برنامج الحزب الشيوعي اللبناني بين الحلم والواقع
علي غريب
2013 / 2 / 26 - 09:18
مدخل:
كتب وكتابات ومقالات واراء كُتبت عن الماركسية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي حول صحتها المطلقة او النسبية وحصلت استنتاجات متعدده لكنها اجمعت على ان الماركسية ستبقى الدليل الثوري للتغيير والعلم الذي لا يتوقف عند زمن، كما كُتب الكثير عن الطائفية في لبنان ولا سيما بعد انحدارها الى المذهبية في ظل دستور الطائف، وعن تداخل الطائفي بالطبقي، وعن دور الطائفية في حماية النظام السياسي للبرجوازية....الخ...كتابات من مفكرين متعددي الولاءات والاتجاهات السياسية. وحصل العديد من المناظرات المباشرة وغير المباشرة على صفحات المجلات والصحف، كل يدافع عن وجهة نظره. وما يزال هذا الموضوع جاذباً للأفكار والأراء الى يومنا، وما يهمني ليس البحث النظري بل الممارسة اليومية والنتائج العملية لصراع استمر أكثر من تسعين عاماً منذ الاعلان عن لبنان الكبير ، صراع بين الطبقة السياسية الحاكمة نفسها وما آل اليه هذا الصراع من انحدار في البلد من الطائفية الى المذهبية ومن ازمات اقتصادية – اجتماعية- مالية – أمنية ادت في نهاية الأمر الى عدم تمكن البرجوازية الحاكمة من المحافظة على النظام وعلى الكيان اللبناني وفي المقابل الصراع التاريخي بين اليسار اللبناني واحزاب التغيير مع تلك البرجوازية وعدم تمكّن تلك الاحزاب من تحقيق اهدافها السياسية المرحلية منها أو البعيدة طيلة مسيرة تاريخية حافلة بالنضال والتضحيات.
مقدمة:
اذا كانت سمه مطلع هذا القرن هي في التحولات الكبرى والانعطافات غير العادية التي طالت الدول ( راسمالية ونامية) والاحزاب ( يمينية- يسارية- اشتراكية- دينية) فقد فشلت التجربة الاشتراكية وكُتب الكثير عنها حتى ان البعض بالغ في استنتاجاته السياسية والنظرية فساوى بين سقوط جدار برلين وسقوط ماركس معه، ومجّد الرأسمالية باعتبارها نظاماً أبدياً حتى نهاية التاريخ.
لم تدم تلك النظريات طويلاً فاذا بها تسقط سريعاً وتنهار معها فكرة القطب الأوحد والأمن الواحد لقيادة العالم مع الأزمة العميقة التى ضربت الرأسمالية وفي عقر دار الولايات المتحدة والمتنقلة الى دول أوروبا وكل الأنظمة الرأسمالية التابعة لها.
هذه المستجدات فرضت نفسها على كل حزب لدراسة الوقائع الجديدة النظرية والسياسية والفكرية والتنظيمية اذا ما قرر اعضاؤه استمرار الحياة له لتحقيق اهدافه وطموحاته السياسية.
انطلاقاً من ذلك ومساهمة في نقد بعض الجوانب في تجربة الحزب الشيوعي اللبناني السياسية والتنظيمية والبرنامجية، وتأسيساً على قرار اللجنة المركزية للحزب القاضي بفتح دوره خاصة، قبل بدء التحضير للمؤتمر الحادي عشر لنقاش مفتوح على طرح الاراء والمقترحات حول وضع البلد ومصائره ووضع الحزب ومستقبله والمهمات المطلوبة للمرحلة القادمة قبل بدء اعمال اللجنة السياسية حيث أتاحت هذه الدورة للرفاق تقديم مداخلات دون اقتراحات محضّرة سلفاً من القيادة ودون تحديد للوقت... لهذا كله قررتُ ان اتناول أزمة الحزب في بعض الجوانب السياسية والتنظيمية والممارسة اليومية القيادية.
أزمة الحزب:
لا يمكن التطرق الى برنامج واقعي من جديد دون النظر الى أزمة الحزب العامة ومدى الخروج منها. لقد بات الشيوعيون مأزومين نفسيأً من كثرة الكلام عن أزمة الحزب وعن الحزب المأزوم، ومن المعلوم انه لم يطرح هذا الموضوع الهام للنقاش طيلة عشرين عاماً لمرة واحدة على جدول اجتماع هيئة قيادية في الحزب كي يصار الى تحديد ماهية هذه الأزمة وطبيعتها وضرورة الاجابة على اسئلة محددة.
هل هذه الأزمة مستحدثة (أي هل وُجدت بعد المؤتمر السادس للحزب 1992) وتحديداً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أم انها قديمة؟ هل هي أزمة قيادة جديدة؟ أم أزمة خيارات سياسية؟ هل هي أزمة تنظيمية أم هي أزمة سياسية تاريخية؟
هذه القضية لا يمكن التطرق اليها دون العودة الى السنوات الطويلة التي ناضل خلالها الحزب الشيوعي، ودون محاولة الوقوف عند قراءته ورؤيته للواقع اللبناني وطروحاته وبرامجه السياسية ونتائج نضالاته على المستويات كافة السياسية والاجتماعية والتنظيمية .
لقد قدم الحزب الشيوعي خلال مسيرته النضالية الطويلة (88 عاماً) الاف الشهداء والمعتقلين، من أجل الفئات الشعبية وتحرير الأرض، ما لم يقدمه أي حزب آخر في لبنان، وحقق انجازات ضخمة وهامة للطبقة العاملة وللمزارعين والعمال الزراعيين والمعلمين والطلاب والنساء والموظفين والسائقين الكثير الكثير مما رفع من شأن حياة الفئات الشعبية الفقيرة، وأدت الى بناء جامعة وطنية وضمانات اجتماعية وصحية وتشريع النقابات وقانون العمل والجمعيات والروابط، اضافة الى مساهماته الكبيرة في النضال ضد المستعمر الفرنسي من أجل الاستقلال وصولاً الى قراره التاريخي الذي يعتز به كل شيوعي ووطني لبناني وعربي باطلاق جبهة المقاومة الوطنية التي كان لها الباع الطولى بتحرير أرضنا من المحتل الصهيوني. انها مسيرة حافلة بالنضالات والتضحيات والانجازات.
فماذا كانت النتائج السياسية لهذه المسيرة النضالية الطويلة؟.
لقد نجح الحزب في تحقيق مطالب هامة على المستوى المطلبي والتحرري بينما فشل في تحقيق أي من اهدافه السياسية ان على مستوى التغيير الثوري أو في مجال الاصلاح المرحلي للنظام السياسي الطائفي.
هذه النتائج تدفعنا الى طرح عدد من الأسئلة الضرورية:
لماذا لم يستطع الحزب الشيوعي منفرداً أو مع حلفائه من اليساريين من النجاح في فرض اصلاحات سياسية على النظام السياسي الطائفي؟.
هل هذا النظام عصي على التغيير؟.هل المشكلة في شعبنا؟
وبالتأكيد فان الماركسية ترفض الاجابة على هذين السؤالين بنعم. المشكلة بقراءة الحزب ورؤيته التاريخية للواقع اللبناني وببرنامجه وتوجهاته وشعاراته ؟.
فاذا كان الحزب الشيوعي القوي في فترة نهوضه، الكبير بقادته الرموز وبأعداده الكثيرة من أعضاء وكوادر ومثقفين، وبقدرته وامكاناته وتضحياته العظيمة وبالمال المتوافر وبالاعلام المتعدد الوسائل، وبالمؤسسات الديمقراطية والنقابية الجماهيرية، وبالدعم من المنظومة الاشتراكية. ومع ذلك لم يستطع فرض تحقيق اصلاحات سياسية في النظام السياسي ولم يستطع تثبيت وعي طبقي على الوعي الطائفي.
ففي أي حزب راهن نحن اليوم وفي أي واقع سياسي نعمل؟ وما هي امكاناتنا وقدراتنا على فعل الحضور والتغيير؟ وأعني براهنية الحزب منذ مؤتمره السادس عام 1992 وحتى اليوم 2012.
من الضروري التذكير بواقع الحزب ايام كان على أبواب مؤتمره السادس، كي نعرف من نحن اليوم وفي أي حزب نناضل.
لقد بيّن التقرير التنظيمي للمؤتمر السادس بأن 70 % من أعضاء الحزب هم خارج التنظيم من (أعضاء وكوادر ومثقفين وشعراء وفنانين ...الخ) أليس هذا الواقع التنظيمي هو أبلغ تعبير عن أزمة واقعه قبل المؤتمر السادس، فاذا كان هذا هو حال أعضاء الحزب أنفسهم فكيف تكون حالته الجماهيرية؟!
- حزب دون نقابات ودون مؤسسات ديمقراطية (جماهيرية، الاّ ممن بقي من الشيوعيين فيها).
- حزب دون إعلام، فجميع وسائله الاعلامية كانت متوقفة عن العمل او مقفلة ( من "النداء" و"الأخبار" و"الطريق" و التلفزيون و"الثقاقة الوطنية") الاّ من اذاعة عرجاء تعمل كي لا يقفل صوت الحزب نهائياً في البلد.
- حزب دون أموال ومؤسسات مالية.
- حزب دون ثقافة ومثقفين ويصح علينا القول "كمن يذهب الى الصيد دون بندقية" اذا ما طبقنا قول لينين علينا "سلاح الشيوعي ثقافته" هي أزمة علاقة أعضاء الحزب بمجتمعهم وهي الحلقة الأصعب في أزمة الحزب حيث أن نسبة معرفة وثقافة أعضاء الحزب بالمستوى المعرفي السائد اليوم في أوساط الشباب والمتعلمين أفقدته ميزته السابقة التي كانت المدارس الحزبية والتثقيف السياسي يؤمنانها له, حقيقة ينبغي الاعتراف بها وان غلبة الانتماء العاطفي والوجداني للحزب على الجانب المعرفي باتت جزءاً من الأزمة ودليلاً على اصطفافات بين الشيوعيين لا تعبر تماماً عن بعض قناعاتهم السياسية.
- حزب نعاه قادة كانوا من الرموز فيه... فكان موقفهم أكثر وقعاً على الحزب من انهيار الاتحاد السوفياتي، حين وصفوه تارة بالحزب الميت ( واكرام الميت دفنه) وبجثة يلتف حولها من بقي من الشيوعيين!. وتارة أخرى (بالمركب المخلّع) وعلى وشك الغرق و"الشاطر من يقفز منه"، وان بعضهم أراد محاكمة لينين!. ونظّر آخرون لليبرالية الجديدة ودعوا الى مصالحة الفكر الماركسي مع الفكر الليبرالي والفكر العلماني مع الفكر الطائفي والى مصالحة العامل مع رب العمل تحت شعار الواقعية السياسية!!.
فوق كل ذلك وُضع الحزب أمام واقع سياسي جديد وأمام سلطتين متداخلتين أقواها سلطة الوصاية السورية، ولم يبق للحزب حلفاء بسبب غياب بعض التنظيمات اليسارية وانكفاء بعضها الآخر وبسبب خياره السياسي الذي أقره بعد الطائف برفض الانخراط والاقرار بالصيغة المذهبية الجديدة للبنان.
هذا هو الحزب الذي تسلمته القيادة الجديدة منذ المؤتمر الاستثنائي السابع (2003) وعلى رأسها الأمين العام السابق الرفيق فاروق دحروج ومن بعده الأمين العام الحالي الرفيق الدكتور خالد حدادة ومن معهما من أعضاء القيادة.
وهنا أوجه التحية الى كل شيوعي بقي في هذا الحزب صامداً مناضلاً متمسكاً بأهدافه ومبادئه وتاريخه وأميناً وفياً لدماء شهدائه وعذابات أسراه ومعتقليه وللرواد الأوائل من مؤسسيه.
واقول: واهِمٌ من يعتقد أن الأزمة أزمة قيادة، وان حزباً على هذا الحال الذي وصل اليه يستطيع تجاوز أزمته وصعوباته بالسهولة المرتجاة.
ان أزمة الحزب كما أزمة اليسار الشيوعي عموماً هي أزمة عميقة ومركبة طالت جميع بناه النظرية والسياسية والتنظيمية ولذلك ليس سهلاً عليه أن يتجاوزها أو يجبه مضاعفاتها، علماً أن الحزب استطاع أن يحافظ على قدر معقول من استقلالية موقعه وأن يبقى متميزاً عن سواه في موقعه الوطني.
بالعودة الى أزمة الحزب فان الأزمة الحقيقية لأي حزب سياسي هي أزمة سياسية وهي في فشله وعدم قدرته على تحقيق أهدافه وطموحاته فكيف اذا لم يستطع هذا الحزب فتح ثغرة محدودة جداَ في جدار النظام السياسي-الطائفي في لبنان!
ان ملامح الأزمة بدأت مع المؤتمر الخامس للحزب (1987) ولم يكن يجرؤ أحد يومها على الكلام عن أزمة. أليس جلياً ما جاء في وثيقة المؤتمر الخامس (بالكلام عن الحزب) " ان عدداً كبيراً من أعضاء وكوادر الحزب أصبحوا خارج التنظيم وان 75 % منهم لم يلتحقوا بأي تنظيم آخر ويعود السبب الى التماوج السكاني الذي حصل وان 25 % منهم أصيبوا بالاحباط والانكفاء".
أليس جلياً بأننا خسرنا في مطلع الحرب الأهلية مشروعنا الوطني (مشروع الحركة الوطنية) بعد استشهاد القائد الكبير كمال جنبلاط ودخل الحزب بعد ذلك تحت سقف المشروع الوطني- الاسلامي؟ فخسر الحزب المسيحيين ولم يربح المسلمين والاشتراكية كانت أول الغائبين. اية سياسة هذه التي تعاطى الحزب بها مع الطوائف بتصنيفه لها طائفة وطنية واخرى عميلة ؟ او مشكوك بوطنيتها.
أليس جلياً أننا من مؤسسي جبهة الخلاص الوطني التي اسقطت اتفاقية 17 أيار (التي عقدت خلال الاحتلال الاسرائيلي للبنان) وحين اجتمع زعماء الطوائف في لوزان لم يسمح لنا بالدخول الى الفندق حيث كان يُعقد الاجتماع للمساهمة في اعطاء رأي حول لبنان القادم.
والأكثر جلاءً ووضوحاً اننا أطلقنا جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية لمقاومة المحتل الاسرائيلي ودفعنا مئات الشهداء وآلاف الأسرى وقمنا بأهم العمليات النوعية ضد المحتل وعملائه ورفعنا شعار" الأرض لمن يحررها" فاذا بنا بعد تحرير الجزء الأكبر من أراضينا المحتلة نسلّم أمن المناطق المحررة الى الطوائف في الضاحية والجبل والجنوب، وبدلاً من مكافأة الحزب ومشاركته في رسم صورة لبنان المستقبل جرى تهجير الشيوعيين من بيوتهم في الضاحية الجنوبية والجنوب وامتلأت سجون حركة أمل بالمناضلين الشيوعيين وتمت أبشع عملية اغتيالات لبعض قادة الحزب ورموزه ومفكريه ومثقفيه في بيروت والمناطق ومُنعنا من استكمال مهمتنا في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد العدو.
ان انخراط الحزب في الصراع ضد القوات اللبنانية ومشروعهم، وضد العدو الاسرائيلي المحتل في الثمانينات دفعته الى استنتاج مفاده ان الحزب يناضل على طريق الثورة الوطنية الديمقراطية. لقد كان استنتاجاً مفرطاً بلا واقعيته حيث انتهى هذا المسار من الصراع الى تسوية سياسية في الطائف أعادت انتاج الصيغة والنظام على قواعد طائفية – مذهبية جديدة.
كان ذلك اعلاناً واضحاً بالقضاء على الحركة الوطنية اللبنانية ومشروعها السياسي- الاصلاحي بعد استشهاد قائدها كمال جنبلاط وعلى انهاء الدور الذي لعبه الشيوعيون اللبنانيون في اطار جبهة المقاومة الوطنية بتحرير العاصمة والجبل والقسم الأكبر من البقاع الغربي والجنوب.
لقد وضع اتفاق الطائف اللبنانيين أمام وصاية سورية كانت هي السلطة المقررة في البلد وتمت صياغة وثيقة (دستور) تقررت فيها المثالثة المذهبية (الترويكا) ووضع اللبنانيون أحزاباً وأفراداً أمام خيار الالتحاق بالصيغة الجديدة وبالتالي الحصول على مواقع ومكاسب في السلطة او البقاء خارج نعيم السلطة. وكان الحزب الشيوعي من الرافضين لهذه الصيغة في مؤتمره السادس حيث أصر على النضال من أجل بناء لبنان علماني- ديمقراطي ومناضلاً من أجل اسقاط الصيغة الطائفية من النظام السياسي. وكان خياراً سليماً لكنه معاكس للتيار فيما التحق أحزاب الحركة الوطنية (ممن كانوا حلفاء للحزب) في الصيغة الجديدة مما وضع الحزب الشيوعي أمام واقع صعب جداً وطرح عليه أسئلة أصعب للاجابة عنها في اطار التحالفات ، وفي المقاومة الوطنية وفي الاشتراكية كنظام محقق، وفي الماركسية كنظرية للتغيير وفي الحزب نفسه.
وقد أجاب عن تلك الأسئلة في مؤتمره السادس بوضوح كافٍ. الا أن الحزب بدل من أن يعمل على ترجمتها بوحدة استثنائية غرق في خلافات وتباينات سياسية وفكرية أدت الى ما آل اليه وضع الحزب من تراجع وانكفاء.
لقد دلّت مسيرة الحزب على انه ساير وتعاون مع تكتلات الطوائف وزعمائها، وقدّم كل امكاناته وساهم بفاعلية من أجل النهوض بالوطن واستقلاله وتحرير أراضيه، لكن زعماء الطوائف كانوا على الدوام هم من يقطفون الثمار والحزب عامل "بالسخرة" حتى أن الحزب فشل في اقناعهم بتعيين نائب واحد (في البرلمان الاستثنائي المعيّن) في مطلع التسعينات رغم مناشدة الشهيد جورج حاوي لأقطاب السلطة والنافذين فيها.واكثر مواقف الطبقة السياسية الطائفية احتقاراً وحقداً ووقاحةً هي في رفضها السماح لوفد قيادة الحزب من الدخول الى مطار بيروت لاستقبال العشرات من جثث شهدائه المحرَرين العائدين من تحت تراب فلسطين المدنّسة بأحذية الصهاينة..
بعد كل هذه الوقائع من سياسة الحزب ونهجه وممارسة القيادة كثر الكلام عن الأزمة وكأنها أزمة مستحدثة، وفي الواقع الحقيقي أن من تسلّم القيادة بعد المؤتمر السادس تسلّم أشلاء حزب وبقايا حزب مأزوم في تحقيق أهدافه السياسية المرحلية وفي تنظيمه وفي تحالفاته وفي مؤسساته النقابية والديمقراطية والاعلامية والمالية.
مسؤولية القيادة الجديدة في استمرار الأزمة:
بدلاً من لملمة صفوف الحزب عبر مراجعة شاملة لبرنامجه وفتح حوارات هادئة على كافة المستويات الفكرية والسياسية والتنظيمية والثقافية، زادته القيادة الجديدة ضعفاً واحباطاً وانكفاء وتفككاً وهي مسؤولة عن كثير من الأمور التي آل اليها الحزب من تراجع وذلك من خلال قراراتها ونهجها وممارستها وسأتناول بعضاً منها:
1- استمرار القيادة على نفس النهج السياسي السابق، بل أضافت الى ذلك صعوبات جديدة من خلال الصراعات الداخلية ومن خلال التفتيش عن حلول للأزمة خارج الموضوع الحقيقي. فراحت تبحث عن مسببات تنظيمية أكثر منها سياسية مرة بمحاولة تغيير اسم الحزب أو استبدال اللجنة المركزية بمجلس وطني أو بالغاء المحافظات من التراتبية الحزبية ثم العودة عن كل هذا بتوسيع الهيئات القيادية أو تصغيرها وآخرها بدعة عقد مؤتمر (عمري) للشباب دون 35 عاماً وكأن لشباب الحزب أهدافاً سياسية أخرى وبرنامجاً آخر فكانت لهم وثيقتهم وقيادتهم حتى باتوا يتصرفون وكأنهم حزب آخر. ولا اعتقد ان حزباً في العالم يمينياً او يسارياً اقدم على ما اقدم عليه الحزب الشيوعي في مثل هذا الامر.
في حين كان ينبغي البحث عن حل في السياسة، وعن برنامج ونهج وممارسة مختلفة عما سبقها، لكن القيادة الجديدة استمرت على نفس النهج السابق، وكأن الاشتراكية لم تسقط وكأن الحزب لم يعد وحيداً دون حلفاء بعد اختيار حلفائه القدامى الالتحاق بالصيغة الجديدة للبنان بعد الطائف حيث دخل هؤلاء الحلفاء تحت عباءة الوصاية السورية وأصبح لديهم وزراء ونواب (ملحَقون وهامشيون في ادوارهم) وكأن لبنان لم ينحدر من الطائفية الى المذهبية. بينما استمر الحزب يبحث عن نفس الحلفاء أو ما شابههم لأن القضية الأساس بقيت في الممارسة هي نفسها القضية ما قبل الطائف وقبل سقوط الاتحاد السوفياتي. في حين كان على القيادة أن تعيد النظر في أولويات عملها السياسي وبرنامجها ليقوم على بناء وطن ومواطنية ودولة قائمة على مؤسسات مدنية علمانية وعلى تأسيس خيار ثالث واضح قائم على مواقف صادقة وحاسمة بعد قيام الانقسامين المذهبيين 8 و 14 آذار من خلال تجديد المفهوم اليساري حيث كنا جزءاً من منظومة اشتراكية وحركة تحرر وطني عالمية كان برنامجنا يسارياً اشتراكياُ وما بعد الطائف نحن في واقع مختلف ونظام متخلّف أكثر انحدر بسرعة نحو تراجعات على كل المستويات تأخذ البلد مجدداً الى الحروب والفتن المذهبية والأزمات المتعددة. كان على القيادة أن تقف بحزم بوجه سياسة العداء والتفريط بالوحدة الوطنية وبعروبة لبنان وهويته من قبل جماعة 14 آذار، وأن تتصدى بوضوح كافٍ لسياسة جماعة 8 آذار المدافعين عن الوصاية السورية والساعين على الدوام الى مقايضة سلاح المقاومة بالاقتصاد المتفلت من عقاله والسرقات والفساد المستشري الذي كلّف الدولة عجزاً مالياً تجاوز 60 مليار دولار اضافة الى شراكتهم الواضحة في فرض الضرائب المرهقة على الفئات الشعبية والمحاصصة المذهبية، وفوق ذلك تفريط الفريقين باستقلال البلد وتفضيل الولاء للخارج على الولاء للوطن.
وإن البلد منقسم عمودياً على أساس مذهبي والمذاهب تحولت إلى معتقلات فكرية وأسست أحزابها ولدى كل حزب منها من الإمكانات والمؤسسات (الفكرية – التنظيمية – المالية – الإعلامية – التربوية – الصحية – الرياضة) إضافة إلى أمنها وميليشياتها تحولت إلى دويلات قائمة ضمن الدولة (الضعيفة والمفككة) فضلاً عما اعتمدته المذاهب مجدداً من معتقدات دينية لإلغاء حرية الفرد والرأي عبر الفتاوى والتكليف الشرعي والحرم الكنسي. وقد دخل لبنان بعد عام 2005 في مرحلة جديدة من تاريخه في ظل مسار من التطييف والتمذهب أدخل لبنان في استقطابين مذهبيين سرعان ما فرضا هيمنتهما على كل مناحي الحياة تقريباً وحملا لبنان إلى عتبة الحرب الأهلية وأبواب الفتنة المذهبية التي قد تنفجر في كل حين، مما زاد من صعوبات الحزب الشيوعي وأزمته في ظل صراع غير متكافئ مع هذين الإستقطابين حيث راح الحزب يعمل على تثبيت موقع ذاتي ويساري مستقل عنهما في واقع مجتمع شمله التطييف العام، وهكذا تعمقت أزمة الشيوعيين في ظل ضعف "المجتمعي" وهشاشته وهو الحقل الموضوعي لعمل اليسار من جهة وفي ظل الذاتي "اليساري" المأزوم والضعيف من جهة ثانية.
ان بلورة خيار ثالث كان يتطلب ممارسة يومية واضحة من قبل القيادة تخرج الحزب من الالتباسات في مواقفه من خلال القطع مع طرفي الانقسام المذهبي الا في حالة العدوان على لبنان، فهنا لا يمكن أن يكون الحزب محايداً بل سيكون حتماً كما كان على الدوام مبادراً وسباقاً وواقفاً الى جانب كل مقاوم ومدافع عن سيادة بلدنا وأرضنا وشعبنا.
لقد رفض الحزب أن يكون الى جانب المعارضة السلطوية (8 آذار) مبرراً ذلك بعدم توفر الشروط السياسية الكافية لقيام ائتلاف أو لقاء جبهوي وكان موقفه سليماً في حين أن السلوك الممارس للقيادة كان يذكر على الدوام برغبة دفينة تطل برأسها عند أي استحقاق انتخابي منتظرة أن ينظر الى الحزب من قبل الطوائف والمذاهب والسوريين بأن يكون على احدى لوائحهم الانتخابية (المحادل) كنظرتهم الى حلفائه القدامى من الأحزاب الوطنية الأخرى. هذا الالتباس الذي بقي مرافقاً للحزب ومواقفه منذ المؤتمر السادس وضعه في موقع حرج لم تفلح كل النصوص والبيانات والخطابات باقناع الناس بابتعاد الحزب عن جماعة 8 آذار. الى أن حسمت القيادة أمرها بعد نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة باتخاذ قرارات واضحة في السياسة والممارسة من انتخابات البلديات والمهندسين والمعلمين والأطباء وبتشكيل هيئة التنسيق النقابية خارج الاتحاد العمالي العام. هذا النهج اذا ما استمر فانه يؤسس لمؤتمر يؤمل منه أن يكون استثنائياً في نتائجه السياسية والتنظيمية.
2- في ممارسة الديمقراطية:
الديمقراطية في الأساس نتاج حضاري طويل يحتاج الى ثقافة ولا يمكن أن تمارس الديمقراطية بشكل سليم مع نقص في تلك الثقافة التي أفتقدتها القيادة والمعارضة الحزبية في آن معاً. الحزب الشيوعي تنقصه الثقافة الديمقراطية كثيراً وأكثر منها في ممارستها، والحزب الشيوعي كالنظام اللبناني لديه الكثير من الحرية والقليل القليل من الديمقراطية. لقد كانت القيادة دائماً في حالة دفاع عن النفس لأنها خائفة دوماً من الاتهام بالتسلط والديكتاتورية، حيث ذهب المعارضون بعيداً في رفضهم لقرارات القيادة تحت عنوان الرأي الآخر حيناً وتحت مطالعة عدم شرعية القيادة حيناً اخر وفي كثير من الاستحقاقات العامة ترشح الشيوعيون بوجه بعضهم على نفس الموقع (انتخابات نيابية- مهن حرة- الخ...) حيث كان الحزب يبدو على الدوام منقسماً أمام الرأي العام والقوى السياسية الأخرى وهو ما دفع بعض القوى الى وصفه بالحزب المتشظي وقلل من قيمته وحجمه، فالقيادة لم تجرؤ على تطبيق النظام الداخلي رغم رفض الهيئات أو الأفراد لكثير من قراراتها، وقد أصبح التغاضي عن المخالفات التنظيمية نمطاً سائداً في كل الهيئات تحت عنوان الحرص على الوحدة وخوفاً من الانقسامات، فبات الحزب في حالة موت سريري وهذا أخطر بكثير من الانقسامات الى حد أن اجتماعات اللجنة المركزية والمكتب السياسي وموضوعات النقاش أصبحت في متناول الجميع ولا سيما في الصحف وإعلام التواصل الاجتماعي حيث تنشر أحياناً محاضر كاملة عن الاجتماعات دون أن يرف جفن للقيادة. لذلك لم يعد ينطبق على الحزب الشيوعي مفهوم الحزب بالمعنى الحقيقي.
3- القرارات القيادية: لم تؤخذ القرارات القيادية الخاطئة لنقص في الكفاءة أو لقلّة في الثقافة بل في أغلب الأحيان لتقديرات خاطئة وأوهام ورغبات ذاتية وأذكر الأساس منها:
- الإستحقاقات الإنتخابية: لقد مُني الحزب في الإنتخابات النيابية الأخيرة بهزيمة نكراء كانت كارثية على كافة المستويات.. ولو كان الحزب يمارس حداً أدنى من الديمقراطية لكان على أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية أن يستقيلوا من مواقعم وأن تتم الدعوة إلى عقد مؤتمر استثنائي للحزب على ما اقترفوه من قرارات أساءت كثيراً إلى سمعة الحزب وعلاقاته مع الآخرين.
لقد ذهبت القيادة وبخفّة استثنائية نتيجة أوهام البعض منها لتقف على أبواب السوريين وميشال عون وحزب الله و... لاستجداء نائب من هنا ووزير من هناك، دون أية حسابات لوصول نائب أو أكثر بواسطة محادل الطوائف أو وصاية السوريين. علماً انه وصل بعض النواب من أصدقاء الحزب ومن أعضاء سابقين فيه ومن احزاب وطنية اخرى إلى المجلس النيابي عبر الإلتحاق بلوائح الطوائف فماذا كانت النتيجة وماذا قدّموا لمشروعهم التغييري، لقد تحولوا إلى أعضاء في تكتلات نيابية مذهبية أحياناً ومشبوهة أحياناً أخرى يدافعون بشراسة عمن أوصلهم الى الندوة البرلمانية.
ولم تتعظ القيادة الواهمة بما حصل مع الرفيق أنور ياسين الأسير المحرر الذي قضى في سجون العدو أكثر من سبعة عشر عاماً من الإعتقال، بعد أن ترشح للإنتخابات النيابية (2005) بما صدر ضده من فتاوى شرعية لمنع انتخابه ولم تبقَ نتائج الإنتخابات الكارثية محصورة في إطار الحزب نفسه بل انعكست على علاقاته ومصداقيته مع اليساريين اللبنانيين.
- إنتخابات المهن الحرة: ليس للقيادة سياسة ثابتة وتحالفات واضحة: مرّة مع السلطة وأخرى مع المعارضة السلطوية، مرة مع الطوائف والمذاهب واخرى مع الديمقراطيين والعلمانيين، وأسوأ ما في هذه الإنتخابات هو تبرير الإلتحاق بلوائح السلطة والمذاهب بحجة "تأمين مصالح الرفاق في هذه النقابة أو تلك عبر ممثل لنافيها"، هذا منطق تدميري للحزب ولا يمكن أن يصب في خدمة أهدافه السياسية لأنه يعطي الحق والتبرير ساعتئذٍ لكل شيوعي أن يجامل ويساير ويقف أحياناً إلى جانب هذا الزعيم أو ذاك من زعماء الطوائف والمذاهب ليؤمن مصلحته ومستقبله ومستقبل أولاده في ظل نظام المحاصصة الطائفية، هذا منطق يتقاطع مع تبرير الإلتحاق لأي مرشح حزبي للنيابة على لوائح المحادل الطائفية السلطوية:
فأي مستقبل لحزب يمارس نهجاً على هذا النمط من التحالفات والمواقف والمصالح الذاتية؟؟
- تجميع اليسار: من الصعوبات الكبيرة للحزب الشيوعي غياب التنظيمات اليسارية. لكنّ اليساريين موجودون بالمئات في كل قرية من قرانا وبالآلاف في لبنان وفي كثير من المرات بادر الحزب إلى الدعوة لعقد مؤتمرات لليسار اللبناني وصدرت عنها وثائق سياسية ولجان متابعة إنما كانت تنتهي بعد فترة قصيرة من الزمن.
إن الأساس في فشل الحزب في تجميع وإحياء اليسار اللبناني هي تلك السياسة التي تنتهجها القيادة غير الحاسمة في مواقفها وعدم الوضوح في برنامجها: فتبقى على الدوام عين على اليسار والعين الأخرى على لوائح المحادل الطائفية والسلطوية وعين على العلمانيين واخرى على الطائفيين، فخسر الحزب اليسار ولم تقبل به الطوائف.
هذه القرارات أضافت إلى الحزب المأزوم صعوبات ومشاكل كثيرة انعكست على وضعه الراهن حيث يعيش الشيوعيون حالة من الإحباط والإنكفاء والتساؤلات على مصير الحزب.
إنطلاقاً من تلك السياسية والممارسات ومن ذاك النهج التاريخي للحزب يمكن استخلاص النتائج التالية:
أ. إن الحزب فشل في تحقيق أهدافه السياسية وإنه ضائع في تحالفاته ومغلّب للذاتي على العام ومربك في برنامجه بين الحلم والواقع.
ب. لقد طرح الحزب منذ ان تأسس برنامجاً وشعارات دون ان تكون قد توفرت لهذه الشعارات الامكانات الواقعية لتحقيقها وبالتالي اوصلته تلك السياسة الى الفشل في تحقيق اهدافه في الوقت الذي اكد فيه ماركس ومن بعده لينين على ضرورة الربط بين المهمات والواقع والامكانية. وفي غياب هذا الترابط حصلت وقد تحصل نتائج سلبية ودفعت وقد تدفع الشيوعيين والناس الى اليأس والانكفاء.
ج. إن فقدان المصداقية في العمل على إقامة تحالف يساري ديمقراطي علماني كان يخسّر الحزب اليسار والعلمانيين وترفضه الطوائف، والإستنتاج العام من وراء كل ذلك أن سياسة الحزب الشيوعي التاريخية هي في أحسن الأحوال"اذا قبلت به الطوائف".. هذه السياسة لن تؤدي سوى إلى أن يكون الحزب ملحقاً هامشياً ذيلياً في النظام السياسي الطائفي كغيره من الأحزاب ممن اختاروا التعايش مع صيغة لبنان الطائفية والمذهبية.
د. لقد تم عقد عشر مؤتمرات للحزب حتى اليوم بعد 88 عاماً ولو عقد الحزب بعددهم من المؤتمرات اللاحقة إذا ما استمر على هذه الخيارات السياسية والممارسات اليومية في ظل أية قيادات عتيدة فلن يستطيع تحقيق أي من أهدافه الإصلاحية للنظام السياسي الطائفي في لبنان فكيف بمشروعه التغييري الجذري.
المؤتمر العتيد الحادي عشر:
يمر العالم في مرحلة تشهد متغيرات وتحوّلات كبرى شبيهة نسبياً بتأثيراتها الدولية والإقليمية والمحلية بالتحوّلات التي حدثت قبيل انعقاد المؤتمر الثاني للحزب. فالنظام الرأسمالي يمر بأزمة عميقة ضربت عقر دار الرأسمالية العالمية، و النظام الرسمي العربي قد انهار تماماً، والإسلاميون توصّلوا إلى واجهة السلطات في عدد من الدول العربية، والقضية الفلسطينية متروكة لأهلها منسية حتى من نسبها العربي تعيش مأزقها بذاتها وفي المقابل نشهد يقظة يسارية جديدة تعبّر عن نفسها بحركات شبابية عفوية أحياناً ومسيّسة أحياناً أخرى وأحزاباً يسارية تعيد النظر في الكثير من طروحاتها وبرامجها وتكثّف لقاءاتها من أجل الحوار والتنسيق في المهمات القومية المشتركة.
وعلى المستوى اللبناني نشهد واقعاً مأزوماً ومخاطر جديّة على الكيان وغياب دولة حقيقية وسلطة تعيش مأزقاً صعباً متخليّة عن دورها على كافة المستويات السيادية والأمنية والمعيشية، إضافة إلى أن لكل طائفة علاقاتها الخارجية وارتباطاتها حيث يعيش لبنان اليوم انكشافاً غير مسبوق على الخارج يعود إلى سياسة تاريخية قامت بها الطوائف التي كانت حين تختلف على مصالحها أو على خيارات البلد وهويته تلجأ كل طائفة منها إلى الخارج طلباً لنصرته على غيرها، ومن خلال هذا الإلتجاء كان لبنان يتحول إلى ساحة للصراع الإقليمي أو الدولي تتحول أرضه إلى أرض مستباحة.
ثوابت في واقع لبنان منذ تأسيسه:
هناك ثابتان في لبنان:
الأولى: أن الطبقة السياسية اللبنانية الحاكمة منذ تكوّن لبنان السياسي ولا سيما بعد مرحلة الاستقلال عجزت عن معالجة أزمات البلد وحل قضاياه ووقف الحروب الأهلية الدورية عنه.
الثانية: إن أحزاب التغيير اللبنانية، واليسارية منها بشكل خاص، فشلت في تحقيق برامجها الإصلاحية والثورية كما فشلت في تشكيل كتلة شعبية ثابتة وازنة قادرة على فعل التغيير، ذلك لا يعني أن أحزاب اليسار لم تحقق اية إنجازات على مستوى النهوض الوطني والإجتماعي إنما كانت إنجازاتها محدودة نسبة إلى طموحاتها وأهدافها.
كما فشلت الأحزاب اليمنية في تغيير نظام المحاصصة الطائفي عبر فرض الحل الفاشي بقيام دولة تحكمها طائفة واحدة تتجاوز دولة الطوائف(مشروع بشير الجميل).
وما يهمنا هو الوقوف على أسباب فشل اليسار الشيوعي عموماً والحزب الشيوعي بشكل خاص، واعتقد أن مرد ذلك يعود بشكل أساسي إلى قراءة ورؤية الحزب التاريخية للواقع اللبناني المعقد منذ تأسيسه والى الالتباس في البرنامج والمواقف السياسية والشعارات التي طرحها الحزب.
لقد استندت تلك الرؤية إلى أدوات النظام المعرفي الماركسي وإلى مفاهيم الثورة المجتمعية الطبقية وبالتالي كان التحليل الطبقي الصرف هو المعتمد فيما خص الواقع اللبناني وهي رؤية تبدو غير واقعية في المراحل الأولى لعملية التغيير الشاملة أمام حقائق التحليل الملموس للواقع الملموس.
لأن التناقضات الطبقية عندنا سرعان ما تتحول في لحظة تفجرها إلى صراعات طائفية ومذهبية تجرّ إلى الفتن أو إلى الحروب الأهلية يدخل على أثرهما المجتمع اللبناني في حالة إنقسام واقعية تتراوح بين نزعات التفتيت والإنقسام العمودي وهذا ما أشرت إليه سابقاً بأن التغيير الجذري يفقد أهم شروطه الموضوعية بعدم توافر الوحدة المجتمعية الثابتة التي تتراكم فيها النضالات في مسار التغيير الثوري كما يفتقد الشرط الذاتي أثناء الحروب الأهلية بتراجع القوة اليسارية المؤثرة وارباكاتها وإبعادها عن المشاركة في إعادة بناء لبنان من جديد بعد كل أزمة أو حرب أهلية فيدخل اليسار مجدداً بعد كل تسوية في حال من التهميش والإقصاء والإحباط والإنكفاء ويتراجع الوعي الطبقي امام الوعي الطائفي الغرائزي الزائف الذي يتمثل باستنفار الغرائز التي يؤججها قادة النظام السياسي الطائفي والتي لن تقود الا الى عصبوية مذهبية تدمر المجتمع وتعطل عملية التغيير.
كان الحزب تاريخياً على الدوام يحدد التناقض الرئيسي في لبنان بأنه قائم بين الطغمة المالية والقوى الرجعية من جهة وبين الطبقة العاملة والقوى الوطنية من جهة أخرى، وسأقتطع نصاً من وثيقة المؤتمر الخامس (1987) وهو آخر مؤتمر قبل سقوط الإتحاد السوفياتي.
"ينطلق حزبنا في تحديد موقفه من التناقض الرئيسي على الصعيد اللبناني بين الطغمة المالية والقوى الرجعية من جهة وبين الجماهير الشعبية والقوى التقدمية من جهة ثانية". هذا التحديد التاريخي للتناقض الرئيسي يشير إلى أن برنامج الحزب كان قائماً على نظرة وحيدة الجانب وهي أن الصراع في لبنان هو صراع طبقي صرف كما في أي مجتمع ناجز آخر وأن انتصار الإشتراكية في لبنان يشكل حلاً شاملاً لكل آفات المجتمع من الإستلاب والإستغلال والحروب والطائفية والمذهبية. وكون الإشتراكية تتحقق من خلال نظرية ثورية لا تقبل أنصاف الحلول وبالتالي فهي ليست مضطرة للمرور إلى المجتمعات المتقدمة عبر العلمنة مثلاً في لبنان كمرحلة إنتقالية. ومنذ تأسيس الحزب وحتى مطلع التسعينات لم تتشكل حركة علمانية ديمقراطية ولم يتم السعي إليها في لبنان، لأن الأساس في برنامج الحزب الشيوعي كان التغيير الإشتراكي وفي أقرب المراحل حكم وطني ديمقراطي يؤدي إلى الإشتراكية مستنداً بذلك إلى مقولة تاريخية بأن سمة العصر هي الإنتقال من الرأسمالية إلى الإشتراكية، فكانت العلمانية ملحقاً ثانوياً في برنامج الحزب الشيوعي رغم ان الحزب يقر في وثيقة مؤتمره السادس "بان العقبة الاساسية امام تحقيق المجتمع اللبناني مجتمعاً عصرياً متحرراً من كل مظاهر التخلف منفتحاً على كل ما يزخر به عصرنا من تطور وتقدم وحضارة. ان العقبة الاساسية امام تحقيق هذا الهدف هي دون شك الطائفية لا من حيث هي سمة النظام السياسي في لبنان وحسب بل ايضاً من حيث كونها ظاهرة سوسيولوجية وتاريخية شديدة الحضور في الوعي السائد وفي العلاقات الاجتماعية بين اللبنانيين في الحرب كما في السلم وان الغاء الطائفية السياسية هو شرط ضروري لتحرير الممارسة السياسية والحياة الاجتماعية في البلاد من هذا القيد المتخلف" كان ذلك تطوراً في تحليل الحزب للواقع اللبناني.
لقد قفز الحزب في رؤيته التاريخية عن الواقع الحقيقي للبنان وعن تكوينه المعقد جداً حيث يتداخل الوطني بالخارجي وكان الخارجي دائماً أقوى من الوطني (دساتير 1943 – الطائف – الدوحة) وتداخل الطبقي بالطائفي وكانت الطائفية أكثر تاثيراً على وعي الناس من الوعي الطبقي وقد عبّر الدكتور مسعود ضاهر عن هذا الأمر بقوله: "الطائفية اللبنانية هي بالتحديد الشكل السياسي للنظام الطائفي – الطبقي في لبنان وهي ضمانة القوى المسيطرة فيه، فعند ممارسة السلطة في لبنان تتداخل الطائفية بالطبقية كما لو كانتا وجهين لعملة واحدة".
لقد وضع الحزب برنامجاً متقدماً جداً على واقع متخلّف ومعقّد جداً، فترك خانة شاغرة في برنامجه استفادت منها السلطة السياسية – الطائفية بمنعه من تحقيق أهدافه السياسية ألا وهي العلمنة. والعلمنة ممر إجباري لبناء وطن بديلاً للكيان ودولة بديلاً للسلطة ومواطنيه بديلاً للرعايا. وفي ظل مجتمع ينقسم عند أية أزمة أو حرب وفي ظل غياب المواطنة يصبح الكلام عن الدولة أمراً مستحيلاً وعن بناء الاشتراكية ضرباً من الأوهام.
فكيف ونحن في مرحلة يشهد فيها لبنان إنقساماً عميقاً وتفجراً جديداً في أزمة النظام السياسي – الطائفي حيث يؤشر هذا الإنقسام إلى أن لبنان يمر في مرحلة إنتقالية بعدما سقطت صيغته الأولى (1943) ولم يكتب الحياة للثانية (الطائف 1989) حيث بقيت في أدراج الرئيس حسين الحسيني فإن صياغة نسخة جديدة عن هذا النظام الطائفي هي الآن قيد مخاض عسير.
فهل يكون الحزب الشيوعي على قدر من المسؤولية والرؤية وإعادة النظر بمسيرته تتيح له المشاركة مع من يشبهه أحزاباً وأفراداً ومؤسسات ديمقراطية ومنظمات مدنية من تقديم برنامج إنقاذي للوطن بعيداً عن كل تدخل خارجي وعن كل حل طائفي؟؟
بالرغم من كل الصعوبات التي أصابت الحزب وقلّة الإمكانات لديه ينبغي أن لا نقلل من أهمية حضوره ووجوده، فالحزب ما يزال محترماً ومقدراً (قيادة وكوادر ومنظمات) في مجتمعنا وبين جميع القوى السياسية وهو يعبّر عن نفسه باللحظات الحرجة وفي القرارات السليمة. إن نتائج إنتخابات البلديات والنشاطات التي حصلت في نهاية العام الماضي ومطلع العام الحالي من مهرجانات وندوات تشير إلى أن هذا الحزب قادر على النهوض مجدداً إذا ما توفرت له رؤية سياسية جديدة وبرنامج واقعي ملموس قد اكرر بديهيات ومسلمات متعارف عليها في الحزب لكنها اصبحت بحاجة الى ازالة الالتباسات التي احاطت وتحيط بها والى تجنب الشعارات غير الواقعية التي يستحيل تحقيقها.
ولذلك، على الحزب أن يطرح في مؤتمره القادم شعاراً واقعياً قابلاً للتنفيذ وأرى أن الشعار الملائم لوضع البلد الذي هو دون الدولة ودون المواطنة والمنقسم مذهبياً وفدرالياً هو "بناء الدولة الديمقراطية العلمانية العادلة" ومدخلها قانون إنتخابي قائم على النسبية، وأسارع إلى القول بأن هذا الشعار ليس جديداً إنما الجديد هو في ممارسة سياسية حاسمة عبر:
1- اعتماد برنامج قائم على مرحلتين قبل الوصول الى برنامج الإشتراكية.
أ- برنامج مرحلي لتحقيق الدولة العلمانية (إلغاء الطائفية) وهنا يستحضرني ما كتبه مهدي عامل في كتابه "في الدولة الطائفية: الدولة التي توجد الطوائف مؤسسياً وسياسياً هي فقط الدولة الطائفية والدولة الطائفية في تعريفها نفسه ليست دولة مركزية ولا يمكن ان تكون الاّ اذا كانت دولة طائفة واحدة لا دولة طوائف وفي هذه الحال تصبح كأسرائيل دولة عنصرية شرط قيامها الغاء غيرها" انطلاقاً من ذلك باستحالة قيام دولة مركزية في لبنان من خلال واقعها الطائفي المتعدد يُفرَض على الحزب الشيوعي ان يعيد النظر في برنامجه بالبحث عن مهمات بناء دولة موحدة مركزية عبر الغاء موانع تلك الوحدة.
ب- برنامج الحكم الوطني الديمقراطي: وهذا يتطلب برنامجاً للاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي اكثر تقدماً نحو التغيير الجذري كما يتطلب حلفاء واضحون بخياراتهم السياسية التقدمية والوطنية ينتج عن ذلك جبهة تقدمية وطنية يسهل ويسرع قيامها ويعطيها دفعاً اذا ما توفرت لها شخصية ذات فكر ووزن وحزب كالشهيد كمال جنبلاط الذي شكل الرافعة الاساسية لمشروع الحركة الوطنية اللبنانية رغم انه جمع في شخصه الكثير من المتناقضات "الوطني بالطائفي والاقطاعي بالاشتراكي" لكنه كان حاسماً في خياراته وانحيازه نحو حركة التحرر العالمية ونحو التقدم والعدالة الاجتماعية.
2- إعادة بناء الحزب على وحدة سياسية واضحة في الممارسة والنهج قاطعاً مع الطائفية والطائفيين والمذهبيين.
3- إقرار وثيقة واحدة موحّدة لحزب متماسك في التطبيق والممارسة تعبّر عن رأي الأكثرية (هذا أهم مبدأ من مبادئ الديمقراطية السلمية) ومغادرة الوثائق التي تتضمن الرأي ونقيضه أو الرأي المفتوح على تفسيرات متعددة إرضاء لبعض المعارضين وعلى الأقلية أن تقلع عن الإتهامات والتزوير إذا لم تتضمن آراءها مع حقها في استمرار طرح تلك الاراء في الحزب والاعلام.
4- تحديد التناقض الرئيسي بوضوح، والإقلاع عن التهجين السياسي التاريخي (تطعيم اليساري بالطائفي) ووضع حد للإلتباس القائم في خط الحزب عبر برنامج مركب وبالقطع الثابت مع مواقع سياسية– طائفية. فلا ديمقراطية ولا مواطنة ولا وطن حقيقياً ولا دولة مؤسسات مع الطائفيين والمذهبيين والخلاف الظاهر اليوم بين 8 و14 آذار ليس بتناقض إنما التناقض الحقيقي هو بينهما مجتمعين كممثلين للطوائف والمذاهب والبرجوازية اللبنانية وبين العلمانيين واليساريين والديمقراطيين وجميع الفئات الشعبية.
إن إقرار هذا التناقض وممارسته في برنامج بناء الدولة العلمانية الديمقراطية العادلة يشكل تحولاً كبيراً في مسيرة الحزب وبالتالي يصبح علينا وضع برنامج تفصيلي مرحلي واضح الأهداف والحلفاء ويصبح لزاماً علينا أن نجيب بوضوح على أسئلة ماذا نريد أن نغيّر؟ ومن هم الرافضون لمشروعنا والواقفون بوجهه والمانعون لتحقيقه؟ ويسهل على كل شيوعي أن يجيب بسرعة نحن ضد من نناضل في هذا البلد؟ ينبغي مغادرة مرحلة الضياع عند الشيوعيين والتشكيك بنهجنا ومواقفنا من الآخرين.
نحن اليوم في حال من الضياع عند الإجابة على هذه الأسئلة. فلو سئل الشيوعيون أفراداً من هم خصومكم في لبنان وضد من تناضلون؟ لأجمعوا ربما على حزب القوات اللبنانية وتباينت آراؤهم نسبياً حول الحريري والطامة الكبرى في تتمة الإجابة عن (عون–جنبلاط–حركة أمل– حزب الله–كرامي–فرنجية) أليس هؤلاء جميعاً هم أصحاب المشروع النقيض؟ للبرنامج الطبقي ولبرنامج الدولة العلمانية القائمة على المؤسسات? أليس هؤلاء هم أهل السلطة القابضة على الحكم وهم المانعون للتغيير والواقفون بوجه بناء وطن ودولة ديمقراطية ومواطن لبناني. ينبغي مغادرة الالتباس في موقف الحزب من الحلفاء ومن الخصوم السياسيين.
كما على الحزب أن يبادر إلى طرح مشروعه البديل في إطار الصراع الدائر اليوم هناك اتجاهان لهذا الصراع لا ثالث لهما.
الأول: يسعى إلى بناء كيان لبناني (مذهبي–طائفي–فيدرالي) قائم على الديمقراطية التوافقية وعلى الجماعة (الرعايا) وحق النقض للمذاهب وعلى مؤسسات المجتمع الاهلي وعلى الشركة القائمة على المحبة والمحاصصة هذا هو خيار الأحزاب الطائفية والمذهبية وحلفائهم.
الثاني: يسعى إلى بناء وطن لبناني (علماني–ديمقراطي) قائم على دولة المؤسسات والعدالة الاجتماعية وعلى المواطن الفرد الحر وعلى منظمات ومؤسسات المجتمع المدني وهذا هو مشروع العلمانيين واليساريين وحلفائهم.
مشروعان نقيضان بكل شيء ولا موجب ولا مقبولاً بعد اليوم لأي التباس في المواقف ولأي تهجين سياسي بينهما، ولأي صعوبة في اختيار الحلفاء.
إن القيادة الراهنة في الحزب بدأت بممارسة قناعات وخيارات جديدة بعد نتائج الإنتخابات النيابية وخاصة في قراراتها بشأن البلديات–المعلمين–المهندسين–الأطباء–النقابات، تصب جميعها في خدمة المشروع الثاني وأخشى أن يتم التراجع عنها في أية لحظة تحت تبريرات مختلفة كونها ليست خياراً مؤتمرياً بعد.
5- تحديد الموضوعات والمهمات في الوثيقة العتيدة التي سيقرها المؤتمر ومؤكدة على:
- مغادرة أوهام النيابة والوزارة وعدم خوض أية إنتخابات نيابية في ظل القوانين الراهنة القائمة على الأكثرية والطائفية.
- الطلاق النهائي مع نهج الإلتحاق الذيلي بلوائح السلطة والمذاهب في جميع الإستحقاقات الإنتخابية (نيابة–مهن حرة– طلاب–نقابات إلخ).
- خلق أطر ديمقراطية في أوساط (المعلمين–الأطباء–المهندسين–النقابات–الطلاب) والعمل على استصدار تراخيص رسمية لها.
- تشكيل جبهة علمانية–ديمقراطية تضم الأحزاب والجمعيات والمنتديات والشخصيات التي تعارض استمرار النظام السياسي–الطائفي وتؤمن بقيام دولة علمانية ديمقراطية بغض النظر عن منشئها الطبقي واختلافاتها الأيديولوجية.
- إبداء مصداقية عالية في ممارستنا لتجميع القوى اليسارية على أساس مشروعنا السياسي المحدد (الطبقي – العلماني).
- الإهتمام بالحوار مع المثقفين المؤيدين لإسقاط النظام السياسي – الطائفي ودعوتهم إلى النهوض للقيام بمهمتهم التاريخية هذه دفاعاً عن الثقافة والديمقراطية والوطن.
- الحاجة الى اعادة الاعتبار للاخلاق في الحزب بمفهوميها السياسي والقيمي لتحرير عملنا السياسي وعلاقاتنا من التزوير والتدوير والتحريف والاتهامات.
- قد يخسر الحزب لسنوات بعض المواقع الهامشية لكنها السياسة الوحيدة التي تؤسس لتكوين كتلة شعبية ثابتة ووازنة قائمة على مشروع علماني–ديمقراطي– طبقي حاسم في عدم الإلتحاق بالطائفيين والمذهبيين. أفكار تسبق المؤتمر العتيد أعتقد أنها تساهم في إخراج الحزب من أزمته السياسية وتمكّنه من أن يشكل رافعة لليساريين والعلمانيين والديمقراطيين وجميع الفئات الشعبية لتحقيق برنامجه المرحلي.