|
العين الفاحصة
ابراهيم هيبة
الحوار المتمدن-العدد: 3834 - 2012 / 8 / 29 - 16:51
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
نفاذ البصيرة لا يتلائم والسير الطبيعي للحياة؛ ذلك أنه كلما اتسعت رؤيتنا للأشياء، كلما ضاق معها معنى الحياة. وهذا ما يحصل معنا جميعا، من أصغر طفل فينا إلى أكبر فيلسوف. عندما تتولد لدى الطفل فكرة واضحة عن الميكانيزمات التي تشتغل بها لعبته يزول لديه على الفور أي شغف بها. و نفس الشيء ينطبق علينا، نحن الكبار، عندما نكتسب معرفة عميقة بالتكتيكات والخيوط التي تحرك هذه اللعبة الكبيرة التي تسمى بالحياة. التأمل المطول في مكونات الحياة ومجرياتها يحولها إلى عدم. لننظر، مثلا، في الحب: إشراقاته تنافس شطحات المتصوفة وانخطافات الموسيقى؛ إنه يتمظهر كأعظم شعور إنساني على الإطلاق، لكنه، في العمق، يخضع لإنقباضات المسالك البولية ومستويات التستسترون في الدم. فعندما تتراخى تلك الانقباضات ويضعف تركيز الهرمونات، تخبو فورة الحب ويصبح اقتراب الجنسين من بعضهما بعضا غير مفهوم بالمرة. إذن، يكفي القليل من الموضوعية والتجرد ليكتشف المرء بأن كل تلك الحرارة والاحتدام، اللذين يأخذان من السرير مسرحا لعملياتهما، لم يكونا سوى استراتيجيات فيزيولوجية لضمان استمرار النوع. العقل يفضح ألاعيب الحياة. و لو افترضنا أننا كائنات عاقلة بالمطلق، لكنا قد قدمنا استقالتنا من العالم مند فجر التاريخ. وإذا كنا لا نزال لحد الآن نملأ هذا الكوكب لغطا وضجيجا، فالفضل في ذلك يعود إلى حرارة الرغبة وعماء إرادة الحياة؛ بدونهما يصبح القلب الإنساني مجرد عضو أجوف لا يثير إلا اهتمام الأطباء. إذن، فما يدفع المرء إلى التحيز إلى هذا الطرف أو ذاك لا يعود إلى ذكائه أو ثقافته بقدر ما يعود إلى شغفه أو تعلقه بالموضوع؛ فالشغف هو الذي يطمس شكوك العقل ويدفع تحفظاته العدمية، ويُمكِّننا من الاندماج، مرة أخرى، في حماقات القطيع. وهكذا، فالواحد منا لا يمكن أن يكون عاشقا وفيلسوفا في نفس الآن؛ ذلك أن تفكيكات العين الفاحصة لا تتلائم و هيامات القلب النابض. الذي يحب لا يتساءل أبدا لماذا يحب، والذي ينغمس في مشروع ما لا يتوقف أبدا ليتفكر في دلالة معنى ما يقوم به: فحالما يبدأ المرء في تأمل حبه لهذا الشيء أو ذاك، يجد نفسه وقد قذف به خارج التجربة ـ إنه لم يعد عاشقا على الإطلاق، لقد أصبح، الآن، محلّلا نفسانيا. هذا، إذاً، هو الحب: أطروحة مضادة للمعرفة ومولِّد لأكبر الأكاذيب التي شهدها التاريخ البشري. وكل خطوة إلى الأمام في الحب تساوي خطوة إلى الوراء على مستوى النزاهة الفكرية والحياد الأنطولوجي. من وجهة نظر موضوعية، لا يوجد خير ولا شر، لا جمال ولا قبح؛ والذي يتمكن من التعالي عن المذاهب والإديولوجيات والتجرد من الأهواء والأحكام المسبقة سيرى الأشياء كما هي في حد ذاتها ـ أي العراء التام والبساطة الكاملة. إن التعدد الذي يطبع العالم والتراتبية التي تحكم أوصاله لهي إلاّ أوهام تعشش في العقول الضيقة وأشباح تسيطر على القلوب الضعيفة. يكفي فقط أن يعلِّق المرء حماسه لبعض الوقت وسيرى بأم عينه كيف ستتفكك أمامه كل أشياء العالم، وكيف سيتساوى الشيطان مع الملاك، والباطل مع الحق، والعدم مع الوجود. باختصار، كلما تأمل المرء الأشياء بقلب جاف وأعصاب باردة سيتمظهر له العالم في حقيقته الخفية: مستوى مسطح بل عمق وبلا ارتفاع. لا يحسم اختياراته في هذا العالم إلاّ الأعمى أو الذي لم يسبر غور الأمور جيدا. من ينظر مليّا في كل الأوجه الممكنة لأمر من أمور الحياة، لابد وأن يصاب بالجمود؛ سيظهر له بأنه ليس هناك توجه أفضل من توجه آخر، أو اختيار أصوب من اختيار ثان- "كل شيء متماثل" هكذا سيكون استنتاجه الأخير وهو ينظر إلى العالم في شموليته. بصره الثاقب يجرّد الظواهر من كل ادعاء بالواقعية، ويفضح الصورة الحقيقية للحياة: أنها بالنسبة له، مجرد مملكة من الأشباح. في الحقيقة نحن لا ننجح في الحياة إلا بقدر ما يوجد في عيوننا من الغبار؛ ذلك أن التبصّر المطلق يفصلنا عن والمجتمع؛ فنحن كلما تعمقنا في غياهب النفس وأسرار القلب، كلما قل عدد أولئك الذين يمكن أن نتواصل معهم؛ كما أن السير الطبيعي للحياة لا يمكن أن يتم بدون حد أدنى من العفوية و اللاوعي. وهنا يظهر جليّا الطابع الدرامي لحياة كل إنسان يتمتع بقدر كبير من الصحو الفكري و نفاذ البصيرة: إنه إنسان لا يستطيع أن يندمج في الحياة على نحو ما يقوم به باقي البشر؛ موضوعيته المطلقة ترغمه على البقاء على هامش الوجود؛ نظره المنفصل لا يفرق بين حديقة من الأزهار وحقل من الأشواك؛ ذهنه المتوقد يمنعه من التحيز إلى أي طرف من أطراف المجتمع- و كيف سيتحيز وهو لا يقلب فكرة في العطاء أو التضحية أو الاستشهاد إلاّ ليجد تحتها الزهو أو الأنانية أو التعطش للمجد والسلطة؟ ! ... ما من شك في أن إنسانا كهذا يتمتع بمعرفة كبيرة تجعله متحررا من كل الأوهام والأهواء والقيود؛ لكن تحرره، هذا، لم يحصل عليه إلاّ بعد أن انهار من حوله كل شيء- أنه حر، لكن في صحراء قاحلة.
#ابراهيم_هيبة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تحت تأثير إيروس
-
خرافة اسمها الحقيقة
-
ميتافيزيقا الدموع
-
لعنة الولادة
-
عدو المرأة
-
جاذبية المشنقة
-
أنا و العالم
-
تأملات في الضجر
-
إنسان السطوح
-
منافع المرض
-
مصادر الصلاة
-
تمارين في الزهد
-
البعد الميتافيزيقي للأرق
-
حول الزواج
-
مائة عام من العزلة
-
عبادة الأنا
-
فينومينولوجيا الموت
-
بؤس الفلسفة
-
الإنسان المنفصل
-
تهافت الآلهة
المزيد.....
-
RT ترصد التوغل الإسرائيلي في القنيطرة
-
بوتين: نسعى للريادة في الذكاء الاصطناعي
-
فرنسا تسحب مقاتلتين ميراج من تشاد إيذانًا بانسحابها العسكري
...
-
منظمة ألمانية تنتقد تمويل أوروبا لتونس وليبيا لإدارة الهجرة
...
-
الجيش الروسي في سيفاستوبول يسقط 5 مسيرات أوكرانية ويصد اثنتي
...
-
هل هناك تواصل مباشر بين طهران وإدارة العمليات العسكرية في سو
...
-
وكالة الطيران الروسية تمدد القيود على الرحلات إلى إسرائيل
-
أوربان: زيلينسكي يرفض مقترحا قدمته هنغاريا بإعلان هدنة مع رو
...
-
الحرس الثوري الإيراني: طورنا مع وزارة الدفاع طائرة مسيّرة -ف
...
-
مسيّرات غامضة على الساحل الأمريكي وعضو في الكونغرس يقول: على
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|