أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف حطيني - القصة القصيرة جداً في الإمارات















المزيد.....


القصة القصيرة جداً في الإمارات


يوسف حطيني

الحوار المتمدن-العدد: 4180 - 2013 / 8 / 10 - 13:17
المحور: الادب والفن
    




نشأة حديثة جداً
حين نتحدث عن تاريخ نشأة القصة القصيرة جداً في الإمارات، فإننا نقصد كتابة هذا النوع من القص بقصدية تجعل من هذا الشكل هو الوحيد، أو الغالب على الأقل، في مجموعة قصصية محددة. ولعلّ من اللافت ألا تحمل المجموعات القصصية التي تنتمي إلى هذا النوع (وهي قليلة جداً) على غلافها عبارة قصص قصيرة جداً، وربما كان هذا يعود إلى تشكّل الوعي الإبداعي الذي سبق تشكّل الوعي النقدي عند الكُتّاب، فأنتجوا ما أنتجوه ضمن سياق القص القصير.
وعلى الرغم من وجود شذرات قصصية قصيرة جداً في بعض المجموعات القصصية الإماراتية إلى زمن ربما يعود إلى نحو ربع قرن، فإنّنا نظن، وفي حدود اطلاعنا، أنّ البداية الفعلية لهذا النوع من القص بدأت مع مجموعتين قصصيتين صدرت الأولى عام 2011، والثانية 2012 وهما على التوالي:
· "لا عزاء لقطط البيوت" لعائشة خلف الكعبي.
· "تفاحة الدخول إلى الجنة" لسلطان العميمي.
وتمتاز هاتان المجموعتان بأنهما ارتضتا هذا الشكل الجديد شكلاً غالباً للقصص فيهما، ولكلٍّ من هاتين المجموعتين ميزتها الفنية التي تحسب لها، فإذا كانت عائشة خلف الكعبي هي رائدة القصة القصيرة جداً على مستوى الإمارات، وهي صاحبة شكل يبدو لي أقرب إلى الشكل المغاربي للقصة القصيرة جداً من حيث اشتغالها على تفاصيل القص الصغرى، فإنّ سلطان العميمي بدا أقرب إلى الشكل المشرقي الذي يعتمد تكثيفاً أشدَّ، ويجعل اللغة مجرد إشارات برقية تحمل الحدث ودلالته.
ولا يمكن لنا هنا أن نزعم أنّ بداية القص القصير جداً، بوصفه شكلاً مستقلاً، موجود عند هذين القاصين قبل ذلك، تحت تسويغ أنهما أنتجا نصوصاً قصصية قصيرة جداً في مجموعات سابقة، لأنّ هناك نصوصاً أخرى، منثورة أيضاً في تضاعيف المجموعات القصصية، ولا بأس هنا أن نشير إلى نص مبكّر جداً لناصر جبران، وهو نص جميل اللغة، وارف الدلالة، يقترب كثيراً من حيث الأركان والتقنيات إلى هذا النوع، وإن كان يحتمل بعض التكثيف، وهو نص دون عنوان، مؤرخ في الشهر السادس عام 1991:
"تنهّدَ بحرارة واحتراق أحد الواقفين، اختلط زفيره بزفيري ثم أردف قائلاً كمن يودّ إيصال صوته للآخر، والذي هو أنا:
هل رأيت ما فعلته الصخرة الكبيرة المتدحرجة من أعالي الشمال بالقرية الساكنة في هجيع الليل، وكيف سحقت الأبرياء، وشرّدت أهلها. ومن بقي فيها من الشرفاء طاردتهم الأحذية الغليظة ففجعت بفجيعتهم كل القرى المجاورة؟
قلت: رأيت كل ذلك.. أبصرت الفزع والجرح في المآقي. وفي الصدور مرارة الصديد.
كان طفلي لا ينام إلا صارخاً، ولا ينهض إلا باكياً، ولا يرسم في دفاتره حتى اللحظة إلا جثثاً وأوصالاً مبتورة تسيل منها الدماء، وأسيجة تبرز من خلفها أفواه مستنجدة، وعيون شاخصة بالرعب.
قال: لنترك نوافذنا مشرعة للشمس حتى لا نخيف أطفالنا الصغار؛ فالشرفات المعتمة قاتمة بالفعل.
لك أتبسط معه كثيراً في الحديث، واكتفيت بوداعه مخافة الجدران والعيون المتلصلصة.
سمعته يقول بصوت خفيض: انتبه، أسمعُ أصوات أحذية قادمة. حين التفت لم أر أحداً سواي، وأن الذي غادرني هو أنا[1]".
ولعلنا هنا نشير إلى نصوص تمت كتابتها قبل أكثر من عشر سنوات، من مثل نصّ "الغراب" لريا مهنا سلطان البوسعيدي[2]، ونص "موت جدّتي" لفاطمة المزروعي[3]، ونصوص أخرى لفاطمة الكعبي منها نص بعنوان "أربعاء"[4]، وسوف نعالج بعض هذه النصوص في أثناء هذه الدراسة.
* * *
يبدو النص الإماراتي القصير جداً، على قلة نماذجه وحداثته، مستوعباً، إلى حد معقول، أركان القص القصير جداً، ومستثمراً ما أمكن من تقنياته، ولا شك أن استمرار التجربة الإبداعية واتّساعها سيقود بالضرورة إلى تطوير الأدوات والتقنيات التي يلجأ إليها القاصون. وحسبهم ها هنا أنهم في بداية الطريق لم يتعثروا كثيراً في إنتاج نص تتوفر فيه عناصر القص الأساسية، وحافظوا إلى حدّ كبير على نص جدير بالانتماء إلى هذا النوع الأدبي.
* * *
في ظلال الحكائية:
لا بد من التنبيه أولاً على أنّ القصة القصيرة جداً هي سرد حكائي بالدرجة الأولى، ولا وجود لهذا النوع الأدبي خارج إطار القَص، أيّ أن كل نصّ مهما كان جميلاً ومعبّراً وشاعرياً لن يكون جديراً بالانتماء لهذا النوع الأدبي، إذا فقد الحكائية التي تقوم على أفعال تقوم بها شخصيات في أزمنة وأمكنة محددة، تقود الحدث من بدايته إلى نهايته، وفقاً لحبكة محكمة.
في قصة "لربع ساعة فقط" يقدّم سلطان العميمي حكاية طريفة، تستند إلى إقامة علاقات غير متوقعة بين الشخصيات، وتنوس بين الواقعية والفانتاستيكية، وتستثمر تقنيات سردية متطورة، لإنتاج دلالتها الاجتماعية:
"سهر وزوجته لمشاهدة فيلم عن فتاة اكتشفت أنّ حبيبها يرتبط بعلاقة غرامية مع أخرى، وفي اللقطة التي كانت فيها تبكي وحيدة في غرفتها بسبب ذلك، غفت الزوجة على الأريكة، فمدّ الزوج يده إلى الشاشة لمسح دموع الفتاة التي مدّت يدها لتسحبه إليها. ثم ظهر على الشاشة فاصل إعلاني لربع ساعة فقط، عاد بعدها الزوج السعيد إلى مشاهدة الفيلم إلى جانب زوجته النائمة[5]".
ثمة، إذاً، على الرغم من قصر النص ثلاث شخصيات تتحرك في فضاء البيت (وفضاء التلفزيون) ليلاً، وتقوم بأفعال تطور الحدث الرئيس، ضمن حبكة تنطلق من بداية تعيد إنتاج نهاية القصة، وتجعل من النص كله بنية حكائية دائرية، تنجح في نقل دلالتها الساخرة إلى القارئ.
واستناداً إلى التعاقب الزمني، وإلى رؤية رومانسية حالمة، تخشى المستقبل (مثلما تمجّد الماضي)، تقدّم عائشة الكعبي قصة عنوانها "انقراض" ، ترصد تطوّر الحدث، وما يجسّده من اختلاف في نفس عُمَر الصبي الصغير الذي غيّره المكان والزمان وآثارهما، فحوّلاه من صبي يستقبل الحياة وأزهارها وفراشاتها إلى صبي آخر لا يشعر بالفراشات التي تحلق في سماء روحه، لأنها، هكذا ببساطة، تعرّضت لداء الانقراض:
"في أول يوم مدرسي، رسم عُمَر في كرّاسة الرسم فراشة تحطُّ فوق زهرة.
بعد أسبوع، رسم الفراشة تقبع عالياً على غصن شجرة.
بعد شهر.. رسم الفراشة تحلّق بعيداً في السماء.
وفي نهاية العام.. اختفت الفراشة من لوحة عمر[6]".
وعلى الرغم من أنّ المنظرين لهذا الفن يحذّرون كثيراً من غلبة الشعرية والمجاز والخيال على الحكائية، فإنّ بعض القصص الإماراتية القصيرة جداً تنجح في تقديم نصوص تفيد من كل ما سبق، وتحافظ على حكاية تسير من بدايتها إلى نهايتها دون بلادة أو تعثّر. ويمكن لنا أن نشير هنا إلى قصة "تحولات" لسلطان العميمي، الذي يوحّد من خلال لغة بديعة حكاية عاشقين:
"أخفت يديها في الغيم، فغرس يديه في الأرض..
تحوّلت إلى وردة، فصار ماءً..
نبتت، فجرى فيها![7]".
وعلى النقيض من ذلك، فإنّ ثمة نصوصاً قصيرة جداً لم تستطع أن تقدّم حكاية، مكتفية بتقديم حالة حالمة عن الذات والآخر، ونشير ها هنا إلى نص لعائشة الكعبي التي قلّما فقدت سيطرتها على الحكاية، هذا النص يحمل عنوان "ترقب"، وهو في رأينا لا ينتمي، على الرغم من جمال صوغه اللغوي، لنوع القصة القصيرة جداً، إذ لا حكاية تجعله جديراً بذلك. يقول النص:
"من خلف ستارة بيضاء، أستشعر ارتجاجات باب غرفتي..حين تقرع أبواب الغرفة المجاورة[8]".
في وحدة الموضوع:
فيما يتعلّق بالقصة الإماراتية القصيرة جداً، لفت نظري أنّ ثمة إصراراً بارزاً على وحدة الموضوع، ولا تكاد تعثر على قصة تفتقد تركيزها الجوهري على موضوعها الأساسي لصالح موضوعات جانبية، وأجدني ها هنا مضطراً لإعادة التنبيه على قلّة النماذج التي قادت إلى مثل هذه النتيجة، وربما يجدر بالقصة الإماراتية القصيرة جداً التي لم تكتب بعد أن تفيد مما أُنجز حتى الآن، وأن تقتدي بالنماذج المكتوبة حتى يتم ترسيخ النوع الأدبي، قبل الاستسلام لغواية التطوير والتجديد التي تبقى مطلوبة على أية حال.
في قصة بعنوان "صبي له جد" تحشد حصة لوتاه جميع التفاصيل المكملة لنموذج شخصية الجدّ، من أجل تقديم حبكة تتمركز حول رؤية تمجّد الماضي، وتدعو إلى التمسك بكنوز التراث التي تركتها الأجيال السابقة، التي تمثّل المثل الأعلى في الانتماء، والقدرة على التوجيه، من خلال حكاية صبيّ يصدّق حكايات جدّه، بشكل يبعث الاطمئنان في نفسه وفي نفس السارد أيضاً:
"وجدته واقفاً في العراء يتلفت حوله. سألته: لماذا أنت هنا؟ قال: أنزلني سائق حافلة المدرسة لأنه كان غاضباً مني. لم أفعل شيئاً. فقط قلت له إن جدّي أخبرني أنّ الجبل الذي نسير باتجاهه يقع في سفحه وادٍ للأفاعي. فردّ غاضباً لا تقل كلاماً كهذا أمام الصغار فلا توجد افاعٍ هنا، فقد نظّفت الشركة التي قامت بشقّ الطرق المكان كلّه. أنا أعرف أنّ جدّي لا يكذب، كما أنّ السائق غريب عن منطقتنا ولا يعرف عنها شيئاً.
قلت: وماذا تفعل الآن. قال لا تقلقي سوف أنادي كلبي وسيسمع ترددات صوتي في صخور الجبال فيأتي ليصحبني إلى البيت.
لم أقلق عليه. كيف أقلق وهو يثق في جدّه[9]".
ومن أمثلة وحدة الموضوع أيضاً قصة بعنوان "ابنة العم" لفاطمة محمد الكعبي التي نشرت مجموعة قصصية تضم بين قصصها القصيرة عدداً قليلاً جداً من القصص القصيرة جداً، لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وفي هذه القصة تمركز شديد حول انتقاد الخوف الذي يحكم شكل العلاقة بين المرأة والرجل في المجتمع المحافظ:
"وقفَ أمام المرآة مزهواً بالزَّغب الخفيف فوق شفتيه، وبلحيته التي بدأت تحتفل برجولته، وصوته الذي أعلن بخشونة مبكّرة ميلاد رجل، وراح يتفنن بلفّ الغترة على رأسه مطلقاً صفيراً فرِحاً تخيّله قرع طبولٍ يوم عرسه، وتخيّلها وقد أطرقت برأسها حياءً.
بعدها بأيام تبيّن له أنّ ابنة عمّه لا تأتي إلى بيتهم، كما كانت تفعل منذ صغرها، وأنّ عمه بنى جداراً إسمنتياً بين المنزلين، وصار يسمع بكثرة: بناتنا كبرن، وأولادكم شباب[10]".
ولا بدّ لنا من الإشارة ها هنا إلى تجربة صالحة عبيد حسن التي لم تكتفِ بتوحيد الانطباع في النص السردي القصير جداً، بل جعلت نصوصها القصيرة جداً تنضوي تحت موضوع عام واحد، وتحت عنوان واحد هو (وطن يحتمل التأويل ـ صفحة من مذكرات عائد سابق)، وإن كانت هذه النصوص تنوس في معظمها بين مطرقة فقدان الحكائية وسندان طغيان الشعرية غير الموظفة، على نحو ما نجد في قصة "ذاكرة غريبة" التي تضيع حبكتها، وتلتبس دلالتها على القارئ:
"لا يذكر عن هذا الوطن أمامه شيئاً
حتى التراب لم يعد كسابق عهده
أضحى أكثر التصاقاً بالأرض
لا يرغب بأن يتبعثر في هذا الهواء الذي
يتنفسه غرباء...![11]"
غير أن الذي يوحّد هذه القصة مع مجموعة قصص "وطن يحتمل التأويل" ـ وهذا طبعاً ليس عنوان المجموعة القصصية بل مجموعة القصص القصيرة جداً التي تحتل بعض صفحاتها ـ وحدة غرضية كبرى هي العراق، وها نحن أولاء نشير إلى قصة أخرى، تحقق نجاحاً أكبر من القصة السابقة في حكائيتها وحبكتها ووضوح دلالتها، وهي قصة بعنوان "نبرة خافتة":
"صورٌ كثيرة... وابتسامات مضرجة بالصفرة... يمتصون الأصوات... يلهثون وراء سلطة من ورق، والوعود تلوكها الألسنة المعسولة كذباً، وتباع بثمن بخس.
صحيح... أنها لم تعد تعج بصور الرئيس المفدّى، لكنّ أمامه الآن ألف ألفِ مفدّى...!
ـ لمن تعطي صوتك؟
ـ أعطي صوتي لزوجتي وأولادي... "يا عمّي ما ريد شيء إلا أنهم يضلّون بخير وقدّام عيوني[12]".
القصة الإماراتية القصيرة جداً وامتحان التكثيف:
لقد بدا لي من خلال مطالعة عدد كبير من مجموعات القصص القصيرة جداً أنّ ثمة منحيين اثنين للتكثيف الذي ينتج القصة القصيرة جداً، فثمة منحى يورد تفاصيل الحكاية والزمان والمكان مكثفة، بما يمكن القارئ من جمع أشتات الحكاية، ومنحى آخر يكثف المكثف، فيذكر إشارات برقية إلى حكاية وزمن ومكان يجتهد القارئ في تخيّل أشتاتها.
ونشير ها هنا إلى العلمين الأكثر سطوعاً في القصة الإماراتية القصيرة جداً، وهما عائشة الكعبي التي ارتضت المنحى الأول للتكثيف، وسلطان العميمي الذي ارتضى المنحى الثاني، فها هي ذي عائشة الكعبي تقدّم، في قصة "انتظار" تفاصيل حكاية مهمة، تجسّد مفهومها للزمن، من خلال شخصية لها صفاتها الجسدية والنفسية:
"عندما كنت صغيرة، كنت أشفق على إصبعي الخنصر، وأمضي الساعات الطوال أتأمله محاولةً معرفة إذا ما ازداد طوله عن الأمس، كان يكبر كبقية أصابعي إلا أنه لا يطاولها أبدا! ورغم ذلك فقد كنت على يقين بأنها مسألة وقت لا أكثر. وعندما كبرت، أدركت أن إصبعي الخنصر محظوظ جداً، لأنه من الرائع أن تظل الأصغر، ومن الشجاعة ألا تكبر[13]".
في مقابل ذلك يقدّم سلطان قصصه على شكل برقيات، لا تهتم كثيراً ببناء تفاصيل الشخصيات، وتلقي بتلك المهمة على القارئ، أو ربما يلغي تلك المهمة لصالح الشخصية النموذج، ونشير ها هنا إلى قصة "تفاحة":
"في الصباح أخبرها أنّ تفاحة كانت سبباً في الخروج من الجنة..
في المساء قضم تفاحته، ودخل جنته[14]".
وبين هذين الشكلين تنحصر معظم القصص القصيرة جداً التي تنجح في تقديم مقولاتها ضمن شكل فني مقبول، بينما تحتمل قصص أخرى مزيداً من التكثيف، بسبب وجود تفاصيل غير موظفة في عناصر القص.
ومن أمثلة التكثيف الناجحة قصة "القمر ليس حجراً" لحصة لوتاه، وتجسّد فيها اختلاف زوايا النظر للمحسوسات، انطلاقاً من الخلاف حول الحياة ذاتها، إذ ثمة حوار بين شخصين، يرى الأول في القمر حجراً لا حياة فيه، بينما يرى فيه الآخر ملاذاً لمشاعره ودموعه التي تشبه دموع ديك الجن الحمصي، وهي تجري على خدي حبيبته:
"قال الرجل الواقف للرجل الجالس: يبدو القمر مكتئباً هذه الليلة.
قال له الرجل الجالس باستغراب: وهل تكتئب الأحجار؟.
بكى الرجل الواقف حين سقطت دمعة على وجنته دمعة من عيون القمر[15]".
على أنّ القاصين لا ينجحون في امتحان التكثيف دائماً، وربما لا يريدون ذلك، وقد أشرنا في بداية المقالة إلى نص لناصر جبران، يحتمل مزيداً التكثيف، لكن فائض الشعرية كان يقوده نحو دلالته بكل وضوح، وليس لنا أن نجرّد مبضع النقد، لنحكم على نصٍّ كتب قبل ربع قرن، أي قبل وجود أي تنظير لهذا الفن، في وقت لم يدّعِ فيه الكاتب أنه يكتب قصة قصيرة جداً، بل إنّنا نحن من حمل هذا النص الذي يراوح بين القصة القصيرة والقصيرة جداً، لنستعين به في الالتفات المبكر نحو تكثيف القصة القصيرة.
وفي هذا المجال أيضاً نشير إلى قصة بعنوان "موظفة" لحصّة لوتاه، وتقدّم فيه مجموعة من الأحداث المتراكبة التي تؤدي إلى دلالة واحدة، لذلك فهي تحتمل التكثيف، دون أن تخسر الدلالة التي تسعى الكاتبة إلى ترسيخها:
"كتبت إلى رئيس مؤسستها رسالة تطالبه فيها، انطلاقاً من حرصها على المؤسسة كما قالت، أن يعفي اثنين من المدراء من مناصبهم. فالأول، كما زعمت، يتداين كثيراً على حساب المؤسسة، مما يضعها تحت الكثير من الضغوطات، أما الثاني فقد قالت إنه سرّح ويسرّح الكثير من العاملين من ذوي الخبرة والاختصاص، ويبقي فقط المقرّبين منه، ومن هم يجاملونه في العمل، بغضّ النظر عن نوعية قراراته.
نظر الرئيس في الرسالة، مزّقها، ورماها في سلة المهملات، مستنكراً في نفسه أن تتطاول موظفة مثلها، وتنتقد أداء أبنائه.
بعدها رفع سمّاعة الهاتف، وطلب من نائبه تسريح الموظّفة[16]".
* * *
في أساليب صناعة المفارقة:
لقد استثمرت القصة القصيرة جداً في الإمارات المفارقة في كلا المجالين الفني والموضوعي، فقدّمتها من خلال الحدث والشخصية واللغة، كما قدمتها من خلال المنظومات الفكرية العامة التي تحكم المجتمع المحلي والعربي والإنساني.
في تنويع تقديم أشكال الحدث، قدّمت االقصة القصيرة جداً الحدث في نسقه التتابعي المألوف، وفي بنية حكايته الدائرية (كما في قصة "لربع ساعة فقط" التي سبقت الإشارة إليها، لسلطان العميمي) وفي اعتماد الحدث على الحوار، وعلى الحلم وعلى الرسالة أيضاً، ويمكن هنا أن نشير إلى قصة "ياسمين" لفاطمة محمد الكعبي التي تستثمر الرسالة في تقديم المفارقة النهائية:
"أكبره بعامين وبضعة أشهر، توثّقت علاقتي به دون أن يشعر احد من أهلنا عندما كان يرسل لي خلسةً مجلة ماجد لأحلّ له ما بها من مسابقات، فعرفتُ أني أعجبه. صباح كل يوم كان يضع لي ياسمينة في جدار منزلنا، حيث نقف أنا وأختي بانتظار حافلة المدرسة، وكنت أدسّها في صدري، لتظلّ تداعب حواسي طيلة اليوم.
بعد أن اكتمل لدي عقد من الياسمين، أرسل ذات أربعاء المجلة وفي داخلها ورقة صغيرة كتب فيها:
ـ اسألي أختك هل يعجبها الياسمين الذي أضعه لها؟[17]".
وقد تكون دلالة الحدث المعنوية في حد ذاتها صانعة للمفارقة، أي أن المفارقة تنتج عن الموقف الحكائي نفسه، على نحو ما نجد في قصة عائشة خلف الكعبي "خيارات" إذ تأخذ القاصة في صنع مفارقتها بدءاً من العنوان الذي يضع القارئ أمام احتمال خيارين، ليكتشف من ثم أنه أمام خيار ثالث، يخرج القصة من إطار التوقّع إلى الدهشة:
"مستلقية على ظهرها، فكّرت بمحمد. أتراه يكنُّ لها مشاعر حبّ؟
لكن لمَ تشغل بالها بمحمد، وهناك خالد؟!
خالد شاب وسيم وثري، وهو ببساطة حلم كل امرأة عاقل.
والأهم من ذلك أنه قد صارحها بحبه لها.
تبددت صورة خالد حين شخر زوجها عالياً، ووكزها بكوعه كالعادة[18]".
وربما تقوم المفارقة على اللغة عبر المقابلة بين أفعال محددة، وما يناقضها من مفاهيم، أي أن اللغة تكون أحد طرفي المقابلة، بينما يكون المفهوم طرفها الآخر، ولعلنا نشير هنا إلى قصة بعنوان "قيود" لسلطان العميمي التي تبنى على الفعل/ يحرس الذي يتكرر أربع مرات، لتبرهن المفارقة أنّ كلّ الحراسات لم تستطع أن تشكل قيداً، لأن الأحلام لا تحرسها (في المرة الخامسة لتكرار الفعل) سوى الحرية. تقول القصة:
"يحرسها أخوها كل صباح عند ذهابها إلى الجامعة.. يحرسها والدها عند ذهابها إلى السوق.. تحرسها أمها في كل حفلة تحضرها.. يحرس هو نافذة غرفتها كلّ ليلة.. وتحرس هي أحلاماً لا قيود عليها[19]".
كما أن ّ ثمة نوعاً آخر من المفارقة اللغوية يقوم على تكرار النمط اللغوي، إذ تشكّل التراكيب المتكررة إيقاعاً رتيباً، يجهد القاص في أن يألفه القارئ، لا من أجل أن يرسّخه في ذهنه مع نهاية القص، بل من أجل أن يكسره، ويقدّم لنا نقيضه. ومن ذلك قصة "سيرة عدّاء" لعائشة خلف الكعبي التي تقول فيها:
"عندما رسب في امتحان الثانوية العامة التحق بالجيش لتمشي الحياة.
وحين ضغط عليه والده تزوج من ابنة عمّه لتمشي الحياة.
وحين فقد ذراعه عمل حارساً لتمشي الحياة.
وحين سقط إثر نوبة قلبية علم أنّ الحياة لم تكن تمشي..
بل تركض نحو خط النهاية[20]".
أما صناعة المفارقة التي تعتمد على وضع المفاهيم، لا الأطر الفنية في مقابل بعضها، فيمكن أن نمثّل لها بقصة لسلطان العميمي عنوانها "حقيقة"، وهي تقابل بين الصدق والنفاق من جهة، والصدق والبراءة من جهة أخرى، عبر استثمار شخصية العراف الذي يشبه دوره دور المرآة التي يكثر استخدامها في صنع مفارقة القصة القصيرة جداً":
انتشرت إشاعة قوية بأن عّرافاً يفضح الكذّابين سيزور قريتنا يوم الإثنين..
وفي صباح الإثنين..
خلت الأسواق ودور العبادة والمرافق الحكومية من الناس تماماً..
وكان الأطفال يلهون وحدهم في القرية[21]".
ويذكر هنا أنّ الاستغناء عن المفارقة في النصّ السردي الصغير جداً، يخرج هذا النص من الجنس نفسه، لأنّ الحكاية دون مفارقة، ستكون دون لحظة تنوير كاشفة، صادمة، وبالتالي دون نهاية تعطي القصة القصيرة جداً انفتاحها الذي ينبغي أن يكون زاخراً بالدلالات.
استثمار الطاقة الفعلية للنبية اللغوية
كنّا قد أشرنا في غير موقع من تنظيراتنا السابقة حول أركان القصة القصيرة جداً أن هذا النوع من الكتابة مشغول بتقديم الحكاية سهمياً، وهو بالتالي يستثمر الجمل ذات الطاقة الفعلية، لأنها أكثر قدرة على تطوير الحدث. ولا نقصد بالجملة ذات الطاقة الفعلية المصطلح اللغوي الذي يحيل على كل جملة تبدأ بفعل، بل نقصد كل جملة تحمل قدرة على الفعل في ذاتها، فالخبر الذي يكون جملة فعلية، يعطي الجملة الاسمية الكبرى طاقة فعلية، والصياغة الصرفية لاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة وصيغة المبالغة يمكن أن تقوم بالدور ذاته.
ويمكن ها هنا أن نشيد بقصة قصيرة جداً بعنوان "ماء"، بلغ فيها سلطان العمميمي غاية الإجادة في توظيف طاقة الجملة الفعلية، بل زاد على ذلك، حين خرج بالفعل من دلالته النحوية إلى دلالته المعنوية، في نسج بديع لم أقرأ له نظيراً. تقول القصة:
"انبجسَ ونبعَ وتدفّقَ وانصبَّ وترقرقَ وارتشفَ وشربَ وارتوى وعبَّ وعلَّ وسالَ وتبخّرَ وتقطّرَ واستمطرَ وانهمرَ وانهرقَ وتسرّبَ وتشرّبَ وتجمّدَ وتعمّدَ واستنقعَ وغليَ وغرقَ بها بعدما أخبرته ذات ليلة أنها مائية البرج[22]".
غير أن النجاح الذي حالفه في القصة السابقة، جانبه في قصة أخرى عنوانها "نصب"، فإذا كانت قصة ماء تحتفظ بمفاجأتها للجملة الأخيرة، فإن "نصب" تبدو حكاية عادية لا إدهاش فيها، سوى استيراد مصطلحات من بيئة لغوية معينة:
"أتقن استخدام حروف النصب في عباراته، فوظّفت بذكاء حروف كلماتها التي تنتهي بالضم، وبعد أن استنفد حروف العطف، أصبح في خبر كان، وما بقي من نتائج ظلّ مبنياً للمجهول[23]".
كلمة أخيرة:
إن النصوص التي تم إنجازها حتى الآن في حقل القصة القصيرة جداً تشي بأنّ الكتاب الإماراتيين نجحوا في التقاط الحالة الإبداعية السائدة وتطويرها، من خلال أدواتهم الخاصة، وأثبتوا، على الرغم من حداثة هذا الفن، أنهم قادرون على التأثّر بالحالة الإبداعية العربية والتأثير فيها.
[1]ناصر جبران: نافورة الشظايا، دار الحوار، اللاذقية، 1993، ص 37.
[2]ريّا مهنّا سلطان البوسعيدي: الرحلة رقم 8، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، ط1، 2003، ص54.
[3]http://fatmaalmazrouy.blogunited.org.
[4]فاطمة الكعبي: مواء امرأة، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، ط1، 2003، ص60.
[5]سلطان العميمي: تفاحة الدخول إلى الجنة، مدارك، دار مدارك للنشر،دبي، ط1، 2012، ص69.
[6]عائشة خلف الكعبي: لا عزاء لقطط البيوت، ص47.
[7]سلطان العميمي: الصفحة 79 من مذكراتي، دار كتاب للنشر، الإمارات، ط1، 2011، ص13.
[8]عائشة خلف الكعبي: لا عزاء لقطط البيوت، ص59.
[9]حصّة لوتاه: في الصحراء ورد، ص51
[10]فاطمة محمد الكعبي: دهشة، دار العالم العربي للتوزيع والنشر، دبي، ط1، 2009، ص23.
[11]صالحة عبيد حسن: ساعي السعادة، ص45.
[12]المصدر نفسه، ص 43
[13]عائشة خلف الكعبي: لا عزاء لقطط البيوت، ص31.
[14]سلطان العميمي: تفاحة الدخول إلى الجنة، ص23.
[15]حصّة لوتاه: في الصحراء ورد، ص37.
[16]المصدر نفسه، ص53.
[17]فاطمة محمد الكعبي: دهشة، ص13.
[18]عائشة خلف الكعبي: لا عزاء لقطط البيوت، ص53.
[19]سلطان العميمي: تفاحة الدخول إلى الجنة، ص41.
[20]عائشة خلف الكعبي: لا عزاء لقطط البيوت، ص55.
[21]سلطان العميمي: الصفحة 79 من مذكراتي، ص27.
[22]سلطان العميمي: تفاحة الدخول إلى الجنة، ص59.
[23]المصدر نفسه، ص67.



#يوسف_حطيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أحمر صاخب لعماد أبو حطب : لقطات إنسانية في حُلّة حكائية قشيب ...


المزيد.....




- موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
- مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
- إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
- الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
- يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
- معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا ...
- نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد ...
- مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
- مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن ...
- محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف حطيني - القصة القصيرة جداً في الإمارات