نورس كرزم
باحث وموسيقي متخصص في علم الدماغ والأعصاب
(Dr. Nawras Kurzom)
الحوار المتمدن-العدد: 4111 - 2013 / 6 / 2 - 18:57
المحور:
الادب والفن
يغيب ذلك القرص العسجدي الذي تربع على عرشه في كبد السماء لساعات طوالٍ، تاركاً للأرض حرارة لا تطاق. مع غيابه، تستعيد الأرض برودتها الأولى شيئاً فشيئاً، تماماً كما كانت في الدقائق الأولى من نشوء الكون.
وفي هذه الفترة من النهار، يحلو لي أن اراقب الشفق، كوشاحٍ مقدس يزين عنق السماء المشرأبّة من بين الغيوم البيضاء. وفي الواقع، فإني قد عوّدت نفسي، وتحديداً في فترة الصيف هذه، ان أنام خلال النهار الحار، ومن ثم استيقظ مع حلول المغيب، مستشعراً في هذا طاقة نيرفانية تفوق على الوصف.
فالمساء أنشودة كونية يرنمها القمر، فتتلألأ نجوم السماء طرباً. والمساء فيلسوف سماوي، يطيب له أن يلقي بتواليف من الوحي للشعراء والكتاب اليقظين في مهاجع الليل الساحرة.
ولا عحب إن وجدنا أن بعض القبائل القديمة قد جعلت من المساء إلهاً لها، فعبدته، وقلبت نظام يومها، فنام أفرادها في النهار واستيقظوا مع حلول المساء.
عندما أنجز مهامي وأموري في فترة المساء بدلاً من النهار، فإن هذا ينضوي على عدة ميزات تتفوق على فترة النهار. فالهدوء الذي يجلبه الليل، هدوء ساحر ليس كفترات هدوء النهار المؤقتة والمشوشة، بل هو هدوء صافٍ في أتم صور اكتماله، وكأنه زجاجة من النبيذ المعتق. عدا عن ذلك، فإن فنرة الليل تكشف باطن الإنسان بصورة أو بأخرى، وخصوصاً في ليالي اكتمال القمر. يقال أن أغلب الجرائم تقع عندما يكون القمر مكتملاً، وهذا ليس بالأمر العجيب بالنسبة لي. ففي هذه الليالي، ينكشف أصل الإنسان ودواخله، فإما أن يغدو مجرماً سفاحاً لا يرحم، وإما أن يصير شاعراً وكاتباً وموسيقياً يفيض بالإبداع. لن أصاب بالدهشة إذا علمت أن أغلبية المؤلفات الأدبية والشعرية والموسيقية الخالدة، قد أُلّفت في ليالٍ رائعة، كتلك التي نتحدث عنها.
وفي الحقيقة، فإن المساء يعرّي الإنسان من أقنعة النهار المصطنعة. فالبشر لا يظهرون على طبيعتهم أثناء التفاعل الاجتماعي اليومي، بل هي اشبه ما تكون بمسرحية عبثية على حد تعبير شكسبير. أما في المساء، فلا يعود هنالك متسعٌ لأي قناع، فقدسية الليل تستدعي خشوعاً خاصاً، يلجُ ككهرباء إلى أعمق أعماق الإنسان، ويشعل في فؤاده ذلك النبض الذي افتقده في النهار: نبضُ المساء.
#نورس_كرزم (هاشتاغ)
Dr._Nawras_Kurzom#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟