|
هل يتمخض الربيع العربى عن تأسيس دول إسلامية؟
خليل كلفت
الحوار المتمدن-العدد: 3770 - 2012 / 6 / 26 - 22:10
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
1: يتسلم محمد مرسى الرئيس المنتخب مرشح جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة سلطة رئيس الدولة فى كبرى الدول العربية، مصر، وهى أيضا التى شهدت كبرى الثورات العربية الراهنة، وسبق أن جاءت الثورة التونسية بحزب النهضة الإسلامى بزعامة راشد الغنوشى، كما أن حركات الإسلام السياسى ومنها حركة الإخوان المسلمين قوية فى ليبيا، وليس من المستبعد بل من المرجح أن تسير الثورة السورية فى اتجاه مماثل، كذلك فإن الإسلام السياسى قوى أصلا فى اليمن مع دور أساسى للقبائل يختلف به الوضع هناك كثيرا. وإذا كان ما يشهده السودان بداية ثورة ضد نظام عمر البشير فإن من المنطقى أن يمتد إليها نفس الهاجس، خاصةً وأن أقوى حركات المعارضة للنظام المتأسلم فى السودان إسلامية بصورة أعمق. وقوة الإسلام السياسى فى البلدان العربية الأخرى المرشحة وغير المرشحة للثورة حقيقة واقعة معروفة ولا شك فيها. فهل ينقلب الربيع العربى الثورى إلى ربيع عربى إسلامى رجعى؟ 2: ورغم قوة هذا الاتجاه العام إلى أسلمة هذه الدول والمجتمعات والشعوب، ينبغى أن نأخذ فى الاعتبار حقائق تعمل ضد هذا الاتجاه. وإذا أخذنا فى اعتبارنا حقيقة أن حركات الإسلام السياسى هذه ليست محلِّقة فى سماء الأيديولوچيا بل هى راسخة الجذور حقا فى الأرض بوصفها قطاعاتٍ وأقسامًا من الرأسمالية الكبيرة التابعة للرأسمالية العالمية المعولَمة، وتمثل سياسيا قطاعات رأسمالية بعينها، فإن المشكلة الأولى التى يواجهها الإسلام السياسى تتمثل فى نفور القطاعات الرأسمالية الأساسية منه فى هذه البلدان ورفض أىّ زواج كاثوليكى معه لا مناص من أن يؤدى إلى حبسها فى قفصه غير الذهبى. وتجمع أحزاب الإسلام السياسى بين سمتين: سمة المصالح الرأسمالية المحلية والعربية والعالمية، وهذه هى السمة الطبقية الأساسية، وسمة انتماء مئات الآلاف من المحرومين من أبناء وبنات الطبقات الشعبية، والجماهير العاملة والفقراء. وتجمع أحزاب الإسلام السياسى إذن بين الانتماء الفكرى والسياسى الرأسمالى لقادة هذه الأحزاب وبين الانقياد الجماهيرى من جانب المحرومين الذين هم ضحايا هذا التضليل الذى يُسَرْبِل، بسربال الإسلام، المصلحة الرأسمالية المادية الدنيوية والفكر الرأسمالى الذرائعى الپراجماتى الذى لا يختلف فى جوهره عن كل فكر رأسمالى؛ وهذه السمة المزدوجة ليست سمة ينفرد بها الإسلام السياسى عن الأحزاب الرأسمالية والإمپريالية الكبرى فى عالمنا، فهى جميعا تجمع بين الأغنياء والفقراء، بين الرأسماليِّين والعمال، بين الظالمين والمظلومين، بين المحتكرين والمحرومين. 3: وبالإضافة إلى المشكلة الأولى المتمثلة فى مقاومة مختلف القطاعات الحاسمة من الرأسمالية الكبيرة للإسلام السياسى، تتمثل مشكلة أخرى فى حقيقة أن مؤسسات وأجهزة وقوانين وأنظمة الدولة القائمة تقاوم هذه الأيديولوچيا الدينية السياسية. فعلى النقيض من "الدول" التى نشأت متأسلمة مثل المملكة العربية السعودية يأتى الإسلام السياسى هنا وافدا جديدا على السلطة القائمة على أرضية مختلفة رغم احترام المظاهر الدينية والتأسلم غير الجهادى. فهنا جيوش وأجهزة أمنية ومخابراتية ومؤسسات مدنية مسيطرة وغير مستعدة للتنازل عن الفوائد السبعة لسيطرتها (على سبيل المثال الاقتصاد الظاهر والخفى للجيوش بالمكاسب والامتيازات والمداخيل الضخمة والأسطورية عند مستويات بعينها لدائرة غير ضيقة للغاية من قياداتها). وبالإضافة إلى الاختلاف عن دول نشأت دينية مثل السعودية (على يد حركة إسلامية سلفية حربية بقيادة محمد بن عبد الوهاب و محمد بن سعود)، تختلف حركات الإسلام السياسى هذه عن الإسلام السياسى الشيعى بقيادة آية الله روح الله الخمينى فى أن الإسلام السياسى الشيعى ظل يمثل تنظيما قويا له دور اجتماعى ضخم وكان يمثل القوة الكبرى والحاسمة فى الثورة وقامت بالإطاحة بنظام الشاه محمد رضا بهلوى فى مواجهة مكشوفة مع جيشه وأجهزته الأمنية والمخابراتية وبالتالى صارت السلطة المسيطرة الفعلية التى قامت بالإطاحة بنظام الشاه وتصفية بقية قوى الثورة. ومن الجلى أن الإسلام السياسى العربى لا يصل فى كل الحالات إلى السلطة فى غمار مواجهة مسلحة قادها مع الجيوش المعنية، ووجد نفسه أمام السيطرة الفعلية للجيوش. وهناك بالطبع استثناء ليبيا وسوريا حيث أطاحت حرب أهلية بنظام معمر القذافى فى ليبيا، وبوجه خاص تتواصل حرب أهلية فى سوريا ضد نظام بشار الأسد، غير أن الوضع فى ليبيا وسوريا كان مختلفا كثيرا لأن ثورتيْهما لم تكونا ثمرة نضال طويل مباشر للإسلام السياسى للإطاحة بهذين النظامين بل كانت الثورتان مرتبطتين بأوضاع اجتماعية اقتصادية مشتركة مع بلدان عربية أخرى جعلت لتأثير الدومينو دورا مباشرا كبيرا، وبالتالى اندلعت هذه الثورة فى البلدين ليس بمبادرة إسلامية كانت قياداتها مهاجرة فى الحقيقة خارج البلدين. 4: وتتمثل مشكلة ثالثة، بطبيعة الحال، فى أن الثورات الراهنة قامت بإيقاظ حركات وقوى وجماهير متعطشة للحرية، والديمقراطية، ولا تسمح لها معاناتها القاسية قبل وبصورة أكبر بعد الثورة من أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية ومستويات معيشتها المتردية للغاية، ولا التسييس الواسع النطاق ضد الفساد والاستبداد، ولا تحرُّرها من الخوف والخضوع والاستكانة والسُّبات التاريخى، ولا ثورة التوقعات التى أطلقتها الثورات، بالاستسلام لأىّ حكم فاسد ومستبد مرة أخرى بسهولة. وعندما تصل إلى السلطة أحزاب إسلامية فى البلدان العربية المعنية فإنها تجد نفسها أمام ثورات مستمرة من المرجَّح أن تناضل باستماتة فى سبيل تحقيق أهداف الثورة فى صورة ديمقراطية شعبية تقوم على الخبز والحرية. ولا شك فى أنه يوجد، كما سنرى، اختلاف كبير بين ليبيا وسوريا اللتين كان طريق الحرب الأهلية فيهما أداة تصفية الثورة من ناحية، ومصر وتونس اللتين ساد فيهما طريق التصفية التدريجية للثورة من ناحية أخرى. ومن هنا فإن خطر فرض نظام إسلامى بعد النجاح فى الإطاحة بالنظام يظل أكبر فى كلٍّ من ليبيا وسوريا. 5: وتتمثل مشكلة رابعة فى واقع أن هذه الأحزاب والحركات ظلت منذ نشأتها الأولى مضروبة ومقهورة ومضطهَدة ومن هنا فإنها تفتقر إلى الخبرة السياسية اللازمة للتصارع مع المشكلات الكبيرة التى تواجهها، وللنجاح فى إنشاء نظام سياسى مستقر، وفى إدارة الدولة والاقتصاد. ورغم النجاح فى إنشاء جماعات وحركات وأحزاب سياسية إسلامية سرية والاستناد إليها فى التأثير السياسى والتجنيد الواسع النطاق وتوسيع الصفوف والارتباط الوثيق بجماهير شعبية فإن نجاح الإسلام السياسى فى السيطرة المنفردة على الحكم بسرعة أمر بالغ الصعوبة فى الوقت الذى تمثل فيه السرعة البالغة مفتاح السيطرة بالطرْق على الحديد وهو ساخن بدلا من اتجاه التطورات نحو الاستقرار على غير هواه سواء من حيث استعادة مؤسسات الدولة لسيطرتها بعيدا عن تأثير فعال للإسلام السياسى من ناحية، أو انتزاع الجماهير العاملة والفقيرة للديمقراطية الشعبية بكل قدرتها فى المدى المرئى على الدفاع عن حقوق وحريات الشعب وتحقيق الأهداف الحقيقية للثورة. 6: وعندما نأخذ فى الاعتبار مختلف هذه الميول والاتجاهات، والميول والاتجاهات المضادة، فى سياق الصراع بين الثورة والثورة المضادة، تبرز بمزيد من الوضوح طبيعة الفُرَص التى تنفتح أمام الإسلام السياسى والعقبات التى تقف أحجار عثرة فى طريقه. ويمكن القول إن الفرص المواتية لاستمرار الثورة ترتبط ارتباطا عكسيا باتجاه محتمل للنظام السابق إلى استعادة سيطرته السابقة المستقرة أو اتجاه محتمل للإسلام السياسى إلى فرض سيطرته الجديدة المستقرة، فهذان هما العدوان اللدودان للثورة. ولهذا فإن هذين الاتجاهين يعملان متحالفيْن أو منفرديْن على تصفية الثورة التى ينبغى أن تقاوم استعادة النظام السابق. وينبغى أن نلاحظ هنا أن استعادة النظام السابق يمكن أن تتحقق بطريقة من طريقتين: الأولى، قيام المؤسسات الحاكمة السابقة باستعادة النظام فى شكل عسكرى صريح مباشر، أو فى شكل مدنى تتسربل به السيطرة العسكرية الفعلية، والثانية، نجاح الإسلام السياسى فى الإطاحة بالنظام العسكرى المباشر أو غير المباشر وبالتالى عودة الجيش إلى الثكنات، بحيث نكون إزاء دولة دينية. وهناك دائما احتمال الجمع بين الاتجاهيْن أو الميليْن العسكرى والدينى عن طريق تقاسُم السيطرة الفعلية فى مصر مثلا بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة والإسلام السياسى، أو الجمع بين السيطرة الفعلية للمجلس الأعلى ودور يقوم به الإسلام السياسى صاغرًا كشريك أصغر بهدف التسلل إلى المؤسسات الحساسة من موقع أفضل للانقضاض فى ظروف مواتية على السلطة. 7: ويعنى ما سبق أن النظام السابق أو المستعاد، سواء أكان مباركيا "فُلُوليًّا" أو إسلاميا إخوانيا، ليس نظاميْن بل هو فى الحقيقة، ورغم ظاهر الأمور، نظام واحد. ذلك أنه فى الحاليْن نظام الرأسمالية الكبيرة التابعة للإمپريالية. وقد يستند هذا النظام إلى حكم ذرائعى، أو حكم قومى، أو حكم إسلامى، غير أن هذه التوجهات لا تغيِّر من الطبيعة الرأسمالية والتابعة التى لا يمكن أن يُفلت منها نظام من الأنظمة العالم-الثالثية النموذجية. وفى ضوء حقيقة أن ثورات الربيع العربى ليست ثورات اشتراكية فلا مفرّ من أن تكون محصلة الصراع بين الثورة والثورة المضادة هى استمرار نظام الرأسمالية التابعة. غير أن هذا إنما يكون فى المدى المباشر من أعلى، على حين تكون السيطرة من أسفل للديمقراطية الشعبية. وإذا أخذنا فى الاعتبار خصائص وعناصر ومكونات هذه الديمقراطية المباشرة فإن هذه الأخيرة تمثل نقلة تاريخية للشعب من حيث مستويات المعيشة الكريمة والأجور العادلة والتأمين الصحى الشامل وإقرار وممارسة التعددية الحزبية وحقوق التظاهر والاعتصام والإضراب واستقلال النقابات العمالية والمهنية ووضع دستور جديد يضمن الحريات وحقوق الإنسان وإلغاء القوانين المقيدة للحريات واستقلال القضاء والصحافة وحرية العقيدة وإقرار وممارسة تحرير المواطنة من كل تمييز على أساس الدين أو النوع أو الإثنية وتطوير التعليم وغير ذلك. وبطبيعة الحال فإن استمرار النظام الرأسمالى التابع باستبداده وديكتاتوريته من أعلى وبالفساد الملازم له يمثل خطرا متواصلا يهدد بسحق الديمقراطية الناشئة إذا عجزت عن الدفاع عن نفسها بعودة الشعب إلى السُّبات التاريخى. 8: ونعود إلى سؤال عنوان هذا المقال: هل يتمخض الربيع العربى عن تأسيس دول إسلامية؟ وفيما يتعلق بمصر، وكما سبق ورأينا، فإن بلدان الثورات التى استمرت إلى الآن تشهد صراعًا متعدد الأطراف يمكن إيجازه فى أنه صراع بين قوى ثلاث تنتمى اثنتان منها إلى الطبقة الرأسمالية الكبيرة: إحداهما تمثيل سياسى لقطاعات عسكرية ومدنية سادت منذ حركة 1952، والأخرى هى قوة الإسلام السياسى. أما القوة الثالثة فهى الكتلة التاريخية الناشئة المدنية المتنوعة للغاية وغير المنظمة سياسيا فى حزب واحد أو أحزاب متعددة قوية ناضجة أو جبهة واحدة ومنها القوى الحقيقية للثورة وكذلك كل حزب قد يساعد فى مرحلة أولى مؤقتة بطبيعتها على إقرار التعددية الحزبية فى البلاد. وفى مجرى هذا الصراع المرير المتشابك فى مصر، يدور صراع متعدد المراحل والمظاهر على السلطة بين القوتيْن المنتميتيْن إلى الرأسمالية الكبيرة إحداهما بقيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة والثانية بقيادة جماعة الإخوان المسلمين وحزبها. وفى الوقت نفسه تعمل هاتان القوتان متحالفتيْن أو متعاونتيْن أو منفردتيْن، على قدم وساق، على تصفية الثورة التى ينبغى بدورها أن تواصل نضالها الثورى ضد الدولة العسكرية لإحداهما والدولة الدينية للأخرى. ولا يعنى هذا تركيز نضال الثورة فى المدى المباشر من أجل الدولة المدنية ضد العسكرية أو من أجل الدولة العلمانية ضد الدينية. إن ما يجرى بالفعل هو بناء مؤسسات دولة الثورة المضادة وينبغى الابتعاد تماما عن المشاركة فى هذه العملية الشريرة وعن التركيز بطريقة تدور حولها على المقاطعة، أو ما يسمى بالإبطال، والمقاطعة هى الموقف السليم بدلا من "فُكَيْرَة" الإبطال بحجج واهية أثبتت عدم جدواها، فمثل هذا التركيز إنما يعنى الدوران حول الاستفتاءات والانتخابات الپرلمانية والرئاسية مع ادِّعاء مقاطعتها أو إبطال الأصوات فيها بدلا من التركيز على الفعل الثورى وبناء مؤسسات الديمقراطية الشعبية. 9: والوضع الفعلى فى مصر هو ذلك الصراع الذى احتدم بقوة فى الأشهر الأخيرة بين المجلس الأعلى على رأس القطاعات الرأسمالية والقوى السياسية التى تصطف وراءه، وبين الإخوان المسلمين على رأس الإسلام السياسى. ولم يأت المجلس بالرئيس المنتخب محمد مرسى إلى رئاسة الجمهورية، وسط غموض وشكوك وشائعات، إلا بعد حكميْن قضائييْن بحل مجلس الشعب وتثبيت ترشيح أحمد شفيق، وقرار من وزير العدل بمنح الضبطية القضائية لرجال المخابرات والشرطة العسكرية، وتشكيل جديد لمجلس الدفاع الوطنى، وإعلان عسكرى يجعل من القوات المسلحة دولة داخل الدولة، كما يجعل منها عزبة للمجلس الأعلى، ويقيد سلطات رئيس الجمهورية، ويسمح بقيام المجلس بتشكيل الجمعية التأسيسية للدستور فى حالة تعثُّر تشكيلها الحالى. وبالطبع فإن الدعاوى القضائية المرفوعة حاليا سوف تحسم، وربما اليوم، أمر كل أو بعض هذه التطورات. ومن الغريب أن مثقفين ممن ظلوا يعارضون السلطات الدستورية المطلقة لرئيس الجمهورية يتمادون فى اعتراضهم على هذا الإعلان الدستورى فيهاجمون فى الفضائيات تقليص سلطات رئيس الجمهورية لحساب المجلس الأعلى. ويفقد هؤلاء المثقفون البوصلة المرشدة لأن كثيرين منهم أثبتوا فى الفترة التالية للثورة أنهم من عَبَدَة النظام الرئاسى بحجة جديدة فحواها أن هذه المرحلة تحتاج إلى رئيس قوى وكأن الرئيس المخلوع كانت تنقصه القوة. كذلك فإن منح السلطات المطلقة لرئاسة الجمهورية لرئيس ينتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين التى تعمل على إقامة دولة إسلامية أمر بالغ الخطورة. ولا يعنى هذا تأييد بقاء سلطات حاسمة من سلطات رئيس الجمهورية مع المجلس الأعلى الذى ما كان ينبغى أن يكون فى موقع أىٍّ من السلطتيْن التشريعية والتتنفيذية؛ والحقيقة أنه اغتصب هاتين السلطتين بحكم "شرعية" الانقلاب العسكرى، رافضا كل مطلب آخر للثورة فى كل محطات الفترة المسماة بالانتقالية. 10: ومهما يكن مصير الدعاوى القضائية المرفوعة أمام القضاء الإدارى فإن الأمر الأكيد هو أننا لسنا إزاء تسليمٍ للسلطة السياسية للرئيس المنتخَب، فالواقع أن الرئيس المنتخَب هو الذى أثبت أنه كان بوسعه أن يقبل بلقب الرئيس أو بشيء أشبه بهذا بدون سلطاته؛ ربما معتمدا فى تغيير المعادلة على الضغط الإخوانى فى الميدان. وهناك مَنْ يُعَلِّلون أنفسهم بأوهام وأمانى أن يكون محمد مرسى رئيسا لكل المصريِّين على أساس أنه استقال من الجماعة والحزب المعنيَّيْن. والحقيقة أن الاستقالة الشكلية لا تلغى حقيقة أن برنامجه السياسى والاقتصادى هو برنامج الجماعة والحزب اللذين يمحضهما الولاء من أعماقه. كذلك فإن فوز كلٍّ من محمد مرسى و أحمد شفيق، بهذه النسبة فى الإقبال إنْ صحَّت، وبهذه الأعداد إنْ صدقت، يدل ليس على تأييد حقيقى بهذا الحجم للأول أو الثانى بل يدل بوضوح على الخوف من عودة نظام حسنى مبارك من جانب والجمهورية الإسلامية من جانب آخر. ولا شك فى أن الإسلام السياسى الإخوانى يَلْقَى مقاومة كبيرة من جانب قطاعات حاسمة من الطبقة الرأسمالية الكبيرة بقيادة المجلس الأعلى، ومن جانب قوى رأسمالية ليبرالية ناشئة، ومن جانب الثورة. ومن الجلى أن الطريق المصرى الذى ابتعد عن خيار الحرب الأهلية فى تصفية الثورة لخطورتها على الرأسمالية الكبيرة واختار طريق التصفية التدريجية يمثل الخيار الأفضل للثورة المضادة وكذلك للثورة، بفضل الزمن المتاح لتطور ونضج الثورة، ومن المحتمل بالتالى أن تحقق الثورة المصرية ديمقراطيتها الشعبية المنشودة مهما كانت مستويات الاستبداد الديكتاتورى للرأسمالية من أعلى. وسيكون هذا نجاحا حقيقيا كبيرا لثورتنا فى مجال تفادى الدولة الدينية بجمهوريتها الإسلامية الإخوانية، رغم أن بقاء الرأسمالية التابعة لأن المحتوى الموضوعى للثورة لا يشمل الإطاحة بالرأسمالية. 11: ويمكن القول إن حظ الثورة المصرية فى التطور أفضل من حظ الثورة التونسية رغم ريادتها لهذه الثورات بلا منازع. ولا يقتصر الفارق فقط على أن حزبا إسلاميا تولَّى بصورة مبكرة هناك السلطتين التشريعية والتنفيذية رغم وجود قوى أخرى فى النظام الجديد وفى المجتمع، بل يشمل هذا الفارق قوة وعمق استمرار الثورة فى مصر إذا أخذنا فى الاعتبار احتجاجاتها التى ما تزال ضخمة، وأهدافها التى لم تتحقق بعد حيث تتردى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للطبقة العاملة والجماهير العاملة والفقراء والمهمَّشين والمحرومين تحت خط الفقر. 12: وعندما نتجه بأنظارنا إلى ليبيا القريبة منا جغرافيا ولكنْ البعيدة عنا من حيث إدراكنا لواقعها السياسى بحكم الطبيعة الخاصة المنغلقة لنظام القذافى فإننا نجد الرؤية غائمة رغم مظاهر الإسلام السياسى التى تطفو على السطح وربما تغوص وتتجذر فى العمق. وبالطبع فإن النظام المتطرف للحكم البالغ الاستثنائية للشخص وعصابته هناك واختيار طريق الحرب الأهلية بلا تردد وبدم بارد وبوحشية ضارية كان لا مناص من أن يؤديا إلى القضاء تماما على الطبقة الرأسمالية الريعية الضيقة للغاية وكذلك إلى غياب دولة تملك حدا أدنى من التماسك وبالتالى القدرة على مقاومة الإسلام السياسى الذى أتى من السرية إلى العلن ومن المهجر إلى الداخل. على أن هذا لا يعنى أن الإسلام السياسى وحده فى الساحة وعلينا أن نتذكر أن الثورة انفجرت وتطورت لفترة غير قصيرة فى وضع إستراتيچى يتميز بغياب دور فعال محسوس للإسلام السياسى فهناك إذن مجال لقوى متنوعة وبالتالى احتمال مستوى من الديمقراطية الشعبية ومقاومة إحكام سيطرة الإسلام السياسى على السياسة والاقتصاد والمجتمع. 13: ويختلف الوضع فى سوريا البعيدة عنا جغرافيا ولكنْ القريبة نسبيا من ناحية معرفتنا بواقعها السياسى العام للغاية. ورغم الضربات القاصمة التى كان قد وجهها الأسد الأب إلى الإخوان المسلمين، والحصار اللاحق من جانب نظام الأسد الابن وحزب البعث، واتساع نطاق المهجر الإخوانى بالتالى، فإن الوضع السورى يختلف كثيرا عن ليبيا. وإذا كان خيار طريق الحرب الأهلية لتصفية الثورة مشتركا بين النظامين فقد كانت هناك اختلافات كبيرة بين البلدين فى خصائص الحرب الأهلية الدائرة فيهما. والفارق الجغرافى الحاسم بين سوريا وليبيا واضح جلى. ففى سوريا تتواجد مدن وأرياف البلاد متصلة على الأرض ومتداخلة ومتشابكة على العكس تماما من ليبيا التى تتناثر فوق صحاريها المترامية مدن وواحات متباعدة قد تصل المسافة بين إحداها والأخرى أحيانا إلى مئات الكيلومترات، وكان هذا مفيدا عسكريا لكلٍّ من نظام القذافى وقوى وقوات الثورة فى آن معا. فقد أتاح الفاصل الجغرافى الطبيعى لكلٍّ من الطرفين التمركز والتطور بعيدا عن هجوم الآخر استعدادا لزحف كلٍّ منهما على الآخر فى مراحل لاحقة. ويختلف هذا عن الاتصال الجغرافى الذى سمح للجيش السورى القوى بالانتشار السريع بدباباته ومدافعه وشبِّيحته فى كل نقطة فى البلاد فى ظرف بعيد عن أن يكون مواتيا لقوى الثورة وقوات الجيش الحر التى تقاتل ببسالة. وهناك فارق آخر بالغ الأهمية يتمثل فى طول فترة الحرب الأهلية بالمقارنة مع ليبيا. كما أن هناك أيضا فارق الجوار الجغرافى-السياسى فى سوريا على العكس من ليبيا، ففى مقابل فتح الحدود الليبية مع تونس ومصر للأجانب المغادرين، فيما يبقى الليبيون المقيمون بالداخل والقادمون من الخارج فى بلدهم، كان هناك ملاذ آمن لأعداد هائلة من اللاجئين السوريِّين فى تركيا بالذات، وهناك بالطبع أعداد أقل ذهبت إلى لبنان والأردن. وكانت وما تزال هناك بالطبع ضغوط ومساعدات تأتى من هذا الجوار الذى يشمل أيضا إسرائيل والعراق وإيران عبْرَ العراق (باعتبار بقاء النظام السورى مصلحة إيرانية فى المنطقة العربية بحكم علاقاته بالنفوذ الإيرانى فيها من خلال سوريا وحزب الله فى لبنان وحماس فى غزة فى مواجهة إسرائيل )، بالإضافة إلى الدعم السياسى والدپلوماسى وقَدْرٍ من الدعم العسكرى من روسيا، وربما من إيران والعراق وحزب الله لدعم نظام بشار الأسد، وربما من سنة العراق ولبنان وتركيا لدعم الثوار. وكانت لتركيا أهمية خاصة فى استضافة وحماية اللاجئين وكذلك فى خلق جو فى بعض الفترات باحتمال التدخل بما فى ذلك التدخل العسكرى الأمر الذى كان يدعم معنويات الثوار فى المدى المباشر ويخذلهم فى المدى الأطول، ولا شك فى أن هذا كان عاملا غير مشجِّع للنظام السورى فى الفترة الأولى إلى أن أيقن أن تركيا تنبح ولا تعضّ. ولعبت تهديدات الغرب نفس الدور المزدوج بالنسبة لكل من الثورة والنظام. وبالطبع فإن وجود سوريا فى قلب الشرق الأوسط جعل ويجعل الاهتمام بها كبيرا فى المنطقة وفى العالم غير أن تدخُّل العالم أمر بالغ الصعوبة وخاصةً بالمقارنة بالسهولة النسبية للتدخل فى ليبيا بسبب تداخُل وتشابُك جماهير الثورة والقوات السورية المسلحة، كما أن الدافع القوى الذى كان يمثله النفط الخفيف والقريب جدا من أوروپا فى حالة ليبيا يظل غائبا فى حالة سوريا. وهناك العامل السياسى المهم من الزاوية التى نهتم بها هنا وهو أن الزمن الممتد نسبيا أتاح للإخوان المسلمين السوريِّين فى داخل وخارج البلاد أن يشاركوا بصورة مكثفة فى الاحتجاجات السلمية وربما فى الاشتباكات العسكرية بصورة تؤهلهم لأن يكونوا شريكا مهما أو الشريك الأكثر أهمية فى تقاسُم السلطة التى يمكن أن تعقب السقوط المحتمل بل المرجَّح لنظام بشار الأسد. وكما سبق القول فإن طريق الحرب الأهلية فى تصفية الثورة كما حدث فى ليبيا وسوريا يؤدى على الأرجح إلى انهيار النظام والدولة والطبقة فاتحا الباب أمام احتمال سلطة إخوانية بالاشتراك مع القادة العسكريين للجيش الحر. 14: أما فى اليمن فإنه يمكن القول إن التعقيد القبلى فيه أكثر من ليبيا قد يكون عقبة كبرى فى طريق الثورة وكذلك فى طريق السيطرة الإسلامية الجهادية بالإضافة إلى العقبة السعودية والأمريكية أمام أىٍّ من هذين التطورين المتناقضيْن. 15: أما احتجاجات السودان التى قد تتطور فى أجواء المناخ العربى الراهن إلى ثورة أو نصف ثورة، كما قال لى مثقف سودانى صديق فى مكالمة تليفونية مع السودان اليوم منذ قليل، والتى قد تدفعها الأوضاع السياسية والاقتصادية المتردية إلى التصعيد، رغم ما يمكن أن يُحْبطها من مخاوف تثيرها تجربة الربيع العربى القاسية والوحشية فى أكثر من بلد وبالأخص فى ليبيا واليمن وسوريا، فمن الأفضل ألَّا نعبُر الجسر قبل الوصول إليه. وينطبق الشيء ذاته على إرهاصات ما تزال جذوتها متقدة فى الأردن والمغرب والبحرين. 16: ويتمثل الاستنتاج العام فى أن استيلاء الإسلام السياسى على السلطة السياسية فى بلدان ثورات الربيع العربى ليس قَدَرًا محتوما وإنْ كان خطرا محتملا لا يمكن استبعاده، وربما بصورة تدريجية تستغرق زمنا، فى بعض بلدان طريق الحرب الأهلية بالذات بعد انهيار واقع فى ليبيا ومحتمل فى سوريا، ووضع ملتبس فى اليمن السعيد. 26 يونيو 2012
#خليل_كلفت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الانقلاب العسكرى المكمِّل
-
كلمات فى عشية جولة إعادة الانتخابات الرئاسية فى مصر
-
محاكمة ثورية للرئيس مبارك وأسرته ورجاله وإلغاء الانتخابات ال
...
-
مع متاهات أرقام الانتخابات فى مصر
-
مأتم ديمقراطية المجلس العسكرى والإخوان المسلمين فجر الديمقرا
...
-
أساطير الجبال والغابات - برنار كلاﭭيل
-
هاجس الحرب الأهلية فى مصر
-
أساطير البحيرات والأنهار - برنار كلاڤيل
-
أضأل امرأة فى العالم - كلاريس ليسپكتور
-
أسطورة الفترة الانتقالية وحقائق المسار الفعلى للتطورات فى مص
...
-
مقالات مترجمة فى الفن التشكيلى
-
أساطير البحر - برنار كلاڤيل
-
تسع قصائد للشاعر البرازيلى: مانويل بانديرا
-
سبع قصائد لناظم حكمت
-
غنوة
-
مشاكل تخلُّف (قصيدة)
-
الإعداد للموت (قصيدة)
-
أربع قصائد لبورخيس
-
الترجمة فى سياق ما بعد كولونيالىّ
-
الأب ضد الأم وقصص أخرى
المزيد.....
-
تحقيق CNN يكشف ما وجد داخل صواريخ روسية استهدفت أوكرانيا
-
ثعبان سافر مئات الأميال يُفاجئ عمال متجر في هاواي.. شاهد ما
...
-
الصحة اللبنانية تكشف عدد قتلى الغارات الإسرائيلية على وسط بي
...
-
غارة إسرائيلية -ضخمة- وسط بيروت، ووسائل إعلام تشير إلى أن ال
...
-
مصادر لبنانية: غارات إسرائيلية جديدة استهدفت وسط وجنوب بيروت
...
-
بالفيديو.. الغارة الإسرائيلية على البسطة الفوقا خلفت حفرة بع
...
-
مشاهد جديدة توثق الدمار الهائل الذي لحق بمنطقة البسطة الفوقا
...
-
كندا.. مظاهرات حاشدة تزامنا مع انعقاد الدروة الـ70 للجمعية ا
...
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
مصر.. ضبط شبكة دولية للاختراق الإلكتروني والاحتيال
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|