|
شيخ المتقين و الخنازير
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 3913 - 2012 / 11 / 16 - 12:09
المحور:
الادب والفن
كان يا ما كان في قديم الزمان ، في بلد العجائب و الغرائب ، ستة أنهار تجري تحت مدماك تسكنه أقلية من الخنازير ، و الأغلبية من الخرفان و الحمير ، واصلت حكمهم لأربعة دهور حية حكيمة ، مكينة الشكيمة ، تنفث سمها الزعاف قذائف مدفعية جهنمية ضد كل من تسول له نفسه الطمع في عرشها . و لتأمين رفاهيتها الملكية ، فقد قسمت العمل بين حيوانات المدماك بالعدل و القسطاس : الحمير للشغل و للخدمة ؛ و الخرفان لصنع الباسطرمة ؛ و شبان الخنازير لحفظ الأمن و النظام بقوات الجندرمة ؛ أما شيبها ، فللسهر على بيضة الأديان . و لكون الخنازير تحب حياة الخدة و الخدر على الدوام ، فقد دأبت على مواصلة التنبلة و التقمم على الباسطرمة بكل جد و إخلاص ، و إهمال واجبات الجندرمة و مقتضيات حفظ الأمن و النظام و نشر العدل و الوئام . أما في تقاريرها المرفوعة للحاكم ، فقد بقيت تردد جيلاً بعد جيل ترنيمة : نبشر سيدتنا الحية بأن كل شيء على جارٍ ما يرام ، و لا شيء يعكر إستتباب الأمن العام ، فكل الحيوانات تنام بسعادة و سلام في ظل الحكم الوطيد لسيدتنا ملكة الملكات ، و البيوت السعيدة لا أصوات لها و لا طرّماش . و لما كانت لكل شيء نهاية ، فقد هرمت الحية أخيراً ، ثم أصابها سقام السرطان من كثرة ما سرطت من الباسطرمة . شاهدها و هي نائمة في عريشتها رخ مهاجر نهم لا يشبع من افتراس الدواب ، فأنقض عليها و أزدردها ، ثم أعلن نفسه على الفسطاط سلطاناً . فرحت الخنازير شيباً و شباناً بالسلطان الجديد ، و هلل له كهنتها المتقين و أعلنوا من منابر المعابد بأن طاعة السلطان واجبة على كل حيوان كائناً من كان : طائراً أم حيوان ؛ و أقامت لتتويجه الولائم والحفلات ، و جلبت له أطيب و أسمن خيوط الباسطرمة . لم تعجب الباسطرمة السلطان الجديد لأنها أتعبت مخالبه و منقاره و معدته كلما قضمها لإشباع نهمه ، فأصدر فرماناً يقضي بتحريم صنع و أكل الباسطرمة لكونها رجس من عمل الشيطان . و لإثبات جدارتها له ، فقد شمّرت الخنازير عن سواعدها لتهيئة البدائل الرحمانية : موائد التكة و الكباب و الحَلَوْلَوْ و الچَلَوْبَلَوْ ؛ و إنبرت تفتك فتكاً ذريعاً بالخرفان لإشباع نهم الرخ الغرثان ؛ و راحت تشغّل الحمير ليل نهار في نقل و شوي اللحوم الطازجة التي لا يزعج قضمها منقار الغراب في حملة شعبية تحت شعار : لا يندفع للتضحية بنفسه لصنع طعام السلطان إلا أصحاب الرحمن ، و كل من امتنع عن ذلك فأولئك هم الكفارون من إخوان الشيطان . استحسن الرخ تفاني الخنازير في خدمة المصالح العليا للبلاد و العباد ، فثبتها في وظيفتها وليّة على مراكز الجندرمة و قيّمة على أوقاف الأديان . و لما كانت الخنازير تحب عيش الخدّة و الخدر ، فقد استخدمت بعض البغال للقيام بأعمال الجندرمة بدلاً عنها ، بعد أن زودت خطومها بالأنياب الفولاذية المجلوبة من عنابر السلاح ، و سرحتها لجلب الأطعمة و الفرائس لها . شمّرت البغال المحسنة عن ساعديها بكل همة و إخلاص ، و راحت تفتك بالخرفان يومياً بلا حساب و كتاب ؛ كما لم تتوان عن إستهداف أمهاتها من الحمير . فرحت الخنازير بهذا التدبير ، و صارت تتفاخر بمعجزات صنائعها الجدد بتأمين اللحم الوفير ، و تُبدد الملل بتأليف كتب الحكمة التي توزع على بيوت كل الحيوانات مجاناً ، و التي توضح كل شي . فهي تشرح علمياً كيف أن البلد قد تطور في عهد الرخ السلطان نصير المؤمنين ليصبح أحسن مسلخ في العالم ، و أن مثل هذا التوفيق لا يأتي إلا بسبب مرضاة الله ، و الدليل على النجاح الباهر و المنقطع النظير هذا هو كثرة الحساد و المؤامرات للكفار و للحاقدين و ناكري الجميل ، رغم أن كل شيء لا يجري في المدماك إلا وفقاً للقانون و حسب مقتضى البديهيات و الأعراف الإجتماعية . فالكل يعلم أنه لولا وجود الموت ، لما كان للحياة معنى ؛ و لولا وجود الإنهاك ، لما كان للخدة و الخدر معنى . و من الحكم المبثوثة في تلك الكتب هي أن الله عندما قسم الأرزاق قد كتب على الخرفان أن تسلخ ، و بشويِها تفرح ؛ و على الحمير أن تُركب و تُلكز و تُشلح ؛ و على الخنازير أن تنطح و تبلع و تَسْلَح ، و لا تغيير لمشيئة الله . بل أن من واجب الخرفان أن تمنح نفسها بسعادة للسلخ تحقيقاً لمنزلتها الرفيعة التي وهبت لها ؛ أوليس من الأفضل أن تكون كالمخدرات التي يموت الغير إن لم يسعفوا بالحصول عليها بدلاً من أن تصبح كالسجائر تداس عند الانتهاء منها ؟ تلك هي الآيات البديعة و الحكم الرفيعة لقوم يعقلون . و لترسيخ أرادة الرب في النفوس الحائرة ، و بعث الهمم في الألباب الخائرة ، فقد أمر الرخ كل الحيوانات بترتيل النشيد التالي قبل كل وجبة طعام : أسلخني أيها الزين يا صديقي أسلخني إفعلها مرة و مرتين إسلخني في كل حين و متع نفسك بالدهين فأنا لست أول مئين قطعوا له حبل الوتين أسلخني بقوة و أشوِ كل كوة بالحرارة المرجوة أفعلها مرة و مرتين إسلخني في كل حين دُم دُم دان ، دُم دُم دين
يا صديقي المتين أقدر حبك لذاتي فتمتع بلذاذاتي و دمر كل فلذاتي أفعلها مرة و مرتين إسلخني في كل حين دُم دُم دان ، دُم دُم دين و أزاء رؤيتها لدمائها و هي تُسال أنهاراً بغير حساب ، فقد عقدت الحمير و الخرفان إجتماعاً سرياً قررت فيه الانتفاض على السلطان ، و إزاحته من عرشه بغية وقف سفك دماء الحيوان ، و إشاعة الحرية و العدالة و المساواة في المدماك . و في ليلة سوداء كانت فيها بيوت الخنازير السعيدة لا أصوات لها ، هجمت الحمير و الخرفان كتلة واحدة على الرخ ، الذي ارتعد و طار من عرشه ، و ولى هارباً إلى بلاد الأوتاد . ثم هجم الثوار على سجون و مراكز الجندرمة ، و أخرجوا منها الخرفان المسمنة و المهيأة للسلخ ، و نصبوا والياً عليهم كبشاً مجرباً في الصراع و القراع ، و جردوا الخنازير من كل السلطات . و تحولت الحيوانات إلى زراعة و أكل النباتات ، فأزدهر اقتصاد البلد ، و ازداد عدد سكانه . أُسقط بيد شبان الخنازير ، فلجأت إلى الخنزير العجوز شيخ المؤمنين المتقين الذي كان يعاف قضم النباتات و لا يشبع من السرط الرحماني لولائم التكة و الكباب و الحَلَوْلَوْ و الچَلَوْبَلَوْ ، و قدمت له ما لذ و طاب من اللحوم و الشحوم ، و قبّلت أنصاله ، و خرت ساجدة له ، و طلبت منه العون للخلاص من السلطان الجديد ، و له كل ما يريد و مالا يريد إلى يوم يبعثون . تفتق ذهن الخنزير الشيخ إلى صنيع أريب رهيب ، و أفتى على العباد في كل أرجاء البلاد : أكل النبات كفر و إلحاد . ارتبكت الخرفان إزاء صدور هذه الفتوى الشيطانية غير المعهودة في أي دين من الأديان ، و سادت البلبلة و القلقلة كل مكان . اهتبلت الخنازير الفرصة السانحة ، فسارعت إلى تخدير الحمير القيمين على عنابر النصال الفولاذية ، ثم اقتحمتها و تسلحت بها ، و هجمت غيلة على الكبش المجرب في الصراع و القراع ، الذي آثر حقن الدماء ؛ فأفتدى بنفسه نفوس شعب الأبرياء . تسنمت الخنازير لنفسها سدة الحكم ، و عادت لسلخ قطعان الخراف بكل تكريس و تقوى وجدانية ، و بمباركة إيمانية لا تكل و لا تشبع في الليل و النهار ، بل و انثنت لتسلخ خمسين من ولد شيخ الخنازير المؤمنين المتقين . و عندما أحتج هذا على مقابلة الخنازير إحسانه عليها بالإساءة إليه ، ردوا عليه : يا مولانا ، أنت تعرف أحسن منا أن كل الدواب كالقمر لها جانب مظلم ؛ و لولا وجود الظلام لما كان للنور معنى ؛ و من نمَّ لك اليوم ، نمَّ عليك غداً ؛ و المكتوب على الجبين ، لازم تشوفه العين ؛ فأصدع بما قسم الإله لك ، و ما توفيقنا إلا بالله ؛ فاصبر ، فالصبر مفتاح الفرج ؛ و من صبر ظفر ؛ و من لجّ كفر ؛ و لا تكن من الجاحدين الحاقدين ؛ و لا من المنحرفين فكرياً الذين في قلوبهم مرض ، فإن ربك لبرمصاد . و لكن شيخ المتقين واصل لجاجته ، فراحت الخنازير تحصي عليه أنفاسه ، و منعت الأطباء عن إسعافه بالأدوية الضرورية ، ففطس غير مأسوف عليه . شاهد تيس عجوز تشييع جنازته وسط تضاحك و تباكي الخنازير المدججة بالنصال الفتاكة ، فتمتم قائلاً : الطغيان كالزبالة ، لا بد أن تُرفع يوماً . بغداد ، 14 تموز ، 2070 ق. م.
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شَعَبْ و أبو وطن : قصة قصيرة / 3-3
-
شَعَبْ و أبو وطن : قصة قصيرة / 2-3
-
شَعَبْ و أبو وطن : قصة قصيرة / 1-3
-
كنوت هامسون : رواية نساء المضخة / 12
-
كنوت هامسون : رواية نساء المضخة / 11
-
كنوت هامسون : رواية نساء المضخة / 10
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 9
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 8
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 7
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 6
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 5
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 4
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 3
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 2
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 1
-
السيد و العمامة
-
يوم اختطاف دولة رئيس الوزراء
-
كلاب أولاد كلب
-
بغداد : 6./ 6. /6.
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / الأخيرة
المزيد.....
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|