|
حي الأرامل والأيتام!
طارق حربي
الحوار المتمدن-العدد: 3912 - 2012 / 11 / 15 - 23:51
المحور:
الادب والفن
حي الأرامل والأيتام! طارق حربي * فصل من كتاب (الناصرية .. شخصيات وأمكنة) تكاد لاتخلو مدينة في العراق من المناطق السكنية التي تحمل معاني ودلالات، ويسمي العراقيون الواحدة منها حيّ، ربما لأن سكانه من الأحياء! الحي العسكري والشهداء والثورة والشعلة وغيرها، يشير الأول إلى أن بلاد مابين النهرين كانت مسرحا لغزو الأقوام الطامعة المحيطة به من جوتيين وعيلاميين وحيثيين وكوشيين ومغول وبريطانيين ولاحقا الاحتلال الأمريكي، ولاننسى دفاعات سومر ضد الأعداء وتخطيط المدن المتصدية للغزوات وتوزيع المعابد وأماكن حفظ المؤن وبيوت المقاتلين وغيرها، لكن العراق برأيي أصبح ثكنة عسكرية منذ الفتح العربي الإسلامي (11هـ / 633م) بعدما التحق العراقيون مقاتلين لهذا الجيش واتخذ من حقول العراق علفا لدوابه!، أما الثاني فدليل قاطع على كثرة ضحايا العراق في الحروب المحلية والإقليمية والعربية، وتوسعت تلك الأحياء بكثرة ضحايا الحرب العراقية الايرانية حيث وزعت حكومة صدام الفاشي قطع الأراضي والسيارات لذوي الشهداء، وهو ماتقتضيه مصلحة النظام والحرب الطويلة في ذلك الوقت، فيما يشير الثالث إلى أن العراق كان مهد الثورات والانقلابات (انقلاب بكر صدقي سنة 1936 يعد أول تدشين في العالم العربي للإنقلابات؟!) ، وكذلك إشارة إلى ثورة 14 تموز المجيدة وأميل إلى أن التسمية انطلقت بعد اندلاعها، ولاشك أن الرابع حمل دلالات ومعاني الأمل بغد أفضل للشعب والوطن، وشيدت بعد ثورة 14 تموز نصب وتماثيل كثيرة للشعلة باعتبارها رمزا للثورة والتغيير، وكنت التقطت أواسط الثمانينيات من القرن الماضي صورة مع إحداها وتقع قرب جسر الشيخ خيون آل عبيد في مدينة الشطرة.
لكن طرأ شيء جديد على تسمية الأحياء دشنها سنة 1975 توزيع 50 بيتا بدون مقابل في حي صغير يقع شرقي مدينة الناصرية (كذلك في عدد من المحافظات) ويدعى حي الأرامل والأيتام، ولاأقصد هنا البيوت والأحياء التي شيدها الشهيد الزعيم عبد الكريم قاسم بعد ثورة 14 تموز للفقراء وذوي الدخل المحدود، في العديد من المدن العراقية وبينها الناصرية، ومايزال الناس يتذكرون ذلك ويتمنون لو عادت أيام الزعيم، كلما أمعنوا التفكير بأيام صدام ونظامه الاجرامي، ومن جاء بعده من أحزاب دينية وكردية فاسدة لحكم العراق!
دور الأرامل والأيتام أو حي الأرامل والأيتام أو حي (وروح أبوي!)، كما أطلق عليه الأولاد الصغار ببالغ العفوية منذ الايام الاولى، ولعلهم لايعلمون أن التوصيف جاء على شكل سخرية من قدرهم!، ذلك أن أيا منهم يقسم خلال اللعب أو الشجار أو تهم السرقة الموجهة إلى البعض منهم وغيرها : وروح أبوي مو آنه!، وروح أبوي ماشفته!، وروح أبوي هو بدأ بالشجار مو آنه وغيرها!، ويتكون الحي من 50 بيتا (سعة البيت الواحد 30 مترا مربعا)، حي لاآباء له مقطوع من 50 شجرة في عموم ذي قار، سكانه أرامل وبنات وأولاد صغار وكبار فقدوا الآباء بالجلطات والسكتات وحوادث السير والعمل وكبر السن وغيرها.
لكن قضت إرادة الحياة أن تتزوج عدد من الأرامل الشابات وتنجب بنين وبنات أضيفوا إلى قائمة الإخوان من ناحية الأم!، تمت الزيجات بالسر خوفا من الفضيحة أو خشية الوشاية إلى الحكومة فتطرد من كانت أرملة (سابقا) من البيت!، وسنة بعد أخرى تضاعف سكان الحي ودرج الصغار في شوارعه الضيقة ثم نهضوا إلى اللعب، وتعلموا في المدارس والتحقوا بالجيش والشرطة والوظيفة والجامعات والأعمال الحرة، ومنهم من غيبه صدام في المقابر الجماعية بعد أقل من عقدين (انتفاضة آذار)، ومن قتل بشكل غامض أواسط الثمانينيات ولم يعثر على جثته حتى اليوم وهو الشهيد الشاب باسم!
كان شارع 19 الذي توفي فيه أبي بالجلطة الدماغية في (12/5/1974) آخر محطات المعيش في المدينة، قبل أن ترمينا قوة طاردة مركزية إلى خارجها أي إلى حي الأرامل البعيد نسبيا عن مركزها وكان معزولا، وذلك قبل توزيع قطع الاراضي في الحي العسكري وحي سومر وماحولهما، قوة اجتماعية اقتصادية زحزحتنا شيئا فشيئا عن مركز المدينة خلال عمليات توسعها الديموغرافي، بعد الطفرة النفطية التي شهدها العراق في السبعينيات ومارافقها من تحسن اقتصادي، فبعدما ولدتُ في قلب الناصرية أي في شارع الحبوبي وبالتحديد في زقاق باشا أبو الطرشي ذو الاصول العثمانية، انتقلنا إلى الزقاق المقابل الذي ينتهي بتوراة اليهود، وإلى هذا البيت جاء عمي الشاعر زامل سعيد الفتاح (وكان يدرس في دار المعلمين لكنه يهجر القسم الداخلي وينام في بيتنا ويؤلف اشعارا ساخرة على أفراد العائلة من عمات وأعمام وأولادهن وأزواجهن حيث كنا نعيش في بيت واحد يدفع إيجاره أبي ونسعد بخفة دم الشاعر وموهبته وسخريته!) بتوصية من أبي الذي كان يعمل سائق سيارة أجرة خط ناصرية بغداد، واصطحبني إلى مدرسة قرطبة وسلمني ليد المعلم الاول الراحل الاستاذ هاشم البناء، وكان ذلك في سنة الحرس القومي 1963 المشؤومة!، ثم توالت بيوت الايجار ثمانية أو تسعة في شارع الحبوبي وحواليه ومنطقة السيف في بيت جدتي لأمي بدون استيفاء الإيجار الشهري نظرا للفقر والعوز الشديدين، ومازلت أتذكر جيدا أن أبي كلما اشترى أثاثا (في الغالب يكون مستخدما!) للبيت بعد تحسن طفيف في الحالة المعاشية خلال فترة عمله، يضطر إلى بيعه بعد فترة قصيرة خلال عطالته!، يأتي صحبة أبي دلال طويل عريض الكتفين من السوق القريب مرتديا دشداشة شادا وسطه بحزام جلدي أسود يلقي نظرات متفحصة على الاثاث ويقلبه بيديه قبل أن يسومه بأبخس الأثمان!، ولم يكن أمام أبي من خيار إلا القبول بالسعر الذي يحدده الدلال فيوافق على مضض، إذ لامفر حينذاك من إشباع الأفواه الجائعة وكانت عيوننا نحن الصغار تشيع الأثاث المرفوع على أكتاف العمال حتى نهاية الزقاق حيث تقف عربة يجرها حصان!، ولاحقا وجدت أمثال الدلال واستغلاله البشع للفقراء في الروايات والقصص العالمية لاسيما السوفيتية التي قرأتها فيما بعد، أما آخر المطاف فكان شارع 19 الذي ضم الكثير من بيوت الفقراء والمعوزين وأصحاب عربات الأجرة التي تجرها الخيول والحمير، الكسبة والمعلمين والقماشين وغيرهم من أصحاب المصالح الخاصة، إلى جانب بيوت نخبة من المبدعين في الكتابة والتشكيل والمسرح والرياضة وغيرها، ومؤخرا طالبت النخبة الثقافية في المدينة بتغيير اسمه إلى شارع المبدعين.
حصلنا على البيت بتوسط زوج خالتي الاستاذ معاذ عبد الرحيم لدى الأستاذ سعدي عياش عريم محافظ الناصرية في ذلك الوقت، في صباح ربيعي لاأنساه ماحييت سبقتنا أمي وأخواتي ونظفن البيت من بقايا الطابوق والإسمنت، وقبل الظهر استأجرنا عربة جيراننا التي يجرها حصان ونقلنا أغراضنا وجلست فوق (الدواشك) لاأعرف كيف أصف سعادتي في ذلك اليوم!، كما لو لم تكن عربة والحصان ينهب الطريق نهبا في طريق الشطرة بل بساط ريح طرنا به إخوتي الصغار وأنا إلى بيت تمليك لأول مرة في حياتنا!، هاهو الحظ يبتسم لنا أخيرا وأصبح لدينا (بيت ملك) حتى لو كانت مساحته 30 مترا ويناسب معيش شخص واحد (زكرتي) لاعائلة مكونة من عشرة أنفس!، وتكثر فيه النساء الناعيات أزواجهن وأولادهن في الحروب!، أخيرا تنفسنا الصعداء وقلنا وداعا لـ (رأس الشهر) ووقوف مالك البيت في الباب لإستيفاء الإيجار، وكان ذلك أحرج موقف واجهنا صغارا إذ لم نكن نملك قوت يومنا فكيف نسدد الإيجار؟!
غرفة نوم واحدة وهول ونص ربع مطبخ وحديقة ستة أمتار مربعة زرعناها بالسيسبان فأخضرّت بسرعة، وباب صغير يقع في منتصف سياج واطىء نطل منه على مساحات واسعة جدا من المستنقعات واليابسة، ولاحقا أي بعد عشر سنوات ستمتلىء المساحات بنساء ورجال يتدربون على حمل السلاح للإلتحاق بقواطع الجيش الشعبي بالنسبة للرجال، وكان أكثر المشاهد إثارة انبطاح النساء على بطونهن وإمساكهن للبندقية وإغماض العين غير المستعملة كأنهن يغمزن لنا نحن الواقفين غير بعيد عن حلقة التدريب!، قلت المساحة المفتوحة حيث لم توزع الحكومة بعد قطع الاراضي على المواطنين أو تشيد مؤسسات ومن بينها مستوصف صحي ومستشفى أسنان ودار رعاية اجتماعية ستعمل به أمي طباخة فيما بعد لغرض إعالتنا لفترة محدودة، وإلى اليمين تُشيد لاحقا اعدادية صناعة وعملت بها عامل بناء بالأجرة كما ذكرت في الفصل السابق (الطريق غلى المسطر)، ويقابلها من الجهة الثانية مديرية الطرق والجسور تحيط بغرفها وقاعاتها نوافذ بزجاج داكن اللون غامض، وقبالتها يقع فرع الأمن الرهيب الذي سيكون هدفا سهلا لثوار انتفاضة آذار 1991 بعد هروب عناصره وتمكن الثوار من اطلاق سراح السجناء فيه، ولما خرجنا في مظاهرات في اللحظات الأولى من الانتفاضة ابتداء من شارع سومر حيث يقع فرع الامن وانتهاء بشارع عشرين حيث فرع اطفاء الحريق ذهابا وإيابا، هاتفين بسقوط صدام ونظامه الفاشي الدموي وبجانبي الكثير من أبناء حي الأرامل بينهم الصديق الشاعر محمد الكعبي الذي سيعمل بعد التغيير 2003 مراسلا لفضائية المسار الأولى، وبينما نحن هكذا إذ جاء إليَّ شاب آثار التعذيب بادية على وجهه الأصفر الممتقع ويديه الناحلتين وكان يحمل بعض الثياب وآنية ستيل مما يحفظ بها الشاي حارا وقال لي وهو يراني أتقدم الصفوف هاتفا بحرقة قلب وعانقني وقبلني (خويه صدك جذب خلصتونه من الامن والله مامصدك خويه الف شكر!)، ولم أتمالك نفسي حينذاك فطفرت الدموع من عيني وعانقته طويلا بحرارة!
لم أكن في واقع الأمر أنا الذي اطلقت سراحه من السجن، فقد كانت وجهتي مع المتظاهرين انطلاقا من البيت إلى بؤرة بعثية أخرى هي منظمة الشيباني في الجهة المقابلة أي بجانب المستوصف الصحي!، لكني دخلت إلى فرع الأمن بعد ساعات وكان الوقت عصرا أردت أن أرى المبنى من داخله لاخارجه كما تعودت أن أراه في طريقي إلى البيت!، متحاشيا النظر إلى وجوه حراسه المتلصصة، دخلت إلى غرف محكمة الإغلاق بعد كسر أقفالها وابوابهاها من قبل الثوار وقلبت أدوات التعذيب بيدي من عصي وأسياخ حديد وكلابات وخيوط قطن رفيعة وغيرها، وسمعت أحد الداخلين معي وكانوا بالمئات يقول وكان ملثما : إنها كانت تستخدم لربط ايدي المعتقلين إلى أسياخ النوافذ الصغيرة!، فقلت له يالقسوة البعثيين المجرمين على العراقيين؟!، وشاهدت صورا كثيرة يبدو أنها لمعتقلين وربما لمطلوبين أو ملاحقين وأوراقهم وهويات الاحوال المدنية مبعثرة في الأروقة وعلى البلاط ولمحت بينها وجه أحد زملاء الدراسة المتوسطة!
ليس بالضرورة أن يكون جميع سكان حي الأرامل من الناصرية حسب بل كان الكثير من العوائل نزحت من أقضية محافظة ذي قار ونواحيها، وكان الاشتباك بين الاطفال خلال اللعب في الشارع يفصح عن اختلاف الطباع وربما شيء من العادات والتقاليد القروية واختلافها مع عادات وتقاليد سكان الناصرية، لكن الاطفال ينسجمون في لعب الكرة والقمار (الزار) وأسمع لغطهم وأنا في البيت وهو أول بيت في الصف الأول وبابه الصغير كوة صغيرة تنفتح على الناصرية لا على حي سومر. أولاد يتامى وجوه سمراء هدها تعب السنين والفقر والفاقة ولوحتها الشمس، يتجمعون قرب بيتنا للعب الزار والتشاجر وأنهرهم فيستحون ويتفرقون لكنهم يعودون بعد قليل، وكانوا يفضلون اللعب بجانب بيتنا معتبرين حائطه المقابل لحي سومر ملاذا آمنا وإطلالة على المساحة الواسعة من جهة الناصرية خوفا من غارات شرطة النجدة في ذلك الوقت! بعد عام واحد أي في ربيع سنة 1976 ، أقمنا أول أمسية شعرية شبه عفوية دعيت إليها كلا من الشعراء والكتاب الراحلين كمال سبتي ويحيى والقاص جواد الازرقي الذين سيغرقان في نهر الفرات سنة 1984، وضياء عبد الرزاق وعدنان فالح وسعد ثجيل المثقف الوجودي، والمثقف الرائع عوده هراب الاسمر ذي العينين الخضراوين، الذي كان يحكي لي عن أخيلة وعوالم رواية (مائة عام من العزلة) للكولومبي ماركيز قبل أن أشتريها وأقرأها، ومعلوم أن الكاتب نال جائزة نوبل لجملة أعماله الروائية وفي مقدمتها الرواية المذكورة، وسوف يهرب هرّاب من العراق إبتغاء تحقيق حلمه بالخلاص من بلاد الذبح، لكن الاكراد المتعاونين مع نظام صدام حينذاك ألقوا القبض عليه قبل وصوله إلى تركيا وسلموه ليد المخابرات العراقية واستشهد تحت التعذيب! توزعنا في الحديقة بحجم راحة الكف وعدد من الاصدقاء جلسوا على السلم الكونكريتي وبينهم كما لاأنسى أبدا وجه أخي حسين الذي سيذهب إلى الحرب بعد سبع سنوات ولم يعد حتى اليوم!، قرأنا أشعارا وتناولنا البيرة شهرزاد وعرق الزحلاوي وكل مدعو أحضر مشروبه معه!، وقبل الساعة الثانية عشرة ودعنا الاصدقاء وكان عليَّ أن أنام لأصحو مبكرا في اليوم التالي وأذهب إلى المسطر! لا أحلى من نومة الصيف على سطح البيت رغم انبعاث الروائح الكريهة من المستنقعات المحيطة بشبه جزيرة حي الأرامل!، وكانت مزدهرة دائما بالنفايات والحيوانات الميتة المتفسخة من قطط وكلاب التي لم يكن مصيرها القبور بل تنفق في البيوت أو خارجها وترمى في المستنقعات!، لكن النسمات الباردة بعد منتصف الليل تنعش القلب والروح ولاأقصد هنا الرياح الشرقية (الشرجي) القادمة من الأهوار والمشبعة بالرطوبة، فهذه لاينفع معها سوى النزول إلى الغرفة الوحيدة والنوم تحت رحمة مكيف الهواء!، أما عد النجوم في السماء فأصبح سُنَّة لفقراء العراق ومسحوقيه وأعظم أنواع السرحانات التي تنسي هموم الحرب والفقر والحرمان، وطالما سرحت معها فوق السطح خلال إجازاتي الدورية من جبهة الحرب، حالما بالهروب من العراق إلى العالم الواسع وهو ماسيتحقق لي بعد سنوات، لكن سماع الاخبار في ليالي الصيف من الإذاعات الاجنبية ومد (الأريل) لإلتقاط إشارة محطة بعيدة أصبح شيئا لاغنى عنه، بحثا عن بصيص أمل تنقذنا من طول الحرب وعبثيتها، كان (الراديو) فوق سطح الصيف الأرملي بوابة قد يرد منها أمل بخبر طيب من إذاعة معادية للنظام الجائر وقد لايأتي؟!، بعد تدويل الحرب التي رعتها دول عظمى وتجار سلاح ومصالح دولية وإقليمية مع الإبقاء على صدام ونظامه الإجرامي في السلطة! تحتاج ظاهرة النواعي في الناصرية إلى دراسات اجتمانفسية وكنت شهدتها طفلا في بيتنا وبيوت الجيران وتتلخص بجلوس الأم وبناتها أو عدد من النساء من متوسطات الاعمار والمسنات ويبدأن بالعويل والبكاء على ميت سواء في الحروب أو الأمراض وغيرها، ، متقابلات وبعضهن يغطين وجوههن بالعباءة أو (الشيلة) لتفادي ملاحظة الأخريات تعابير الوجه الحزين، تدير النواعي احداهن بصوت قوي يحمل شجى العراق ويفطر القلب وتشعر أن حزنه بكل مآسيه عبر ماضيه وحاضره تركز في هذه الجلسة المأتمية، ولاتعدم في حي الأرامل سماع الكثير من النواعي وأنت مار بين بيوتها أو عائدا من الولايه (مركز الناصرية) نهارا وليلا!، وربما انتقلت من بيت إلى بيت كالعدوى في نفس الساعة وتشعر أنك في مأتم متصل!، وقد يبدد جيراننا الشاعر محمد الكعبي غائلة الأحزان مضيفا شيئا من الفرح في الطابور الأول من البيوت بإطلاق أشجى أغاني عبد الحليم حافظ من جهاز تسجيل بسماعة مربوطة فوق السطح تشرف على الجيران من الجهتين، كان يستمتع كثيرا ويكتب الشعر ويتحاور في الثقافة ويشرب الخمر أحيانا خلسة من أمه العلوية وأخته!
بعد التحاقي إلي الخدمة العسكرية سنة 1976 وماتلاها، حدثت تغييرات في بنية الحي، فالصغيرات كبرن وخطبن وتزوجن ومنهن من درست في المعاهد والكليات، وبعض الامهات تزوجن وجئن بالعريس الجديد ليعيش معهن، وتطوع عدد من الاولاد في الجيش وأصبحوا ضباط صف وضباطا ورجال أمن كنا نتحاشى أن تفلت منا كلمة ضد الحكومة أمامهم وأمي توصي بذلك إخوتي دائما!، لكنهم كانوا يزاولون حياتهم وألعابهم مع اصدقائم لاسيما كرة القدم كما في السابق، ويوما بعد يوم أصبح لأخوتي أصدقاء أكثر مني في الحي نظرا لغيابي الطويل عنه، حيث أمضيت 12 سنة في الجيش أربعة منها خدمة المكلفية وثمانية في الحرب، وتجدد الحي بالاجيال المتعاقبة وتضاعف عدد نفوسه وأخذت الحرب ماأخذت وامتلأت السياجات بلافتات النعي لا الأعراس!، لم يعد الكثير من الرجال من جبهات الحرب وأمسوا أسرى ومفقودين، ومما أتذكره من أجواء الحرب أن أحد أبناء حي الأرامل واسمه حيدر كان قصير القامة، ولما احتاج الجحيم إلى مزيد من الوقود تم استدعاء قصار القامة منتصف الثمانينيات وزرقهم إبرا خاصة مع الإبقاء عليهم في الثكنات!، وكان شباب الأرامل يراقبون نمو طول حيدر خلال إجازاته الشهرية، وماهي هي إلا بضعة أشهر حتى أصبح بطول شاب طبيعي فسيق إلى جبهات الحرب!
ذات يوم كنت في إجازة شهرية لمدة أسبوع جالسا أتشمس وقت الضحى بباب البيت، وإذا بأعضاء المنظمة الحزبية يأتون إلى بيتنا ويطلبون مني التوجه إلى المنظمة لتزويدي ببندقية وبزة الجيش الشعبي والتوجه إلى أحد القواطع!، وكان رئيس المجموعة البعثية أحد زملائي في مدرسة قرطبة ولم يصدق أنني أتمتع بإجازة من جبهة شرق البصرة لمدة أسبوع، حتى دخلت إلى البيت وأتيت بوثيقة الإجازة فانصرف ولم يعتذر!
في إحدى الليالي الصيفية من سنة 1984 أو 1985 لاأتذكر بالضبط، صعدت مبكرا لأنام فوق السطح وكنت في إجازة شهرية، وبينما أنا أتقلب في الفراش مفكرا فيما ستؤول إليه حياتي في شرق البصرة موتا أم تعويقا جرحا بليغا أم أسرا وفقدانا، سمعت طفلا يغني بحزن شديد طور (جبير الكون) الملىء بالشجن، غناء جارح يأتي من الآفاق البعيدة محلقا فوق المستنقعات؟!، نهضت من الفراش لأشرف على ظلام مطبق محيط بالبيت من كل الجهات، لكن لم أشاهد وجه الطفل الذي قدرت عمره حينداك بأقل من عشر سنوات، و في الظلام الشاسع لم أتبين إن كان يغني في أحد بيوت الأرامل أم حي سومر أم وراء المستنقعات؟!، صوت حزين بلا وجه ولاملامح يعلو إلى ذرى مأساة الحرب العراقية الإيرانية التي كانت ضروسا في سنواتها العجاف، حاملا كل ألم الجنوب وإهمال أطفاله ومواطنيه وخدماته الإنسانية، طفل يغني بقلب يعتصره ألم الفقد والفقر والحرمان وطول سني الحرب وربما فقدان الأب أو الأخ وغيرهما، ولم أفهم حتى اليوم كيف يمكن له أن يجيد بالفطرة طور جبير الكون الذي يفطر القلب!، وكان من أصعب الأطوار الغنائية في الناصرية وأعتبره سمفونية خالصة من العذاب والقهر الجنوبي!
في شهر كانون الثاني وشباط من سنة 1991، وقفت وأفراد عائلتي مرات عديدة على سطح البيت، وشاهدنا قصف طائرات دول التحالف لمواقع منتخبة من الناصرية، كانت طائرات الـ (B52) و (F16) وغيرها من القاذفات الاستراتيجية الامريكية، التي كانت بالاصل موجهة إلى صدر العالم الشيوعي خلال الحرب الباردة، ترمي حممها على الجسور والأسواق والشوارع والمدارس وسايلو الحبوب وخزانات النفط والبنزين تقتل البشر والحيوان جملة ومفرد،وقف المئات من أبناء الجيران فوق السطوح المتلاصقة وتبادلنا عبر السياجات الخفيضة مشاعر من يدمر وطنه أمام عينيه ولايستطيع أن يمنع ذلك أو يوقفه! كنا لانرى الطائرات بالعين المجردة لكن نسمع دوي انفجارات وتصاعد أعمدة الدخان أمامنا ووراءنا ومن كل الجهات، بمعنى أنها كانت تقصف الاهداف وتدمرها وتشعل فيها الحرائق وتستدير عائدة إلى مواقعها في أسبانيا خاصة الـ (B52) أو في الخليج، ثم نسمع أصوات سلسلة من الانفجارات تهز الأرض هزا أشعر معها باهتزاز البيت!، ولم تحملني الأرض من شدة غيضي وحقدي على صدام وأمريكا والغرب في إحدى المرات وكان القصف في وقتها مكثفا فنزلت من سطح البيت وهرولت إلى المدينة كالمجنون لأقف على مادمرته الطائرات، وشاهدت الآلاف من المواطنين يهرولون مذعورين في جميع الاتجاهات، حتى وصلت إلى سوق الحدادين وكانت سيارات الاسعاف تنقل المصابين وشاهدت قرب مخازن الحبوب (السيف) حصانا ميتا بجانب عربته!
في أجواء الحرب وطولها وعبثيتها كنت كلما جئت من الجبهة بإجازة دورية (أسبوع واحد كل شهر وأحيانا كل 40 يوما) أشعر بأني شخص غريب في الحي كما لو أني لم أكن أحد أبنائه!، ففي كل إجازة أجد نفسي وجوه غريبة وبعد سنوات بين أجيال جديدة وتغيرات لحقت حتى تصاميم وأشكال البيوت، فبعد زواج أحد الأولاد تضطر العائلة إلى إلغاء الحديقة وبناء غرفة مثلا، فيما شيد آخرون شرفات وغرفا فوق السطح، وأبدلوا السياج الخفيض بباب كبير بعد تحسن الأوضاع المعاشية وتمكنهم من شراء سيارة!
في صباح اليوم الذي اندلعت فيه انتفاضة آذار في الناصرية (3/3/1991) شاهدت أخويّ حيدر وأحمد بباب البيت وقرأت في العيون رغبة الإفضاء بسر! فوقفت معهما وكانت الشمس خجولة تظهر من بين الغيوم فقال حيدر (راح تصير ثورة بالعراق واحنه صرنه بحزب الدعوة وراح يوزعون علينه أسلحة!!) فرحت للثورة والتغيير ونهاية حكم البعثيين الأرجاس لكني لم أخفي امتعاضي من انتمائهما لحزب الدعوة الرجعي، لكن الأمر خرج من يدي فقد كانا رجلين بالغين حينذاك ويقررا مايشاءان!
وشهد البيت زيارة ثقيلة للحرس الجمهوري بعد انتكاسة الإنتفاضة وهذه هي القصة : بعد أن انتفضت نحو 14 محافظة عراقية دون بغداد والأنبار وتكريت طبعا وأعطي صدام بحسب معاهدة خيمة صفوان (1991) الحق في استخدام الطائرات ذوات الاجنحة الثابتة (الهليكوبترات)، توجه لقمع المدن المنتفضة وبينها الناصرية، وأشيع في وقتها أن المقبورين علي حسن المجيد وزير الدفاع آنذاك وعزيز صالح النومان استقبلا في إحدى عشائر الناصرية بمنطقة الغراف، وأصدرا من هناك أوامرهما اليومية بضرب مدينة الناصرية بالطائرات والمدافع، أصيب الكثير من أبناء المدينة في الشوارع والبيوت والمحال وبينهم أخي حسن أصيب بجرح بليغ في رقبته بينما كان يمشي في أحد الشوارع القريبة من البيت، فأوصله الأخوان حيدر وأحمد وبعض الجيران إلى المستشفى الجمهوري وسط الناصرية، وطلب حسن من الجميع أن يتركوه ليلاقي مصيره وحده ويهربوا لأن الجيش كان وحشيا بهجومه على المدينة ومن جهة ثانية لأن حسن أحس حينذاك أنه لن ينجو من هذا الجرح! كان نائما شبه مذبوح من الرقبة بعدما نزف دما غزيرا وفي الردهة المقابلة جاء عدد من افراد الحرس الجمهوري بأحد رجال الإنتفاضة المجروحين أيضا وشددوا عليه الحراسة، وكانت الأجواء المخيمة على المستشفى في ذلك اليوم وماتلاه مروعة حيث سيارات الإسعاف تنقل الشهداء والجرحى الذين سقطوا جراء القصف الوحشي، وكانت امراة من سكنة شارع الحبوبي تعمل مع أختها اثناء الانتفاضة على مداواة الجرحى في المسشفى أي جرحى الانتفاضة (هربت هي وأختها فيما بعد من المستشفى ثم من الناصرية إلى ايران) حصلت لحسن اذن الخروج من المستشفى أي ورقة مزورة بأنه كان يقاتل مع البعثيين ضد رجال الانتفاضة!!، ذلك لأن الجيش لم يكن في تلك الساعات بسط سيطرته بصورة تامة على الوضع بالمستشفى أو لأن حسن كان في عناية الله؟! المرأة بعد ماجاءت بورقة الخروج المزورة لحسن نصحته بالهروب بأي صورة كانت وأقصى سرعة حتى لايقع في قبضة الجيش!، ولعل حسن أخذ بنصيحة الممرضة وماكانت عليه من مراقبة أحوال المستشفى فنهض من السرير وغادر ردهة الجرحى فورا وسار بين الممرات ثم نزل إلى أسفل أي إلى الحديقة، وهناك سارعت احدى النساء وكانت مع ابنها فتركته لما رأت من امر حسن وأمسكت به ومشت معه إلى باب الخروج ثم الى الشارع وقالت له (الله وياك خالة روح كبل لاهلك!) ثم عادت إلى ابنها
تقول أختي هدى في اليوم التالي وبعدما عدنا أمي وأنا من بيت عمي بالمدينة، وكنا هربنا من حي الأرامل جراء القصف الشديد قبل يومين، ونحيط بحسن ونرعاه في البيت وكان مستلقيا في فراشه، اقتحم بيتنا ثلاثة من افراد الحرس الجمهوري فارتبكت أمي وتسمرت أنا في مكاني وقد اجتاحني الرعب والقلق على مصير حسن، ومالبث أن اقترب مني الجندي الأول بكل صفاقة ووضع عصا على رقبتي قائلا لي بلهجته (وين الرشاش اللي ترامينه بيه بالليل يَولّي!!) انبهتت روحي لم استطع الجواب الا بعد لحظات قلت لهم (ماعدنه) بالبيت أي سلاح ولما سمعوا الرد انطلقوا بالضحك وكم كانوا مقرفين؟!، ثم فتشوا المطبخ والغرفتين ووجدوا حسن ممددا على فراشه سأله أحدهم أين أصبت ومن ضمد جرحك أجابهم أصبت اثناء القصف وأبرز لهم ورقة الإنقاذ أي ورقة الخروج من المستشفى ونجى منهم ومن شرهم!
وإذا كان حي الأرامل يتكون من خمسين بيتا فإن العراق ورث من عهد صدام الإجرامي نحو خمسة ملايين أرملة وثلاثة ملايين طفلا يتيما بحسب استبيانات لمنظمات إنسانية ومجتمع مدني، هذه النسبة الكبيرة من السكان لم تهتم بأمرهم الحكومات العراقية المتعاقبة بعد التغيير نتيجة الفساد وانعدام التخطيط وغيرها، وأخيرا فإن ذكريات وأحداث كثيرة ألمت بالحي لم أعشها لأكتب عنها كما ذكرت لغيابي سنوات طويلة في جبهة الحرب، لكن يبقى حي الأرامل ذكرى ألم ومعيش أيام خلت بحلوها ومرها، وكان الكثير من سكنة الحي اشتكوا من عدم قدرتهم على التآلف مع الاحياء الجديدة وتكوين صداقات فيها، بعد بيع بيوتهم خلال فترة الحصار والانتقال إلى تلك الاحياء، لكنهم مازالوا يواظبون على زيارة الحي وإدامة العلاقة مع أصدقاء الطفولة، إن حي الأرامل وحدة اجتماعية وإنسانية وحدتها إرادة العيش المشترك والقبول بالمصير والهوية، وكل من خرج منه يحن إليه ويعود بين فترة وأخرى لملاقاة وجوه الاحبة متذكرا معهم أياما جميلة لن تعود!
* الصورة المرفقة لعدد من ابناء حي الأرامل والايتام جمعها الأخ حسن الدره (يظهر في الصورة)
#طارق_حربي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لوكان المالكي مخلصا ونزيها ؟!
-
الشطرة تهتف ضد حكومة الفساد : شلون انتخبك وانت تبوك الكمية؟!
-
غزوة البطاقة التموينية!
-
وظفوا بلير مستشارا لدى الحكومة العراقية!
-
هذا هو العراق (2)
-
هذا هو العراق
-
الطريق إلى المسطر
-
شارع الحبوبي
-
مجلس لملوم ذي قار يقاطع المنتوجات الهولندية!
-
لماذا نكبة تكريت برقبة المالكي؟!
-
غزوة جرافات أمانة العاصمة القندهارية لشارع المتنبي ببغداد!
-
ملصق عن الحجاب في جامعة بابل وعار حفلات التكليف في العراق
-
ردا على علي الدباغ وطارق حرب : آووا السوريين مثلما آووا العر
...
-
سميسم والمالكي : -لقاء حبايب- انهى ازمة سحب الثقة ؟!
-
قصر نظر المالكي في علاقات العراق الدولية!
-
استطلاع رأي.. البرلماني العراقي في مواجهة التحديات / أجراه ع
...
-
الناصرية : افتتاح معرض الفساد الدائم!
-
استنساخ المالكي : شطحة أم تخدير !؟
-
عمليات بغداد: لماذا لم تعتبر تفجيرات اليوم خرقا نوعيا !؟
-
حكومة المالكي تجيز استخدام السلاح لقتل الشعب العراقي!
المزيد.....
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|