عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4126 - 2013 / 6 / 17 - 22:27
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قراءة في فكرة التجديد الديني عند سروش ومعطياتها
في قراءة نقدية لكتاب (بسط التجربة النبوية ) للكاتب الإيراني عبد لكريم سروش يطرح مقاربة من هذا النوع والذي يحتاج إلى مناقشة هادئة وعميقة وذات روح نقدية مسئولة تتلاءم مع خطورة الطرح وحساسية الفكرة التي صدح بها وهي أن التجربة النبوية في عموميتها ومعطيتها الكلية لا تخرج عن انعكاس لبشرية النبي التي صاغت الدين ثم ما كان من الله وتحت واقع الإعجاب أو الموافقة والتسليم بها على إمضاء إرادته وتقريره لها((إنني أعتقد أنّ النبي هو المشرع للأحكام الفقهية، أنّ النبي نفسه هو المقنن لهذه المسائل وبالطبع فإنّ الله تعالى أمضى القوانين التي شرعها النبي)) , دون أن يبين كيفية هذا الإمضاء والألية التي حصل فيها وما هو الدلي عليها في حين عجز الله تعالى أن يفرضها بإرادته الخاصة.
المسألة التي كان يبرر فيها تعليل التساؤل هنا تتمحور حول إحساس بشري ذاتي وأصيل توفر للداع عن روح الله التي فهمها النبي أو عبر عنها بذاتية خالصة ,فهو كما يقول((أن القرآن نتاج للظروف التاريخية التي نشأ فيها، بل هو نتاج أيضا لروح النبي محمد بكل محدوديته البشرية)) ,نافيا أن تكون النفس التي ألهمته القرآن والأحكام هو وحي خارجي بل ولا يعني أن يكون هناك مشكلة في أن يكون لهذه النفس سواء أكانت خارجية أو داخلية فرقا في نشأة القرآن التاريخية وتسطير الأحكام , بل المهم هو ما جاء نتيجة لذلك الإلهام من أثر تاريخي فكري أنشأ صورة العقيدة الإسلامية.
هنا يكون للغائية دور كلي وكامل في تبرير الوسيلة ولا قيمة أصلا للوسيلة قبالها ضاربا بعرض الحائط أن كيفية النتيجة تمثل اساسا جوهر وتكييف الوسيلة بما يمثل خط الربط بينهما من اتصال على مستوى الجوهر والملازمة ,هذه البرغماتية التي يعرضها سروش تفرق بين الهدف وبين منهجية الهدف وتجعل منه ما ليس من الضروري بمكان أن يكون, الدين هو الذي يكشف العلاقة بين الخوف والأمل والفاعل الأصلي لهما وبالتالي قطع علاقة الفاعل بالمفعول به وقد يكون لفعل ليس مرتبطا بينهما ,أي أن مجرد ن يكون الإنسان موجودا لا بد أن يكون بما يعقل خائفا ومتأملا دون بيان علة ذلك.
الحقيقة ودون الدخول في محكمات النصوص التي يتمسك بها المسلمون ويعتقدون بالجزم اليقيني أنها من الوحي الخارجي لا بد أن نتذكر أن لكل فكر موارد أساسية ومعطيات يبنى على ما فيها من أسس وقواعد لتؤسس للفكرة وبدون هذه المعطيات أو انتفاءها لا يمكن التسليم بأن المنتج الفكري هذا قد نشأ نتيجة لوجود محدد مسبق أو مبتدع أو حتى تخيلي ساهم بصيغة أو بأخري في نشأته سواء أكان المحدد أصيل ببشريته كما جاء في فكرة سروش وأكد عليها أو من خارج البيئة الفكرية والأجتماعية التي ولد فيها(فالكثير من الأحكام الموجودة في الفقه الإسلامي كانت موجودة لدى العرب الجاهليين بعينها أو باختلاف قليل وتفاوت يسير ممّا هو موجود في الفقه الآن) .
لو سلمنا بما جاء وهو تسليم لا ينفي الصحة كما لا ينفي الإنكار قبل الفحص النقدي والوصول بالبرهان العقلي لنتيجة ما , هنا يستلزم أن يكون غالبية ما جاء بالرسالة الإسلامية هو من نتاج تأثير النبي بالمجتمع العربي المتسم بالبداوة الفكرية قبل البداوة الأجتماعية ومستجيب لها بحكم كونية هذا المجتمع ونشأته مع افتراض عدم وجود المعلم الخارجي أو التواصل الفكري بين النبي وبين مصادر الديانات والأفكار الأخرى نتيجة أما لتوافد الحجيج الى مكة ومن خارجها أو ما اكتسبه النبي من رحلاته الخارجية إلى مصادر الفكر وهي حتما لا تتعدى الشام النصرانية المحافظة وبعض أطراف الجزيرة العربية المؤدية للشام.
حتى اليمن والطائف ويثرب كانت نصرانية بصورة ما أما مكة فكانت بدوية الطبع والميل والنشأة ولا يمكن أن تنمو فيها فكرة دينة خارج ما تؤمن به ,لقوة السلطة الدينية ومتانة النسيج الذي يربطها بالقبلية وما نشأ من قداسة عند العرب لمكة وألهتها عموما من غير ذوي الاديان الإبراهيمية ,هنا لا بد من افتراض عبقرية خارج حدود المعقول منحت القوة والقدرة للنبي أن يستخرج من هذا الحال فكرته وإن أفترض سروش أن كل ما جاء في الدين المحمدي هو تطوير شكلي أو تصليح لما موجود في مجتمع مكة أولا ومجتمع المدينة بالتالي.
هذه العبقرية التي أنشأت هذا الدين والعودة إلى افتراضنا الأول لا بد لها من مكونات ومعطيات تصوغها وتبلور مقوماتها وتكشف عن بدايتها وأسس وركائز الفكرة التي نتجت عن عبقرية النبي ,حتى يتمكن من أن يبني فكرة تقود مجتمع جديد نشأ على أنقاض ما هو متأصل في الروح البدوية ويعكس نظرتها للحياة والوجود والسماء وعلاقتها بالأرض ,ناهيك أن المثال الذي يسوقه سروش دائما لا يتعلق بأسس الدين الجديد ولا بمقوماته الكلية ,إنما هي تحديدا في قضايا اخلاقية لا ننكر أن الإسلام في البعض منها خفف حدة القسوة فيها أو لطف من أحكام بعضها بل أبقى على الكثير من القيم العربية التي تتلاءم مع كونية الإنسان وروح إنسانيته كالكرم والشجاعة والنبل والوفاء بالعهد.
يؤكد سروش على حقيقة لا ننكرها وهي تمثل بصورة ما على ترابط العبقرية مع صورة المجتمع لها وكيف يفهمها ,لو أخذنا مجتمع مكة مهد الدين المحمدي نجد أن مفهوم العبقرية يتجسد بالأبداع الشعري دون غيره على حقيقة أن الشعر يمثل اعلى درجات الوجدان الحسي الشعوري عند العربي ويتدرج في عظمته بالقدر الذي يتصل بالملهم له وهو الشيطان الشعري ,لذا فإن ما يكون خارق وعبقريا لا بد أن يكون مرتبطا به وليس غير ذلك وهو ما حرمه النبي على نفسه كي ينجو من تهمة إلهام الشيطان له((أنّ النبي بما له من مقام النبوة والزعامة الدينية لا ينبغي أن يخلط كلامه بشعر. فلا ينبغي للنبي أن يتحرك في عمله وكلامه بحيث يقال إنّ قوة الخيال في هذا النبي شديدة وحاكمة على تصرفاته. وخاصة إذا علمنا أن العرب الجاهليين كانوا يرون أن الشياطين توحي للشعراء)) .
لا بد هنا أن نحدد للنبي نوع العبقرية التي جادت بهذا الدين وصاغته وبسطته في مجتمع مكة الذي لا يفهم العبقرية خارج حدود الإلهام الشيطاني ,وكيف تمكن من تصور وتشريع عقائد مثل التوحيد والعدل والبعث والحساب لا يمكن أن تنشأ في مجتمع لا يعرفها البته ولا يؤمن بها أصلا بل تتناقض بالكلية مع معتقداته, وتتناقض أيضا مع فهمه للشيطان وعن مصدرية ومقدمات هذه القضايا التي تطرق سمعه لأول مرة ,وحتى لو سلمنا بالتأثير الخارجي فإن هذه المؤثرات وبالذات النصرانية فيها الكثير من النقض والمصادمة مع أصول وفروع الدين المحمدي, وهذا يستلزم أيضا صورة لعبقرية بلا حدود للنبي لكي يصل إلى شيء غير ممكن استحضاره في تأريخية وجوده ونشأته في مكة المشركة البدوية ذات الميل العصبي لجاهليتها حتى بالأديان الأخرى ,ولا يمكن القبول بهذا الفرض دون دليل يثبت كيفية تكون هذه العبقرية وصور النشأة والتكوين.
يقول عبد الكريم سروش أن كل ما موجود بالفقه الإسلامي له قواعده ومعطياته في الواقع الاجتماعي العربي بل يجزم أن كلية المعرفة الدينية التي جاء بها الإسلام إنما هي ليست غريبة ولا مستنكرة في مجتمع مكة, بل ويقطع أن الدين المحمدي لم يأت بجديد على مستوى العقائد ,الأحكام والأفكار الأخلاقية فيقول(فلو نظرنا إلى المجتمع العربي آنذاك لأدركنا أنّ هذه الأحكام كانت سائدة ومتداولة لدى العرب في ذلك الوقت أو كانت شبيهة لها كثيراً، وأساساً فلا يوجد حكم جديد فيها ) أي أنه لا يفصل بين حقيقة أن وجود أقلية ما تؤمن بهذه المبدأ قد تكون هي منشأها ومحلها التكويني فيتخلص من هذا لأطلاق العام الشامل وبذلك يمنح فكرته شيئا من المعقولية التي يمكن ان يتقبلها الناقد والدارس .
هنا من حق القارئ ان يتساءل إذا ما قيمة الدين وما هو المرتجى منه إن لم يكن يمثل حالة جديدة تسعى بما فيها من قيم لنقل المجتمع والإنسان من حالة التسافل إلى حالية السيرورة في طريق الكمال البشري ,وكيف تسنى للنبي أن يصنع أمة بخلاف ما كنت عليه من جاهلية حطمها وسعى لعدم تجديد مقوماتها بما أتي من أحكام, ولماذا لم يكن هذ المجتمع التي توفرت فيه أساسيات التطور وخزنت معارفه بمبادئ الدين المحمدي قبل التشريع به أن ينتقل ذاتيا لمراحل شهدها بوجود هذا الدين ,هل كان الخلل في الأحكام أم في المجتمع؟. تساؤلات من هذا النوع هي التي تكشف تتهافت هذه المقولة وعدم جديتها بما تمتلك من خرافة فكرية ترمي إلى أبعد من القراءة التأريخية.
أما أن يجعل هذه العقائد والأفكار وليدة المجتمع بعامته ففيه بعض التجني على الواقع التاريخي والذي تم فحصة ودراسته من الناحية الوقائعية ومن ناحية الفكر التاريخي والتي تنفي في مجملها هذا الادعاء, ونأخذ مسألة التوحيد ,فلا مجتمع مكة الوثني متعدد الآلهة ولا محيطها النصراني يؤمن بالوحدانية المطلقة التي جاء بها الاسلام لا تقريبا ولا أصلا بل أن فكرة التعدد تتناسب مع شعور القبيلة العربية التي تشكل اجزاء المجتمع العربي المعتزة بانفرادها بعبادة إله مقدس أمر لا يمكن إنكاره كما لا يمكن أن نخفيه عن عين المؤرخ الدارس والباحث عن الحقيقة ,فكيف جعل من النقيض قاعدة أسس فكرته للقراءة التاريخية للدين عليها وهي مخالفة أصلا لمنطقية التاريخ ذاته.
إذا سلمنا بأن الدين المحمدي ليس أكثر من تجربة تأريخية خاضها النبي متسلحا بعبقرية فائقة وتراث حقيقي قادر بالقوة أن يتحول بلمسة فكرية إلى هذا الدين الذي كان عاملا محوريا في التاريخ والواقع الاجتماعي الإنساني فمن السهل أن تتكرر التجربة مع توافر عنصريها العقل والتراث وسنشهد ولادات كثيرة لنمط مختلف من الأديان تتمخض عنه وعند الكثير من المجتمعات أيضا لنعيش عالم جديد أسمه عالم الديانات المشخصنة بدعاتها ومبتدعيها, وهنا أيضا لا بد لله أن يعطي صكوك الإمضاء والإبراء لهذه الديانات ليشهد زورا على عدم أهليته الذاتية لرسم وجود صاغه هو وركبه وخلقه بإبداع ليترك للإنسان حرية لعبث به دون أن يحرك ساكنا.
من المؤكد أن التجربة أي كان شكلها لا بد لها أن تكون متعددة بتعدد معطيتها وتفرق مؤدياتها وبالتالي فتكرار وتعدد التجربة أمر مفروغ منه ولا ينكره الدكتور عبد الكريم سروش أيضا بل أن في داخل التجربة ذاتها روح التعدد وهذ ما يؤكده بقوه ((إنّ بحث التعددية يتعلق بالتدين المعرفي لا التديّن المصلحي، والتعارض الحاصل بين الرأي القائل بالتعددية مع الرأي المخالف له من داخل الدين إنما هو من جنس التعارض بين الفلسفة والدين، أو بين العلم والدين، حيث يتحد طريق الحلّ في الجميع. وهذا التحكيم التاريخي والجمعي إنما هو من شأن طائفة المتدينين المحققين) ) ,فما كان ممكنا وحقيقيا لمرة واحدة ممكن وجائز الحدوث على الدوام طالما أننا ننظر للموضوع من ناحية كونه تجربة تأريخية قادها البشر وكنت نتج وقع محكوم بما فيه.
يقول سروش في هذا المنحى قولته المشهورة التي تؤكد وتجزم بتأثر صورة الدين وشكليته وارتباطها بالواقع وبالتالي فالقراءة التأريخية هي التي تكشف جوهر التجربة الدينية بمعزل عن حقيقية إلهية لدين((إنّ إله العالم عندما خلق البشر وقذف بهم في أجواء الفكر فإنه خلق لهم لغات وعوالم مختلفة وجعل العلل والأدلة متنوعة وأقام في طريق العقل مئات العقد والمنعطفات الفكرية، وبعث الكثير من الرسل واصدر نداءات ذات ألوان متعددة ومختلفة للبشرية وجعل الناس شعوباً وقبائل ليتحركوا لا من موقع التكبر والتنازع بل من موقع التعارف والتواضع فالذين يطالبون بتسوية التعرجات الفكرية والمذهبية بين الناس عليهم أن ينتبهوا لئلاّ يقودهم هذا المسلك إلى السقوط في منزلقات التعارض مع المشيئة الإلهية ومواجهة الإرادة الربانية في هذا الشأن.. )).
هنا لا يشير الدكتور سروش للبعث بمعنى أن الدين هو ترتيب رباني مجعول بالإشاءة التي تحكم الناس على طريق الغاية النهائية من فعل التدين ولكنه يرها وينسبها من وجهة قوة الفعل البشري المختلف بطبيعته حسب بشرية الإنسان وقدرته على محاكاة الواقع الذي استحكمت عومل تواجدهم فيه والاستجابة لهذا الواقع بعيدا عن التراتبية التي أرادها الله تيسيرا للبشر كي يفهموا مراد الله وإن لم تخرج إلى فضاء التناقض والتضاد حسب معطيات الواقع.
كل الذي يؤمن به ويبشر به ينسبه إلى ما هو إنساني بالطبع وبالمحاكاة وبالضرورة أيضا طالما أنه يفتقد الدليل الحقيقي والمادي الذي ينجح تجريبا على ان يثبت يقينيته على أرض الواقع بالملموس ,إنها محاكمة تأريخية(وإلاّ فكلّ التجارب عبارة عن الوحي، غاية الأمر أن الوحي ذو مراتب : فهناك مرتبة دانية ومرتبة عالية، وأحياناً يقترن مع العصمة واُخرى لا يقترن معها، وهناك ما يختصّ بالنحل وما يختصّ بالإنسان من العرفاء والأنبياء والشعراء. فكلّها تمثل تجارب دينية وباطنية وكلّها تحتاج، كما أسلفنا، إلى تفسير وفي الحقيقة أنه لا توجد لدينا تجربة خام أو تجربة محضة, ).
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟