|
بلزاك: الروايةُ والثورةُ (2- 2)
عبدالله خليفة
الحوار المتمدن-العدد: 4002 - 2013 / 2 / 13 - 08:54
المحور:
الادب والفن
في الروايةِ الأولى التي نشرَها باسمه سنة 1827 والمسماة الناعقون أو الثوار الملَكيون في ترجمات مختلفة، يقدمُ بلزاك بنيةً حدثية شخوصية متسارعة متداخلة، يغلبُ عليها السردُ الخارجي التصويري المتصاعد، في دراما حدثية قتالية عاطفية متواشجة. ليست فيها عتبةٌ تصويرية تمهيدية بل تتوجه مباشرة نحو البؤرة الروائية، حيث هي منذ البداية في قلب الحدث الروائي المركزي. المنطقة الريفية من بريتانيا المقاطعة الفرنسية القريبة من بريطانيا التي تغدو بؤرة الثورة المضادة ضد الجمهورية، تُصورُ عبر طبيعتها الجبلية الزراعية الخلابة، وعبر الصراعات المشوقة العنيفة. البؤرة الشخوصية تتمحور حول قصة عاطفية في نسيج المعركة بين المَلكيين والجمهوريين، أثناء الفترة الأولى المبكرة لحكم نابليون، وتغدو الفتاة الارستقراطية (دو فرنوي) هي هذه البؤرة. السرد الظاهري الحدثي المتتابع يسجل صدامات المَلكيين الريفيين المنتشرين باتساع في منطقتهم الريفية المُهاجمة من قبل الجمهوريين، وتلك الفتاة البؤرة الشخوصية تظهر وتمسك خيوط الحدث وامتداداته المختلفة. الفتاة هي رمزية الثورة، والمرحلة، وعقدة التناقضات المركبة، فهي وُجهتْ لاختطاف أو قتل قائد الثوار المَلكيين، وهي ابنة غير شرعية لأحد الدوقات الذي لم يعترف بها سوى أخيراً وهو يحتضر، وحصلت على ثروة وتعهد بها محتالٌ غني كبير، وخاصمها الأخ في المحاكم ليلغي الاعتراف بها. وأقامت علاقة مع الشخصية الثورية الكبيرة دانتون الذي قُتل في صراعات الثوار الجمهوريين، وظلت بعض عواطفها ملكية، ووجهت من قبل السلطة الخفية للثورة لكي تقتل زعيم (الناعقين)، المتمردين المَلكيين، لكنها تقعُ في غرامه. الأحداث الدرامية الميلودرامية ذات الخيوط المتشعبة لمختلف الشخصيات من شخصيات الناعقين المؤثرين ممثلي الريفيين المتدينين الرجعيين الدمويين اللصوص، إلى زعيمهم الشاب الارستقراطي الشجاع الرومانسي الواقع في الحب، الذي يخلط الهجمات العسكرية الضارية بالجري وراء فتاته، إلى الضابط الجمهوري العجوز الشجاع الشهم الذي يقود المعركة، ومعه ضباط شباب مفعمون بالشجاعة والتضحية والرومانسية والإعجاب بالجميلة (دو فرنوي). هناك الخلفية الريفية، جسدُ المكان، مركزُ الفعل والحدث، المكانُ الذي يعبرُ عن شخصية الريفيين، حيث الأراضي المسيجة الأشبه بالقلاع، التي حازها الفلاحون في الزمان غير المروي، والتي تعجز القوةُ الجمهورية العسكرية عن السيطرة عليها. عملية التداخل بين القوتين المتحاربتين تنعكس على مختلف جوانب الرواية، خاصة في بؤرتها الشخوصية، حيث الفتاة المزودجة الانتماء، الجمهورية القادمة من باريس لكن عمقها الداخلي عاطفي شفاف لا يتغلغل بمُثُل الثورة، بل بمهمة عملية، بوليسية، مخفقة، بسبب عدم تغلغلها في الذات، غير الثورية. ومُثُل الثورة غير مصوَّرة، وغير مجسَّدة في علاقات بل في شظايا من شخوص الضباط الجمهوريين، مُثُلُ الثورة تغدو هي حماية الوطن الفرنسي من الأجانب الانجليز وغيرهم. المُثُلُ القوميةُ تتغلغل ذائبةً في خلفيات الشخوص والأحداث، فلدى الفتاة هي انتماء للجميع، وهي اضطرابٌ بين المَلكيين والجمهوريين، بين الارستقراطية والبرجوازية، بين الشعب والأعداء. المعسكران الجمهوري والمَلكي مرسومان بموضوعية، السارد المسيطر على رسم الخطوط الخارجية والداخلية، هو نفسه المؤلف المطلع على كل شيء الذي درس المنطقة وجغرافيتها وأحداثها، وقطعَ منها بنيةً روائية مغامراتية ذات مشاهد حيوية، ليس فيها غوص عميق في ذوات الشخوص، وجذورهم الروحية والنفسية والاجتماعية، لكن فيها تحديدات عامة للمعسكرين، بل وصف للمرئي الحدثي، الراكض، المتداخل، المتوجه للمستقبل، الراجع مرة واحدة للماضي الموسع في حياة الفتاة (دو فرنوي)، ولهذا فإن المرئي المتناقض بين المعسكرين يظل في الحدث، لا في المنولوج، في الديالوج السريع، وفي الوصف للمشاهد، ولمواقع النزاع بين أشكال الطبيعة، فيحدث التداخلُ بين المعارك والجغرافيا الريفية، فتبرزُ الأيديولوجيا الجمهورية في السخرية من شعارات المسيحية وعباداتها، وتبرز باتساع الأيديولوجيا الدينية حيث الكاثوليكية المتداخلة بالصراع السياسي العسكري الدموي والمدافعة عن الكهنوت المنهار. ولهذا فإن التصوير المباشر يسلط الأضواء على مشهدية الخندقين الاجتماعيين المتصارعين كما هما مرئيان في اللحظة اليومية. لهذا فإن الراوي لصيق المؤرخ هنا، ويبدأ بالقول: (لكن لا بد للمؤرخ إن شاء أن يكون واقعياً تصويرياً أن يذكر أن المنطقة عادت ذات يوم ضاحكة الأسارير لينة الملامح بعد أن أعلن الجنرال (هوش) الصلح ووقع ميثاقه). يغدو السارد مؤرخاً واقعياً مصوراً، محايداً بين الفريقين. لكنه حيادٌ مصّورٌ من قبل الطبقة السائدة المنقسمة هنا، جمهورياً وملكياً، الطبقة المنقسمة بين الارستقراطيين والبرجوازيين، في لحظتهم المرئية المسجلة هنا، لحظة الجمهوريين، الذين يحطمون الأغلال الكبيرة للإقطاع. السارد الراوي الذي يستعيد اللحظة الصراعية التاريخية يسجلُ دقائقها، يعرض شخوصاً متعددة متضادة، في بياناتها الخارجية والسلوكية. المعسكران، والطبقتان الارستقراطية و(البرجوازية)، تضادهما مباشر، أيديولوجي سطحي، يتمظهر عبر الانقسام الحاد بين الدين التقليدي، حيث المنطقة التي تقسمُ كلَ لحظة بـ (قديسة أوراي) وبين نفي الدين وإلغائه عبر الشعارات العسكرية. هو صراعٌ يمتظهر ضد ما هو فج ورجعي من الإقطاع، وعبرَ ما هو سطحي وفج من البرجوازية الصغيرة. الواقعية الرومانسية تتداخل عبر الالتزام بمشهدية الصراع الاجتماعي المباشر وحركات لقطاته الموضوعية، وبوجودِ قصة الحب بين الآنسة دو فرنوي والمركيز دو مونتوران التي تنمو بالحيل المليودرامية عبر التلاقي في عربةٍ وبالحب من أول نظرة، والحب المتغلب على عقبات الصراع الاجتماعي والشهيد في خاتمة المطاف. الواقعية تصفُ كل ما هو فظ وعنيف في الناعقين الريفيين الأجلاف، وحركة عربة النقل معبرة عن مستوى الأدوات المجسدة للتطور الاجتماعي كما يقول بلزاك نفسه كراو مباشر، ومشاهد الواقع اليومي من أدواتٍ وأبنية وملابس وصراع على الأشياء وتركات المقتولين. وهي رومانسيةٌ في وصفها لنمو الحب والطبيعة الجميلة منشدة للرواية التسجيلية المشوقة. مستوى الصراع الاجتماعي الافتتاحي المبكر الملحمي بين المَلكية والجمهورية، بين الارستقراطية والبرجوازية، ينعكس في البنية السردية المباشرة الدرامية الصراعية، الموضوعية، حيث الراوي الذي يصور الفريقين بكل ما يمتلك كل فريق من مزاياه الحقيقية، وهو في ذاته المعبر عن الكل، عن جموع الفرنسيين في مسيرتهم القومية، عن الارستقراطية وهي تتبرجز، وعن الثورة كأداةٍ للقومية، عن مزاياها الشجاعة والمضحية، عن نقد حثالة الإقطاع المتجسدة في الناعقين الدمويين لصوص الصراع السياسي. الراوي بلزاك يقف محايداً فوق الصراعات الجزئية المتلاشية في دراما التاريخ، ممسكاً خيطَ الطبقة المسيطرة المتحولة، عارضاً تكونها التاريخي المعقد، حيث تقوم الثورةُ وإمتداداتُها التاريخية بإعادةِ نسج المجتمع، المرئي من قبل الطبقة السائدة، المتحولة، الذي يغدو بلزاك هو عينُها، المحدقةُ فيها، المبتعدة عن سلبياتها ومخلفاتها، والمبتعدة كذلك عن الطبقات العاملة، المرئية في الظلال والخلفية الاجتماعية التاريخية كأدوات لها، كضباط وجنود وفلاحين وتجار يمهدون التربة لنظامها.
#عبدالله_خليفة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بلزاك: الروايةُ والثورةُ (1-2)
-
التوصيفُ الطبيعي للربيع العربي
-
تسريحُ العمالِ ومسئوليةُ الانتهازيين السياسيين
-
أسباب تمكن الحركات الطائفية من الاختراق
-
تصادمُ المذاهبِ المُسيّسة
-
مشكلاتُ عمالِ الريف
-
ثورةٌ مع مَن وضد مَن؟
-
الجمهوريةُ والمَلكيةُ عربياً
-
الأشكالُ السياسيةُ والتطور الصناعي
-
الجمهورية والرأسمالية
-
إسحاق يعقوب الشيخ وحلمُ شعب (4-4)
-
إسحاق يعقوب الشيخ وحلمُ شعبٍ (3)
-
ديمقراطيةٌ متدرجةٌ في الخليج
-
ثورةٌ تقودُها البرجوازيةُ الصغيرة (2-2)
-
ثورةٌ تقودُها البرجوازية الصغيرة (1-2)
-
العمال والنقابات والطائفية
-
الديمقراطيةُ أو الفاشيةُ
-
إيران و مخاطر تجربة ألمانيا الهتلرية
-
نضالٌ ديمقراطي مشتركٌ
-
صراعُ الطائفيين في سوريا: الخاتمةُ المروعةُ
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|