|
المغرب في زمن الثورة الضائع
أحمد الحارثي
الحوار المتمدن-العدد: 3688 - 2012 / 4 / 4 - 19:37
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
ضيع المغرب المعاصر العديد من المواعيد والفرص التاريخية التي كانت ربما مواتية لتحقيق القطيعة مع الماضي وتجاوز واقع التأخر الحضاري، وكفيلة بتوفير الشروط المادية لاقتلاع جذور كل من التخلف الاقتصادي والاستبداد السياسي. فهو لم يشهد ثورة حقيقية في تاريخه الحديث، مثله في ذلك مثل مجموع بلدان المنطقة العربية، في حين تمكنت العديد من المجتمعات المماثلة الواقعة خارج هذا الفضاء الجغرافي والتاريخي من كسر القيود التي تحول دون ولوجها عصر الحداثة والتقدم، سواء عبر التغيير الجذري أو الإصلاح التدريجي.
1. لمحة تاريخية
بغض النظر عن الفترة الكولونيالية، التي مكنت الغرب المتقدم من فرض سيطرته وسلطته عبر استغلال الأرض وتوسيع دائرة تراكم الرأسمال، ثم نشر الآليات السياسية لتسييج الساكنة ومراقبة التراب المحلي، وعلى خلفية الحروب والصراعات الإقليمية والدولية التي خلخلت العالم أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، برزت إلى الوجود موجات ثورية قوية أودت إلى تغيير ملامح الخريطة الجغرافية والسياسية للمعمورة. في المنطلق، مثلت الثورة البلشفية في روسيا القيصرية أوج هذا المد الثوري الذي سينتهي مع عهد الاستقلالات في الخمسينيات والستينيات، مرورا بقيام المعسكر الاشتراكي إثر نهاية الحرب العالمية الثانية ومجيء الثورة الصينية سنة 1948. في ظل الحرب الباردة -التي سخنت مع ذلك في بدايتها باشتعال فتيل الحرب الكورية وحرب القييتنام-، وفي جو من الرخاء الاقتصادي، سوف تنطلق فجأة موجة جديدة من الاحتجاج والرفض عمت مختلف أنحاء العالم خلال عقدي الستينيات والسبعينيات؛ إنه عصر الثورة الفاشلة. إثر سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السفياتي، ظهرت تجارب الانتقال الديمقراطي في بلدان المعسكر الشرقي سابقا، وأيضا في بلدان أمريكا اللاتينية مع توالي سقوط الديكتاتوريات العسكرية والمدنية، فضلا عن تجاوز نظام "الأبارثايد" في أفريقيا الجنوبية، وتألق الدول الآسيوية الجنوبية، إلخ.
عند انطلاق هذا المد التحرري الذي شمل العديد من بلدان العالم، بقيت المنطقة العربية خاضعة للسيطرة الأجنبية ورهينة المصالح الاستعمارية الغربية التي عصفت بما تبقى من سيادتها. ثم باءت بالفشل الذريع الدعوات والمحاولات الإصلاحية في زمن "النهضة العربية"، المشرقية منها والمغاربية على حد سواء. في حين نجحت مثيلتها في اليابان بفضل "ثورة الميجي".
وعبر مختلف المحطات التاريخية الموالية، ظلت مجموع الكيانات الواقعة في منطقة العالم العربي بعيدة كل البعد عن التغيير الاجتماعي الثوري، ومشدودة بقوة إلى التقليدانية السياسية، مبدية مقاومة شرسة ضد العصرنة. فكل ما برعت فيه بعد حصولها على الاستقلالات القطرية هو إعادة إنتاج أنظمة الاستبداد العتيقة بشكل مشوه، قاسمها المشترك الشخصانية، وذلك إما عبر إقامة ممالك سلطوية أبوية، وإما من خلال تنصيب العسكر في الحكم بواسطة الانقلابات المسلحة. لأنها لم تفرز طبقة اجتماعية بورجوازية قادرة على إنجاز مهمتها التاريخية المتمثلة في القضاء نهائيا على الإقطاع الاقتصادي والسياسي وتحقيق الثورة الوطنية الديمقراطية؛ لكونها إذن لم تتمكن من القطع مع الفكر الإقطاعي. معاد للتقدم، مناهض للعقل والتنوير، ظل هذا الفكر الظلامي يغذي أنظمة الحكم السائدة بالقوة المادية والرمزية، سواء في وعائه التقليدي المغلف بالإيديولوجيا الدينية التي تنشر قيم الطاعة والخنوع لأولياء الأمر وتبرر الأوضاع القائمة، أو في زيه العصري المنطوي على قومية عربية مفقودة و/أو وطنية قطرية مزعومة يترتب عنها تمجيد الزعيم. في كل الأحوال، لا يمكن لهكذا فكر سوى التفنن في إعادة إنتاج "الاستبداد الشرقي" وصنع الطاغية.
يكتسي استحضار هذا السياق التاريخي الطويل نسبيا أهمية بالغة في استيعاب خصوصية التطورات الاجتماعية الجارية راهنا في منطقة العالم العربي، وارتباطها بما يحدث على الصعيد العالمي. مع نهاية الحرب الباردة، فتحت مرحلة تاريخية جديدة تميزت بالتطور المذهل الذي عرفته الأنظمة المعلوماتية ووسائل الاتصال والتواصل، والذي أدى تدريجيا وبسرعة متزايدة إلى تقليص المسافات بين الشعوب والأمم وإلغاء الحواجز فيما بينها وتمكينها من الولوج إلى المعلومة والمعرفة والانفتاح على الكون. أصبح حينئذ من المتاح التعرف عن قرب على الآخر، على ما يملكه من مقومات حضارية ومدارك، على ما يميزه ويفصله عن الأنا. وأضحى من غير الممكن عزل الأفراد والجماعات عن المحيط الكوني وبالتالي اقتصاد الآثار الناجمة عن تعميم الشمولية أو العالمية. من جهة أخرى، من جراء هيمنة الرأسمالية المالية العالمية وتنامي "الاقتصاد-كازينو"، اشتدت حدة الأزمة مع ما رافقها من تركيز شديد للثروة في يد الأقلية واتساع مهول للفوارق الاجتماعية والمجالية.
هكذا توفرت كل أسباب التفجر الاجتماعي، على الصعيدين الدولي والإقليمي.
تمثل عنصر الفجأة حقيقة في قيام الثورة داخل بلدان العالم العربي الغارق في الرجعية والتخلف والخنوع، بدءا من تونس، متبوعة مباشرة بمصر، مرورا بليبيا، ثم حاليا اليمن وسوريا حيث تتعثر مسيرة التمرد؛ وقد تشتعل نيران الاحتجاج في باقي بقاع المنطقة، وربما خارجها في مختلف أنحاء المعمور. بالتأكيد، يرجع السبب الرئيسي في نشوب التمرد وانطلاق شرارة الغيض في هذه الأقطار القاحلة إلى خصوصيتها الكامنة في وقاحة الاستبداد المنتشر فيها، الذي أودى إلى تعفن لا مثيل له للأوضاع السياسية والاقتصادية وإلى انسداد تام للأفق المجتمعي.
بعد إسقاط رأس النظام في كل من تونس ومصر وليبيا، لم تتوضح بعد بما فيه الكفاية صورة البديل المحتمل. بالنظر إلى السياق التاريخي النوعي الذي تجري فيه الأحداث من أجل إعادة بناء النظام السياسي، وبحكم الطبيعة السلمية للثورة والآثار الرمزية والمادية التي خلفتها في الوعي الجماعي، فإن الرهان الأساسي يتمثل في استكمال حلقة التغيير الجذري عبر مأسسة السلطة ووضع أسس دولة الحق والقانون في أفق تحقيق التقدم الاقتصادي والعدالة الاجتماعية. في انتظار إيجاد تسوية تاريخية لبلوغ هذا المرمى، أغلب الظن أن صعود الإسلام السياسي للحكم هو مجرد صيرورة انتقالية تمليها منطقيا وتاريخيا موازين القوى السياسية آنيا داخل كل بلد على حدة من هذه البلدان.
لكن ليس من المستبعد أن تنجح المحافظة وبؤر رذائل النظام القديم في سعيها لسرقة الثورة وتحريفها عن مسارها الطبيعي. يرجح كفة هذا الاحتمال ذلك الخزان العظيم من الثقافة البالية التي تقتات من البؤس الاجتماعي والكبت الجماعي، وتستفيد من دعم مثيلاتها في المحيط الإقليمي الغارق في التقليد. فلا يجب طمس الاعتداءات الشنيعة على النساء في عز الثورة وسط "ساحة التحرير" بمصر، والهجوم على حرية الطالبات في الفضاء الجامعي في تونس، وما يحدث حاليا في ليبيا من تجاوزات، إلخ. مثلما يلزم التنديد على وجه الخصوص بالأدوار التي تقوم بها المؤسسات العربية -المهزوزة أصلا- في دعم الثورة المضادة عبر بوابة كل من "الجامعة العربية" و"مجلس الخليج" و"اتحاد المغرب العربي"، أو على الأقل في الحد من انتشارها (الثورة). فليس من الغريب رؤية هذه التكتلات الإقليمية، المشلولة منذ ولادتها، تكثف من أنشطتها في هذا الوقت بالذات، تارة بحضور "ممثلي" الدول المنهارة وتارة أخرى في غايابهم، بل يتم التحضير لمهازل القمم العربية أو المغاربية بدول قطرية إما فاقدة لكل شرعية (سوريا)، وإما قادتها غير معروفين بعد (مصر، اليمن)، وإما قيد التشكل (تونس) أو غير موجودة أصلا (ليبيا). إن الغرض الوحيد من كل هذه التحركات هو محاصرة الثورة ومنعها من الانتشار ومن إنهاء مهمتها بنجاح، في انتظار الإجهاز في المدى القريب على ما حققته من مكاسب. إنه من السذاجة الاعتقاد في نية أو قدرة الأنظمة العربية الرسمية على مناصرة نقيضها، وفي جدية وبراءة ما تعلن عنه من تعاضد وتضامن مع الثورة. تحت مبرر المصالحة الإقليمية، وبتواطئ مكشوف من طرف الدول القطرية ذاتها التي صنعت شعوبها الثورة، تصب مختلف الأنشطة الدبلوماسية التي تقوم بها هذه الأنظمة صوب هدف واضح هو سد خطر الثورة ومواجهة التهديد الداخلي ليس إلا. في المقابل، لا نلمس هنا وهناك في المحيط العربي تآزر المجتمعات المدنية والقوى السياسية الديمقراطية للتصدي محليا لكل تآمر ضد التغيير المنشود، ومناصرة الحرية في الداخل والخارج.
مع ذلك، فإن ما حدث هو بالتأكيد ثورة من أجل تحقيق القطيعة مع ماضي الاستبداد والتسلط وتدشين مرحلة جديدة هدفها المعلن الحرية والكرامة الإنسانية، لا يمكن لها عاجلا أو آجلا إلا أن تكون مفتوحة على عالم المستقبل، خاصة وأنها سمحت بتجاوز حاجز الخوف السميك ومكنت الجماهير من امتلاك الوعي بجسامة القوة التي تخنزلها في ذاتها.
2. المغرب و"الربيع العربي"
قطعا، لا يشكل المغرب استثناء يجعله بمنأى عن الحدث، أو غير معني بدواعيه الدفينة. إذ يشكو من نفس الأشرار التي أوقدت نار التمرد على الأوضاع القائمة في المحيط العربي، بدءا من تجذر الاستبداد وهيمنة الفكر الإقطاعي ووصولا إلى التخلف الاقتصادي والاجتماعي، مرورا بالفساد المالي والإداري، إلخ. وهذا ما عبرت عنه بوضوح "حركة 20 فبراير" الشبابية التي اندلعت مباشرة بعد الثورة في تونس وفي مصر.
منذ البدء، كان باديا للعيان أن "حركة 20 فبراير" انطلقت وهي تحمل في جوفها عناصر الفشل. إذ، فضلا عن كون نشأتها لم تتم في ظروف سليمة، فقد اختفى فيها عنصر الفجأة وغاب عنها الدعم الشعبي اللازم، ثم ساهم الفاعل الحزبي في حجز تطورها "الطبيعي" وفي رسم سقف تطلعاتها. مثلما فعل فيها فعلته المركب الإعلامي-السياسي (شبه-) الرسمي، بما فيه جذعه الأمني، حيث عمل على شل ديناميتها والتشويش عليها. زيادة على ذلك، حاولت بعض فعاليات المجتمع المدني، من نسيج جمعوي ومنظمات حقوقية ومهنية وشخصيات عمومية، توظيف الحركة سياسيا لتمرير مطالب فئوية أو لتحقيق أهداف محددة سلفا. هذا دون إغفال الدور التخريبي الذي قام به عبر وسائل الإعلام جيش عارم من النخبة المثقفة والأساتذة الجامعيين ورجالات الفكر والسياسة والقانون والصحافة، إلخ.، سواء في اتجاه النفخ في الحدث أو بهدف إطفاء نفسه، في جو من الهرولة المحمومة وراء الحصول على مناصب إدارية والاستفادة من اقتصاديات الريع السياسي، وفي ظل الانعدام التام للمسؤولية الاجتماعية الملقاة على عاتقهم.
على وجه العموم، اتسمت الدينامية الاجتماعية المستحدثة بالعديد من المميزات. ابنة البيئة التي أنتجتها، التزمت الحركة "الفبرايرية" في المغرب بالطابع السلمي. ورغم التواجد القوي لتيار الإسلام الراديكالي داخلها، فقد راهنت على الجمهرة في الساحات العمومية للمدن وليس على المساجد، مثلما عانقت القيم الكونية وموجة المعركة من أجل الحرية والكرامة. كما تميزت بالتنوع والتعددية في مكوناتها إذ شملت مختلف الفئات الاجتماعية والتشكيلات السياسية والنقابية والمنظمات الحقوقية والجمعوية، وبحد أدنى من الانسجام في منابعها الفكرية والإيديولوجية رغم تنافر مرجعيات الأحزاب التي احتضنتها. ساهم فيها بشكل ملفت للنظر الشباب المتعلم والنساء منهم على وجه الخصوص، في حين تخلف عنها جمهور العمال والتجار الصغار والطبقات الصغرى والمتوسطة. مدنية بامتياز، استطاعت الحركة مع ذلك أن تغطي الفضاء الترابي الوطني الحيوي في البلاد، وشملت العشرات من المراكز الحضرية، وبخاصة منها المدن الكبرى والمتوسطة. أما فيما يخص التوجيه السياسي والهيكلة وآليات اتخاذ القرارات، فقد تمكنت، ولو في حدود وبصعوية، من الحفاظ على نوع من الاستقلالية اتجاه الفاعل الحزبي، واعتمدت على بنية تنظيمية مفتوحة، غير هرمية وغير ممركزة، ونهجت أسلوب التجمعات العامة والتنسيقيات للتعاطي مع المستجدات والطوارئ.
على الرغم مما حملته من آمال وتطلعات نحو المستقبل، والحماسة التي رافقتها في البداية، افتقدت الحركة الاحتجاجية الشبابية للسند الشعبي اللازم وبقيت معزولة نسبيا عن المحيط الاجتماعي وعن المغرب العميق، الحيوي، حيث اكتفى معظم السكان في المدن وخاصة في هوامشها بالتفرج والانتظارية، ثم عدم المبالاة. ساهمت عوامل عدة في توسيع الهوة بين الحركة والفئات الواسعة للمجتمع وفي مقدمتها الشباب، أهمها العامل الذاتي المرتبط بظروف نشأتها وتطورها التي حالت دون تمكنها من اكتساب المناعة الكافية لمواجهة الاختراقات الأمنية والسياسية والتصدي لتصدير الأزمة الحزبية إلى داخلها. وإذ ساعد بكل تأكيد كل من رد فعل الدولة و(شبه-) الإجماع الحزبي حول نظام الحكم في البلاد على تأزيم وضع الحركة وتهميشها، فإنه ساهم بقوة في تعجيل موتها المعلن.
2.1. الرد الدولتي
تسارعت الدولة في الرد، إذ بدأت في الاستجابة لمطالب لم تتحدد معالمها بعد، كـأنها تلبي بشكل قبلي رغبة المجتمع الافتراضية في إحداث تغيير لملاءمة ومواكبة الظرفية، وتدرك مقاصد الحركة الاحتجاجية الناشئة، وتحاول بذلك استباق الأحداث واحتواء الغضب الشعبي الكامن قبل انفجاره. بدت كأنها تخضع طوعيا لضغط المحيط العربي الخارجي وتقبل مسبقا الطلب الاجتماعي الذي تعتقد أنه كان على الحكام العرب في كل من تونس ومصر الامتثال له. خشية من غير المتوقع، من توغل الخطر الذي قد يتهددها بين الفينة والأخرى، لم تتردد كثيرا في تحديد مضمون وحدود مشروعها الإصلاحي، وعينها الساهرة لا تفارق سرعة انتشار عدوى "الشارع العربي".
جوهريا، تجسد العرض الرسمي النهائي في وضع دستور جديد تم الاستفتاء عليه بأغلبية ساحقة، قبل تنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، قدر لها في الأخير أن تفضي إلى فوز "حزب العدالة والتنمية" الأصولي بالمرتبة الأولى، وبالتالي إلى تشكيله للحكومة الحالية.
تخلل هذا المسلسل ارتباك كبير في سلوك الدولة.
على الصعيد الأمني، كانت ردود الدولة تارة متناسبة وتارة أخرى غير متناسبة مع الطبيعة السلمية للحركة الاحتجاجية ونوعية مطالبها وحجم مسيراتها. يرجع ذلك نسبيا إلى حرس الأجهزة الأمنية على تلافي الانزلاق نحو دوامة العنف، وأساسا إلى تواضع موجات الاحتجاج وبطء سرعة تواليها. أما على المستوى السياسي المباشر، والإعلامي، فقد تم تضخيم ظاهرة الرفض والسخط على الأوضاع القائمة وشن هجوم واسع وقوي ضد المحتجين بشكل غير مبرر وغير متكافىء بالمرة مع ما يحدث على أرض الواقع. فما وقع من تظاهر لا يعدو أن يكون مجرد تعبير عن الرأي في الشارع ولا يرقى أبدا إلى درجة التمرد أو العصيان المدني. وقد ساهم بحماسة لا نظير لها في هذه المعركة ("الحامية الوطيس") ضد المخالفين للتوجه الرسمي جند من محبي النظام والامتثال، دعاة الحفاظ على الثوابث والتقاليد المرعية، رواد الوطنية؛ جند اختلطت فيه جحافل أحزاب "الكتلة الديمقراطية"، وأحزاب الإقطاع السياسي والإدارة، والزوايا، وأئمة المساجد، وفصائل من أهل الثقافة والفن، إلخ.
تمشيا مع رغبتها في الحفاظ على الوضع السياسي القائم، وجنوحها إلى تعجيل سرعة الإصلاح الدستوري، اتخذت الدولة عدد من الإجراءات لسد الخطر وكبح جماح ضغط الحركية الاجتماعية الجنينية. يمكن حصر أهم التدابير الدولتية المتخذة فيما يلي: تحويل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان إلى مجلس وطني -رمزي- وتغيير رئاسته وأمانته العامة؛ تعويض "ديوان المظالم" بمؤسسة "الوسيط"؛ تفعيل المؤسسة الاستشارية المكلفة بمحاربة الرشوة وكذا مثيلتها المكلفة بالتنافسية؛ تشغيل الشباب المعطل الحاصل على شهادة السلك الثالث (الدكتوراه)؛ زيادة عامة ومتساوية في أجور الموظفين (600 درهم)؛ توزيع بعض دور السكن في إطار القضاء على المدن الصفيحية؛ إطلاق سراح المعتقلين السياسيين الذين حوكموا بتهمة الإرهاب؛ إلخ.
بعد اختفاء تاكتيكي لم يدم طويلا، عادت كما كان متوقعا النخبة المخزنية "الجديدة" إلى الواجهة كي تتصدر المشهد الحزبي والسياسي. انهمكت في التخطيط والتحضير، بعناية فائقة، لما بعد الاستحقاقات الانتخابية؛ ونسجت لهذا الغرض تحالفا واسعا ضم ثمانية أحزاب تتشكل نواته الصلبة من الأحزاب الإدارية والإقطاعية، مطعمة ببعض التشكيلات السياسية "اليسارية" الهامشية. هدفها الواضح للعيان كان مركزا على استلام مقاليد الأمور، والدفع باليسار التقليدي واليمين السلفي إلى المعارضة لمؤازرة الأصولية المخزنية في ملء الفراغ السياسي وضبط "الشارع". لقد ولت دون رجعة مرحلة الرهان على تمديد عمر واجترار ذيول تجربة "التناوب التوافقي" التي أدت وظيفتها السياسية والإيديولوجية منذ زمن طويل، منذ بزوغ "العهد الجديد"، وأضحت تثقل كاهل الدولة وتقزز مشاعر الساكنة. ولم يعد النظام الملكي في حاجة إلى أحزاب الحركة الوطنية، الشائخة والمتآكلة، لتطعيم مشروعيته بالإيديولوجيا القومية كما كان عليه الأمر في العهد السابق.
ثم فجأة، خاصة إثر السقوط الدموي للنظام الليبي، وجراء فوز تيارات الإسلام السياسي في الاستحقاقات الانتخابية في كل من مصر وتونس "ما بعد الثورة"، انقلب التوجه الرسمي في المغرب رأسا على عقب. إذ، لاعتبارات أمنية صارمة أكثر منها سياسية، تم الاستغناء بعجل ملحوظ عن الخطة المعدة سلفا، الرامية إلى فرض الأمر الواقع بترسيم هيمنة "سلطة الظل" عبر تنصيب الحكومة المزمع تشكيلها من تحالف الأحزاب الثمانية، والتي اجتهد في الترتيب لها "زعماء" المخزن الجديد بحذافيرها وبكل تفاصيلها، بما في ذلك توزيع الحقائب الوزارية. يبدو أن مراكز المساعدة على اتخاذ القرار، سواء كانت شكلية أو غير مهيكلة، رجحت كفة خطر الإسلام السياسي الراديكالي وربما تهديد "لاهوت التحرير"، بما في ذلك توغل اليسار الجذري، وارتأت مواجهته بتغيير الاستراتيجة كليا، عبر نهج أسلوب مغاير تماما للسابق الذي كان يستهدف سحق التيار الإسلاموي المعترف به قانونيا والمندمج في المؤسسات. وقع الاختيار على اعتماد خطة دفاعية وليس هجومية في المعركة ضد الإسلاموية، باعتبارها حركة سياسية ودينية تتهدد أسس نظام المشروعية عينها التي يستند عليها نظام الحكم في البلاد. هكذا، تقرر توريط التيار الأصولي "المعتدل" في الحكم لشل فعالية نظيره "المتطرف"، الذي يقف على طرفي نقيض منه في الساحة السياسية، وفي نفس الآن الدفع باليسار الاشتراكي التقليدي إلى المعارضة قصد التخفيف من الضغط الشعبي والتغلب على المخاطر.
"ثمة في القنافذ أملس" إذن، "إسلام سياسي أملس" أو أصوليات ملساء، مقبولة سياسيا من طرف النظام القائم ومنغمسة فيه إيديولوجا حتى النخاع؛ إنهما كروحين إذا حللا جسدا!...
نفس الاضطراب الذي لحق الدولة سوف يطال بأشكال مختلفة مجموع الفاعلين السياسيين.
فبقدر ما صعقت النخبة المخزنية الجديدة بصدمة قوية جراء إقصائها أو حرمانها في آخر لحظة من الفوز بالمرتبة الأولى في انتخابات مجلس النواب ليوم 25 نونبر 2011 وبالتالي الإمساك مباشرة بدفة الحكومة، على قدر ما فوجئ قياديو وأطر "حزب العدالة والتنمية" الأصولي بتصدرهم المشهد الحزبي في البلاد بمناسبة نفس الاستحقاق قبل أن تستبد بهم مشاعر غريبة من الغبطة والزهو والنشوة وهم لا يكادون يصدقون تسلمهم مقاليد الإدارة ورئاسة الحكومة.
في نهاية المطاف، تمخض عن رد الدولة في مواجهة رياح التغيير الجذري، التي تهب في أفريقيا الشمالية والشرق العربي، تشكيل "حكومة الإسلام السياسي" بمواصفاة مغربية خالصة.
3. "حكومة الإسلام السياسي" في المغرب
في خضم الاستشارات الأولية لتشكيل الحكومة الجديدة، دفع "حزب الاتحاد الاشتراكي" دفعا إلى اعتناق صفوف المعارضة بهدف ملء الخواء السياسي الذي تعاني منه واستعادة ثقة الجمهور في المؤسسات، وبخاصة عدم ترك التيارات المصنفة بالمتطرفة والماضوية والعدمية تحتكر "الشارع" وتتحدث بالنيابة عن الشعب. وقد روجت أجهزة الحزب رسميا مقولات "الرجوع إلى الشعب" واستعادة الزخم الجماهيري...، لتبرير رفضها المشاركة في الحكومة الجديدة، ولم تعتمد قط أطروحات الخلاف الإيديولوجي أو السياسي أو حول البرنامج. ويعرف الجميع إلى أي حد يتشبث هذا الحزب بربيبه "حزب الاستقلال" الذي لم يتردد في قبول المشاركة في الحكومة، ضاربا عرض الحائط التحالف المنسوج بين الحزبين في إطار "الكتلة الديمقراطية"، مثله في ذلك مثل "حزب التقدم والاشتراكية" المحسوب على اليسار. لكن ما يبعث فعلا على التقزز هو تعنت هذه الأحزاب الثلاثة وتشبثها الأعمى بهيكل "الكتلة" التي أضحت جثة جاثمة منذ زمن بعيد.
من جهة أخرى، قررت "جماعة العدل والإحسان"، أي "الإسلام السياسي المحفوف بالأشواك"، أو "القنفوذ غير الأملس" إن جاز التعبير، الإعلان الرسمي عن خروجها من "حركة 20 فبراير"، مما أودى إلى اسوداد الأجواء وبعثرة الحسابات السياسية لكل من الدولة والفرقاء السياسيين على حد سواء. فهي إن كانت بهكذا موقف قد عبرت عن نوع من الانسجام في خطها السياسي ومرجعيتها المذهبية، الإيديولوجية، فإنها أرادت في نفس الآن وضع مسافة بينها وبين توريط الإسلاميين في الحكومة وعدم السماح لهؤلاء باستعمالها -"الجماعة"- كورقة ضغط ومساومة في علاقتهم بالسلطة المركزية، وبالتالي الحفاظ على قدر من نقاوتها. مثلما تكون قد سعت أيضا من خلال اتخاذ هذا الموقف إلى التعرية عن مدى مقدرة "الاتحاد الاشتراكي" -ومن ورائه باقي فصائل اليسار، على تأطير وضبط نبض "الشارع"؛ وفوق ذلك سحب البساط من تحت أقدام الدولة في سعيها لترتيب الأوضاع السياسية.
والحال أنه لا مفر بالنسبة إلى "الجماعة" -وتيارات الإسلام السياسي بمختلف ألوانه- من تبعات تحمل "حزب العدالة والتنمية" الأصولي مسؤولية تدبير الشأن العام، من دفع قسط من الثمن في حالة فشل هذا الأخير في مهمته، وجني بعض الثمار في حالة نجاحه.
يتضح جليا من خلال معاينة الواقع السياسي الملموس وطبيعة علائق السلطة في البلاد أنه لا يمكن عقد الآمال على "حكومة الإسلام السياسي" في إحداث التغيير، بالنظر إلى موازين القوى والشروط التاريخية الراهنة. فحتى إذا أردنا إقامة تواز بين ما يقع في المغرب وما يحدث في مصر وتونس مثلا، حيث نشهد صعود التيار الإسلاموي إلى السلطة، يجب التشديد على أن الشرط التاريخي يختلف جوهريا هنا وهناك؛ إذ الأمر يتعلق بمخاض ثوري في هذين البلدين، في حين أن الحكومة المغربية الجديدة لا تعدو أن تكون مجرد وصفة دولتية على درب الإصلاح. إلى جانب المنهجية التي اعتمدت في صياغة الدستور الجديد، دستور 2011 الذي تم الاستفتاء عليه في فاتح يوليوز، والتي لا تختلف عن أسلوب الدساتير الممنوحة السابقة -ما عدا مغربة الصياغة-، فإن مضامينه لم تغير في شيء محورية السلطة الملكية. كانت الشروط التاريخية سانحة هذه المرة أكثر من أي وقت مضى لتدشين حلقة إصلاح ثوري في المغرب عبر انتخاب مجلس تأسيسي يقوم بإقرار دستور ديمقراطي عماده الملكية البرلمانية، لكن فوتت هذه الفرصة لأن كل من الدولة والقوى الحية في البلاد تخلفت عن الميعاد.
من حيث الجوهر، ورغم التفاوت الزمني والتغير الدستوري، لا تختلف في شيء الحكومة الحالية عن مثيلتها في "تجربة التناوب التوافقي" التي علقت عليها آمال عريضة وباءت بالفشل الذريع. ثمة الدستور الجديد الذي يفترض فيه أنه منح صلاحيات أوسع لرئيس الحكومة، إلا أن هذه الحجية واهية، بحكم منطوق القانون الأصلي الذي يجعل كل السلط تتركز في يد واحدة ويؤسس لحكم الواحد. لذلك لا يجب السقوط في نفس الأخطاء والمراهنة على الوهم من جديد، بل يلزم التحلي بحد أدنى من النقد الذاتي، والتعامل من الآن فصاعدا بفكر علمي صارم مع التجربة الجارية. وهذا واجب تمليه المسؤولية الاجتماعية والأمانة للمبادئ، واجب بعيد كل البعد عن الرغبة في نصب العداء للإسلاميين أو الإحساس بالغيرة على موقف لا يحسدون عليه.
ألقى التمركز الشديد للسلطة الدولتية بثقله على كيفية تشكل وهيكلة الحكومة، وكذا على طبيعة الصلاحيات المخولة لها في تسيير الشأن العام. ظهرت بصمات احتكار القرار السياسي منذ البدء على ملامح الجهاز التنفيذي، إذ قبلت رئاسة الحكومة -وإذن الأغلبية الحكومية- التخلي عن العديد من الصلاحيات الدستورية، والامتثال لمواصلة سياسة "وزارات السيادة" -بشكل ملتو ومشوه، مكتفية بمناصب النبلاء الفخرية وتاركة السلطة الإدارية الفعلية في يد الوزراء المنتدبين كما كان عليه الشأن في حكومات التقنقراط سابقا. واضطرت إلى تسليم قطاعات وزارية حيوية إلى شخصيات معروفة بولائها وانتمائها إلى الإدارة والإقطاع السياسي.
لا تملك إذن الحكومة الحالية الحد الأدنى من الاستقلالية الفعلية في اتخاذ القرار الإداري قبل السياسي، أو في تطبيق ولو جزء ضئيل من البرنامج الذي تقدمت به على علته أمام البرلمان. يعلم جيدا حزب الحكومة أن المصير المحتوم الذي ينتظر كلا من محتوى التصريح الحكومي المقدم أمام الغرفتين التشريعيتين ونوعية الثقة المحصل عليها من "ممتلي الأمة" هو الإهمال، وأنه من السهل التملص من المسؤولية السياسية المترتبة عن أفعاله -أي الحزب. لذلك لم يتردد منذ الوهلة الأولى بعض مسؤوليه في اللجوء إلى ترديد نفس الخطبة والاختباء وراء الولاء اللفظي الأبدي للعرش، بحثا عن مشروعية مفقودة وعن مشروع مجتمعي غائب، وبدأوا من الآن فصاعدا يكتفون بالتأكيد على الثقة الملكية والتوجيهات الملكية لتبرير فشل الحكومة المعلن في تدبير الشأن العام، حتى قبل الانطلاق الفعلي للولاية التشريعية الجديدة.
إنها والحالة هذه حكومة نغلة سياسيا وإيديولوجيا، فاقدة للسند الشعبي، غير قادرة على رفع التحدي الديمقراطي في زمن الثورة الضائع. ما يميزها أكثر عن سابقاتها منذ تدشين مرحلة "التناوب التوافقي" هو هيمنة الرجعية على تشكلتها، وسيطرة الفكر الإقطاعي على توجهاتها المذهبية والسياسية. فهي تجتر معها ذيول الإقطاع السياسي القديم من جهة، والسلفية التقليدية من جهة ثانية. وسوف تنكشف طبيعتها الاستبدادية هذه بكيفية أكثر جلاء في القريب من التطورات اللاحقة، سواء في ميدان السياسة والاقتصاد، أو فيما يخص العدالة الاجتماعية، أو في مجال حرية الفكر والحريات الفردية والجماعية والوضعية النسائية، إلخ.
ودون إغفال ثقل الثقافة القدرية وتأثيراتها المحتملة على كيفية اتخاذ القرار، لا يجب التقليل من أهمية العامل الكابح المتمثل في انعدام التجربة لدى رئاسة الحكومة ووزراء حزب الحكومة الجديد، مما يجعلهم عرضة للتلاعب ويسهل من عملية الاحتواء والالتفاف على القرارات والبرامج. ليس بالأمر الهين بالنسبة لحزب لم يمارس أبدا السلطة الإدارية أن يتحول من حزب التعبئة إلى حزب الحكومة. فقد كانت حكومة "التناوب التوافقي" الأولى تتمتع بما يكفي من الرمزية السياسية والتاريخية، ووجوهها البارزة بما يحتاجونه من توؤد ووقار، والعديد من الوزراء "الاتحاديين" بحد أدنى من الخبرة والتعود على التدبير الإداري، ومع ذلك لم تخرج سالمة؛ إذ عانت كثيرا من استهزاء وكلبية دهاقنة الإدارة وهرمسية دهاليزها، وقبلت الخضوع للأمر الواقع، تارة على مضض وفي أغلب الأحيان عن طواعية، لتلافي غضب "دار المخزن"...
4. الأفق المستقبلي
ليست الثورة العنيفة هي الطريق الوحيد والحتمي لتحقيق التغيير المجتمعي الجذري. يمكن بلوغ نفس الهدف من خلال التفاوض وعقد اتفاق سياسي حقيقي حول نظام الحكم، أو عبر تدشين حلقة الإصلاح الثوري بدافع الإرادوية أو تحت ضغط الحدث. ما عدا ذلك يبقى باب المستقبل مفتوحا على المجهول.
يتضح الآن بشكل جلي مصير "الحركة الفبرايرية" التي حققت أقصى ما يمكن لها أن تنتجه من تأثير على كيفية صنع القرار السياسي وفي خلخلة الوضع القائم، مثلما استنفذت وظيفتها في التنفيس عن الغضب الشعبي وعن اختناق الحياة السياسية في البلاد، وبدأت تتلاشى تدريجيا. بعد الهجوم القوي الذي تعرضت له من طرف الأحزاب المندمجة في اللعبة السياسية، ثم تخلي المركزيات النقابية عنها، هاجرها تيار الإسلام الراديكالي الذي يتوفر على قاعدة شعبية لا يستهان بها. لم يعد يتشبث بها وهي على وشك الاحتضار سوى بعض الأحزاب الصغيرة وأجزاء ضئيلة من الحركة الحقوقية والثقافية. لم يبق أمامها من خيار حقيقي للاستمرار في الوجود والتأثير سوى التأقلم مع المستجدات التي ستتجاوزها بكل تأكيد، والذوبان فيها قدر الإمكان...
بشكل استباقي، بدأت من الآن فصاعدا النخبة المخزنية في تسخير الصحافة "المستقلة" مجددا من أجل تسويغ الخطاب السياسي الملائم لترتيبات المرحلة المقبلة. أسوة بما حدث إبان اشتعال الثورة في تونس، كلفت الصحافة الصفراء الجديدة، دفعة واحدة، بالهجوم على اليسار الراديكالي وبالترويج للموت المعلن للحركة الفبرايرية وبالتلميع لإنجاز الملكية البرلمانية. وفق هذا المنظور، دعت الشباب المنخرط في "حركة 20 فبراير" إلى الاستقالة والتخلي عن المطالب "العدمية" وعدم تجاوز "الخطوط الحمراء" والتأقلم مع المستجدات والانخراط في المؤسسات وتتبع إنجازات الحكومة في ظل التغيير الدستوري.
في غياب البديل الديمقراطي، واهم من يعتقد بأن المشكل قد طوي بتفعيل الدستور الجديد وولوج الإسلام السياسي إلى الحكومة. بل إنه حتى قبل تنصيب هذه الحكومة، منذ عرض الإصلاح الدستوري، كان واضحا أن النخبة المخزنية الجديدة سجنت نفسها ومعها النظام في مخنق، في دائرة ضيقة يصعب الخروج منها بسلام. وإذ تبدى لها الاعتقاد أنها استطاعت إجهاض تمرد محتمل بإطفاء نار الاحتجاج السلمي والقضاء على بؤره الأكثر قابلية للاضطرام، فإن جمره لن يخمد؛ بل قد يشتعل بضراء في أي لحظة، للدواع ذاتها التي أدت إلى اندلاعه وتحوله بسرعة إلى ثورة في المحيط المجاور: سحق الحرية ووطء الكرامة الإنسانية.
ما يدفع حقيقة إلى الحنق ويسبب الضغينة هو التمادي في "استبلاد" العقول والاستخفاف بالذاكرة الجماعية للمغاربة، بل بوعيهم؛ وغمس البلاد في متاهات لا حصر لها من المشاهد والتجارب السياسية الفاسدة والشاذة، في غيس المسكنات التي يتم استخراجها من مجاري التاريخ وفرضها كوصفات للتغيير المنشود. يكفي لتلمس درجة الاحتقان والغليان داخل النفوس الوقوف عند الكيفية التي يتعامل بها أولياء الأمر والحكام الخبراء مع الرأي العام الوطني ومع المجتمع بكامله، والتي تذل كبرياء الضمائر باحتقار وعي وذكاء الناس وقدراتهم على التذكر والتفكير. في سباق دائم مع الزمن المنفلت، يكتفي النظام بكسب الوقت، بالرهان الأبدي على الظرفية والمدى القصير، وتتناوب لهذا الغرض النخب الحاكمة على ملاحقة طرائد وهمية في لعبة سياسية فاقدة للمعنى. لا يهم الهوة الهائلة التي تفصل الخطاب عن الفعل. يكفي إغراق الرأي العام في ترسانة الوعود الكاذبة المتسلسلة، ودوامة البراهين الدورية لمغرب الحداثة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ورزمة الخطابات الفارغة حول استثناء الدين من السياسة. ليس من اللازم الاكتراث للبون الشاسع الذي يعزل هذه المواعيد المعسولة عن الإنجازات الهزيلة، وعن بؤس الواقع المعاش وحالة المجتمع الذي يعاني من تراكم المظالم وتعاظم الاستبداد واحتكار السلطة المادية والرمزية والروحانية. فبدون أدنى شعور بالخجل أو الملل، وبعناد صلب، يصر دعاة الأصالة والمعاصرة الجدد على تسويق نفس المقولات الركيكة والمهجورة لتبرير وجودهم ومحاولة حجب التسلط الجاثم على صدر المجتمع، في تحد سافر للمستقبل المثقل بالغيوم، وفي تجاهل تام لما يحدثه سلوكهم السيء من إثارة لشياطين الفتنة القابلة للتوقد. يستمر هذا النهج التبريري في الراهن، لكن هذه المرة بتواطىء مكشوف من لدن الإسلام السياسي الذي كان بالأمس القريب مستهدفا من طرف هؤلاء الدعاة الذين كانوا يصورونه بهتانا على أنه يمثل العدو اللدود للنظام. والحال أن التيار الإسلاموي لا يعدو أن يكون مجرد ورقة ضغط سياسية تقليدية، سبق توظيفها ضد رموز المعارضة اليسارية والفكر الحداثي -الماركسي بالتحديد. عند ما اندلعت الثورة في المحيط العربي، كان قلبها النابض يهتف بإسقاط نظام الاستبداد والفساد، وشرايينها تتعطش لتذوق الحرية وعزة النفس، على قاعدة احترام القيم الإنسانية الكونية. لم يكن دافعها ديني يستهدف إقامة الإمامة أو محاربة المارقين والكفرة، ولم يساهم في إشعال نيرانها الإسلام السياسي بمختلف تلوناته. بعد تردد كبير، التحق التيار الإسلاموي بالثورة لأنه في النهاية أدرك جيدا صلابة عزيمة الفاعلين الأساسيين فيها وتأكد من لامقلوبية مسيرتها، وعمل كل ما في وسعه لوضع سقف لها لكن دون جدوى. وإذ سمحت مواربات السياسة للتيارات الإسلاموية بولوج الحكم في كل من تونس ومصر، فقد جاء ذلك في سياق الثورة العارمة وليس ضمن صيرورة إصلاحية ترقيعية، ولن يهدأ بال الذين صنعوها دون بلوغها أهدافها. ثمة بالفعل خطر الاستيلاء على مكاسب الثورة وتحريف وجهتها، أي الركوب عليها بهدف الحفاظ على نظام الاستبداد عوض القطع معه، إلا أنه يستحيل السطو على ما حققته على أرض الواقع من وعي بالذات، ومن آثار عميقة في الوجدان. في صلب ما خلفته الثورة من أفعال حميدة تلك الهزهزة السياسية القوية التي أيقظت الرأي العام الوطني، ومن ورائها ذلك الشعور الجماعي الغريب بالقدرة على النصر وما يترتب عنه من ثقة بالنفس وبالمستقبل، جراء اقتلاع جذور الخوف وتذوق طيب العيش في الحرية.
من جهة أخرى، ما دام الإسلام السياسي قد تأقلم بسرعة مع أجواء الثورة، ولم يناهضها صراحة، فإنه من الطبيعي أن يجني الثمار في الوقت المحتوم الذي سوف يتم فيه الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، خاصة وأنه الأكثر تنظيما واستعدادا لذلك. فثمة دوما مسافة تفصل ما بين الكيف والكم، بين "الساكنة النشطة" التي تصنع مباشرة التاريخ، الثورة، والتي تمثل وتنوب عن القاعدة الشعبية العريضة -التي تدعمها إلى هذا الحد أو ذاك- دون أن تختزلها، وبين باقي أفراد المجتمع. لكنه لا مندوحة في المدى المنظور من الاصطفاف السياسي والاجتماعي والإيديولوجي كتتويج تاريخي لحدث الثورة. لن يغيب بالتأكيد الدين عن السياسة، لكنه لن يستطيع أبدا احتواءها؛ وسيضطر التيار الإسلاموي التعرف والكشف في النهاية على حجمه السياسي والتاريخي الحقيقي. يبقى الأهم أن طبيعة هذه الثورة الهادئة لا تسمح بالطعن في هويتها الديمقراطية، ولفظ أي من القوى السياسية التي اندمجت في صيروريتها، باستثناء مشروعية إقصاء بقايا العهد القديم.
في المقابل، ما يحصل في المغرب مع ولوج "حزب العدالة والتنمية" الأصولي إلى الحكومة لا يمت بصلة إلى المسار السياسي في تونس ومصر. هنا نحن بصدد حدث يرمي إلى التصدي إلى أي تمرد محتمل وتفادي انفجار غليان المجتمع عبر السبق في تنصيب حكومة يروج لها على أنها مماثلة لما تم التوصل إليه من نتيجة في النهاية عن طريق الثورة هناك. لأول نظرة، يبدو أن الدولة في المغرب سقطت في وحلة بتوريطها لحزب أصولي كانت تعتقد بأنه في مستطاعه أن يجر ورائه فئات عريضة من المجتمع وضبط تحركاتها، وبخاصة شل فعالية الإسلام الراديكالي. وراهنت في نفس الآن على أكبر حزب يساري للنهوض بمهمة تأطير الشرائح الاجتماعية المتضررة من الأوضاع القائمة ووضع سقف لمطالبها، وربما ضم شتات بعض مكونات اليسار.
ووقع ما لم يكن في الحسبان: الهجرة الجماعية للقوى السياسية من المواقع الاجتماعية المهمشة، التي قد تحبل بما لا تحمد عقباه...
في عالم اليوم، تستمد المعارك الكبرى من أجل الحرية والكرامة مادتها الحيوية وقيمتها الجوهرية من جزئيات التمرد ضد التسلطية والإقصاء والتهميش. وعند ما تتجمع قطرات السخط ويكبر سيلها، تنطلق عجلة التمرد دون أن يستطيع أحد إيقافها، ولن تنفع في شيء آنئذ العروض كيفما كانت نوعيتها أو طبيعتها، بعد فوات الأوان...
إجمالا، أثمرت "حركة 20 فبراير" بالفعل بعض المكاسب، أهمها إجبار الدولة بهذا القدر أو ذاك على الاعتراف بالأزمة السياسية والمؤسساتية الهيكلية، وأرغمتها على تغيير الدستور. مثلما كانت سببا في خلق مناصب شغل عديدة وتشغيل الشباب العاطل الحاصل على الشهادات العليا (السلك الثالث)، إلخ. في نفس السياق، ولو بكيفية غير مباشرة ولاإرادية، أنتجت ضحاياها المهزومين الذين دفعوا إلى التراجع إلى الوراء، واستثمرت أيضا لتمكين بعض النخب الانتفاعية من الاستفادة من الريع السياسي باحتلال مواقع إدارية، قبل أن ترجح في الأخير كفة "حزب العدالة والتنمية" لولوج الحكومة. والبقية سوف تكشف عنها الأيام القليلة القادمة.
يبدو في هذا الصدد من المفيد إعمال الاقتصاد السياسي لمقاربة معنى وأهمية الحركية الاجتماعية التي شهدها المغرب في علاقة مع فورة "الربيع العربي". وراء المبالغ الضخمة نسبيا التي صرفتها الدولة في مواجهة الحركة الاحتجاجية الجديدة -والتي يمكن قياسها عبر تحليل النفقات في ميزانية الدولة والحسابات الملحقة، ثم رصد وتقدير المصاريف المماثلة لدى باقي الهيئات الرسمية، ولدى عينة من كبريات المؤسسات العمومية والخاصة، وكذا المعونات الخارجية الاستثنائية، إلخ.-، يطرح السؤال المركزي المرتبط بالتمويل، بمصادره وكيفية حشده. منهجيا، يلزم تحديد حقل الأنشطة المستحدثة التي تدخل مباشرة في دائرة التدابير المتخذة للرد على موجة الاحتجاج، وتقييم تكلفتها الإجمالية بتفادي الازدواجية في الحساب. لا يقتصر فضاء البحث على تقدير التكلفة المتعلقة بتعزيز الأجهزة الأمنية ووسائل الاتصال والإعلام الرسمية والحملات الإشهارية والتظاهرات المضادة وغيرها من الأنشطة المماثلة، وتلك الناجمة عن وضع الدستور الجديد وعن الاستحقاقات الانتخابية والسياسية السابقة لأوانها، إلخ.، بل يشمل أيضا التكاليف المرتبطة بالإجراءات السياسية المتعددة التي اتخذتها الدولة استجابة لضغط الظرفية ولبعض من المطالب الاجتماعية، مثل التوظيف وخلق مناصب شغل وإنشاء أو تفعيل المجالس واللجن الاستشارية، إلخ. مما لا شك فيه أن قسط مهم من الموارد الإضافية المعبئة تم الحصول عليه عبر عدم صرف أو تحويل وجهة بعض فصول ومواد الميزانية العامة -عموديا وأفقيا-، والتضحية بقطاعات اجتماعية بعينها؛ وشطر آخر بفضل هبات مالية واردة من الخارج -وبخاصة من الدول الخليجية والبترولية... لكن، ثمة أيضا مبالغ كبيرة تم صرفها خارج الميزانية، يمكن رصدها عبر تحليل مفصل لميزان الأداءات والحسابات القومية؛ فضلا عن حجم الخسارة الإضافية الناجمة عن تهريب الأموال إلى الخارج.
تتناسل العديد من الأسئلة فيما يخص هذا الموضوع. فلماذا ظلت الدولة طيلة عقود من الزمن تصد الأبواب في وجه الشباب الحامل للشهادات العليا وتبدي ممانعة شرسة بشأن توظيفهم، قبل أن ترضخ فجأة لمطالبهم المشروعة؟ أين وكيف وجدت بسرعة السيولة المالية لمواجهة هذه المعضلة؟ وماذا عن نوعية السياسة العمومية التي ستنهج في المستقبل لإدماج خريجي الجامعات في سوق الشغل؟
يفتح هذا النوع من الاستفسار الباب على مصراعيه أمام البحث لكشف وقياس الدور التخريبي الذي تقوم به لوبيات الفساد الإداري والمالي والسياسي في البلاد. تتفنن الطبقة الكومبرادورية المسيطرة ونخبتها الإدارية في نهب خيرات بلد يفتقر إلى الموارد السهلة، في تبديد ميزانية دولة تعتمد أساسا على الضرائب غير المباشرة التي تثقل كاهل المواطن "المستهلك"، في تفقير فئات واسعة من مجتمع قابل للانفجار في أية لحظة أو مناسبة. وإذ يستمر اقتصاد الريع في تغذية دوراته بفضل توزيع عقار الدولة والامتيازات والرخص التي تمنحها، فإن مال الضرائب أضحى يشكل الرهان المحوري الذي تعول عليه "مافيا" الفساد لضخ دماء جديدة في شرايينها وتقوية شبكتها وتمتين نفوذها.
طالما لم يتم الحسم مع العتامة التي تكتنف تحديد المسؤوليات داخل جهاز الدولة، مع حالة عدم الفصل بين السلطات، وكل ما يستتبع ذلك من خلل في اشتغال النسق السياسي ومن نهج في تأمين الإفلات من العقاب وعدم المحاسبة، لا يمكن البتة القضاء على ظاهرة الفساد. يقود غياب الشرعوية ولفظ المأسسة إلى اضمحلال دولة القانون، وتعميق تشخص السلطة، وتفشي مظاهر عبادة الفرد. في ظل انعدام استقلالية القضاء، لا يجدي نفعا الحديث عن آليات المراقبة والمحاكمة العادلة، إلخ؛ ويصبح حينئذ من السهل التملص من المسؤولية والتهرب من دفع الحساب. بل إنه أضحى من المعتاد رؤية مسؤولين إداريين كبار خربوا المرافق العمومية والوزارات التي ظلوا يشرفون على تسييرها لمدة عقود من الزمن، يستفيدون من الترقية إلى مناصب عليا أو أعلى ومن التشريف، وبالتالي يتمكنون بلا عناء من الاختباء تحت معطف الدولة التي توفر لهم الحماية الكافية، دون أدنى شعور بالخوف من المساءلة.
في ارتباط وثيق بهذا الموضوع، تقتضي المسؤولية الاجتماعية طرح إشكالية تداخل السلطة السياسية بالسلطة الاقتصادية. لا يترتب عن هذا الأمر احتكار السلطة والانفراد بالقرار السياسي وحسب، بل أيضا وأساسا استغلال النفوذ من أجل إقصاء المنافسة وإخضاع السوق وقتل روح المبادرة، إلى حد التدخل في الشؤون الاجتماعية وفي الحياة السياسية ذاتها، ورمي الأبرياء في السجون...
ونأمل أن تتاح الفرصة لفتح نقاش عمومي واسع وجريء بشأن هذه الإشكالية الجوهرية، التي تحيل إلى علاقة السلطة بالمال في زمن الثورة الهادئة...
#أحمد_الحارثي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-الربيع العربي--: حالة المغرب
-
الربيع العربي
-
العالم الجديد بين طوبا الأمس وواقع اليوم: الصين-عالم
المزيد.....
-
الديمقراطيون لا يمتلكون الأجوبة للعمال
-
هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال
...
-
الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف
...
-
السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا
...
-
بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو
...
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء
...
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
المزيد.....
-
ثورة تشرين
/ مظاهر ريسان
-
كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها
/ تاج السر عثمان
-
غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا
...
/ علي أسعد وطفة
-
يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
/ محمد دوير
-
احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها
/ فارس كمال نظمي و مازن حاتم
-
أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة-
/ دلير زنكنة
-
ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت
...
/ سعيد العليمى
-
عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|