث المثالية اللاحقة عامة وفي فلسفة توما الأكويني على وجه الخصوص.
ومن أهم المآخذ التي أخذها أرسطو على فلسفة أفلاطون ترفعه عن العالم المادي، عالم الحواس، وتحليقه في عالم العقل، مجافياً بذلك قواعد المنطق ومعارضاً الفطرة الإنسانية التي أُهْلِتْ بملكات الإدراك. فأفلاطون يسبح في سماء الخيال، ولذا فإنه جعل من عالم الخيال واقعاً ومن الواقع عالماً للخيال، وهو في كل هذا لم يستطع أن يشرح الكيفية التي يرتبط بها العالم المادي بالعالم العقلي. وفكرة ثنائية الوجود هذه لم تنل رضا أرسطو ولم تحظ بتأييده، فهو يرفضها ويبني فلسفته الجديدة على فكرة وحدة الوجود.
وتتمثل فكرة وحدة الوجود لدى أرسطو بمحاولته ربط سلسلتي الوجود الأفلاطونية: العالم الحسي - العالم المادي - وعالم العقل - العالم المثالي - من خلال تمييزه بين المادة والصورة، فالمادة الخام التي تستعمل في صناعة المنضدة الموجودة أمامي مثلا هي المادة التي تتكون منها هذه المنضدة. إن هذه المادة لازمة بالتأكيد لخلق هذه المنضدة، إلا أنها وبدون شك مجرد أساس خام لم تتحول إلى ما هي عليه الآن ولم تأخذ الصفة التي انتهت إليها لو لم تدخل عليها الصورة، أي التصميم الذي يضعه النجار للمنضدة، ومن هنا يرى أرسطو أن الصورة وهي تنطبع على المادة، هي التي تجعل من هذه المادة ما هي عليه، أي أنها تضفي على المادة خصائصها وتحولها بالفعل إلى شيء، أو جوهر، أي إلى شيء ثابت حامل لصفات تميزه عن شيء آخر.
وهكذا يتبين لنا في نهاية الأمر أن الصورة عند أرسطو أهم من المادة، لأن الصورة هي الخلاقة في حين أن المادة مجرد أساس خام. فالصورة تتعاقب على المادة وتدخل عليها فتشكل منها مختلف الجواهر، أي مختلف الأنواع والأجناس على اختلاف مراتبها في عالم الموجودات، ولعل أبرز مثال على اختلاف المراتب ذلك الذي تقدمه لنا سلسلة التطور: المادة، الحياة، العقل.
والاختلاف بين المراتب الثلاث واضح. فالمادة هي الأساس الخام الذي تنعدم فيه الأحاسيس والعقل. والحياة شكل أرقى من المادة. فالنباتات لها القدرة الغذائية التي لا تتوافر عليها المادة الخام. والحياة في عالم الحيوان هي على نفس الشيء ولكن مضافاً إليها القدرة على الإحساس والتحرك، أما في عالم الإنسان فإننا نجد جميع ما سبق مضافاً إليه القدرة على التفكير. وهكذا نلاحظ، حسب ما يعتقد أرسطو، أن ثمة تقدماً صاعداً تدريجياً وأن في هذا التقدم "يسيطر كل شكل أعلى من الأشكال السابقة أكثر فأكثر على مادته. ففي الكائنات المفكرة يفرض العقل نماذجه وأغراضه على المادة كما يفرضها على الحياة. والشكل الأسمى هو القصد الإنساني الذي يسيطر تماماًً على المادة.
ومن هذا نستنتج أن المقصود هو ليس أن المادة الحية تتكون من مادة مضافاً إليها حياة، بل يجب أن ننظر للحياة على أساس أنها شكل من أشكال المادة نفسها. ولذا فإننا عندما ندرك العقل وهو يفكر لا يجوز لنا أن نستنتج أن العنصر الروحي قد تفاعل واندمج في العنصر المادي، إنما مغزى هذا هو أن العقل، الشكل الجديد، الشكل الأعلى من المادة، قد أخذ يفكر.
إن هذه هي فكرة وحدة الوجود التي طرحها أرسطو للرد على فكرة ثنائية الوجود الأفلاطونية.
وما من شك في أن نظرة أرسطو أكثر إيجابية من نظرة أفلاطون. فأرسطو لم يعد ينظر للبدن وكأنه شيء يعيق العقل، شيء ينتمي إلى عالم الحواس، إنما أصبحا وحدة واحدة متلازمان: المادة الأساس الخام والعقل الصفة المميزة لمرحلة التطور التي بلغتها المادة من خلال الصورة التي انطبعت عليها. فالعقل لا يمكن أن يوجد بمفرده وبمعزل عن المادة، مثلما لا يمكن أن توجد المادة الحية العاقلة، الإنسان، بدون صفته المميزة له عن النبات والحيوان: العقل. فالإنسان من دون عقل ليس إنساناً بتاتاً، كما وأنه ليس هذا الإنسان من دون عقله حتماً.
ولكن ما هي الغاية من هذا الوجود؟ وما هي غاية الأشياء الموجودة هذه؟ يرى أرسطو أن ثمة غاية لكل الأشياء الموجودة: السعي لكي تصبح على أحسن حال وأكمل وجه.
إلا أن فكرة السعي لتحقيق الكمال لا تعني هنا تحول شكل معين إلى شكل أعلى بالصيغة التي آمن بها هرقليطس في سياق فلسفة التغير الدائم التي جاء بها. إن هذه الفكرة لا تتفق مع نظرية أرسطو بشأن سعي الأشياء لتحقيق كمال يتزايد على باضطراد.
فنظرته إلى العالم بأسره تقوم على أساس استمرار الشيء على ما هو عليه بموجب صورته، مما يمنع حدوث أي تغير. فالنبات لا يمكن أن يتطور حتى يصبح حيواناً، تماماً مثلما لا يمكن أن يتطور الحيوان حتى يبلغ مرتبة الإنسان.
ولكن ما هي القوة التي تدفع الأشياء للحركة والسعي لتكون أكثر كمالاً؟ إن جواب أرسطو على هذا السؤال واضح وبين، فهو على اعتقاد تام أن هناك دافعاً غريزياً، أي ميلاً طبيعياً يدفع الأشياء، أو بصورة أدق، يجذب الأشياء نحو الأعلى لتحقيق ما هو أفضل. إن هذه الفكرة هي فحوى نظرية الغائية عند أرسطو.
ولكن وإذا كانت غاية الأشياء التحرك الدائم نحو الغايات التي تسعى لتحقيقها، ألا يوجد محرك لهذا التحرك؟ أي من أين تولدت هذه الحركة الفطرية التي تتحرك بموجبها الأشياء نحو الأفضل؟ يعترف أرسطو أنه لا بد أن يكون لكل متحرك محرك، وأن الله هو المحرك الأول الأزلي.
وفكرة المحرك الأول الأزلي ضرورية هنا، فبما أن كل متحرك لا بد له من محرك، وهذا المحرك لا يمكن أن يحتاج إلى محرك آخر يستمد حركته من غيره، وإلا لتسلسل الأمر إلى غير نهاية، فلا بد من أن ينتهي الأمر إلى محرك أول، أزلي، يحرك ولا يتحرك، أو يفعل ولا ينفعل بغيره، وإلا لما كان أولاً. وتبعاً لهذه الفكرة وانطباقاً مع فلسفته في الصور التي تحدثنا عنها آنفاً يعتقد أرسطو أن الصورة التي نجدها متضمنة في الأشياء بوصفها طبائعها الجوهرية، ما هي إلا أفكار الله نفسه.
إن هذا هو ملخص فلسفة أرسطو في الوجود وماهيته وسر حركته العقلانية المنتظمة. وكما سبق أن نوهنا فلقد لعبت هذه الفلسفة، بعد أن اقتبسها الغرب المسيحي من المفكرين العرب والمسلمين، دوراً مهماً في الاتجاهات الفلسفية اللاحقة وأثرت تأثيراً كبيراً على الفكر اللاهوتي بعد أن اكتشفها ورممها توما الأكويني، وظلت إلى ما يقرب من الأربعمائة عام أساس المدنية الأوربية.
إلا أننا نجد بين أرسطو وتوما الأكويني ازدهار اتجاهات فلسفية أخرى لعبت هي الأخرى دوراً مهماً في الاتجاهات الفلسفية التي ظهرت فيما بعدُ.
ويمكن حصر هذه الاتجاهات بالتيارات الفلسفية الثلاث التالية: الأبيقورية والرواقية والأفلاطونية المحدثة.
وعاصرت الرواقية الفلسفة الأبيقورية، أما الأفلاطونية المحدثة فإنها تعود إلى العصر الروماني بالرغم من أن جذورها ترجع إلى العهد الإغريقي أيضاً.
وتُنسب الفلسفة الأبيقورية إلى أبيقور (Epikur) أحد الفلاسفة اليونانيين الذي وُلد في جزيرة ساموس عام 342 ق. م. وأسس في عام 306 ق. م. مدرسته الفلسفية في أثينا.وكانت المدرسة تضم جماعة صغيرة تعيش في بيت أبيقور وعلى أرضه، منعزلة عن صخب الحياة ونزاعاتها. وكان للأمراض التي عانى منها أبيقور طيلة حياته أثر كبير في صقل أفكاره وبلورة فلسفته. إذ تعلم كيف يحتملها دون شكوى ويستسلم لها دون بكاء، فجاءت فلسفته تبشر أفراد المجتمع أن على الإنسان أن يسعى بكل ما أوتي من طاقات لبلوغ حالة الانسجام النفسي والطمأنينة لا يعكر صفوها شيء.
لقد كانت غاية الحياة عند أرسطو هي سعادة الإنسان، فهذه هي الخير الأعظم. إلا أن السعادة لم تعني عنده "اللذة"، فهذه مطلب العبيد والبهائم حسب اعتقاده، السعادة أو الخير لا يتحقق على ما يرى أرسطو إلا في إطار حياة التأمل العقلي، إن هذه وحدها هي الحياة الفضلى على الإطلاق. أما عند أبيقور فاللذة هي الخير الأسمى، ولولاها لكانت الحياة السعيدة مستحيلة. إلا أن اللذات لا تشتمل، حسب ما يعتقد أبيقور، على ملذات الجسم فقط، إنما على ملذات العقل أيضاً، وتبعاً لهذا الرأي فإنه يتوجب على الإنسان الفاضل أن يحصر همه في تحقيق الذات فقط، وأن كل ما تبحث فيه الفلسفة من موضوعات وكل ما تتصدى لبحثه يجب أن يتمحور أولاً وأخيراً حول ما له صلة بمقومات اللذات الإنسانية وما عدا ذلك فهو دون جدوى.
وعلى ما يبدو فثمة تناقض بين ما كان أبيقور يدعو إليه وسلوكه اليومي. فعلى الرغم من رفعه شأن الملذات الحسية والعقلية، إلا أنه ظل في واقع الحال يعيش حياة تقشف وعزوف عن ملذات الحياة ومتعها. إلا أن كلمة "أبيقوري" أصبحت فيما بعدُ مرادفة لحياة الترف والمتعة وسبيلاً إلى الأنانية والتفاني في طلب اللذات والاعتداد بالفردية، وتفسيراً للقوانين والأهداف التي تحكم تصرفات الأفراد وترشدهم إلى ما هو خير (اللذة) وما هو شر (الألم) في أفعالهم.
وتأثير الأبيقورية على الفلسفة الغربية، سواء بالمفهوم الذي رمى إليه أبيقور نفسه أو بالمفهوم الذي أخذ به الأبيقوريون من بعد، يتضح لنا بصورة جلية في فلسفة اللذة التي بنى عليها هلفيثيوس (Helvetius) وبنتام (Bentham). فما كان عند أبيقور الهدف الأول الذي يتوجب على الفلسفة دراسته وتوضيح السبل لتحقيقه، غدا عند بنتام سلوك إنساني جبلت عليه النفس البشرية. هذا وإننا لا نزال إلى يومنا هذا نلمس تأثير هذا التعريف للأبيقورية في النظرية الاقتصادية، إذ مهدت هذه الفكرة وبعد سنين وجيزة إلى مدرسة المنفعة الحدية عامة ولنظرية جيفنز (Jevons) بصورة خاصة.
وظلت الفلسفة الأبيقورية تحظى باحترام المفكرين حتى بعد انهيار إمبراطورية الاسكندر المقدوني وبزوغ فجر الإمبراطورية الرومانية. إذ أصبحت الأبيقورية فلسفة الصفوة المختارة من الطبقات العليا في الإمبراطورية الرومانية. إلا أن الفلسفة الرواقية أخذت تحل محلها بالتدريج، فسيطرت على الفكر الغربي زهاء خمسة قرون.
ومؤسس الرواقية هو زينون، الذي وُلد في قبرص خلال النصف الثاني من القرن الرابع الميلادي، وقدم إلى أثينا حوالي عام 310 ق. م. وسبب تسميتها بالفلسفة الرواقية يعود إلى المكان الذي اتخذه زينون مدرسة لنشر أفكاره، إذ كانت من عادته أن يحاضر في ممر اسمه رواق بويكيلي.
والفلسفة الرواقية ليست فلسفة يونانية أصيلة إنما مزيج من الأفكار اليونانية والعقائد الهندية والآراء الفارسية التي وجدت طريقها إلى الفلسفة اليونانية عبر نفس المسالك التي سلكها الاسكندر المقدوني عندما حطم الإمبراطورية الفارسية وبسط سلطانه ونفوذه حتى الهند. فقد تشعبت الفلسفة اليونانية إثر هذا الاتصال بالديانات الفارسية والهندية، وتحقق بهذا نقيض ما كان يعتقده الاسكندر ذاته. إذ أنه كان يعتقد أن الفكر اليوناني هو الذي سيستطيع التأثير في هذه الأرجاء من العالم. ولكنه في هذا قلل من أهمية قوة الاستمرار والمقاومة في العقل الهندي، وأغفل جوهر وعمق الحضارة الفارسية. إذ من الصعب فرض حضارة لم يتم نضوجها، وتوطيد أقدامها واستقرار أمورها، على حضارات أكثر اتساعاً وأشد تأصلاً في أكثر التقاليد والأعراف.
وتجلى خطأ تقدير الاسكندر المقدوني للأمور بعد فترة وجيزة من الزمن، فما أن توفي المقدوني، وهو لا يزال في ريعان شبابه، حتى تداعت السدود المنهارة أمام سيل الأفكار الهندية والفارسية، التي تدفقت على الأراضي الأوربية التي لا يزال العقل فيها فتياً، وزاد انتشار الديانات الخرافية الغامضة التي كانت قد تأصلت في نفوس الإغريق الأكثر فقراً، وانتشرت في كل جانب ووجدت روح الاستسلام والخمود الهندية تربة خصبة صالحة في اليونان المضمحلة البائسة.
ومحور الفلسفة الرواقية هو أولاً وأخيراً الكيفية التي يبلغ بها الإنسان السعادة على الرغم من كل ضروب الذل والهوان التي يخضع لها المرء.
وهذا السؤال لم يطرح نفسه اعتباطاً، إنما كان النتيجة الحتمية للحياة البائسة التي كانت تئن تحت وطأتها غالبية أفراد المجتمع. فقد ازدادت الفوارق الطبقية وعاش الغالبية العظمى من المستعبدين في حالة فقر مدقع وهوان لا يمكن أن يستكين له إلا من تلبدت مشاعره.
لقد تراءى طريق السعادة للفلسفة الرواقية في الانهزامية. فإذا كان الخلاص من ذل الاستعباد وتحقيق النصر أمراً مستحيلاً، فمن الأولى بالمرء أن يحتقر هذا النصر وأن يقبل بذل الاستعباد، فالاستسلام هو القناعة التي تمنح الطمأنينة. وسر الطمأنينة يكمن في خفض الرغبات والأهداف إلى مستوى ما يحققه المرء من أمور، فلا تطلب الأشياء والأمور التي تحلو لك، بل اطلبها على أساس حدوثها كما تقع، وعندئذ ستعيش مطمئن البال، هادئ السريرة.
إن هذه الجبرية اليائسة التي دعت إليها الفلسفة الرواقية، إن لم تكن القدرية بكل سماتها وعناصرها، فهي على شبه كبير بها بالتأكيد. وهكذا حلت فلسفة متشائمة خنوعة، مستسلمة، بدلاً من فلسفة أفلاطون وأرسطو المتشبعة بالأمل والمتفائلة بالنصر.
وعندما قضى الرومان على هيلينا عام 146 قبل الميلاد وجدوا هذه الاتجاهات الفلسفية تتقاسم ساحة الفكر اليوناني وبما أن الرومان أنفسهم لم تكن لديهم فلسفة يتميزون بها، لذا فقد تشبعوا بالتيارات الفلسفية العديدة التي كانت مطروحة في الساحة اليونانية وعادوا بها إلى روما مع مجمل مغانمهم، فأصبح المذهب الرواقي فلسفة النخبة في روما زهاء خمسة قرون تقريباً كما سبق أن ذكرنا، حتى اعتراه الذبول وحلت محله في القرن الثالث الميلادي وبالتدريج الأفلاطونية المحدثة كأساس جديد تقوم عليه الحياة الاجتماعية في ظل الإمبراطورية الرومانية.
وكانت الإمبراطورية الرومانية قد فقدت الكثير من النظارة التي كانت تتمتع بها في بادئ الأمر. فما أن حل القرن الثالث الميلادي، حتى كانت الفوارق الطبقية قد توسعت واندلعت نيران الصراعات الطبقية بين مستعبدي الأرض والأرستقراطية الرومانية، مما ترتب عليه فوضى عامة تتفاقم شدتها مع مرور الزمن وانهيار أخلاقي شامل. ففقد المستعبدون الأمل في حياة توفر لهم، ولو بعض الشيء، مقومات العيش البسيط، ودب الخوف إلى قلوبهم، فأصبحت الغاية القصوى بالنسبة لهم هي الإفلات من مصائب الحياة الدنيا.
في هذا الجو العام كان لا بد أن تتبلور فلسفة تختلف شكلاً ومضموناً عن الفلسفة الإغريقية والتفاؤل العام الذي ساد آراء أفلاطون وأرسطو. فكلمة الحق النيرة لم تعد مطلوبة، إنما المطلوب الآن هو صياغة فلسفة تخدر الجماهير المتمردة وترشدها إلى طريق الاستسلام والخضوع، فلسفة وكأنها سيارة إسعاف تسير وراء موكب الحياة وتحصد من أنهكهم الكفاح ومن أصيبوا بجراح.
إن الأفلاطونية المحدثة هي التي أخذت على عاتقا القيام بهذه المهمة على خير ما يرام.
ظهرت الأفلاطونية المحدثة على يد إفلوطين الذي وُلد عام 205 ميلادي في أسيوط بمصر، وانتقل منها إلى الإسكندرية فيما بعد للدراسة هناك، وفي عام 245 رحل إلى روما وظل فيها حتى توفي عام 271. وكانت الإسكندرية في تلك الحقبة من الزمن مركزاً فكرياً مهماً، تلتقي فيه شتى الآراء ومختلف الفلسفات. فقد كان لكل من أفلاطون وأرسطو أتباعاً هناك، مثلما كانت ملتقى خرافات الديانات الشرقية واليهودية وفلسفة الهند المتشائمة الداعية إلى نبذ العالم الحسي برمته، لأن هذا ليس إلا مجرد وهم لا غير والقائلة بأن الحقيقة والسلام المنشودين لا يمكن للإنسان الوصول إليهما إلا باعتزال الحياة والعيش عيشة المتصوفين.
ووجدت فكرة التصوف وخرافات الديانات الشرقية القديمة وآراء الكهنة اليهود في راء أفلاطون (الخاصة بعالم ما وراء الطبيعة، أي العالم الذي لا يمكن إدراكه عن طريق الحواس، إنما بالعقل فقط) مكملاً طبيعياً لها، فامتزجت هذه الآراء جميعاً مكونة فلسفة جديدة سُميت بالأفلاطونية المحدثة، لأنها ابتعدت عن فكرة أرسطو بوحدة الوجود وعادت ثانية إلى ثنائية الوجود وثنائية المعرفة التي جاء بها أفلاطون.
وكان إفلوطين أول من عرض هذه الفلسفة بصورة متكاملة. وبالرغم من أن هذه الفلسفة كانت وثنية وما جاءت إلا للرد على المسيحية، إلا أنه أصبحت فيما بعد الأساس الفلسفي الذي تقوم عليه الكاثوليكية، خاصة فيما يتعلق بفكرة الثالوث، حيث أن هذه الفكرة لم تكن في بادئ الأمر من صلب الديانة المسيحية، إلا أن الأسقف أغسطين (354-430) كان قد اقتبسها من إفلوطين كي تصبح من الآن وحتى يومنا الراهن عماد المذهب الكاثوليكي.
وتقوم الفلسفة الأفلاطونية المحدثة على أن كل شيء في الوجود ينبع من مطلق مبهم، وهذا المطلق المبهم هو الله تعالى. إلا أن هذا المطلق المبهم لا يمكن التعرف عليه بالحواس كما لا يمكن إدراك أياً من صفاته إدراكاً صحيحاً بالتفكير، إنما بالحدس الصوفي، وذلك لأن تجربة التفكير العقلي أدنى مرتبة باعتقادهم من الحدس الصوفي، أي أن المرء سيدرك وجود الخالق تعالى فقط عندما تتخلص الروح من ربقة الجسد ومن كافة الصفات البشرية المرتبطة بالجسد تخلصاً كاملاً. بعبارة أخرى، إن المرء يشعر بالذات الإلهية فقط عندما تتخلص الروح من سجنها المظلم وتفنى في الذات الإلهية فناءاً تاماً.
ولما كانت إمكانية البشر غير متساوية في التجرد من الجسد والاتحاد مع الذات الإلهية، لذا آمنت الأفلاطونية المحدثة بوجود وسطاء بين الخالق والإنسان، وسطاء على شكل أرواح وعفاريت وبشر، تقدم للإنسان مختلف المساعدات التي تنقصه لإدراك الخالق تعالى. وهكذا تحول هذا المذهب الأفلاطوني المحدث بأسره على مرور الزمن إلى علم جنوني بالغيب، فعادت قصص الآلهة القدماء إلى الوجود كأساطير ذات مغزى روحي عميق وأصبحت المراتب المختلفة للفيض الإلهي بمثابة أنظمة مختلفة ودرجات متفاوتة من موجودات روحية، بما في ذلك عفاريت من شتى الألوان، وأدت، بالتالي، إلى امتزاج الإيمان بالسحر الذي امتازت به العصور الوسطى، وهي نزعات تظهر بقوة كلما وجدت ظروف اجتماعية سيئة تتطلب تعويضاً أسطورياً على وجه السرعة.
أما على المستوى الفلسفي، فقد أصبحت فكرة الخالق جل وعلا - فكرة الله العلي القدير- أقل مفهومية على مر الزمن. لقد حولت الأفلاطونية المحدثة الديانات الوثنية الشعبية إلى فلسفة بما قدمته من تفسيرات مصطنعة لأساطيرها، كما أنها حولت الفلسفة إلى دين نظراً لما أسبغته من أهمية جوهرية على هذه الأساطير ومن هنا كانت هذه الفلسفة بمثابة نهضة وثنية جمعت بين التصوف والتفكير، وقد ترتب عليها أن ظهرت بمظهر براق جديد في نظر دوائر واسعة، لا سيما بين الطبقات المثقفة.
التحمت هذه الفلسفة الوثنية اليائسة المستسلمة باللاهوت المسيحي، وخاصة الكاثوليكي، بحيث لم يعد بالإمكان فصلها عنه دون تمزيق شمل المسيحية ذاتها.
وهكذا فقدت تعاليم السيد المسيح (عليه السلام) الكثير من رونقها وطهارتها الأخلاقية، وتحولت عن مغزاها كثورة عظيمة ضد التمييز والظلم، لتصبح من الآن وحتى عصر النهضة، إن لم نقل وحتى الآن، تقشفية في ظاهرها على الأقل، يلعب النساك والقديسون والأحبار فيها دور الوسطاء بين الخالق والإنسان وتؤمن بأن ثمة تضاداً بين الروح والبدن. وأن الإنسان في جوهره عاص، آثم، إلا أنه يستطيع أن يحقق الخلاص من خلال الوسطاء، أي الكنيسة.
كما تأثرت هذه العقيدة باليهودية ومزاعمها بخصوص شعب الله المختار تأثراً كبيراً، فادعت الكنيسة الكاثوليكية هي الأخرى أيضاً أن الله يصطفي أناساً معينين في هذه الحياة التي لا أهمية لها إلا من حيث أنها مرحلة استعداد للحياة الآخرة.
أما بخصوص العقل والتفكير العقلي ودورهما في كل الأمور فقد ادعت الفلسفة الكنسية في هذه الفترة أن لا دور للعقل في كل هذه المسائل والمواضيع. فالمعرفة الحقة بالخالق لا تتحقق بالعقل وإنما بالتجرد من دنس البدن وباتحاد الروح مع بارئها. فبالعقل لا يمكن أن نستدل على وجود الله، وما تثبت صحته بالعقل يمكن أن يكون غير صحيح بنظر الدين.
ومن هنا كان المبدأ الذي أقاموا عليه دراساتهم هو أنه يجب على المرء أن يؤمن أولاً ومن ثم أن يفكر.
وظهر فيما بعد مفكرون صعب عليهم الإيمان بالهرطقات التي كانت تزعمها الكنيسة، إلا أن دور هؤلاء المفكرين ظل، ولفترة طويلة من الزمن، ضئيلاً جداً، ولم يحدث تطور ملموس إلا بعد أن تبلورت فلسفة توما الأكويني (1225-1274).
مصادر الدراسة: برتراند رسل، حكمة الغرب، الجزء الأول، ترجمة الدكتور فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 1983 جون لويس: مدخل إلى الفلسفة، ترجمة، أنور عبد الملك، بيروت 1978 ديورانت: قصة الفلسفة، ترجمة: د. فتح الله محمد المشعشع، بيروت 1979 محمد بيصار: الفلسفة اليونانية، دار الكتاب العربي، بيروت 1973 مصطفى غالب: أفلاطون، بيروت 1979
يتبع: الاتجاهات المثالية والمادية في فلسفة التنوير (الحلقة الثانية)
#عدنان_عباس_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
آفاق التعاون بين الاتحاد الأوربي ودول المغرب العربي في مجال
...
-
الصناديق السيادية - وأهميتها في النظام المالي الدولي
-
النشاط الاقتصادي الصيني في أفريقيا: أهو استعمار جديد أم منهج
...
المزيد.....
-
جيم كاري في جزء ثالث من -سونيك القنفذ-.. هل عاد من أجل المال
...
-
الجولاني: نعمل على تأمين مواقع الأسلحة الكيميائية.. وأمريكا
...
-
فلسطينيون اختفوا قسريا بعد أن اقتحمت القوات الإسرائيلية مناز
...
-
سوريا: البشير يتعهد احترام حقوق الجميع وحزب البعث يعلق نشاطه
...
-
مصادر عبرية: إصابة 4 إسرائيليين جراء إطلاق نار على حافلة بال
...
-
جيش بلا ردع.. إسرائيل تدمر ترسانة سوريا
-
قوات كييف تقصف جمهورية دونيتسك بـ 57 مقذوفا خلال 24 ساعة
-
البنتاغون: نرحب بتصريحات زعيم المعارضة السورية بشأن الأسلحة
...
-
مارين لوبان تتصدر استطلاعا للرأي كأبرز مرشحة لرئاسة فرنسا
-
-الجولاني- يؤكد أنه سيحل قوات الأمن التابعة لنظام بشار الأسد
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|