|
الثورة وإفلاس نماذج التحليل السائدة
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3740 - 2012 / 5 / 27 - 19:51
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
تدين الثورة السورية للثورات العربية السابقة لها بثلاثة أشياء أساسية. أولها المثال الإيجابي الناجح. ما كان لأي مقدار من السخط المنتشر في المجتمع السوري أن يتحول إلى ثورة عامة لولا مثال ناجح قريب يسهل التماهي به. الشيء الثاني الشعار المركزي، "الشعب يريد إسقاط النظام"، ويتضمن تحديدا للهدف المباشر للثورة. الشيء الثالث هو الأسلوب: مظاهرات سلمية في كل البلد، تحاول حشد أكبر عدد من الناس. وما كان مدهشا على نحو خاص هو أن سقوط هذه الأنظمة الرهيبة بدا سهلا: احتجاجات شعبية سلمية، تدوم أسابيع قليلة، ويسقط فيها مئات قليلة من الضحايا، فنتخلص من طاغية يحكم البلد منذ ربع قرن أو ثلاثة عقود! ترك هذا المثال أثرا بالغا على جمهور سوري واسع، لديه أسباب كثيرة للاعتراض على النظام والرغبة في تغييره، لكنه يخشى أن تكون الكلفة باهظة، على ما ينبئ تكوين النظام وسوابقه التاريخية. ولحين، بدا أننا عثرنا أخيرا على وصفة ذهبية للتغيير، تجمع بين التنشيط الشعبي والهدف الديمقراطي والوسيلة الراقية. وقبل الثورة السورية بوقت قصير كتبت مقالا بعنوان: "الخطة الشعبية المجربة لإسقاط الأنظمة المتجبرة"، يتحدث عنوانها عن مضمونها، وتستند إلى مثالي الثورتين التونسية والمصرية. قبل موسم الثورات، وخلال نحو ربع قرن، كانت النخب المثقفة والسياسية العربية قد فقدت كليا الثقة بنفسها وقدرتها على المبادرة، ووقعت تحت تأثير نماذج التغيير الذي وقع في أوربا الشرقية وأميركا اللاتينية: سلمية عموما، ومحدودة الكلفة البشرية، وليبرالية بصورة ما. كانت أفكار الديمقراطية وحقوق الإنسان هي السقف الفكري القيمي الذي صار يستظل به الجميع، على اختلاف أصولهم الفكرية، ليس على مستوى التطلعات والأهداف فقط، وإنما على مستوى الوسائل أيضا. وكان العنف قد طرد من تفكيرنا كليا، على المستوى القيمي وكموضوع للتفكير. وطوال ربع قرن شاع التفكير في السياسة بلغة حقوقية، تضع الطبقات والأديان والطوائف والأوضاع الجيوسياسية خارج السياسة، فتشير في الواقع إلى خروج أصحاب هذه المقاربة من السياسة، ممارسة وتفكيرا. بهذه الاستعدادات الفكرية والنفسية دخلنا زمن الثورات العربية. ولم تطرح الثورتان التونسية والمصرية الخاطفتان أي تحد على هذه الاستعدادات أو تدفع إلى مراجعتها. أما نتائجهما الأولية فتبدو للذهن المتعجل مناسبة لانتعاش مزاج ثقافوي متشائم، تقاسم تفكير عموم المثقفين مع التفكير الحقوقي في السياسة. ونجد ما يشبه ذلك منذ الآن في أوساط سورية من الطبقة الوسطى المتعلمة، يحرجها ألا تكون إلى جانب الثورة، لكن تجد في الثورة خشونة وعنفا وتعقيدا لا يرتاح لهما حسها السياسي والحقوقي. التذمر والشكوى المستمرين هما الحل. ولن يتأخر الوقت قبل أن يتكشف أن النموذج التونسي المصري أقرب إلى الاستثناء منه إلى القاعدة. في ليبيا طال أمد الثورة وتسلحت مبكرا، ثم وقع تدخل عسكري غربي لإسقاط النظام. وفي اليمن تمخضت الثورة عن تغيير الرئيس وفق مبادرة سياسية خليجية. ودفعت البحرين ثمن موقعها وصغر حجمها، وكونها نقطة تجاذب خليجية إيرانية وسنية شيعية. وبمجملها تدل هذه الأمثلة على أن الثورات بعد أن تنطلق تصير أشبه ببلدانها أكثر مما بمثال مشترك، وأنها تتشكل في صور معقدة تحيل إلى تعقيد الأوضاع التي تواجهها. وهي على أرجح تقدير ستضع نهاية للتفكيرين الثقافوي والحقوقوي، وربما تحرر التفكير السياسي والتأمل التاريخي من مفاهيمهما الهلامية. وتبدو سورية بالذات مثالا لا يشبه غيره، ويذكر بثورات تاريخية كبيرة، أكثر مما تذكر بنماذج التغيير السياسي التي عرفناها في ربع القرن الأخير. ولعل منبع الاختلاف الجوهري يتمثل في مدى تشكل الدولة واستقلالها عن المجتمع الأهلي. في مصر وتونس دولتان راسختا التكون ككيانين سياسيين تاريخيين، وإن كانتا تعانيان من مشكلات كبيرة كمؤسستي حكم. سورية بالمقابل تعاني من قدر ربما يفوق غيرها من مشكلات الدولة ككيان سياسي تاريخي، بالنظر إلى حداثة هذا الكيان و"اصطناعه". هذا ينعكس في مفارقة نادرة: الإيديولوجية المشرعة للدولة السورية كمؤسسة حكم تقوم على نفي شرعية الدولة ككيان سياسي تاريخي، وتتطلع إلى تعميم هذا النفي عربيا. وكمؤسسة حكم، استتبعت الدولة السورية من قبل طغيان شخصي وأسري، ينفرد عن نظائره العربية بتوريث السلطة ونشوء أسرة حاكمة في أقدم الجمهوريات العربية. وربما تمتد جذور هذا التحول المشؤوم في تلاقي حداثة الكيان السياسي وضعف التماهي به مع التكوين الإثني والديني والمذهبي المعقد للمجتمع السوري الذي يسهل من أمر التلاعب السياسي، إن من الداخل أو من الخارج. ثم إنه يستجيب لغرور سلطة وأسرة دام حكمها فوق أربعين عاما، أقل بقليل من نصف عمر الكيان السوري الفتي، لديها الكثير جدا مما تخسره، وألفت أن تعالج المشكلات الكبيرة بالعنف بالكثير. لا يبدو أن "الخطة الشعبية المجربة" تكفي في مواجهة نظام متجبر كهذا، رغم أن السوريين لم يعتمدوا في منطلق ثورتهم غير هذه الخطة. ومعلوم كيف سارت الأمور مع مضي الشهور، وظهور المقاومة المسلحة، وانفتاح أوضاع البلد على صراعات عنيفة ومعقدة، يختلط فيها السياسي بالديني، والمحلي بالإقليمي والدولي. واضح أن تصور ثورة على هدي الميثاق العالمي لحقوق الإنسان لا يصلح لاستيعاب الوضع السوري وتوجيه العمل فيه. التشاؤم يتولد من الإصرار على نموذج تحليلي تنفلت منه جميع الوقائع التي يفترض أن ينظم إدراكنا لها. وكان واضحا من قبل أن نموذج الثورة اللينينية لا يجدي بدوره. لدينا واقع مغاير يذكر في بعض وجوهه بالثورة الفرنسية، ثورة شعبية، تنطلق ضد أوضاع سياسية واجتماعية جامدة، لا تتوفر فيها مؤسسات عامة يمكن الاستناد إليها، ثم تسير في مسارات يستحيل التنبؤ فيها أو التحكم بها. إنها "قوة الأشياء تدفعنا إلى حيث لا نريد"، على ما قال سان جوست، أحد أبطال الثورة الفرنسية، قبل أن تسوقه "قوة الأشياء" ذاتها إلى المقصلة. والغرض أننا بحاجة إلى تفكير في السياسة والتاريخ أكثر تعقيدا، ينفتح على تعقد مسارات الثورة، ويحتسب للمفاجئ وغير المتوقع، وللعنيف والمنفلت. هذا ليس سهلا أثناء الثورة، لكن ما هو سهل لا ينفع في شيء.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أنا والتلفزيون والثورة
-
الثورة والسلاح: خطوط عريضة من القصة
-
التجديد لغليون وحال المعارضة السورية
-
في تمثيل الثورة السورية وواقعها (الثورة هي السياسة الصحيحة)
-
حوار في شأن الثورة والسلمية والعسكرة
-
عودة إلى النقاش حول الثورة والعسكرة
-
حوار عالماشي حول الثورة السورية
-
الثورة السورية بين النزاع الأهلي والصراع الجيوسياسي
-
الثورة والمعارضة في سورية... علاقة انفصام
-
عن الثورة والمستقبل والعلاقات بين السوريين/ حوار
-
ثورة في سورية، سورية في ثورة
-
عدالة الثورة لا تضمن عدالة الثائرين
-
النظام الطائفي ليس نظام طائفة
-
الإسلاميون السوريون... توجهات منفتحة وتناقض مقيم
-
الثورة كصناعة للأمل
-
حوار في شأن أصول الثورة السورية وفصولها
-
الحكم بالتذكر: من أصول المحنة السورية
-
هذا النظام، هذه الثورة، هذا العالم: حوار حول الشأن السوري
-
عن الطائفية ما بعد كرم الزيتون
-
لا عودة إلى بيت الطاعة الأسدي
المزيد.....
-
الثلوج الأولى تبهج حيوانات حديقة بروكفيلد في شيكاغو
-
بعد ثمانية قرون من السكون.. بركان ريكيانيس يعيد إشعال أيسلند
...
-
لبنان.. تحذير إسرائيلي عاجل لسكان الحدث وشويفات العمروسية
-
قتلى وجرحى في استهداف مسيّرة إسرائيلية مجموعة صيادين في جنوب
...
-
3 أسماء جديدة تنضم لفريق دونالد ترامب
-
إيطاليا.. اتهام صحفي بالتجسس لصالح روسيا بعد كشفه حقيقة وأسب
...
-
مراسلتنا: غارات جديدة على الضاحية الجنوبية
-
كوب 29: تمديد المفاوضات بعد خلافات بشأن المساعدات المالية لل
...
-
تركيا: نتابع عمليات نقل جماعي للأكراد إلى كركوك
-
السوريون في تركيا قلقون من نية أردوغان التقارب مع الأسد
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|