عزام يوسف عمار
الحوار المتمدن-العدد: 4152 - 2013 / 7 / 13 - 12:32
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في ضوء المتغيرات الهائلة التي تتعرض لها المنطقة, و انطلاقا من نتائج الانتخابات التشريعية في كل من مصر و تونس , و ما جرى في ليبيا , و أخيرا ما نراه طافيا على أرض الواقع في سورية, ومهما دفنا رأسنا في الرمال ... فإن الحقيقة التي لا يريد أحد أن يعترف بها هي أن التيار العلماني لم يرق حتى الآن إلى مستوى (التيار) و هو في أحسن أحواله مجرد حالة فكرية نقدية لم تستطع ربط نفسها بالواقع المعيشي اليومي لإنسان المنطقة, بينما استطاع الإسلام السياسي ليس فقط اقتحام عقول العوام, بل إنه تجاوز ذلك إلى التحكم بلا وعيهم و غرائزهم , مشكلا من حيث يدري( أو لايدري) النصف الآخر من حلقة الاستبداد التي فرضتها الأنظمة الاستبدادية طوال العقود الماضية. لقد انكشفت عورة التيار العلماني من حيث ضعف تأثيره , وقلة العارفين بثوابته الراقية, و بات جليا أن المفكرين العلمانيين لا يستطيعون وحدهم ممارسة فعل التغيير الحقيقي في الوعي الاجتماعي, و إلا ما تفسير هذا الجفاء بين العوام و بين كتب المثقفين الذين أفنوا حياتهم في محاولة انتشال الإنسان المقهور من واقعه السيء , ومن أسره ( القسري الذاتي في معظمه)؟. لست باحثا ولا مفكرا , لكنني علماني بالفطرة, ومن مطالعاتي في مختلف المسائل الدينية و السياسية ترسخت قناعتي بأن العلمانية هي المستقبل المشرق الذي يمكن أن يحلم به كل (إنسان) يعيش في هذه المنطقة المحكومة منذ مئات القرون بالحروب الدينية , و النزاعات على السلطة. قبل أن أدخل في النقاط الرئيسة التي أحب أن ألفت نظركم إليها أحب أن أقول : " إن من يفهم العلمانية على أنها تعني نسف الفكر الديني , إنما يضع بيده الألغام في أساسات بناء المستقبل العلماني, لأن لكل فعل رد فعل يساويه في القوة و يعاكسه في الاتجاه".
مازال الفكر العلماني العربي قاصرا عن الإبداع , منتهجا - كنقائضه – مذهب النقل و استيراد النص , مبتعدا عن الشك المنهجي في الفكرة التي يسوق لها , عاجزا في معظم ما يقدمه من نصوص عن اتباع المنهج العلمي في البحث, مقسما المجتمع إلى عوام و خواص و خواص الخواص , متأملا في الحقيقة الإنسانية المطلقة شأنه شأن الفرق الصوفية الدينية, فيجيء خطابه مليئا بالحكم الاجتماعية الناقدة للواقع الناصحة له أخلاقيا و المنفصلة في الوقت نفسه عن تقديم طروحات تتحدث بالأرقام عن ثلاثية الفكر و الوعي و الطاقات.
لقد سقط الفكر العربي العلماني في الخلط بين الفكر و السياسة , تماما كما وقع التيار السياسي الديني في الخطأ نفسه , وبدلا من أن يكون الخطاب العلماني رقميا مستندا إلى حقائق و دراسات , بنى نظريته السياسية على أن الدين (وليس رجال الدين) غريم و عائق في وجه إعلاء قيمة الإنسان , فجعل من الدين عدوا و راح الكتاب يوجهون مدافع أقلامهم إليه, في تناقض صارخ بين ما تتضمنه العلمانية من احترام للعقيدة و بين ما يجهر به معظم المفكرين العلمانيين الطافين على السطح من عداء صريح للفكر الديني. نعم لقد غاص العلمانيون العرب في الرواسب العقلية للقهر, و اتبعوا ذات المنهج العقلي الذي يدعون أنهم جاؤوا لتحرير العقل العربي منه!.
أدرك كامل الإدراك كما يدرك معظمكم أن الإصلاح الديني هو المدخل الذي لا مفر منه لتحرر الإنسان من نير الخرافات التي دأب رجال الدين ( و ليس الدين) على حشوها في رؤوس البسطاء , و التي ساهم الاستبداد بترسيخها بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق جعل هذه الخرافات الملجأ الأخير للإنسان المقهور الذي تقض مضجعه عقد النقص و العار و يصبغ السواد معظم ألوان حياته, فرأى في الدين ملجأ لموازنة عجزه عن التحكم بمصيره , ناهيك عن دور الماورائيات في تفريغ العدوانية المتراكمة داخل الإنسان المقهور. لكن الفكر العلماني العربي وقع- عن قصد أو بغير قصد – في مطب تبخيس الآخر, و تهديد الهوية الأخيرة للإنسان المقهور. فالإنسان المتدين يستمد هويته الوجودية من منظور ماورائي بحت , و إن نسف هويته بهذه الطريقة ( سياسة الصدمة) قد أدت إلى تقوقعه أكثر و أكثر داخل منظومته الدينية الذاتية و بحثه عن ماورائيات أخرى تعيد إليه توازنه المفقود بعد كل صدمة يتلقاها , ومن معرفتي بالمتدينين أقول لكم إن جعبة المتدين و تركيبته الجينية هي أغنى و أوسع بكثير من أن تتم محاصرتها ( انظروا إلى المستوى الذي وصل إليه العلم في الغرب , فهل اختفت الكنائس, وتوجهوا شرقا هل اختفت المعابد البوذية مثلا). كلي ثقة أن التدين مرتبط ارتباطا وثيقا بعلم الجينات ( دعونا - كعلمانيين- نتوقف عن محاولة تغيير الخريطة الجينية إذا). و ليكن أقصى ما نسعى إليه هو محاربة نزعة التطرف الديني من حيث أنها ليست من صلب النص الديني نفسه, و لنعمل على تعزيز السلوك الإيجابي الذي يشجع عليه الفكر الديني المجرد , و إبراز نقاط التلاقي بين الفكر الديني الروحي و الفكر العلماني ( فهي كثيرة على مستوى الأخلاق, و غائبة تقريبا على مستوى التشريع السائد). إن إبراز احترام العلمانيين للقيم الدينية ( على مستوى معرفة الإنسان بنفسه , كالأخلاق و التفكر و التأمل) المتزامن مع رفع القدسية عن سلطة رجال الدين ( وليس الدين) , هو الجسر الذي يجب أن يقوم العلمانيون ببنائه. هذا الجسر هو الذي سيؤمن دائما منطقة الفصل بين الدين و الدولة , و سيلعب دائما دور (شعرة معاوية) التي لا بد من وجودها في أي تغيير ديناميكي.
تعالوا نعترف أن تجربة الراديكاليين كانت فاشلة في بناء الإنسان , و أن تجربة التنوير الديني في أوروبا قد أهدرت الكثير من الدماء, و هذا ما يجب العمل على اجتنابه حين تحين اللحظة المناسبة للطفرة الفكرية في العقل الإنساني العربي.
لست من مؤيدي تشكيل حزب علماني , فتحزيب العلمانية يعني تحويلها إلى حركة سياسية , مما ينسف رقيها , ويحولها إلى لاعب سياسي بدلا من أن تكون حالة فكرية عامة تقبل الآخر و يقبلها الآخر مهما كان انتماؤه السياسي. دعونا مثلا نقلْ إن الكوزموبوليتانية مفهوم مقبول من الأطياف البشرية المختلفة أكثر بكثير من الشيوعية , لأنه أكثر مرونة , ومتحرر من الأيديولوجيا.
كذلك يجب أن يحرص العلمانيون على بقاء الفكر العلماني حالة حضارية تستثير الأنا العليا - الإنسانية - في العقل البشري. و كي يتحقق ذلك لا بد من ترجمة أفكارهم رقميا من خلال مناهج و مؤسسات تقدم خدمات عملية للبسطاء و المثقفين على حد سواء , و هكذا فقط يمكن أن يتم التحرير التدريجي للعقل المتخلف من الموروث الثقافي الذي سبب الكوارث للمنطقة .و أخيرا لا بد للعلمانيين من أن يكونوا عمليين , و أن يمتلكوا مهارة التسويق الثقافي, و أن يكونوا حريصين على تناغم الخطاب العلماني مع المستوى الثقافي للشريحة التي تتم مخاطبتها .
و في الختام لا بد من التنويه إلى أن الإسلام السياسي قد نجح نجاحا باهرا في ترسيخ الفكرة التي تقول إن العلمانية هي دين! , و في مجتمع يبلغ فيه متوسط ما يقرؤه الإنسان ست دقائق سنويا , أصبحتم أيها السادة خارجين عن أديانكم ( جميعا بلا استثناء ) و أصحاب دين جديد , فبالله عليكم من أين سيقبل عوام الناس بأفكاركم و أنتم خارجون عن رضى الله ! أنتم مرفوضون مسبقا بسبب بروباغاندا منظمة استطاعت عزلكم عن محيطكم الحيوي , بل إنها كتبت عقد طلاق بينكم و بين المجتمع حتى قبل أن تتم ليلة الدخلة. المطلوب هو إعادة صياغة الخطاب العلماني , وتضمينه مدى الاحترام الذي تكنه العلمانية لحرية المعتقد الديني طالما أنه لا يفرض أي نوع من أنواع الوصاية على الآخر. و إن النجاح في إثبات هذه النقطة يشكل بحد ذاته إنجازا للعلمانيين العرب ستحسبه لهم كتب التاريخ . إنه الخطوة الأصعب و الأهم, و بدونها فإن العلمانية لن تدخل حيز الوعي الجمعي مهما تقاطر العلمانيون على النقد الحذق لأي تركيبة فكرية أو اجتماعية أو سياسية.
#عزام_يوسف_عمار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟