وليد يوسف عطو
الحوار المتمدن-العدد: 3732 - 2012 / 5 / 19 - 18:29
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
المقال منقول باختصار وبتصرف من كتاب : (المال والهلال – الموانع والدوافع الاقتصادية لظهور الاسلام ). تاليف المفكر والكاتب المبدع شاكر النابلسي – ط1 – 2002 – دار الساقي – بيروت – لبنان
ان المجتمع القرشي الذي ظهر فيه الاسلام كان قائما على التجارة . والتجارة في سبيل تطورها تتعارض مع اية قيود سياسية واقتصادية , ولذلك كان الربا يعمل على تراكم راس المال التجاري .
ان الاسلام في بدايته راح يمتدح التجارة القرشية , واستهدف محمد اغنياء قريش للدخول في الاسلام قبل الفقراء . وكان يعتبر ان مال قريش وتجارتها هما النصير الحقيقي للاسلام , وان الاسلام لن ينهض الا باغنياء قريش وبمالها . ولعل قصة محاولة اقناع الرسول لواحد من كبار تجار قريش واغنيائها ( الوليد بن المغيرة )بالدخول في الاسلام وازدرائه للفقير الاعمى الذي جاء يطلب صدقة اثناء ذ لك , خير دليل على ذلك , فقد اخبرتنا سورة ( عبس ) بما جرى .
كانت التجارة هي العمل الرئيسي الذي يجيده العرب واشتهروا به وبخاصة قريشا . كان الموقع الجغرافي للحجاز ومكة وقربهما من اليمن ,المركز التجاري القديم ,اضافة الى كونها المركز الرئيسي للعبادات قبل الاسلام والمسخرة لصالح التجارة وازدهار المال العربي , قد اهل عرب الحجاز لكي ياخذوا بالتجارة ويؤسسوا لها قبل اكثر من قرنين من ظهور الاسلام ,بدءا من قبيلة ( جرهم ) ومرورا بقبيلة (خزاعة ) وانتهاء بقريش .
ان الوضع التاريخي الملائم للجزيرة العربية قد اهل مكة لكي تكون عاصمة التجارة العربية قبل الاسلام .كما ان الوضع التاريخي الملائم اباح انتقال طرق التجارة من الشرق الى غرب الجزيرة العربية لاسباب خمسة هي :
1 – نشوب الحروب الطويلة بين الروم والفرس في اوائل القرن السادس الميلادي .
2 – ظهور مملكة الغساسنة الذي ادى الى تاجيج الصراع , ومنع التجارة عبر الفرات من ان تزدهر .
3 – اشتراك الاحباش في السياسة الدولية , وتركهم لامور التجارة وهم الذين كانوا منافسين للفرس في تجارة الحرير .
4 – هبوط اليمن وصعود مكة وتمرسها في تنظيم التجارة بسبب الغزو الحبشي (عام الفيل )واثره في حزب التنظيم الحميري .
5 – تحول طرق التجارة من الشرق الى غرب الجزيرة العربية , تحاشيا لنظام مراقبة التصدير والاستيراد الذي يمر عبر الشام والعراق , مما جعل التجارة تتخذ لنفسها طرقا تجنبها المراقبة الشديدة ,او توفر عليها بعض الجمارك .كما ان موقع مكة القريبة من بلاد الشام ومن الامبراطورية البيزنطية وكذلك موقعها القريب من الامبراطورية الفارسية قد مكن مكة ان تتصل بهاتين الحضارتين وتتعلم منهما , وترتقي بالتجارة ارتقاء كبيرا الى جانب ذلك كان لاجتماع التجارة والدين في مكة هو الذي اهلها على مدن عربية اخرى خاضت غمار تنظيم التجارة الدولية من قبل .فلم يكن ان تنشط التجارة في مكة بدون وجود الكعبة ولولا قبيلة قريش ذات الهيبة والسطوة المالية والدينية .
ولاهمية التجارة في مكة ورد ذكرها في القران في اكثر من 125 اية .الا ان تجارة العرب قد كسدت وتراجعت فيما بعد لانشغال العرب بالفتوحات التي كانت تدر عليهم مالا اكثر واسرع واقل تكلفة من مال التجارة .
لقد اهل الموقع الجغرافي لبلاد الحجاز وتوسطها بين الشام واليمن لان تصبح سوقا تجارية ضخمة , وان تنشيء مايسمى (طريق البخور )على غرار ( طريق الحرير ) الاسيوي .
ان موقع الجزيرة واطلالتها البحرية على ثلاث بحار لم يعزز موقعها التجاري ولكنه ابقاها مركزا للتجارة البرية العالمية وللاسباب التالية :
1 – ان المواصلات البحرية لم تكن وسيلة مفضلة لدى التجار في ذلك الوقت وذلك بسبب العوائق الطبيعية والتطور التقني المحدود .
2 – وقع البحر الاحمر تحت حكم البطالسة في مصر الذين كانوا القوة المسيطرة على البحر الاحمر , مما كان يهدد التجارة وطرقها البحرية .
3 – عدم صلاحية مياه البحر الاحمر للملاحة , بسبب مجموعة من المعوقات الطبيعية والشعاب التي كانت تهدد الملاحة ,واقتصار التجارة البحرية مع مصر والحبشة فقط .
4 – عدم وجود امن بحري , وكثرة انتشار القرصنة في البحر الاحمر .
هذه العوامل جميعها ادت الى تعزيز طرق التجارة البرية كطرق امنة , كما عززت بالتالي من موقع الحجاز , ومكة على وجه الخصوص , وجعلت مكة منطقة نفوذ تجاري ومالي كبير,ومركزا عالميا للترانزيت والتجارة بين الشمال والجنوب .
وكان وضع مكة اشبه مايكون بجمهورية تجارية تحكمها مجموعة من التجار الاثرياء كما قال المستشرق هنري لامنس . وكان وضعها اشبه بوضع هونك كونك ودبي اليوم . واستدعى ذلك ان تكون هذه المنطقة مستقرة سياسيا وامنة اجتماعيا , وليس فيها مايكدر صفو التجارة التي لاتزدهر الا في ظل امن اجتماعي واستقرار سياسي .
واخيرا استطاعت التجارة ان تشكل من المجتمع القرشي قبل الاسلام مجتمعا تجاريا متميزا باخلاقه الكريمة , وعاداته المحمودة وقوانينه المتميزة .فقد كانت قريش قبل الاسلام محافظة على حسن المعاملة والامانة والاحسان واداء الحقوق .
كما كانت قريش قبل الاسلام تتميز بخصائص ذهنية متاتية من التجارة منها : اللباقة وحسن التصرف بالكلام والخطاب وبالبديهية الحاضرة وسرعة الجواب . وكانت قريش تطبع كل من يسكن مكة ويعمل بالتجارة بهذا الطابع الاخلاقي القويم .وكانت تجارة قريش تفرض عليها اجارة كل غريب (الدخالة ) حتى وان كان صعلوكا او خليعا او مستهترا بالعرف او الاخلاق ,او قاتلا غادرا , املا في الاستفادة منهم , وفي عدم التحرش برجالها ان خرجوا متاجرين يحملون اموالهم لبيعها في الاسواق البعيدة .ولاستخدامهم في حمايتهم ممن قد يتحرش بهم من الاعداء والاعراب . كذلك لم يكن المجتمع المكي قبل الاسلام فوضويا لا امن فيه ولا استقرار . كما لم يكن يسوده الغش والخداع والخيانة . ولو كان ذلك لما ازدهرت تجارته على النحو الذي كانت عليه انذاك .
لقد كان المجتمع المكي التجاري قبل الاسلام مجتمعا يسوده الامن والاستقرار . والمؤرخون الاسلاميون المستنيرون المعاصرون يقدمون لنا صورة مشرقة وناصعة للمجتمع المكي التجاري قبل الاسلام .حيث كان امنا من الداخل والخارج وحوادث العدوان على الانفس والاموال قليلة وكان الانسان يحس دائما ان هناك نظاما مستقرا وان سكان مكة ومن حولها يتمتعون بسلام ورخاء نسبيين .وان الغش والخداع والخيانة لاتترك دون عقوبة ابدا . والمحالفات والعهود مرعية بين القبائل المتجاورة بعناية وان رجال مكة قبل الاسلام كانوا عقلاء اكفاء .
فعندما اصطدمت قريش مع الاسلام تصرفت قريش في عقل وبنظام . وبرغم اجتهاد المؤرخين المسلمين في تشويه صورة قريش ,فان حقيقة الصورة واضحة ,فالنظام مستتب وهناك قانون عرفي عام متبع .
ان المال العربي الذي فرض على المجتمع المكي القرشي قبل الاسلام هذه الاخلاقيات ,كانت له مصادر مختلفة منها :
- التجارة , وكانت هي المورد الرئيسي للمال العربي قبل الاسلام .
- الاعمال المصرفية , وكان يحتكرها اليهود والملا الاعلى من قريش الزراعة , وكانت بدائية جدا ومحدودةولاتكفي للاستهلاك المحلي
- الصناعة , وكانت محدودة ايضا ,ولاتنافس صناعات الفرس والرومان .
- مال الكهانة , من العطايا والهدايا والاموال التي كانت توهب للمعابد .
المهم في مال قريش انه لم يكن كمال العرب الاخرين متمثلا بالانعام من الابل والخيل والماشية ,وبالعقارات فقط , وانما كان مالا متمثلا بالذهب والفضة ومختلف البضائع من الاقمشة والعطور والتوابل الثمينة .وكان الاغنياء من قريش كالوليد بن المغيرة يملكون اموالا طائلة . فقد قدرت ثروته بمئة الف دينار ,وقدرت ثروة سعيد بن العاص بمئتي الف دينار . وكانت قيمة الدينار الشرائية عالية . فقد كان الدينار انذاك يشتري زوجا من الابل . وكان الرجل يحتاج الى درهم او درهمين في اليوم ليعيش مع عائلته في سعة وبحبوحة .وكان بعض القرشيين يساهمون في العير التجارية بعشرة دنانير , وكانوا يعتبرون في ذلك الوقت من الموسرين .كما بلغت قيمة تجارة قريش السنوية حوالي ربع مليون دينار ذهبي سنويا .
على المودة نلتقيكم ...
#وليد_يوسف_عطو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟