|
نصر أبو زيد الغائب الحاضر وتجار الشنطة الجدد
خالد سالم
أستاذ جامعي
(Khaled Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 3996 - 2013 / 2 / 7 - 21:10
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
نصر حامد أبو زيد، اسم ولقب يضربان بمصريتهما في عمق تراب كيميت، مصر السمراء، الأرض التي بحثت منذ فجر التاريخ عن خالق تحمده على ما أنعم عليها من نعم وظواهر طبيعية تبث فيها الخير، فجلعت من رموز هذه الظواهر آلهة تعبدها إلى أن جاءت الأديان السماوية فاحتوتها ومدت لها يد العون أكثر من الجغرافيات التي نشأت فيها. كان نصر أبو زيد من ريف مصر وأهله الطيبين الذين بنوا تحت أشجار الصفصاف والجميز مصليات من طمي النيل، المخلوط بعرق الفلاحين البسطاء، وحجر بناء المعابد، فقيرة في معمارها لكنها قوية في تواصلها مع الخالق، دون وسطاء، دون تجار شنطة، وافترشوه بقش الأرز ليصلوا له خلال ساعات كدهم في الأرض ويشكروه على ما أنعم عليهم. ولد العلامة نصر أبو زيد في هذا المناخ فتشربه وانتوى منذ نعومة أظفاره خدمة ثقافته بشقيها الدنيوي والديني، إلا أن نخاسي الدين ترصدوا له وحالوا دون ترقيته في جامعة القاهرة. وما أدراك ما الترقيات في جامعات أرض الكنانة!!! كان ذنبه أنه فضح أمرهم عندما كانوا يتربحون من الإتجار في الدين أيام شركات توظيف الأموال في الثمانينات، فكان أن حرموه من درجة أستاذ وترصدوا له بموجب قانون الحسبة الذي يعود إلى العصور الوسطى، وهو ما حمله على الرحيل عن الكنانة هربًا من الأفاعي، تجار العصر، وبعد أن تخلت عنه أجهزة نظام مبارك. فتحت جامعة ليدين في هولندا أبوابها أمامه، وفي طريق الرحيل الإضطراري توقف في مدريد عدة أشهر حيث كان له فيها سند من أصدقاء ومريدين أحاطوا به. صاحبه سنده الأكبر زوجه الوفية إبتهال يونس التي حاولوا فصلها عنه ولازمته طوال رحلة الهجرة وعاشت معه وجعه جراء ابعاده عن بلده الذي انهمرت دموعه عليه كلما حلت مناسبة أو شاردة تذكره بهذا البلد المنكوب بتجار الدين على مر العصور، منذ الفراعنة بكهنوتهم الديني إلى يومنا هذا مع صراع سياسي طاحن يكاد يعصف بالبلد جراء ادعاء التشبث بهويته الدينية، لا عن كرامة وحرية ورفاه الفلاح الفصيح الذي يسكن مصر كلها جراء الظلم الواقع عليه طوال العصور كافة، ولم تتخللها فترات كانت كشعاع شمس في شتاء سمائه ملبدة بسحب قاتمة. منذ تفجرت ثورة 25 يناير 2011 التي اجتثت أكبر طغاة الوطن العربي وتمكن الإسلام السياسي من السلطة في مصر، تساءلت: ماذا كان لنصر أبو زيد أن يفعل في هذا المسرح الجديد والسيطرة فيه لأدعياء لطالما حاربوه وتجنوا عليه حتى في مرض وفاته؟!! مما لاشك فيه أنه ربما غيّر منحى حياته وبعضًا مع اهتماماته الدينية و الدنيوية، خاصة وأن كل من لم يحفر في جبهته علامة صلاة أصبح علمانيًا أو ليبراليًا، أي أن مصيره النار وبئيس المصير حسب تجار الشنطة الجدد. تعودت في بعض رحلاتي لزيارة الأهل في دلتا النيل أن أمر على قبره في قُحافة، مسقط رأسه، التي عاد إليها ليتسلل إلى ترابها ويرقد تاركًا لهم الدنيا بما عليها، في ضواحي طنطا لأقرأ الفاتحة على روحه. أذكر أن حارس القبور اقترب مني في أول زيارة، بعد وفاته بأيام، وأسرّ إلي بعفوية أهل الريف، قائلاً:" لقد حضر جنازته جمهور غفير من الأهالي وأصدقائه من القاهرة". كلمات كان يعنيها بعد أن لاحقته إشاعة أن الجنازة حضرها عدد قليل من المشيعين أطلقها سفهاء اللحظة الملتحفين بالدين والدين براء منهم. اضطر نصر أبو زيد إلى العيش خارج الساحة العربية بينما أخذت في الازدهار تجارة الدين ممثلة في ظاهرة الدعاة الذين انتشروا كالبكتريا عبر الفضاءيات وصبت الظاهرة في ما آلت إليه الأمور بعد ثورة 25 يناير 2011 في مصر. وأخذ يتكلم في الدين كل من هب ودب بعد غياب العلماء المميزين. وهنا أتذكر بيت طرفة بن العبد في قوله: خلا لك البر فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري كنت قد أجريت هذه المقابلة مع نصر أبو زيد عندما عرّج على مدريد في طريقه إلى هولندا مضطرًا. ونظرًا لدقة اللحظة التي نمر بها ارتأيت أنها قد تفيد القارئ. وكانت على النحو التالي:
د. نصر أبوزيد: الدراسة المنهجية علمتنى احترام الذات فى أصعب الظروف كانت الأرض التى شهدت قمة التسامح الفكرى والدينى وأزهى حقب الحضارة العربية ،الأندلس، شاهدا على أول حوار مع الدكتور نصر أبو زيد بعد أن أضطر إلى مغادرة مصر بحثا عن الأمن والأمان عبر رحلة علمية بدأها فى إسبانيا لتمتد إلى هولندا وألمانيا قد تستمر سنوات، إثر حكم أصدرته إحدى محاكم القاهرة للتفريق بينه وبين زوجته الأستاذة الجامعية على إثر رفع دعوى قضائية يتهمونه فيها بأنه مرتد، فلم يكن أمامه من مخرج سوى البحث عن الهدوء بعيدا عن النميمة والتشويش، رغبة منه فى العودة إلى أبحاثه وكتبه التى أفنى معها معظم سنى حياته، دون التفكير ولو للحظة واحدة فى عروض اللجوء الفكرى، إن صح التعبير،فى دول عربية وغربية، وآثر أخيرا منحة التفرغ العلمى فى جامعة ليدن بهولندا، بعد ثلاثة شهور أمضاها بين مراجع المكتبة الوطنية فى مدريد. دون أن يكون ذلك هربا من مصر، إذ أكد استعداده للعودة إلى القاهرة إذا تطلب الأمر ذلك، كما أكد أن خروجه لم يكن للارتماء فى أحضان الغرب مثلما فعل البعض أمثال البنغالية تسليمة نسرين والهندى البريطانى سلمان رشدى، بل كان من أجل البحث عن جو يسمح له بمواصلة أبحاثه العلمية من أجل خدمة الإسلام. تعد قضية نصر أبوزيد مأساة حقيقية فى عالم اليوم،فلا يعقل أن يتعايش شاعر الخمريات، أبو نواس فى بغداد ، منذ أكثر من ألف عام، إلى جانب أحد جهابذة الإسلام الإمام أحمد بن حنبل، فى حين أن هذا الأستاذ الجامعى لم يستطع الاستمرار فى أداء مهمته العلمية فى قاهرة نهاية القرن العشرين. وذنب أبوزيد ليس أكثر من الاختلاف مع أخرين فى وجهات النظر من منطلق دينى،مما يؤكد أن الفكر الدينى الرسمى المتعنت له حضور قوى على الساحة العربية، إن لم يكن مسيطرا فى زمن تسير فيه خطوات العالم بسرعة غير منظورة نحو رقى الإنسان واحترام آدميته. الأدهى من كل هذا أن خصومه يتهمونه بما ليس فيه، فالرجل يعتز بدينه وعقيدته التى تربى عليها منذ الصغر فى ريف مصر. أجرى المواجهة الدكتور خالد سالم أستاذ الأدب المقارن فى جامعة مدريد كومبلوتنس، وله العديد من المقالات فى الأدبين العربى والإسبانى. عندما شرعت فى إجراء هذه المقابلة فى العاصمة الإسبانية، حيث عاش نصر أبوزيد ثلاثة شهور بين كتب المكتبة الوطنية الإسبانية، بحت بغرضى لأحد رموز الثقافة العربية التقيته مصادفة فى مدريد،فأشاح بوجهه عنى،وقال إنك تبحث عن المشاكل،وأهاب بى أن أتراجع عن هذا المشروع المزعج،إلا أنى سعيت فى طريقى مستذكرا محاكم التفتيش التى شهدتها إسبانيا فى سنوات الديجور ضد المسيحيين وفلول العرب الذين أصروا على البقاء فى البلد الذى شهد مولدهم،بعد سقوط غرناطة أخر معاقل العرب فى الأندلس ومعها الحضارة التى أنارت ظلام أوربا. قبل إجراء الحوار،تملكتنى رهبة فى لحظة لن أنساها حين أعرب لى الدكتور أبوزيد عن ثقته بأن " النار ستكون مأوى هؤلاء الذين اتهمونى بالردة،والجنة هى مثواى فى الآخرة"، فتمسكه بعقيدته ودينه لا يضاهيه أى ادعاء من قوى الظلام. قال هذا وكله ثقة بأنه أفاد الإسلام على عكس أعضاء محاكم التفتيش الذين يلاحقونه عبر ثغرات قانونية تعود إلى عصور انقرضت فى القضاء المصرى دون أن يجرؤ متخصص على سدها، فيشوهون دين التسامح. وكانت هذه الرهبة قد لازمتنى عندما تصديت لقراءة مؤلفاته،فقد تهيأت لها وكأننى أمام كتاب مقدس،ربما لصعوبة الظروف والملابسات التى أحاطت بهذه القضية. على أية حال لم يكن من السهولة إقناع الدكتور أبوزيد بضرورة إجراء هذا الحوار،فلم يشفع لى سوى سابق زمالتنا فى نفس الجامعة،تلك الزمالة التى لم تدم طويلا إذ أضطررت إلى العودة إلى مدريد لظروف إنسانية وشخصية،مرجعها وجع الإنسان فى أرض الكنانة. وكان لنا هذا الحوار فى العاصمة الأوروبية الوحيدة التى أسسها العرب وقت عرفت حضارتهم التسامح وحرية الفكر. معنى القداسة - لماذا لم تدافع عن نفسك أمام المحكمة إزاء التهم الموجهة إليك؟ * لقد وضحت أفكارى وشرحتها بكل الطرق. أما وعن الدفاع عن النفس فأنا لم استدع للمحكمة ولم أسأل، ولو كنت قد استدعيت لذهبت إليها وشرحت أفكارى أمام القضاء.لكن هذا لم يحدث،فى الوقت الذى لم أكف فيه عن شرح موقفى وأفكارى وما هو غامض منها للرأى العام فى مختلف المنابر، من كتب وصحف ومجلات وآخرها كتاب " التفكير فى زمن التكفير". - يرى البعض أن طرحك مسألة دراسة القرآن الكريم كنص،فيه دعوة لإزالة قداسته،فما هو ردك على هذا الإدعاء؟ * أعتقد أن أصحاب هذا الإدعاء لا يفهمون معنى القداسة،فقد شرحت فى "التفكير فى زمن التكفير" أن القرآن ،كلام الله سبحانه وتعالى،يتجلى فى اللغة العربية،أى أن الله يخاطبنا بلغتنا وعلى قدر فهمنا، ومن ثم ليس أمامنا من وسيلة لدراسة القرآن إلا على أساس أنه نص. ما وجه المخالفة لمسألة القداسة فى هذا؟ نحن لا درس الله ولا نقترب من الذات المقدسة، وإنما نقترب بالدراسة، كما طلب منا الخالق،من الكلام الإلهى الذى هو واسطة بيننا وبينه. لاشك أن الكلام تعبير عن قصد المتكلم، لكن بعد أن يصدر الكلام عن المتكلم يخضع لفهم الذى يستمع، ليس أمامنا وسيلة لفهم قصد الله،وإلا فسندعى أو نزعم أننا أصبحنا آلهة، فالوسائل المتاحة أمامنا هى الفهم والتحليل، والقرآن نزل علينا لكى نتبينه ونتفهمه،وكلما نضجت هذه الوسائل وتطورت ازداد وعينا بالقرآن. - ما هو منهجك فى دراسة القرآن والحديث، وماهى النتائج التى توصلت إليها؟ * الحديث عن المنهج مسألة صعبة لأن منهج الباحث من الناحية العلمية البحتة فى تطور دائم ومرحلى،فليس هناك منهج ثابت، والباحث الذى يتمسك بمنهج واحد منذ بداية حياته العلمية يصبح غير قادر على التطور،فالمنهج نظريا مسألة تخضع للتطور والتغير بناء على متغيرات المادة نفسها، وبرغم هذا يمكن القول إن ما أطرحه ليس منهجا جديدا،ربما تكون اللغة التى أستخدمها والمصطلحات التى أتعامل بها نابعة من مجالات معرفية ليست شائعة، وغير معروفة عند العامة وكذلك، مع الأسف، عند الكثير من العلماء. المنهج قائم على أساس تصور للنص القرآنى، وهذا التصور نابع من دراسة معمقة لعلوم القرآن قمت بها وأصدرت بها كتاب "مفهوم النص، دراسة فى علوم القرآن". ومن خلال علوم القرآن: أسباب النزول، المكى والمدنى، والناسخ والمنسوخ، وغيرها من علوم القرآن،نكتشف أن القرأن نص لغوى نزل على مدى أكثر من عشرين عاما، نزلت الآية أو مجموعة الآيات حسب الوقائع، لكن القرآن مرتب بطريقة مخالفة لترتيب النزول، أى أننا إزاء ترتيبين يطلق عليهما العلماء ترتيب النزول وترتيب التلاوة. ما نقرأه فى المصحف هو ترتيب التلاوة وهو مخالف لترتيب النزول. لابد من العودة إلى ترتيب النزول من أجل الكثير من الدراسات، وهو ما فعله علماء أصول الفقه، ولكى نتبين الحكم الفقهى فى مسألة ما لابدمن العودة إلى ترتيب النزول لنعرف الناسخ من المنسوخ،أى الحكم الذى ألغى الحكم السابق عليه. هنا تكمن ضرورة التعامل مع القرآن كنص لغوى مع الأخذ بعين الاعتبار مجموعة العلوم التى يجب على المفسر أو من يتصدى لتحليل النص القرآنى أن يتسلح بها وأهمها علوم القرآن. ثم إن المنهج اللغوى والبلاغى منهج قديم،أى أن علماء اللغة وعلماء البلاغة تعاملوا مع القرآن بوصفه نصا معجزا،وعبد القادر الجرجانى أحد أهم المفكرين ومؤلف "دلائل الإعجاز" أفضل كتاب فى علم البلاغة العربية،يتعامل مع القرآن بوصفه نصا لغويا. إذن المنهج ليس جديدا، ولكن تطورات المعرفة فى مجال الدراسات اللغوية هو الجديد. والذى حدث فى الدراسات اللغوية المعاصرة أنها تخطت بمراحل كثيرة المنهج اللغوى كما هو معروف عند قدماء العرب مثل سيبويه. مهمة الباحث المسلم أن يمضى فى سعيه لأنه لا يخشى على القرآن ويثق ثقة مطلقة بأنه كتاب مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. من هنا لا خشية من أن نطرح القرآن للمناهج الحديثة فى الدراسة مثل الأسلوبية والسيميوطيقة والهيرمنوطيقة، فهى تمكننا من اكتشاف مستويات عميقة فى القرآن لم يستطع العلماء اكتشافها، لكن المشكلة أن هذه المصطلحات غريبة وعليها طابع الرطانة الأعجمية، وهنا يستطيع أنصاف العلماء ببساطة شديدة أن يؤلبو العامة ضد هذا النوع من البحث، مع أن مهمتهم هى أن يسهلوا لهم فهم هذه الأبحاث. وأنت تعلم أن مجال الدراسات القرآنية خاضع للصراعات الأيديولوجية، وعلى ذلك فالغرابة فى المنهج نابعة من حالة جهل، وهذا الكلام نابع عن الأميين وعن العوام وعن التوظيف الأيديولوجى للفكر الدينى لكى يستثير العامة ضد هذه المناهج الحديثة. مشكلة المناهج الحديثة أنها تسحب البساط من تحت أقدام الذين يتاجرون بالإسلام وينتفعون منه، وهذه مسألة معروفة للعامة والخاصة. الصراع مع القديم
- وما هى جدوى هذا النوع من الدراسات إذا كانت تثير ثائرة وغضب بعض الدوائر الاجتماعية أو الفكر الدينى الرسمى؟ أنا لا أعنى الانسحاب أو التسليم ولكن إعادة النظر فيها أو التنسيق بين وجهتى النظر، العلمية والدينية الرسمية؟ * لو توجب علينا أن نترك كل مايثير غضب العامة أو الدوائر التقليدية فلن نتقدم، التقدم والتجديد مرهونان دائما بالصراع مع القديم الذى يقاوم للاحتفاظ بمكانته، وهو قانون الحياة المطرد. سأضرب مثلا، والقياس مع الفارق، أن النبى،صلى الله عليه وسلم، أتى لقريش ولأهل مكة بدين جديد، بمفردات لا يفهمونها، وهنا حدث التقاطع، وكانت هناك محاولات كى يعترف الرسول بآلهتهم ليعترفوا بالله. القديم هنا يصارع الجديد، فلو افترضنا أن كل جديد سيصمت خشية مصارعة القديم فمعنى هذا أننا نحكم على وعينا الدينى وعلى عقلنا الإسلامى بأن يظل فى القرون الوسطى، وسيكون مسلكنا هذا كمسلك الهنود الحمر فى أمريكا، يوم خرجوا لمحاربة الغازى المدجج بأسلحته وجبروته ومقاومته بأساطيرهم القديمة. إننا نزعم كمسلمين أن الإسلام دين كل مكان وزمان، فكيف يكون هذا؟ أليس بتجديد المعرفة به؟ أليس بتجديد بحثه وقراءته؟ ونحن نعرف من أقوال الرسول والصحابة أن القرآن لا يخلق من كثرة الرد أى أنه لا يصيبه القدم من كثرة الدراسة والبحث،فالذين يقاومون هذا النوع من الدراسة يقاومون التطور وسنة الحياة. وإذا كان هذا النوع من الدراسة قادرا على كشف مستويات عميقة من المعنى والدلالة فى النص القرآنى لا تستطيع المناهج التقليدية اكتشافها،فكيف يمكن أن نكون مسلمين أصحاء العقل ونطالب بعدم إثارة العامة؟. إن مسئوليتنا هى تعليم العامة وإن اعترضوا أحيانا،فكما تعرف فى الجامعة يشكو الطلاب كلما أردت تعليمهم شيئا جديدا،ولو انصعت لرغبتهم لتخليت عن مهمتك كمعلم. - وما الذى توصلت إليه بعد هذه الدراسات اللغوية فى القرآن؟ * من القضايا التى تشغلنى حتى الأن والتى مسها القدماء مسا سطحيا: ترتيب القرآن،فالترتيب الحالى ليس ترتيب النزول، والقدماء تساءلوا ما الحكمة فى هذا الترتيب؟ أى لماذا لم يرتب القرآن بحسب النزول،وكان ذلك أسهل،وربما أجدى فى نوع معين من الدراسات،مثلا الدراسات الفقهية.لماذا رتبت هذا الترتيب؟ وما هى القوة التى ينطوى عليها هذا الترتيب لكى يؤثر القرآن فى القارئ بدءا من العصر الجاهلى إلى القرن الخامس عشر الهجرى؟ هذا سؤال يحتاج إلى دراسة. وقد تناوله القدماء فى علم المناسبة بين الآيات والسور،أى لماذا تأتى آية فى المطلقات بين آيات العقيدة،مثلا. لماذا جزئت القصص القرآنية وتكررت. بطبيعة الحال هناك دراسات قام بها القدماء،لكن السؤال الذى نحاول أن ندرسه الآن هو: ماهى القيمة التأثيرية الجمالية لمثل هذا الترتيب؟هذا مبحث عن الدلالة،لكن بالمعنى الأوسع للدلالة اللغوية،أى الدلالة النصية. إنه سؤال عما يسمى بجماليات النص القرآنى ولا يمكن أن يكون مطروحا إلا بالمنهجيات الحديثة، قبل ذلك كان لابد لنا أن نتبع الطرق التى اتبعها القدماء،أى تفسير القرآن آية آية دون أن نتناول العلاقة بين الآية والتى تليها،أو لماذا جاءت هذه السورة قبل أو بعد سواها.ناهيك عن البحث عن العلاقات العضوية، الجمالية،بين الآيات داخل السورة وبين السور فى سياق ترتيبها فى القرآن. هذا سؤال كبير من ضمن النتائج القليلة التى يمكن التوصل إليها،توظيف القرآن الذ لمشاهد الكون والطبيعة توظيفا دينيا،وليس كما يحاول البعض أن يطرحه عن الإعجاز العلمى. الدراسات العلمية تنطلق من نتيجة لكى تطرح سؤالا جديدا. إنها لا تطرح نتائج حاسمة،وإنما النتيجة التى تتوصل إليها تجعلك تثير سؤالا جديدا. عند الحديث عن هذا النص لا يمكن الحديث عن نتائج حاسمة ونهائية لأنه نص على درجة عالية من الثراء، والتعبير المجازى الذى ورد على لسان العلماء بأنه بحر لا ساحل له هو تعبير مجازى، استعارة، إلا أنه صادق إلى حد كبير،أو أنه عميق الغور،تصور كأنك تسبح فى المحيط فتخرج لؤلؤة من هنا وصدفة من هناك،لكنك لا تستطيع أن تدعى أنك استوعبت المحيط كله.
خناقة سياسية - معروف أن قضيتك تفجرت إثر النزاع حول حجب الدرجة العلمية، درجة الأستاذية.والسؤال الذى يخطر فى البال هو: ألا ترى أنه لولا مسألة الترقية العلمية تلك لما تفجرت الأزمة، خاصة أن كتبك فى السوق منذ سنوات ولم يعترض عليها أحد من قبل؟ * فى الواقع أشكرك على هذا السؤال،إذ لم يوجهه إلي أحد وهو غاية فى الأهمية لأنه يبرز أن القضية تأخذ منحى سياسيا، وأن "الخناقة" فيها أغراض سياسية وأهداف أخرى لا علاقة لها بالمعرفة، لأن من المعروف أن أول كتاب صدر لى كان فى مطلع الثمانينات، وقد رقيت إلى درجة أستاذ مساعد أو مشارك بكتاب " مفهوم النص: دراسة فى علوم القرآن". فما الذى حدث فى الترقية؟ لقد تقدمت إليها بنتاجى العلمى وكله منشور ومقروء، إلا أن أحد أعضاء اللجنة،وهو معروف باتجاهاته السياسية الواضحة، رفض هذا النتاج ولم يكن الرفض على أساس علمى،بل على أساس أن هذا كفر، واستطاع أن ينتصر لرأيه فى اللجنة العلمية برغم وجود رأيين آخرين أشادا بهذا النتاج العلمى. سأفترض الآن معك، ولهذا أشكرك على السؤال،أننى رقيت دون حدوث أى اعتراض،ولم يحدث شئ من هذا إطلاقا. بيد أن القضية لم تكن قضية ترقية بالنسبة لى. وسأذيع سرا لأول مرة وهو أنه كان واضحا أن الأمر لن يمر بسهولة فى دهاليز الجامعة،فالتقرير المحرر ضدى كان يتضمن اتهامات خطيرة، استدعانى على أثره رئيس الجامعة إلى مكتبه وكان حينئذ الدكتور مأمون سلامة، وكان الحديث كله يدور حول " دع الأمر يمر هذه المرة لئلا نستثير مشاعر أساتذة كلية دار العلوم، والإسلاميون فى الجامعة يهددون بإشعالها نارا، ولك منى وعد شرف بترقيتك بعد الصيف" كان ذلك فى شهر يوليو. وكان معنى ذلك أن أتقدم بعد أربعة شهور من تلك الحادثة لنيل الترقية، إلا أننى رأيت فى ذلك نوعا من "الاتفاق" الذى رفضته. سبب الرفض إذن لم يكن من أجل الترقية،بل إنكارى أن تخضع الجامعة لاتهامات غير علمية، أن تتحول الجامعة إلى مؤسسة يمارس فيها البعض " البلطجة" الفكرية. أى لو أنى كنت قد اخترت الحل الأول لكان هذا أسلم لى، لكن لا تطلب من أستاذ جامعى يعتبر أن مهمنه الأساسية هى العلم والتنوير أن يقبل التنازل عن عقله من أجل سلامته الشخصية. إنى أرى فى هذا انتحارا. لذا فقد قلت لرئيس الجامعة حينئذ أنا متأسف، لا يمكننى أن أقبل هذا الأمر. أنا لم أطلب من الجامعة أن تؤيدنى، بل أن تحتج على هذا التقرير. كان معى الدكتور أحمد مرسى، رئيس قسم اللغة العربية حينذاك، وطلبنا منه أن تحتج الجامعة على مثل هذا النوع من التقارير لأنها غير علمية، وموافقة جامعة القاهرة على هذا النوع من التقارير تعنى أنها قد تحولت إلى محكمة تفتيش أخرى. لم أكن أجهل النتائج التى قد تترتب على موقفى هذا، لكن أحيانا يجد المرء نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما: بين أن يكسب نفسه أو يخسر العالم، والعالم هنا هو عقلك وتاريخك الفكرى والنموذج الذى تقدمه لطلابك، والأمر ليس محض ترقية علمية، فكم من الناس يرقون إلى أساتذة،وأنت تعرف هذا، فقد أصبحت المسألة كما يقول الشاعر: ألقاب مملكة فى غير موضعها كالهر يحكي انتفاخًا صولة الأسد والأستاذ أستاذ ليس لأنه حصل على اللقب، بل لأنه يمارس دوره كأستاذ أمام طلابه وفى بحثه العلمى، وأنا بلا غرور أعتبر نفسى أستاذا، سواء اعترفت الجامعة بهذا أم لم تعترف. ففى كل المجالات العلمية والمؤتمرات التى شاركت فيها، فى الوطن العربى أو فى أوروبا أو اليابان، لم يسألنى أحد ما إذا كنت أستاذا أم أستاذا مساعداً. أما مسألة المحكمة فقد رتبت داخل كلية دار العلوم، وهذا أمر موثق من خلال كتاب يباع فى الأسواق بهذا المعنى، ليس هذا ادعاءاً منى، فأن يعمد عميد كلية ووزير ثقافة سابق وبعض أساتذة إحدى الكليات إلى التآمر على زميل لهم ويرفعون ضده دعوى قضائية يتهمونه فيها بالردة فهذا عجز عن الحوار الفكرى.ترى هل المحكمة هى المكان المناسب لفض النزاعات الفكرية؟ هنا تكمن أهمية سؤالك. لهذا قلت لا ، ورفضت هذا الطاغوت بأسم الدين ومازلت أرفضه وسأظل أرفضه، ولولا هذا الموقف لما كان فى الأمر محكمة ولا ردة، والكتب هى الكتب نفسها. وهذا دليل على أن القضية فى عمقها إنما هى دفاع عن شخص، دفاع عن مصالح، وليس دفاعا عن الدين، فلو كان فى القضية خوف على الدين لأقاموا الدعوى منذ عام 1990 ، سنة ظهور كتاب "مفهوم النص:" الذى رقيت عليه. لهذا فإن السؤال يعطى مؤشرا على أن القضية ليست قضية دينية، كما أننى أرفض التعامل معها على أنها دينية،سأكون أسعد الناس عندما يكشف لى شخص ما بالبراهين العلمية أننى أخطأت، إذ ذاك سأصحح هذا الخطأ، وهذا هو الحوار العلمى، ولهذا فقد أصدرت بيانا عبرت فيه عن اعتزازى بإسلامى وبإنجازاتى العلمية إثر صدور حكم المحكمة بالفصل بينى وبين زوجتى،لأننى مؤمن بأن إنجازاتى العلمية ليست ضد الإسلام. وكما ترى فقد حشدت للأمر قوى سياسية وأموال، إذ وزعت ضدى كتب مجانا فى الجامعة على الطلاب، فمن الذى يستطيع توزيعها غير المؤسسات. إن نصر أبوزيد فرد، لا ينتمى إلى حزب ولا إلى مؤسسة، والذى يحميه هو عقله والمخلصون من أبناء هذه الأمة. فى الوقت الذى تقوم فيه مؤسسات بمساعدة الآخرين، إنهم يحصلون على التبرعات من المسجد لرفع الدعوة ضدى وإصدار كتاب فى الجامعة يتهم زوجتى الأستاذة الجامعية بأنها زانية. هذه حرب يخوضها البعض ضد المجتمع وأصبح نصر أبوزيد كبش الفداء، لكن القضية ليست دينية،وهؤلاء لا يدافعون عن الدين. لقد طلبت عقد مساجلة أو مناظرة مع من يتهمنى، على أن تكون علمية وبعيدة عن الجمهور وفى حضور رئيس الجمهورية، وطلبت من وزير الإعلام أن يمنحنى نصف ساعة فى التلفزيون أو ساعة مثلما يخصص لهم من الوقت على شاشة التلفزيون، ولم أطلب مسجدا لأنه لا يستطيع أن يفعل ذلك. كنت أريد من وراء هذا شرح موقفى،شرح نفسى للمسلمين،لأمتى التى أنا عضو منها، ولبعض تلامذتى الذين تخرجوا على يدى طوال ربع قرن، إذ من المحتمل أن يتساءلوا عن حقيقة هذه الاتهامات،لأؤكد لهم أننى لست ملحدا. أما الأخرون المصرون على عدم الفهم فلم أكن معنيا بهم. لكن مع الأسف لم يكن هناك رد على طلبى هذا.
الحس النقدى - ما هى مآخذ هؤلاء على طروحاتك العلمية؟ * ليست هناك مآخذ قائمة على أسس النقد، فأنا أتمتع بحاسة نقدية عالية فى أبحاثى عن الفكر الإسلامى، وهذا أمر مفهوم، والنقد هنا لا يعنى النقض، أو الهدم، إنما التحليل القادر على كشف علاقة الفكر بالواقع، علاقة المفكر بالمفكرين السابقين. الدراسات الموجودة فى مجال العلوم الإسلامية بشكل عام أصبحت دراسات تقوم على التكرار والإعادة دون إفادة ونقل النصوص ولصقها. فعندما يأتى باحث ويقوم بمجرد دراسة أو تحليل عن الإمام الشافعى يعتبرها هؤلاء إهانة للإمام الشافعى كما لو كان الإمام الشافعى نبيا مرسلا. ليست هناك اتهامات فما قلته فيما يتعلق بمسائل مثل أن الله له عرش وعن الجن والشياطين والملائكة، كلها مسائل معروفة فى التأويل وأولها القدماء منذ أحد عشر قرنا وليس فى تأويلى لها جديد، فكل الاتهامات منبعها الجهل. أما إذا جئنا إلى مشكل المشاكل مثل ميراث البنات، فأنا أتمنى أن يقوم شخص ما بقراءة الدراسة والاجتهاد فى فهم بنية وأسلوبية ودلالة النص بما يتطلبه من مستويات فى الدلالة، منها دلالة المسكوت عنه والمضمر وعلاقة النص بالأفق الاجتماعى والفكرى الذى نزل فيه، والتحليل الذى نطلق عليه" الاجتماعى التاريخى"،والنظر إلى قضية المرأة بشكل عام فى القرآن وعلاقتها بوضع المرأة قبل الإسلام لكى نرى موقف الإسلام الحقيقى من المرأة ، إذ لا يمكن تفهم موقف الإسلام الحقيقى من المرأة إلا بالعودة إلى سياق المرأة قبل الإسلام. وكذلك الأمر فى الكثير من الأحكام. وهكذا سنجد أن المرأة قبل الإسلام كانت من المتاع وأن الإسلام أعاد لها كثيرا من الاحترام والاستقلال المادى. والقرآن هو أول نص فى اللغة العربية يخاطب النساء والرجال بضمائر مستقلة. طبعا دلالة هذا الأمر تغيب عن أذهان الذين لا يفهمون تحليل بنية النص والمضمر والمسكوت عنه، فإذا كان القرآن قد أعطاها النصف فى وقت كانت فيه متاعا،فهل هذا الحكم أبدى؟ كثير من أحكام القرآن عدلها الفكر،وهذا لا يعنى أنه ألغاها، وإنما نجد فى بنية النص ومقاصده ما يسمح له بأن يطور هذه الفكرة كما فعل عمر بن الخطاب فى قضية " المؤلفة قلوبهم" ،فالمؤلفة قلوبهم لهم حظ من الصدقات منصوص عليه فى القرآن { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم} ومع ذلك لم يعط عمر بن الخطاب سهمهم من الزكاة، وحجته فى ذلك أن هذا السهم كان يمنح لهم عندما كان الإسلام ضعيفا. لماذا لم يتهم الصحابة عمر بن الخطاب بأنه يكفر بنص القرآن؟ فلو كانت عقول الصحابة مثل عقول الذين يعيشون اليوم لذبحوا أبن الخطاب، إنما هم أقروه على ما فعل،لأنهم كانوا يفهمون أن للأحكام سياقا وأنها لابد من أن تُفهم فى سياقها، ومع ذلك كل ما قلته كان اقتراحا: لو اقترحنا هل سيكون فى هذا ضرر للإسلام؟ هناك شواهد، والاجتهاد أكبر وأوسع مدى من الشواهد التى نطرحها اليوم. نحن فى الواقع لا نجتهد من خارج التراث، وإنما من داخله، ونستخدم فى هذا الاجتهاد المنهجيات الحديثة. أعتقد أنه لو عاش عمر بن الخطاب زماننا لأتهم بالكفر والإلحاد ولرفعوا ضده دعوى تفريق بينه وبين زوجته. نحن نعيش فى عصر الجهل حيث أصحاب المصالح ممن يتزيون بزى العلم يستثمرون فيه جهل الناس. علينا أن نحارب هؤلاء ومن ورائهم جهل الناس، فهم يستثمرونه لإبقاء الوضع على ما هو عليه. - أذكر أنك ذكرت ذات مرة أن التيار الدينى أو الحركات الإسلامية تشكل جزءا من الحركة الوطنية فى مصر، فهل هذا يعنى ويلخص موقفك من الإسلاميين؟ * أريد أن أوضح الفرق بين هؤلاء الناس،أى الذين يستغلون تدنى وعى العامة لتحقيق مصالح معينة،هؤلاء كثيرون داخل الحركة الإسلامية وما يسمى بالمؤسسة الدينية التقليدية، وهم يأكلون على كل الموائد، أى يراهنون على الحصان الرابح،فهم مع الشباب المجهد المتعب الذى لايجد وسيلة للتعبير عن غضبه فيقومون باستثمار هذا الوضع. أنا أقصد بقولى هذا أن الاتجاه السلفى هو جزء أصيل من الحركة الفكرية المصرية منذ بداية القرن الماضى، فمنذ منتصف القرن الماضى أو ربعه الأول ومحمد عبده يؤسس للفكر الدينى الحديث، فهو يجمع بين النقل والعقل، والتقليد والتجديد، ومنه خرج تيار جديد ممثلا بمحمد رشيد رضا والأخوان المسلمين، وقد تأثر به حسن البنا وقاسم أمين وطه حسين. نحن إذن إزاء تيارين فكريين أصيلين يقوم بينهما حوار أحيانا وصدام فى أكثر الأحيان. أما الوجود السياسى لهذا التيار فهو وجود أصيل وله حق فى هذا، وأنا من أشد المدافعين عن وجوده سياسيا. أنا أختلف عنه فكريا لكنى لا أغمطه حقه فى الوجود السياسى، وسأظل معارضا له فكريا لأن هذه قضية أخرى، لكن من حقه أن يكون له وجود سياسى بشرط ألا يلعب السياسة بأسم الدين، لكن هذا الشرط لا يتحقق إلا بالديمقراطية، فالديمقراطية هى المناخ الوحيد الذى سيمنح القوى الوطنية كلها القدرة على التنفس بحرية، فإذا تنفس الجميع بحرية يغدو من السهل كشف الخصم الذى يلعب السياسة بأسم الدين. لكن الواقع أن جميع القوى الوطنية فى العالم العربى والإسلامى فى قبضة سلطات ديكتاتورية غاشمة لا تقر بديمقراطية ولا بحرية فكرية إلا بشروطها الخاصة. من هنا فأنا أعلن أننى لست ضد الوجود السياسى لهذه الجماعات، بل إننى ضد أى ممارسات اضطهادية تمارس ضدهم أو ضد أى فرد فى هذا المجتمع. علينا أن نتعلم فى الخصومة أو الخلاف الفكرى أن نختلف فكريا وأن نسلم بحقنا جميعا فى الوجود، إذا لم نتعلم هذا الدرس فالفناء يتهددنا جميعا. والمفكر الذى ينتمى إلى التيار الإسلامى ليس خصما بالنسبة لى، لأننا فى دولة مسلمة، ولا أقول إسلامية، وكلانا يجتهد من داخل الإسلام وليس من خارجه، ومع ذلك يجب أن يكون لكل القوى حق فى الوجود، واليمقراطية الفكرية أهم من الديمقراطية السياسية، ومع ذلك أكرر موقفى الذى أعلنته من قبل وهو أننا نحتاج إلى ديمقراطية جميعا دون أن تكون مشروطة. المشكلة فى العالم العربى والإسلامى ليست الحكومات فقط، بل لأننا جميعا نريد ديمقراطية نفعية، ذلك أن كل طرف لديه شرطه الضمنى وهو أن الديمقراطية التى لا توصله إلى الحكم ليست جيدة، وهو ماحدث فى الجزائر. علينا أن نسلم بقوانين اللعبة، ديمقراطية سياسية،وفكرية ،وعقلية، وهو المناخ الذى يمنحنا جميعا حق التنافس ويحملنا على الحوار وليس الصراع، على الاختلاف وليس الاقتتال، فليس من المعقول أن تختلف مع شخص فكريا فتسحبه إلى المحكمة لأن المحكمة ليست ميدانا لصراع الأفكار. إننا فى مأزق وهذا المأزق يتطلب منا جميعا التعقل. معروف أن الإسلام جاء ليمحو الجاهلية، فما هى الجاهلية؟ قيمة الجاهلية الأساسية هى العصبية، التعصب، وهنا قال الشاعر الجاهلى: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أى لا يتعصب علينا أحد،فالجاهلية لا تعنى الجهل كما يدعى هؤلاء المزيفون، الجاهلية معناها السلوك ليس طبقا لمقتضيات العقل وإنما طبقا لمقتضيات العصبية والتعصب، فإذا كنت من قبيلتى فسأنصرك وفقا لمبدأ " أنصر أخاك ظالما أو مظلوما " . لكن النبى عليه الصلاة والسلام شرح هذا عندما سألوه: يا رسول الله ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال " بأن تكفه عن ظلمه ". وما فعله النبى هو تعديل للدلالة هنا. ومادمنا قبائل إذ يتعصب كل لقبيلته فإننا نعيش عصر الجاهلية. إذن حل المشكلة يكمن فى الديمقراطية. ستكون هناك مشكلات فى البداية لعدم التعود عليها، ولكن لابد من البدء. سيد قطب بالنسبة لى شهيد، فهو لم يحمل سلاحا، صحيح أن كلامه استخدم فيما بعد ،ولكن ليس ذنبه، بل ذنب المناخ الذى ولد ظروفا تجعل البعض يحول كلام سيد قطب إلى سلاح، مناخ الإجهاض، مناخ الهزيمة، مناخ الفشل. لدينا الآن جيل من الشباب يحيا بلا أمل، إذ لا عمل ،ولا زواج، ولا استقرار، ولا مستقبل واضح، فالمخرج الذى أمامه يكمن إما فى التحول إلى المخدرات أو إلى نوع أخر من المخدرات وهى الغيبوبة الدينية، أى أن يصبح غير منتم وهذا أخطر، وإذا استعرضت الوضع فستجد أن القلة المنتمية تتعرض للضرب، وهذا وضع لا خلاص منه سوى بأن نعود جميعا إلى صوابنا، وأن نتعامل على قدم المساواة، وهذا جزء من الكفاح المطلوب منا جميعا. - يلاحظ أن السنوات الأخيرة شهدت تعاظم المد الدينى السياسى للجماعات الإسلامية، برغم ما تلقاه هذه المؤسسات من اضطهاد وتشويش، فما سبب هذا الإطراد فى ظاهرة يفترض أنها مرفوضة من غالبية شرائح المجتمع؟ * شرحت عرضا أن المناخ العام مناخ فشل وإحباط،وغياب المستقبل عن الأجيال الشابة،فضلا عن هيمنة ديكتاتورية لا تسمح بحرية الفكر، وفى الوقت نفسه توظف الدين لغايات معينة،لذا فإن رد الفعل هو توظيف آخر للدين ضد توظيف الدولة. هذا النمو والتعاظم له أسباب كثيرة أخرى، بعضها قد لا أستطيع أن أدركه،فهناك منظمات دولية تمول هذه الجماعات، فى برلين وفى لندن وفى الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى دول تقف وراء هذا التيار، إلى جانب الشعوب التى قد لا تؤيد تماما طروحات هذه الجماعات ولكن هذه الشعوب تجد فيها ما تعجز هى عنه فى مواجهة الحكومة. إنها أزمنة الإحباط إذ تجد اللص يتخذ سمات وطنية لمجرد أنه يتحدى الحكومة ولأن الناس غير قادرة على ذلك لأنها تحكم بالقهر، هكذا فإن الاحتجاج أيا كان نوعه يغدو ضربا من البطولة، وهو ما حدث بالنسبة للجماعات الإسلامية فى وعى العامة وبعض المثقفين والمفكرين. لكن إلام سيفضى هذا التعاظم أو هذا النمو؟ سيؤدى إلى الفشل لأنه يفتقر إلى المشروع، إذ لا يمكن التفكير فى مستقبل الوطن والعين على الماضى فقط، أو على الغرب. لابد من التفكير فى مستقبل الوطن وعينك داخله ووعيك ينبثق من الماضى ليتوجه إلى الخارج. الحركة الإسلامية بمجملها وعى بالماضى ووعى زائف، لأنه يمثل جانبا واحدا من التراث. بعض الاتجاهات العلمانية الفجة التى أنشأتها أنظمة الحكم، اتجاهها ماض. أما التيار العقلانى الذى يحاول التجديد فى الفكر الدينى والذى ينظر إلى تراثه نظرة علمية وليس لديه مشكلة فى الاستفادة من منجزات الغرب ويعيش واقعه فهو التيار الذى يمثل المستقبل، لأنه واع بتراثه فى مجمله وليس لديه عقدة ذنب فى أن يستفيد من الوعى المعاصر ويعيش أرض الواقع. نمو الجماعات الإسلامية رد فعل مرضى على ظاهرة مرضية. إنه كالورم فى الجسم، والمتنبى قال: أعيذها نظرات منك صائبة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
الأزمة الفكرية - من واقع الأزمة التى عشتها فى السنوات الأخيرة منذ أن رفضت ترقيتك، كيف يمكنك رسم مستقبل مصر الثقافى فى ضوء أزمتها الفكرية الراهنة؟ * المستقبل الثقافى لمصر مرهون بالكثير من معطيات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، صحيح أن السلطة السياسية تتصور أن مصر تملك من مقومات الثقافة ما يؤهلها للعب دور،لكن هناك تناميا فى الوعى العربى بشكل عام، ولا يمكن الحديث عن الثقافة المصرية بمعزل عن العربية، فهناك تيارات متولدة جديدة مبشرة بالمستقبل، لكن كل هذا محكوم بوجود المؤسسات الثقافية،وإلا فستظل هذه الأمورالواعدة مقصورة على النخبة مع الأسف الشديد. التلفزيون جهاز خطير إلى حد مذهل، لدرجة أن فؤاد زكريا يطالب المثقفين بالاستيلاء على التلفزيون، لأنك فعلا لو أتيحت لك نافذة كالتلفزيون لتمكنت من الوصول إلى أكبر قطاع من الناس. لكن مع الأسف كل هذا فى يد الدولة. دائرة القراءة لابد لها من أن تتسع، لكن مع الأسف هذا لايحدث بسبب ارتفاع أسعار الكتاب، فالمواطن يضطر إلى الاعتماد على الثقافة المتاحة من خلال التلفزيون. هناك عناصر كثيرة تحدد ملامح المستقبل، فالعالم العربى ليس فى حاجة إلى تنوير ثقافى فقط، بل إلى ثورة شاملة، إصلاح شامل إجتماعى وسياسى واقتصادى وثقافى وفكرى فى آن واحد. الحالة الثقافية لدينا جيدة، ولكن ثمة جدارا من الثقافة الكلاسيكية يحجب عنها الماء والهواء. ثمة فكر سياسى جيد، لكن يقابلهجدارمن الفكر السياسى المسيطر، لكن ذلك ليس سببا يدعو لليأس، والتشاؤم رفاهية لا مجال لها لدينا. وهذا ربما يرد على سؤال لماذا لم أرح نفسى من هذه المشكلات بالانسحاب، وأى إنسان يمارس الفكر لابد أن يكون لديه تفاؤل حيال المستقبل، فالتشاؤم نوع من الرفاهية يخص مجتمعات سعيدة، أما فى مجتمعات معذبة كمجتمعاتنا فلا مجال له، ولابد لنا أن نحلم من منطلق قول الشعراء بأن الواقع جنين الحلم، ولابد من مواصلة الكفاح والحلم بانتصار النور،ولا أقول التنوير لأن هذا المصطلح ابتذل فى العالم العربى. - موقفك من أبى حامد الغزالى.. خاصة أنك تذكر أن نشاطه الفكرى لم يكن يراد به وجه الله والأخرة، بقدر ما كان يراد به الشهرة والصيت فى الدنيا وفى أعين الحكام.. هل تتفق فى هذا مع مقولة أنه كان مفكر السلطة؟ * نعم كان مفكر السلطة ولكنه لم يبطش بالآخرين، وهذا ما قاله الغزالى على نفسه، وسجله فى سيرته الذاتية " المنقذ من الضلال " . ومما لاشك فيه أن الغزالى كان مفكرا كبيرا استوعب الثقافة العربية بامتداداتها، اليونانية والهندية والفارسية، إنه أخطر مفكر فى القران الخامس الهجرى، وعقل مذهل، نشاطه لم يكن موقوفا على تخصص واحد، فقد كان متخصصا فى أصول الفقه وفى علم الكلام والفلسفة والتفسير والتصوف والمنطق. وصل إلى منصب رئيس المدرسة النظامية، أى أكبر جامعة فى ذلك الوقت. ذكر أنه أصيب بمرض الحُبسة، أى فقدان المقدرة على الكلام، واحتار الأطباء فيه، وزهد الطعام، بعد أن شعر بأن نشاطه الفكرى لم يكن لوجه الله، وهو ما جعله يتجه نحو التصوف ويغادر بغداد إلى القدس. موقف كهذا يجعلنى أنحنى له احتراما لأنه اكتشف أنه استُغل من السلطة السياسية، إلا أن الوقت كان متأخرا، فاختار التصوف. القضية أن مفكرا فى قامة الغزالى طلب منه أن يكتب كتابا للرد على الباطنية، أى الشيعة، وقت أن أصبحت الشيعة تمثل خطرا على الدولة السنية فكتب كتابا فى قمة العقلانية، ولكنه فى نهاية الكتاب ينسب إلى الخليفة المستنصر بالله كل الأوصاف التى ينسبها الشيعة إلى الأمام المعصوم. لقد وجه الغزالى أكبر ضربة للفلاسفة فى كتابه " تهافت الفلاسفة " الذى رد عليه ابن رشد بكتاب " تهافت التهافت " ، وكفر الفلاسفة فى بعض المسائل. وكان هو من صاغ علاقة الزواج الكاثوليكى بين الفكر الأشعرى والتصوف. وهناك من يرى فى كتب الغزالى قرآنا أخر، فقد أتى توزيعها بعد القرآن، وذلك لأنه يقدم نظاما مريحا للعالم، ونسق الغزالى مناسب للنظم السياسية الديكتاتورية، والنظام الصوفى الذى يقدمه مناسب للشعوب المضطهدة، لهذا أصبح نظاما متكاملا: للمضطهدين عزاء، وللحكام مشروعية. إنه قائل هذا الكلام عن نفسه، فقد اكتشف أن ما قام به من عمل لم يكن يراد به وجه الله، وإنما كان المقصود به السلطة والجاه. قلت : إننى أنحنى له لأن قليلين من مثقفينا فى العصر الحديث يكتشفون أنفسهم مثلما فعل الغزالى وإلا لأصيب عدد كبير منهم بالحبسة، فعلى الأقل كان الغزالى مخلصا، فى حين أن مثقفينا يعملون مع الأنظمة السياسية ولم يصب واحد منهم بالحبسة، بل حين يسقط النظام يقومون بالانضمام إلى المعارضة معيدين بهذا تشكيل سلطاتهم أمام الناس، مطالبين بالصفح عنهم لأنهم لم يدركوا الأمور فى عهد النظام السابق، وما نراه حقا يمثل حالة فجور وعهر فكرى. لم يكن الغزالى هو الوحيد الذى عمل مع السلطة، فالكثير من المعتزلة عملوا مع المأمون واستخدمهم فى اضطهاد الحنابلة على سبيل المثال. من المهم أن يحافظ المثقف والمفكر على استقلاليته، وهناك فارق بين حراسة القيم وأن يصبح الإنسان كلب حراسة. على المثقف أن يكون مستقلا ليتخذ موقفا نقديا حتى لو كان النظام السياسى يطبق أفكاره حرفيا، ليحرس هذا الفكر من أن يزيف. ماهى مهمة المفكر؟ النقد المستمر، نقد الذات أولا، أن يتجدد الفكر بالنقد ونقد العالم، لأن نقد العالم يكشف الوعى. أما أن يتخلى المثقف عن دوره هذا لأى مبرر كان ويتحول إلى كلب حراسة يحمى هذا بالأجر ويعض ذاك وقد يكون من يعضه مثقفا مثله فتلك هى الكارثة. المثقف حارس القيم لأنه يحمى شيئا نبيلا من أن يبتذل. أعتقد أن الغزالى نموذج فذ لهذا الوعى، لأنه اكتشف أنه بدلا من حراسة القيم كان يحرس النظام السياسى، وبما أنه اكتشف هذا وهو كبير السن فكان التصوف هو ملاذه الأخير. ليس عندنا مثقفون يهربون أو يتوبون، وقلة قليلة منهم يتمسكون بالدور الأساسى للمثقف والمفكر وهو النقد، والذى يبدأ بنقد الذات، والنقد ليس من حيث كونه أداة هدم بل أداة بناء، فدون النقد يحدث الركود وهو ما يؤدى إلى الهدم. لقد تعلمت من دراستى للغزالى وحسن البصرى وغيرهما من علمائنا احترام الذات، وهذه هى فائدة الدراسة المنهجية. ولكن يبدو أن علمائنا " أصبحوا غير صالحين للاستعمال " كما قال المستعرب الإسبانى بدرو مارتينيث مونتابيث.
مايو (آيار) 1996
#خالد_سالم (هاشتاغ)
Khaled_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شعر المنفى عند عبد الوهاب البياتي ورفائيل ألبرتي: إلتقاء وإل
...
-
هوية مصر العربية بين أصالة الصفر واستلاب -الزيرو-
-
إطلالة على الحضور العربي في شعر رفائيل ألبرتي
-
قصة ابن السرّاج نموذج للأدب الموريسكي في إسبانيا
-
حلم ربط ضفتي البحر المتوسط عبر مضيق جبل طارق بين الواقع السي
...
-
مسرحية -رأس الشيطان- نموذجًا للتعايش في الأندلس العربية تأمل
...
-
لاهوت التحرير وموقفه من الشعب: الشاعر والأب إرنستو كاردينال
...
-
كنت شاهدًا على التجربة الإسبانية في المرحلة الإنتقالية
-
كان ياما كان
المزيد.....
-
أسعد أولادك…. تردد قناة طيور الجنة التحديث الجديد 2025 على ج
...
-
استقبلها الان.. تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024
-
“فرح أطفالك طول اليوم” استقبل حالا تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
-
“التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية
...
-
بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|