|
حيفا ليست قرطبة
سميح مسعود
الحوار المتمدن-العدد: 3993 - 2013 / 2 / 4 - 18:06
المحور:
الادب والفن
عَرفني الصديق الكاتب الفلسطيني سميح غنادري على هذه الرواية ، بينَ لي أنها تنطوي على معطى وطني يكسبها دفقاً من الأحاسيس والمشاعر الفياضة ، تشد القارئ بتوهج عاطفي إلى أبعاد مكانية وتاريخية ونفسية مرتبطة بالارض الفلسطينية .
شجعني ما سمعته عن الرواية على أخذ زمام المبادرة للتعرف على مؤلفها، تبادلت معه عدة رسائل حتى الأن ، كما أرسل لي نسخة من روايته على عنواني في مونتريال ، أسعدني الحصول على نسخة منها ، استمتعت بقراءة كل صفحة فيها ، تلمست لغتها الجميلة ومكونات شبكتها البنائية المتقنة الصنع ، وجدتها تتعامل مع المكان / الوطن بمنسوب أبعاد روحية عالية ، يترابط فيها الزمان والمكان والاحداث والناس على امتدادات واسعة ، تظهر فيها إنثيالات الذاكرة مزدانة بقصص وحكايا عن الأهل والحياة بدلالات واقعية غير متخيلة تربط الزمان بالمكان بعلاقة جدلية ثابتة ، وتتوصل إلى نتيجة حتمية مؤداها التأكيد على بقاء الوطن كواقع حقيقي محسوس رغم النكبة والهزائم والشتات .
يؤكد المؤلف في مقدمة روايته على أنها " حكاية غير كاملة لجيلٍ فلسطيني ولد مع إتمام عملية السطو المسلح على فلسطين ، ووجد نفسه في وطن مترجم حتى النخاع ، ويسيطر عليه قُطعان من الاغراب " ... ويعني به الجيل الفلسطيني الذي بقي صامداً في داخل وطنه بعد الاحتلال بوضعه الاستثنائي المعروف " الذي يشكل مع جيل أبائه أهم شاهد عيان على أكبر عملية سطو مسلح حدثت في تاريخ البشرية الحديث ."
من جانب أخر يبين المؤلف في سياق تعريفه بروايته بأنها ليست مذكرات أو سيرة ذاتية ، بل هي عرض وتحليل لأوضاع فلسطينية عاشها جيل أباء المؤلف وجيله ، استحضر منها كل ماعلق بذاكرته من صور وانطباعات عن أحداث تراكمت عبر السنين ، عرضها بتفاصيلها الدقيقة بدفقات شعورية متوهجة في إطار مشاهد جميلة من حيث البناء والسرد . تتداخل أحداث الرواية في بناء مسارات سردية بتفصيل واسع عن المجتمع القروي الفلسطيني ، بعاداته وتقاليده وبعلاقاته الاجتماعية بين أفراده وبظروفه وأحواله المعيشية ، تمتزج بها دلالات أحداث مرت بالمؤلف بعدما بلغ سن النضج ، يرتبط معظمها بالهوية الوطنية ، وبالعلاقة مع الأرض والوطن ، ومع الدولة المحتلة ، وتطبع بعضها النص بجوانب شخصية ، تتعلق بدراسته وتحصيله العلمي ، ونشاطه الوظيفي خارج الوطن ، وزياراته لبعض الدول العربية ، وكذلك لقاءاته بشخصيات معروفة ، وبحياته وعيشه في الولايات المتحدة الامريكية منذ عام 1979، وبزياراته المتواصلة للوطن بما يوحي ويعبر عن تعلقه بأهداب قريته الرامة ، وحتمية انحيازه الأبدي لتراب أرضه وبيئته المحلية.
ثمة أكثر من موضوع يتشعب في بؤرة النص ، تنبعث محمولاتها من الاحساس بالوطن والتعلق به ، وتفضي إلى تحديد مفاهيم وقناعات واعية للذات والأخر ، يستنبطها المؤلف من واقع المكان وحركة الحياة وحال أهله تحت الإحتلال ، وحال العرب في أماكنهم المتشظية بالأحداث المتلاحقة ، لا يقف عن حدود الوصف والسرد فحسب بل يتوغل في غمار التحليل والنقد ... تتوالى أفكاره بنسق بنائي متميز ملفعة بفيض من الأحلام الوطنية .
توقفت مطولاً عند عنوان الرواية ، كمفتاح أساسي لها ، وجدت في صياغته الشكلية ما يؤكد بإصرار وبطريقة مباشرة وتقريرية على أن حيفا لن تضيع كما ضاعت قرطبة ، ثم وجدت بعد قراءة الرواية أن حيزاً واسعاً من فضاء السرد لم يفلت من سطوة العنوان ، ويصح القول أن كل ما في الرواية من أفكار ودلالات وإشارات تعبر عن اصرار أهل الداخل على البقاء ، وعن مقدرتهم الأسطورية على التشبث بالوطن ، حتى العنوان نفسه استوحاه المؤلف منهم ، من مقاطع صوتية لشابة حيفاوية قالتها له بإصرار : " لا يمكنهم أن يوقفوا المد العربي . حيفا ليست قرطبة ! ..البلد بلدنا وحيفا مدينتنا ، فإلى أين يذهبون ؟! "
رغم أن الرواية التي بين يديّ هي أول مغامرة لمؤلفها في الكتابة الأدبية ، إلا أنه نجح في تركيب نسيج نصها بامتياز ، تمكن فيها عبر محمولات حكايا ساطعة الدلالة فتح نافذة واسعة للقارئ العربي للتعرف على أحوال أهلنا الواقعية في داخل الوطن ، إنها إضافة مهمة لمعرفة قدرتهم على مواصلة البقاء في وطنهم بعزيمة تأبى الإنكسار .
وهذا يؤكد على نجاح شوقي قسيس في عمله الإبداعي الأول ، وتمكنه من الدخول بروايته إلى عالم الأدب من أوسع أبوابه في مجال لا يتعلق باختصاصه المهني ... تحول إلى الأدب بعد ان عمل في الولايات المتحدة الامريكية لسنوات طويلة استاذاً وباحثاً في علوم الأحياء والطب ، نشر أبحاثه واكتشافاته في أكثر من مئة مقالة في المجالات العلمية المتخصصة ، وقدم نتائج أبحاثه في مؤتمرات علمية عالمية ، كا سجل أربعة اختراعات ، ونال بجدارة عضوية عدد من الجمعيات العلمية الأمريكية والعالمية .
أخيراً يجب ألا تفوتني فرصة الإشارة إلى جانب أخر مهم من سيرة مؤلف الروايه ، يتصل بحبه الزائد للغتنا العربية الجميلة ، ليس في مجال الكتابة فحسب بل في مجال تدريسها ، حيث عمل أستاذا ً لها في إحدى جامعات مدينة فيلادلفيا الأمريكية ، وله الفضل في تأسيس قسم اللغة العربية في تلك الجامعة ، كما يظهر من سيرته الذاتية المبينة في نهاية الرواية أنه منذ تفرغه في عام 2009 ، أخذ يكتب في أمور تتعلق بلغة وأدب وحضارة العرب ، و يتوقع أن يصدر له عن قريب عدة كتب في هذه المجالات ، منها : " صدق الشعراء ولو كذبوا " ، " لعبة العرب : ببلادهم ، بتاريخهم ، بأعلامهم ،بحضارتهم ، بأدبهم ، وبلغتهم " ، " لغتنا العربية أن تعرفَها لا أن تعرف َعنها " .
ولعل خير من يعبر عن هذا الجانب من شغف شوقي قسيس باللغة العربية ابن قريته الرامة الشاعر الكبير سميح القاسم حيث قال : وَطني ، يا فلاّحا ً عربياً طَوقهُ جُندُ بريطانيا الكانتْ عُظمى ، نزعوا حَطتهُ وعقالهْ وحشوا رأسهُ في قًبعةٍ أوروبية ْ . وَطني ، يا فلاحاً عربياً صَدرَ الحكم ُ عليه بأن يرطِنَ بالإيدشْ والعبرية ْ لكني أَعلمُ أنكَ لمْ تنسَ اللُغةَ العربيةْ ... لن تَنسى اللُغةَ العربية ْ .
#سميح_مسعود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عبد عابدي : نصف قرن من الإبداع
-
شظايا مذكرات غير مكتملة
-
جزيرة في نهر سان لوران.
-
البحث عن الجذور
-
عيسى بُلاطه : ناقداً وأديبا ً
-
تراجيديا الهنود الحمر
-
التوثيق في الأعمال الإبداعية
-
امرأة منسية
-
فتاة الترومبون
-
ناجي علوش شاعراً ومفكراً
-
في ذكرى ناجي العلي ثانية
-
في ذكرى ناجي العلي
-
العرب لا يقرأون
-
كتاب - الإسلام وأصول الحكم - للشيخ علي عبد الرازق
-
رواية - الحاسة صفر - لأحمد أبو سليم
-
رواية فريدة للروائي نعيم قطان
-
حول ابداعات القاص عدي مدانات
-
حول التقشف والانضباط المالي في أوروبا
-
التنمية العربية في ظل الربيع العربي
-
عن فنِّ التصوير عند العرب ويحيى بن محمود الواسطي
المزيد.....
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
-
صحفي إيرلندي: الصواريخ تحدثت بالفعل ولكن باللغة الروسية
-
إرجاء محاكمة ترامب في تهم صمت الممثلة الإباحية إلى أجل غير م
...
-
مصر.. حبس فنانة سابقة شهرين وتغريمها ألف جنيه
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|