سعيد العليمى
الحوار المتمدن-العدد: 3703 - 2012 / 4 / 20 - 03:33
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
--1 --
الأحكام الجائرات فى وأد المظاهرات والاضرابات والاعتصامات
( ... ان من يمسك بذراعى عندما اجرد سيفى فهو عدوى . لااهمية بعد هذا بقصده ونيته , ومن يحل بينى وبين الدفاع عن نفسى فهو يقتلنى تماما كما لو كان يهاجمنى . ) هكذا قال روبسبيير احد قادة الثورة الفرنسية فى واحد من الاعمال المسرحية التى صورته . واذا استبعدنا تبديد الطاقة فى خطابات تستمرئ الثرثرة اللفظية الراديكالية الطقوسية , دون ان تهدد فعلا ماهو قائم (محاكمة مبارك بتهمة الخيانة العظمى , ورجاله بتهمة افساد الحياة السياسية, القصاص "العادل" من قتلة الشهداء , احياء قانون الغدر , تفعيل قانون محاكمة الوزراء , اعادة هيكلة الداخلية , استعادة المليارات التى تم تهريبها الى الخارج , اقالة حكومة الجنزورى , تقصى الحقائق فى مجازر بورسعيد الدامية , نقل مبارك الى سجن طرة ... التى انتهت جميعا الى لاشئ ! فحتى قانون العزل السياسى الذى صدر خصيصا من اجل عمر سليمان واحمد شفيق مع قصوره الكامل معرض ببساطة لعدم التصديق من المجلس العسكرى او عدم الدستورية ! ) لعلمنا ان برلمان " الثورة المصرية " الذى بدأ اولى دورات انعقاده فى الثالث والعشرين من يناير الماضى , ليس مقيضا له بتركيبه الطبقى الراهن , وغالبية اتجاهات اعضاءه السياسية الا ان يلعب من الناحية الاساسية دور معزز مصالح البورجوازية الكومبرادورية السائدة بفئاتها المختلفة, وقواعدها الاجتماعية , ودور اداة القمع التشريعى للطبقات الاجتماعية الكادحة , وللقوى الديموقراطية الثورية , مصداقا لقول من قال ان مهمة البرلمان هى ان " يمثل ويقمع " -- هذا ان لم تنتصر الثورة .
* لاينبغى الحكم على حزب بمايقوله ويدعيه عن نفسه وانما بما يفعله
ولعل الخمسة عشر شهرا الماضية من عمر الثورة بددت وهم انه يمكن الاكتفاء فى الحكم على القادة , والاحزاب , والطبقات , وتحديدا فى مواقفهم السياسية بما يقولون , او بما يتوهمون عن انفسهم , او بما يرغبون فى ان نراهم عليه , وانما بما يفعلون , اى بما هم عليه فى الواقع . ويرتبط بذلك ضرورة ان ندرك ان اسماء الاحزاب البورجوازية دينية كانت ام علمانية فضلا عن برامجها توظف احيانا كأداة من أدوات الدعايات الخادعة العمدية المقصودة , او قد تكون نتاجا لخداع الذات اى لأوهام الايديولوجيا العفوية التى يولدها الواقع على الاغلب . فكيف يمكن لحزب ان يناصر اعمال القمع بل وأن يحرض عليها ( مثلما حدث ضد الاشتراكيين الثوريين ) وينهمك فى استصدار القوانين المقيدة للحريات , ويتسمى ب " الحرية " ؟ وكيف يمكن لذات الحزب ان يناصر الرأسمالية , واستغلالها الطبقى للكادحين فى الريف والمدينة وينسب لنفسه صفة " العدالة " ؟ بل كيف يمكن لحزب ظلامى يستعير ايديولوجيته من القرون الوسطى—دفاعا عن الملكية الرأسمالية الخاصة المعاصرة ونظامها الاقتصادى -- ان يسمى نفسه حزب " النور" ؟ يتطلب ذلك منا حتى نكون على بصيرة فى صراع الاحزاب , وحتى نؤمن انفسنا ضد خداعها ان نعود الى تاريخها الفعلى , اى الى مواقفها السياسية ازاء المشاكل التى طرحت عليها وخاصة فى القضايا الاساسية التى تتعلق بالمصالح الحيوية لمختلف الطبقات الاجتماعية , مثل كبار ملاك الارض , الرأسمالية الكومبرادورية بفئاتها : البورجوازية البيروقراطية العسكرية – التى تمسك الان بمقاليد السلطة – البورجوازية الليبرالية التقليدية , البورجوازية التيوقراطية , البورجوازية الريفية , فقراء الفلاحين , البورجوازية الصغيرة المدينية , والريفية , الطبقة العاملة بكل الفئات الجديدة التى تشملها من كادحين فقراء , واشباه بروليتاريا . وفوق كل ماسبق مواقفها الفعلية لااللفظية من الامبريالية , والصهيونية , والرجعية العربية وهو مايؤدى بنا الى ان ندرك ماهى الطبقة التى يمثلها حزب ما , ويخدمها , بغض النظر عن تركيبه الطبقى , وقاعدته الاجتماعية رغم اهميتهما الحاسمة .
* اسماء الاحزاب لاتعبر بالضرورة عن مضمونها ولا عن حقيقتها
فالحقيقة ان معظم الاحزاب البورجوازية لاتجرؤ ان تسمى نفسها باسمها الحقيقى , مغامرة بكشف مضمون وكنه مصالحها , والا تبين انها ضد " الحرية والعدالة " بقدر ماهى ضد" النور" ! ولم يكن ممكنا لتلك القوى التى اشرنا اليها , ان تحقق مصالحها باستثمار الثورة – فى يناير 2011 واستغلالها , ولا ان تحظى بتأييدها الحاسم والضرورى فى لحظة معينة دون ان تخفى هويتها , وخاصة مباحثاتها السرية وصفقاتها , وتروج ادعاءاتها حول ديموقراطيتها ومعارضتها .
والموقف السياسى الثابت لحزب سياسى ما فى توجهه وتواصله , ليس امرا عارضا , ولاهو من قبيل الخطأ , او الاجتهاد (المأجور) ! , ولاهو نتاجا لسوء نية , ولاخيانة لوعد سبق قطعه , ولانكوصا على ماض , ولا ردة صدفية على ثورة , ولامما يمكن ان نعذر بعضنا فيه ! وانما هو نتاج ضغط مصالح طبقة , او فئة طبقية , وضرورة حفاظها عليها كما ترتأيها فى خضم صراع سياسى قد يكون ضاريا .
*بورجوازية تيوقراطية اى رأسمالية ذات رداء دينى
•
والحال ان حزب الحرية والعدالة ( والجماعة الام ) , ومن دعمه من كبار مشايخ السلفيين من الدعاة المتمولين انما يناصرون النظام الرأسمالى بليبراليته المتوحشة, وملكيته الخاصة , واستثماراته , ورجال اعماله , وقروضه "الازهرية" . ويعتبرون التمايز الطبقى امرا طبيعيا من سنن الكون . ولاتتناقض ايديولوجيتهم رغم غلافها القروسطى مع نمط الانتاج الرأسمالى . وهم لايعادون الامبريالية وانما الغرب الصليبى . وقد كانت قياداتهم العليا ولازالت جزءا من الطبقة الرأسمالية الكومبرادورية الكبيرة مثل خيرت الشاطر وحسن مالك , ولقمة وغيرهم -- وتعبر سياساتهم اجمالا عن هذه الطبقة السائدة ومصالحها الاجتماعية الكلية . وقد دعموا حين كانوا اعضاءا فى مجالس الشعب المباركية القوانين الرجعية التى تدعم الملاك ضد المستأجرين فى الريف . وكانوا دوما بعيدين عن الصراعات الاجتماعية الحقيقية التى تخوضها الطبقات الشعبية , بل ونأوا عنها مكتفين بالقيام بالاعمال الخيرية الاصلاحية التى لاتسهم فى تقويض الدولة بل فى تعزيزها . وفى الشهور الماضية لم يرفضوا التعديل الذى ادخله المجلس العسكرى على قانون الاستثمار فى 3 يناير الماضى قبل انعقاد البرلمان واتاح التصالح فى الجرائم التى ارتكبها الرأسماليون بالاستيلاء على المال العام مقابل رد مااستولوا عليه بقيمته السوقية وقت الاستيلاء ( مؤخرا – بعد ترشح سليمان للرئاسة -- يتحدثون عن ضرورة تدارك هذا الامر بعد ان تم التصالح بالفعل مع البعض ) , بل واقترح بعضهم عفوا عاما شاملا عن كل الجرائم المرتكبة منذ عام 1981وحتى الان الامر الذى لن يشمل فقط منسوبى الاتجاه الاسلامى , وانما ايضا كافة رجال نظام مبارك المتهمين والمحبوسين والمحكوم عليهم . كما دعموا الانظمة الرجعية فى باكستان والسعودية والسودان وافغانستان والبحرين وغيرها . وهم يقبلون بكامب دافيد ويحترمون معاهدات مصر الدولية .
* كبار الاخوان وكبار السلفيين تعبير سياسى عن الرأسمالية الكبيرة
لذا من الخطأ الفادح اعتبارالجماعة الام وواجهتها السياسية حزبا للمعارضة الاصلاحية البورجوازية الصغيرة , حيث لاتعبر سياسات الجماعة, ولاالحزب عن هذه الطبقة الاجتماعية الاخيرة ومصالحها , حتى وان مثلت فى تركيبهما الطبقى احدى قواعدها الاجتماعية .
وبغض النظر عن الشكل السياسى الدينى , وهو الغلاف الايديولوجى الخارجى الذى يجد تفسيره فى اصول نشأة البورجوازية المصرية -- التى لم تقم بثورتها على غرار الثورات البورجوازية الاوروبية -- , وتطورها اللاحق خاصة فى السبعينات , وكذلك فى ضعف تكوين وتشكل وتطور الطبقة العاملة وتفتتها التالى , فان الجوهرى هو المضمون الطبقى الواقعىى , والمصالح الفعلية التى يمثلها هذا الاتجاه السياسى , وهى مصالح قسم من البورجوازية الكبيرة السائدة , وهى طبقة غير متجانسة متعددة الروافد والاصول والميول . ومن هنا تتعدد تعبيراتها وتجلياتها السياسية وهى تبدو متنافرة متنازعة سياسيا بينما يجمعها موقف طبقى جذرى واحد هو عداؤها الاصيل للحركة الشعبية .
*شريك اصغر مع البورجوازية البيروقراطية العسكرية
كيفما كان الامر فقد تقاسم هذا الاتجاه السلطة السياسية وامتيازاتها كشريك اصغر تحت سيطرة البورجوازية البيروقراطية العسكرية التى تلعب الان الدور القيادى داخل الطبقة بمجملها الى ان تجرى اعادة ترتيب البيت الذى لم يحظى بقدر كاف من الاستقرار بعد . وقد جمعته لحظة عارضة قصيرة بالثورة , وفى الوقت الذى كان الثوار فيه يقاتلون فى الشوارع ويستشهدون كانت قيادات هذا الاتجاه منذ اللحظات الاولى تفاوض وتساوم سلطة مبارك على شرعية وجوده , والافراج عن قادته , ولعب دور فى لجم القوى الثورية .
وحقيقة الأمر أنه ضد الاشتراكية , وعدالتها الاجتماعية الذى لاينفتح مستقبل بدونها ( وتذكروا الحملة الضارية ضد الاشتراكية الثورية فى جريدة الحزب الرسمية عندما اشيع انها تهدف لاسقاط الدولة ) , ومع الاستغلال الطبقى الذى لاتغير الزكاة او اعادة احياء بيت المال جوهره ولاتلغيه . وهو لم يفكر للحظة رغم القمع والمحاصرة التى ووجه بها فى عهد مبارك فى الاطاحة بالسلطة , وانما فى اقتسامها واصلاحها , فالهيمنة عليها, فابتلاعها اللاحق ان امكن . فضلا عن ان "ديموقراطيته" لاتتسع الا لمصالحه الخاصة وحده , وهويستقى تصوراته ومفاهيمه من معين الماضى سواء بشأن مايسميه "الشورى" او "اهل الحل والعقد" او تبرير "امارات التغلب والاستيلاء " ( المجلس العسكرى ) فالمسألة مسألة وقت الى ان يبلغ مرحلة "التمكن " بعد ان تجاوز مرحلة "الاستضعاف ".
* الاغلبية البرلمانية لاتعبر عن مصالح اغلبية الشعب المزيف الوعى
وجدير بالذكر هنا ان الاغلبية التى حققها هذا الاتجاه فى الانتخابات البرلمانية الاخيرة هى اغلبية اصوات من زيف وعيهم لقرون بفعل عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية وايديولوجية تشكلت تاريخيا , فضلا عن اعمال "الاحسان" المغرضة التى لعبت دورا لايستهان به فى عشوائيات المدن , وفى القرى الريفية البعيدة مما اثر بلاشك على نتيجة التصويت . ولاعلاقة لهذا النوع من الاغلبية الصورية بالتعبير عن مصالح اغلبية الشعب المصرى من الكادحين والمستغلين . لأن الخط السياسى لهذا الاتجاه يعبر كما اشرنا سابقا عن مصالح رأسمالية معادية للكادحين . كما يعود نجاحه ايضا لوجوده المنظم السابق , ولموارده المالية الكبيرة داخليا وخارجيا , ولضعف القوى السياسية الاخرى المواجهة له لاسباب لامجال لايرادها هنا . ومن الخطأ الفادح النظر الى نجاحه فى هذا " العرس الديموقراطى " بمعزل عن الشروط التى اشرنا اليها , والا وقعنا اسرى نزعة حقوقية , ديموقراطية , شكلية , غير طبقية . فضلا عن توهم انه نال تلك الاصوات من اجل تطبيق الشريعة , وحدودها !
* يحملون الخير لانفسهم وهو اسمى امانيهم
موجز القول ان هذا الاتجاه يسعى منذ الاطاحة بمبارك – بصفة اساسية -- وراء مصالحه الحزبية الضيقة , التى لاتتجاوز حدود ازالة اثار العدوان المباركى السابق عليه (شرعية حزبية , مقاعد فى البرلمان , وفى الشورى , تعديلات اودستور مكيف لاوضاعه الخاصة , وتوجهاته السياسية , مساحة اقتصادية ارحب لاستثماراته , امتيازات توفرها المكانة الجديدة كشريك اصغر , العفو عن المحكوم عليهم من المحاكم العسكرية , ادخال نسبة معينة -- 25% من ابناء الحزب والجماعة كلية الشرطة ) ومحاولة تعزيز مواقعه داخل السلطة استباقا لانتهاكات مقبلة محتملة ضده , فلا يمكن نفى صراع المصالح الفئوية بين الاتجاهات والاجنحة داخل الطبقة الراسمالية السائدة ( ترشيح الشاطر للرئاسة مؤخرا ) , فى الوقت الذى لم يحرك فيه ساكنا ضد المجازر المتتالية التى تعرضت لها قوى الثورة , بل وفر لها غطاءا اعلاميا , باتهامها بانها ارادت الوقيعة بين الشعب والجيش , وبأنها لاتسعى الا لاثارة الفوضى , واسقاط الدولة , وزعزعة الاستقرار , وان الثورة بات لها ممثلها "الشرعى" وهو البرلمان , ولامعنى لوجود الثوار فى الميدان لانهم بذلك يفسدون " خطة نقل السلطة " . انه يريد الان ان يوطد دولة " النظام والشرع " اى دولة الرأسمالية الاستغلالية بأجنحتها المختلفة , مضفيا عليها مسحة تيوقراطية , وأن يضع حدا للثورة ومظاهرها العاصفة التى نظر لها دوما بعداء بعد ازاحة مبارك , وان يعيد اشكال التعسف السابقة بشكل اشد قمعا , وقهرا محاولا ان يقوض تلك الحقوق والحريات التى استندت الى الاستيلاء الثورى , والمبادرة المباشرة ( من اسفل ) دون ان يصدر بها قانون من احدى سلطات الدولة . باختصار يريد ان يصادر بعض ادوات الصراع الطبقى ويجرد الثورة من احد اهم اسلحتها .
-2 –
* ثائرون ام بلطجية ؟ ضد قوى الثورة والمقاتلين على المتاريس
لم يكن غريبا اذن بعد ان اقام شباب الثورة متاريسهم فى شارع منصور عقب مجزرة بورسعيد – فى شهر فبراير الماضى -- واطلقت قوى الامن عليهم كل انواع الاسلحة ( خرطوش , ذخيرة حية , غازات ) , واستخدمت كل انواع المكائد الممكنة لتضليل الشعب حول سيرالاحداث ان ينهمك برلمان " الثورة " فى جدال فقهى لغوى قانونى يسعى للتمييز بين " الثائر " و " البلطجى "وكان فى مضمونه موجها ضد ثوار المتاريس من الطبقات الشعبية , الذين كانوا الاكثر راديكالية فى المواجهات , بل واحتفى رئيس البرلمان بنفى وزير الداخلية بأن قواته لم تستخدم حتى الخرطوش ! وتبارى الاعضاء المسعورون – ممن حررتهم الثورة وكسرت قيودهم , وأطلقت السنتهم , ومكنتهم من مقاعد البرلمان – فى طرح اقتراح ان تعطى قوى القمع صلاحية اطلاق النارالحى على المتظاهرين اذا مااقتربوا على مسافة معينة من مبنى وزارة الداخلية ( تذكروا نواب الرصاص فى عهد مبارك , وان المبانى العامة , والطرقات من ممتلكات الشعب ) ولم يعر معالى الوزير الاقتراح اهتماما وعامله ببرود لأنه يعلم ان بحوزته : قرارى وزير الداخلية رقم 139 لسنة 1955 بتقرير الاحكام الخاصة بالاجتماعات العامة والمظاهرات فى الطرق المصرية ( منشور فى الوقائع المصرية عدد رقم 44 بتاريخ 6 -6 – 1955 ) وكذلك قرار وزير الداخلية رقم 156 لسنة 1964 فى شأن تنظيم الاسلحة النارية ( الوقائع المصرية – عدد 75 بتاريخ 21 – 9 – 1964 ) وهما يخولانه اطلاق النيران على المتظاهرين بسلاسة لاتقتضى استصدار قوانين او تصاريح جديدة بدءا من الخرطوش حتى البنادق سريعة الطلقات . وهما تطويران قمعيان للقانونين : رقم 10 لسنة 1914 بشأن التجمهر المعدل بقرار جمهورى بقانون رقم 87 لسنة 1968 , والقانون رقم 14 لسنة 1923 بتقرير الاحكام الخاصة بالاجتماعات العامة وبالمظاهرات فى الطرق العمومية . والاخيران صادران كما هو معروف فى ظل سلطة الاحتلال البريطانى .
* تعزيز السلطة والسعى لاجهاض الثورة
لقد سار برلمان الثورة المضادة فى اتجاهين متعاكسين من الناحية التشريعية منذ بدء دورة الانعقاد الاولى فى 23 يناير الماضى : 1 - اتجاه تدعيم الطبقة الراسمالية بوصفه اداة جاهزة لتمرير قوانين حول المنح والحوافزوالمكافات – التى يمنحونها لانفسهم – ( وتعويض ودعم الراسماليين الذين اضيروا من ثورة يناير ) واشكال الدعم والتخفيضات , والاعفاءات , والامتيازات والمنافع وماالى ذلك ( ورثة فساد وامتيازات حكم مبارك ) , وفى هذا السياق تواطأ مع المراسيم التى اصدرها المجلس العسكرى قبل انعقاد البرلمان باسابيع قليلة , واكتفى بالثرثرة حولها قليلا مفضلا الممانعة القولية مع الاذعان الفعلى , ومنها قانون التصالح مع رجال الاعمال الهاربين والمسجونين والمحبوسين ( بدأ البرلمان يوم 12 ابريل فى معاودة النظر فى المرسوم بعد ان تم التصالح مع حوالى عشرين من رجال الاعمال بالفعل , وذلك بسب تخوف الاغلبية من ترشح عمر سليمان للرئاسة وتصور دعم المجلس العسكرى لرجال مبارك ) , وقانون تعمير سيناء الذى يضع ثرواتها واراضيها تحت ايدى البورجوازية البيروقراطية العسكرية ( فضلا عن تأمين الحدود الشرقية من منظور تعهدات اتفاقية كامب دافيد منعا لاحتمالات توريط المجلس العسكرى فى مصادمات لايرغبها ) , وقانون الازهر ( حيث يختار فيه رئيسه المنتخب منتخبيه حتى ينتخبوه ! ) الذى يجعله اداة الايديولوجية الدينية الرسمية للعبث " الشرعى " بوعى الشعب فى الشؤون السياسية , وفى مواجهة الاسلام السياسى , بوصفه تكأة المجلس العسكرى فى ملاعباته السياسية له , وتعديل بعض احكام القانون رقم 174 لسنة 2005 بشأن تنظيم الانتخابات الرئاسية الذى يتضمن المادة 28 التى تحصن قرار اللجنة القضائية المشرفة على الانتخابات من الطعن فى قراراتها النهائية على النتيجة 2 – واتجاه تهيئة الشروط التشريعية لقمع الثورة , وتصفيتها بينما تقوم قوى الامن بتنفيذ الشروط المادية لها . بدءا بتفريغ مطالب شعبية مطروحة منذ بدء الثورة من محتواها , مثل مطلب الحدان الاقصى والادنى للاجور الذى انتهى مؤخرا – فى العاشر من ابريل -- الى تحديد حد اقصى لايتجاوز 50 ضعفا للحد الادنى فى مؤسسة معينة , وانتهى الى نسف القانون ذاته , بوضع استثناءات مشروطة تدع الاوضاع فعليا كما هى عليه , اى تنتهى الى عدم وجود حد اقصى . كما الغى حق رئيس الجمهورية فى احالة المدنيين الى القضاء العسكرى كما ورد فى المادة السادسة من قانون الاحكام العسكرية بينما استبقيت المادة 48 التى تخول القضاء العسكرى حق تحديد اختصاصه , ومايدخل فى نطاقه بدون اى معيار موضوعى ضابط , وهو مايعنى انهم ارادوا فقط تقييد يد الرئيس المقبل , فوفقا للتعديل لازال من " القانونى " احالة مدنيين الى المحاكم العسكرية , اى اننا لم ننته من هذه المسألة بعد .
*تشريعات مقترحة لحصار الثورة وخنقها تحت راية حماية الثورة
وفى سياق ذات الاتجاه للقمع التشريعى طرحت فى البرلمان مشروعات قوانين لتجريم التظاهر, والاضراب , والاعتصام , ( رغم وجود قانون ضد الاضراب والاعتصام , وكذلك ضد البلطجة صادران فى ظل حكومة عصام شرف , فضلا عن استمرار حالة الطوارئ حتى الان ) وقدم مشروع لتقنين حد الحرابه -- قطع الطريق ( ودلالته دعم الملكية الراسمالية , وتعزيز الاستغلال الطبقى , وترويع الثوار المقاتلين باضفاء شرعية تيوقراطية على الاجراء القمعى ) , وحجب المواقع الالكترونية " الاباحية " (وبعدها سيثنون بالالحادية , فالعلمانية , فالسياسية المناهضة لسلطة الدولة ) , ووضع احد المسكنات " الترامادول" فى اول جدول المواد المخدرة بحيث باتت حيازته جناية ( واهمين ان الشباب كانوا يستخدمونه كمنشط يزودهم بالطاقة لمواجهة قوات الامن ) . كل ذلك فى سياق رجعى متطرف يعتدى على مكتسبات حققتها المرأة المصرية , وعلى الحريات النقابية العمالية , وعلى التعليم , ونكوصا لاجراءات لاتحقق تغييرا جوهريا فى بنية الاستغلال الاقتصادى حتى بالمعنى الراسمالى . فبدلا من ضريبة تصاعدية على الارباح الراسمالية وحدا اقصى للاجور 1 –15 بدون استثناءات تنتهك القانون لحظة ميلاده, يعدون مشروعا لقانون الزكاة , ولبيت المال مهيئين موردا جديدا لرزق بعض من الذين لايقومون بدور انتاجى , وان لعبوا دور الدعامة الايديولوجية للنظام .
وفى سياق الاذعان لارادة الثورة المضادة التى ادعت انها الشرعية التى تصنع القانون ضد "الفوضى " تقدم رئيس لجنة الاقتراحات والشكاوى بمجلس الشعب ( طلعت مرزوق ) بتوصية للاسراع فى اعداد مشروع بقانون ينظم عملية التظاهر بعد ان استمع لكل الاطراف المعنية بما فيه " مكتب لجنة الشباب " وانتهى الى ضرورة الاستفادة من قوانين الدول الاجنبية – وهم عادة لايستفيدون الامن القوانين القمعية – حتى يحافظوا على حق التظاهر السلمى ويميزوا بينه وبين اعمال البلطجة, والاختطاف , وقطع الطرق ! وكأن هذا التمييز ليس قائما فى الواقع .
* فى الميدان يحكم بالاعدام على مبارك فى محاكمة صورية وفى البرلمان ؟
وانبرى المستشار محمود الخضيرى رئيس لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية – وهو ممن ينتمون لقضاة "الاستقلال" , ومن حكم على الرئيس المخلوع بالاعدام فى محاكمة رمزية فى ميدان التحرير قبل دخوله عضوا فى البرلمان , ونسى ان يطرح ضرورة محاكمة الرئيس السابق بتهمة الخيانة العظمى حين دخل بالفعل , وهى التهمة التى كان يمكن على اساسها محاكمته ان تقدم بهذا الطلب 75 % من اعضاء البرلمان , لكنه انحاز بميوله السياسية مع الاغلبية التى باتت شريكا فى السلطة مهما كان نصيبها منها حتى الان ومهما كان مالها فى خلافاتها مع المجلس العسكرى – انبرى هذا المستشار ليؤكد بأنهم فى حاجة لهذا التشريع" للقضاء على البلطجية وليس تقييد الثورة والثوار " كما اضاف بأن الشرطة ( التى اسهمت فى اربعة مجازر دموية طاحنة ضد الثوار ) تغيرت بعد الثورة , وباتت مغلولة اليد ! كما نفى محمد انور السادات "نية المجلس تقييد حق التظاهر ". بل ان اللواء على عبد المولى مدير الادارة العامة للشؤون القانونية بوزارة الداخلية قد صرح بأن " التظاهر حق يحتاج الى اطلاقه لا الى تقنينه " لكنه استدرك مطالبا بتفعيل القانون ضد المظاهرات غير السلمية, وكذلك تفعيل قانون العقوبات لمواجهة قطع الطرق , وتعطيل المصالح وتخريب المنشات العامة . وواقع الحال ان هناك ترسانة من القوانين تجرم هذه الافعال الاخيرة . وهو مايبين ان جوهر المسألة هو تقويض حق التظاهر, والاضراب , والاعتصام وهى الادوات التى اعتادت قوى الثورة ان تستخدمها بوصفها اسلحتها النضالية على مدار عام ثورى كامل . وهو مايؤكده تصريح اللواء احمد جمال الدين مساعد وزير الداخلية لقطاع الامن العام من ان ( الوزارة تعمل على اعداد مجموعة من القوانين لعرضها على مجلس الشعب فى مقدمتها قانون خاص بالتعامل مع المظاهرات ) ...
*"ثروة " من المشروعات ضد التظاهر والاعتصام والاضراب
لقد قدمت عدة مشروعات للبرلمان المناهض للثورة , لتقويض حق الاعتصام والتظاهر والاضراب , وقد رغب فى ان يعود الشعب الى بيوته تاركا " ممثلى الشعب " يقومون بدورهم فى قمعه بعد ان انتقلت الثورة من الميدان بانتخابهم الى البرلمان حسبما يعتقدون -- ومن المفارقات الساخرة ان يضطروا يوم 13 ابريل الايكتفوا بخطبهم وبمشاريع قوانينهم فى البرلمان , وينزلوا الى الميدان احتجاجا على ترشح نائب الرئيس المخلوع للرئاسة وهى عودة لاعلاقة لها بمطالب الثورة -- ولكن ماهى ملامح ومواد قانون تجريم التظاهر هذا الذى ارادوا من اعضاء البرلمان اقراره بعد عرضه على لجان مجلس الشعب المختصة والذى قام بتجميعه فى مشروع واحد المحامى صبحى صالح -- المعروف عند الشباب باسم "فلوطه" وعضو لجنة التعديلات الدستورية سيئة الذكر –والذى قدمه باعتباره " تنظيما " وليس تقويضا لحق التظاهر !!! وهو ماينبغى ان نناقشه سواء بقى هذا البرلمان ام لم يبق وصدر القانون ام لم يصدر , لان هذا توجه تفرضه , وتمليه مصالح قوى الثورة المضادة , سواء مثلها الاخوان وحزبهم ام غيرهم . الان , او غدا, ولن يوقفه الا قدرة الثورة على حماية الحريات التى اكتسبتها .
* ابشع القوانين القمعية الممكنة
لقد اعدت اللجنة التشريعية بمجلس الشعب التى يرأسها المستشار محمود الخضيرى مشروعا لقانون قام بتجميعه من مشروعات مختلفة ( مشروعا محمد العمدة وعلى قطامش—اخوان وسلفيين على التوالى ) وكيل اللجنة القيادى الاخوانى صبحى صالح . وينص مشروع القانون على وجوب استئذان وزارة الداخلية – وهى الجهة الادارية – قبل اى تظاهر, او تجمع , او مؤتمر سلمى بفترة تتراوح بين 3 ايام او 24 ساعة , كما يعطى الداخلية حق فض المظاهرات بالقوة , وحق حضور افراد الشرطة الاجتماعات, والمؤتمرات , وكذلك طلب فضها اثناء انعقادها . ووفق المشروع يجب اخطار الامن بخط المسيرات واعداد المشاركين المتوقعة , ومن دعا لها , وتوقيتها , ونقطة بدايتها, ونقطة نهايتها . كما يلزم المشروع من يدعو للتظاهر بتحديد لجنة من 3 اشخاص تكون مسؤليتها المحافظة على النظام ومنع كل خروج على القوانين ومنع كل خطاب يخالف النظام العام والاداب . ويعطى مشروع القانون صلاحيات غير محدودة لوزارة الداخلية ويؤكد على حقها " الاصيل " فى استخدام القوة . ويخول مشروع القانون قوات الداخلية الحق فى فض اى تجمع سلمى بدعاوى غاية فى المرونة مثل تعطيل المرور وتعرض الاشخاص والممتلكات العامة والخاصة للخطر . وبشأن الاجتماعات يمكن للأمن ان يطلب من اللجنة الثلاثية فض الاجتماع اوانهاء التجمع حفاظا على الامن , ومنعا لانتهاك حرمة القانون . وقد عين مشروع القانون عقوبات دراكونية ( مغالى فيها ) على انتهاك مواده تبدأ من الحبس ( الذى قد يصل الى 10 سنوات ) , ودون الاخلال بالعقوبات فى اى قانون اخر, الى الغرامة المالية التى تتراوح بين الفى جنيه الى عشرة الاف جنيه مصرى . وأكد المشروع المذكور على انه لايترتب على اى نص من نصوص هذا القانون تقييد مالموظفى الداخلية من الحق فى تفريق كل احتشاد او تجمهر اذا تم بالمخالفة للمواد السابقة , باعتبار حق الشرطة فى تفريق اى احتجاج حق اصيل باستخدام كل الاسلحة المتعارف عليها دوليا ( مما هو مذكور فى لوح القمع المحفوظ ) .
لقد نصت المادة الاولى المعنونة الفصل الاول : تنظيم الاجتماعات والمظاهرات والمسيرات : مادة 1 للاشخاص ولكافة الاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدنى ولكل ذى صفة اعتبارية الحق فى التجمع السلمى , والتظاهر, والتعبير عن الرأى بحرية غير حاملين سلاح . وتأتى المواد الاثنى عشر التالية سالبة هذا الحق بوضعها اياه فى يد مايسميها مشروع القانون بالجهة الادارية اى الداخلية .
* لايكفى تمزيق مشروع القانون وانما الغاء كافة القوانين الاستثنائية
واقع الامر ان ترسانة قوانينا القمعية كافية بل ان المطلوب هو الغاء هذه الترسانة تماما بوصفها جزءا من "قوانيننا" الاستثنائية , وقد ادى هذا ببعض النواب ومعظمهم من الاحزاب الصغيرة , او المستقلين الى رفض مشروع القانون لاسباب مختلفة , ووصفوه بانه عودة لنظام مبارك لانه يقر عقوبات فاقت ماوضعه الانجليز , وقيدت الحريات التى لم يجرؤ المجلس العسكرى على تقييدها , كما ان اللواء عادل عفيفى وهو سلفى من حزب الاصالة انتقد مشروع القانون لأنه " لابد من اقرار حق التظاهر للجميع فهو الذى قضى على النظام السابق وجاء بالنواب الحاليين بل وتهكم قائلا ان هذا المشروع كان ينبغى ان يمهر بتوقيع حسنى مبارك " ! وأشار النائب محمد منيب الى انه لو تمت الموافقة على هذين المشروعين لما استطاع العمدة وقطامش التظاهر فى الشارع ( وكان الاخير يريد قانونا حديثا يتناسب مع الثورة ! ) – وقد تأكد ذلك عقب ايام قليلة فى 13 ابريل وكذلك بشأن الاحتجاجات التى اطلقها السيد ابو اسماعيل على مااثير بشأن جنسية والدته , وقد بلغ الامر بنائب سلفى هو ممدوح اسماعيل حد تمزيق مشروع القانون واعتبار مقدمه صبحى صالح "خائنا " لتاريخه بتقديمه . ولكن النائب صبحى صالح ابدى تخوفاته على" مشروع الدولة القادمة " وهى بالطبع دولته " الاخوانية " المتوهمة التى صيغت على قد خياله , واعتبر ان مشروع القانون " من اكثر التشريعات اهمية لأنه يتعلق بنظام الاحتجاج السلمى فى المستقبل بعد الثورة " الامر الذى يعنى ان الثورة -- التى لم تنته بالنسبة لنا -- قد انتهت بالفعل بالنسبة له .
* حد الحرابة وتهديد الثورة فى قناع تيوقراطى
ولايختلف الحال مع قانون "حد الحرابة" فجوهر القانون هو حماية الملكية الرأسمالية الاستغلالية عامة كانت او خاصة , بغض النظر عن المظهر الخارجى "الشرعى" الخادع الذى يريد ان يستثمر الايديولوجية الدينية الشعبية السائدة عند قطاع كبير من الشعب المصرى فى استجلاب توقير خاص لأمر دنيوى , استغلالى , قمعى عادى . ومن ناحية اخرى يهدف الى قمع الثائرين , باختلاق انتهاكات يسهل دائما افتعالها وتلفيقها لهم – حتى وان لم يرتكبوها -- كما رأينا على مدى 15 شهرا الماضية . وعقوبات , وهذا هو الجانب الاهم فيه , تنتهى بالصلب , او قطع الايدى , والارجل من خلاف . مما يعنى توتير, وترويع , وارهاب, وافزاع قوى الثورة لاشئ اخر غير ذلك . وقد شن حقوقيون هجوما ضاريا ضد مشروع القانون هذا , لانه يتعارض مع الاتفاقيات والالتزامات الدولية التى وقعت عليها مصر منذ فترة طويلة , فضلا عن ان هذه العقوبات لاتنتمى للعصر الحديث , فهى تندرج فى العرف الدولى تحت بند العقوبات غير الانسانية التى لايقرها المجتمع الدولى , كما انها تدخل تحت طائلة التعذيب . ولكن الاهم من كل ذلك هو انها ستستخدم ضد المتظاهرين والثوار الذين يريدون الاطاحة بالسلطة بوصفهم " مفسدين فى الارض " .
--3 --
* حين يرتدى الطغيان ثوب القداسة ويخفى خطابه السياسى
لايوجد طغيان اعتى من الطغيان الذى يمكن ان يمارس فى ظل قوانين تدعى انها تستلهم اشكالا مقدسة من العدالة , رغم انها تنتمى لملكوت العنف الطبقى الارضى , الذى يتكشف حينما يجد شروط تحقيقه . ولاشك اننا يمكن ان نتبين بوضوح الان بعد ماذكرناه , ان القانون ليس اداة محايدة يمكن ان تخدم كل الطبقات الاجتماعية على تناقض مصالحها بنفس القدر . وان القانون سواء تجلى فى شكل دنيوى , مدنى او عسكرى , اودينى انما يؤسس للسيطرة الطبقية حيث تتجلى الملكية الاستغلالية بوصفها روح وجوهر القوانين . وان كامل النظام القانونى يقوم على حمايتها , كما يعكس فى بنيته الكلية , التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية المعنية , والطبقات الاجتماعية السائدة فيها , وصراعها مع الطبقات الاخرى , ويهدف عموما لاعادة انتاج النظام القائم , وتطويره , وتعديله , فى نفس الاطار التاريخى , كما يتجلى فى شكل ايديولوجى ملائم .
فلا يمكن فصل الخطاب القانونى الصادر عن السلطات المختلفة عن الخطاب السياسى المهيمن ، فبنية ومنطق القانون تنبع من علاقات القوة وموازينها فى مجتمعنا ، وخصوصا فى فترات احتدام الصراع الطبقى السياسى , كما هو الحال الان فى عام الثورة العاصف , فما وجد القانون اصلا الإ ليعزز مصالح الطبقة الإجتماعية المسيطرة ضد مطالب الكادحين , والفقراء , والمهمشين , والمضطهدين عموما , وأن التشريع هو بمثابة جملة من المعتقدات والتحيزات التى تضفى الشرعية على المظالم الإجتماعية حتى وإن زعموا أنه صادر ديمقراطيا عن هيئة تشريعية منتخبة تمثل الاغلبية ، أو أنه حكم صدر عن قاض نزيه عادل مبنى على تسبيب قانونى لقواعد عامة مجردة محايدة . كما أن اللغة القانونية الموضوعية ظاهريا وكذلك الهيئات القضائية -- وكامل مؤسسات وسلطات الدولة -- تُقّنع علاقات القوة والسيطرة وتحجبها ( فالمخاطب فى القانون -- من الناحية الاساسية -- طبقة أو طبقات أو فئات إجتماعية ، وليس أفرادا كما توحى بذلك غالب نصوصه ) لذا فإن ما يُصرح به القانون وما يتحقق فعلا شيئان مختلفان ، فضلا عن تناقض نصوصه ، وعدم تحدد , وإعتباطيه الأحكام القضائية الحاصلة من تطبيق قاعدة على حالة معينة عن ماعداها من حالات مماثلة .
* الشرعية الثورية التى حدد بها الشعب اطر حقوقه وحرياته
والحال ان السمة الرئيسية التى تميز مراحل الاعاصير الثورية – كما حدث فى مصر على مدى عام كامل فى اعقاب الاطاحة بمبارك – هى 1 -- تحقيق الحريات السياسية ( الرأى, والكلام والتعبير , والصحافة , والنشر , والتجمع , وعقد المؤتمرات , والتظاهر, والاضراب , والاعتصام , وتشكيل الجمعيات , وممارستها فعليا بدون تشريعات جديدة مسبقة , او اذون اواخطارات او تصاريح سلطوية . 2 – انشاء هيئات , وتنظيمات جديدة , مثل الاحزاب تحت التأسيس , وائتلافات الشباب خاصة الثورية , واللجان الشعبية , وبعض المنظمات العاملة فى بعض مجالات المجتمع المدنى , وهى اجنة سلطة جديدة مهما كانت اولية . 3 -- ان ماسبق جميعه تحقق وانشئ من قبل القوى الثورية اساسا خارج اى قوانين , وقواعد موضوعة سلفا , اى بالسبيل الثورى الذى ابتدعه الشعب نفسه فارض شرعيته , كمبادرة تعبر عن ذرى تحرره من القيود البوليسية التقليدية القائمة فى اوقات الركود العادية . 4 – لجوء الشعب الى الدفاع الشرعى عن نفسه بالعنف ردا على العنف الذى مورس عليه من قبل قامعيه .
لقد مثل هذا اسمى مظاهر نضال الشعب المصرى , الذى قدم الاف الشهداء من اجل نيل الحرية , وتحقيق الديموقراطية . والان يأتى برلمان" الثورة" يدعونا لوضع حد للتحركات الثورية , وتجذير الثورة , و لتقديس الشرعية منقلبا على القوى , والادوات التى اتت به الى مقاعد البرلمان .
* الملايين والالاف تحول القوانين القمعية الى هباء
لقد اثبتت التجربة ان المغالاة التشريعية فى القمع , و التجريم , والعقاب لاتؤمن " النظام العام " ضد التظاهر, والاعتصام , والاضراب —وامامنا تجربة رئيس الوزراء السابق عصام شرف فى تجريمها -- وانما تدفع لانتهاكها , وتوسيع دائرتها بماتخلقه من احساس بالمرارة , وانعدام العدالة , وخاصة لانها تزيد من تدخل الشرطة التى لايعنيها بالطبع اسباب التظاهر , او الاعتصام , والاضراب وانما يعنيها قمعها فحسب . وهكذا فقد قوض العمال والكادحون عموما شتى انواع الحظر , وبددوا هيبتها , وقوتها , وافرغوها من مضمونها ومحتواها , ولكن الشرطة المدنية والعسكرية لم تكف فى كل الاحوال عن التدخل بالطبع . وقد لوحظ منذ زمن بعيد ان الامكان السياسى والمادى لتطبيق مثل هذه التشريعات المغالى فيها بعقوباتها الضارية يتبدد , فمن المستحيل قمع الالاف , وعشرات الالاف ممن ينتهكون القانون متظاهرين , او مضربين , او معتصمين . وعلى ذلك فليست مهمة التشريع التى اراد برلمان "الثورة" اصداره سوى تسهيل نضال سلطة الثورة المضادة السياسى ضد القوى الثورية , وفى نفس الوقت اخفاء الطابع الطبقى للصراع بالسفسطة حول " دولة المستقبل المقبلة " والاختلاف الجذرى بين " البلطجى والثائر " والحفاظ على " الممتلكات العامة والخاصة " و"النظام العام" و"الاستقرار" , و" الانفلات الامنى" , و"عجلة الانتاج" , و"التمويل الاجنبى" , و"الاجندات الخارجية", و"استهداف مصر" ... الخ ... واولا واخيرا ل " حماية الثورة الطاهرة , النقية , البريئة من اعداءها اى من ذاتها " ! هنا تنزع ربة العدالة قناع عظمتها , وحيادها المقدس , حتى وان امسكت بمصحف وسيفين , تاركة المجال للشرطة العسكرية , وللفرق الخاصة , والمظلات , مع الامن المركزى لتنفذ ماشرعوه لاجلها .
ان تنامى الحركة الثورية يمكن ان يجعل مثل هذه القوانين قصاصات من ورق لامعنى لها تتبدد فى الهواء , وخاصة حين ينخرط فيها عشرات , ومئات الالاف ضاربين بها عرض الحائط , فالاجراءات القمعية من هذا النمط فعالة اثناء ركود , وجزر الثورة , ضد الافراد , والحلقات , والجماعات , والمنظمات الصغيرة , ولكن لافعالية لها فى مواجهة الحركات الاجتماعية الطبقية الكبرى , وبالاحرى ضد الثورة الشعبية . وهى تؤكد الافلاس الكامل للانظمة التى تعتمد على الشرطة عسكرية ام مدنية . وحتى وان اعاقت الحركة لبعض الوقت فانها تعمق وتوسع من دائرة المزاج الثورى .
* ابدا لن نتنازل عمادفعنا فيه دماء
ان حق الاضراب والاعتصام والتظاهر هو جزء لايتجزأ من الحريات السياسية , وقوى الثورة لن تقبل بتقويضه , بعد كل المعارك التى خاضتها , والدماء التى بذلتها , وانما تقف دفاعا عنه رادة كل محاولات الاعتداء عليه , او تقييده . وفى الوقت الذى يتبجح فيه البرلمان بالدستور المقبل , واختيار الجمعية التأسيسية , يكشف لنا تزامن تقديم مشاريع القوانين هذه من نواب الاغلبية التى تهدف لتقويض حقنا فى استخدام ادوات صراعنا الثورية -- يكشف لنا الطبيعة الحقيقية لنظامنا السياسى , و لهذا الدستور المقبل الذى يريدونه . دستور لايتسع الا للكلمات الطلية , والوعود المنافقة , والقمع الفعلى لحقوق الشعب وحرياته مستورة ربما بطلاء دينى .
ان الاتجاه المهيمن على البرلمان ينتمى للرأسمالية الكبيرة الكومبرادورية وهو شريك اصغر فى السلطة , ويمثل احدى قوى الثورة المضادة , مهما كانت صراعاته وخلافاته مع اتجاهات وفئات اخرى داخلها , وسواء بقى هذا البرلمان , او أتى غيره , او لم يأت , وسواء صدرت هذه التشريعات الان او ارجأت , يظل ميل سلطة الثورة المضادة لانتزاع الحقوق والحريات التى كسبتها قوى الثورة بشرعيتها الميدانية قائما ملحا .
واخيرا نقول مع سان جوست – قائد اخر ايضا من قادة الثورة الفرنسية -- فهل من العجيب اذن ان يلفظ نهر الثورة جثثه عند كل تقاطع او منحنى جديد ؟
#سعيد_العليمى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟