أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - الحركة الوطنية بقضّها وقضيضها لم تكن ناضجة















المزيد.....


الحركة الوطنية بقضّها وقضيضها لم تكن ناضجة


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 3686 - 2012 / 4 / 2 - 11:37
المحور: مقابلات و حوارات
    


حوار مع الأكاديمي والمفكر الدكتور عبد الحسين شعبان -5
أجراه: توفيق التميمي

قيادة الحزب
أستطيع القول من باب النقد الذاتي وليس افتئاتاً على أحد، أن الحركة الوطنية بقضّها وقضيضها لم تكن ناضجة في تلك الفترة، وعاشت مرحلة مراهقة سياسية، ولعل وعي الكثير من قياداتها كان متدنّياً، فضلاً عن التمترس والرغبة في كسب الشارع والحصول على المواقع في الجيش والسلطة والمؤسسات النقابية والمنظمات الاجتماعية، في وضع أشبه بالغليان، أوحركة سيرك بكل الاتجاهات.
لقد عشعش مرض الطفولة اليساري لدى غالبية أطراف الحركة الوطنية وأعني بذلك نهج التهميش والعزل والإقصاء والاستئصال، فالبعثيون والقوميون استقووا بالجمهورية العربية المتحدة وبالرئيس جمال عبد الناصر وببعض قادة الجيش وانضمّ إليهم بعض القوى المخلوعة والمتضررة من الثورة، وحاولوا المرّة تلو أخرى الانقضاض على الحكم الجديد، سواءً بحركة العقيد عبد الوهاب الشواف أو بمحاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد (رأس القرية) ببغداد وصولاً إلى انقلاب 8 شباط (فبراير) الدموي العام 1963.
والشيوعيون ومن حولهم استقووا بالشارع وأصبحوا ينظرون للآخرين من خلال مواقعهم بغرور أحياناً وبعسف أحياناً أخرى، لاسيما باختلال المعادلة بين قمة السلطة وقاعدتها، فعلى الرغم من تمثيل جميع القوى الوطنية بحكومة الجمهورية الأولى، الاّ أن الحزب الشيوعي أستُثني منها، وهو الأطول عمراً، والأكثر تضحية والأصلب عوداً في محاربة النظام الملكي، لكن حصته من مناصب ما بعد الثورة كانت محدودة في السلطة، وإلى حين استيزار د. نزيهة الدليمي بعد احتدام الصراع مع القوميين والبعثيين، لم يكن أحد يمثّله في الوزارة، بما فيهم ابراهيم كبة أو غيره في حين كان حسين جميل وهديب الحاج حمود يمثّلان الحزب الوطني الديمقراطي وقبل ذلك محمد حديد، وكان صدّيق شنشل يمثل حزب الاستقلال وكان فؤاد الركابي يمثل حزب البعث، أما الحزب الشيوعي فقد أستبعد في بداية الأمر، ثم ضمّ لاحقاً.
كما أن مواقف الحزب الشيوعي كانت متناقضة أحياناً، فبدلاً من يفكّر بالاستيلاء على السلطة، استولى على الشارع وحاول احتكار العمل السياسي والنقابي تحت شعارات "لا حرية لأعداء الشعب"، و"لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية"، الأمر الذي جعله في تناقض آخر بينه وبين السلطة، متجهاً نحو اليسار إزاء الشارع، ومتوجهاً نحو اليمين إزاء الموقف من السلطة، باستعارة توصيفات الستينيات.
أعتقد بقدر إخلاص قيادة الحزب الشيوعي للثورة وحرصها عليها، فإنها لم تكن على قدر من الوعي يؤهلها لرؤية متطلبات تطوير الثورة بالتعاون مع القوى الوطنية على برنامج حد أدنى، وعلى الرغم من اندفاعات القوى الأخرى وتكتّلها للإطاحة بحكم قاسم وفي فترة مبكرة زمنياً، لكن الممارسات السلبية للاستحواذ على الشارع وعزل الآخرين قادت إلى أحادية ومحاولة تزعّم، بعد انفضاض جبهة الاتحاد الوطني، التي كان يمكن تجديد برنامجها بما يستوجب لمرحلة ما بعد الثورة، لكن جميع القوى لم تكن مدركة وواعية لما أقدمت عليه.
ومرّة أخرى أقول: إنه بقدر إخلاص قيادة الحزب الشيوعي ولاسيما قيادة سلام عادل ونبله واستشهاده لاحقاً، فإن المرحلة السياسية وسياقها التاريخي، لم يؤهلاه ليتخذ مواقف أخرى، فذلك كان حدود مستوى التفكير السائد، فارتكب العديد من الأخطاء والممارسات السلبية وأعمال العنف والإرهاب، لاسيما ما حدث في الموصل وكركوك، وبقدر مسؤولية القوى الأخرى، كانت كبيرة جداً، الاّ أنه لا ينبغي التقليل من المسؤولية التي تقع على الحكم والجماعات القريبة منه، لاسيما الحزب الشيوعي، الذي كان عليه أن لا يلعب دور الشرطي لحكومة يمكنها أن تسائله على ارتكاباته حتى وإن سكتت عنها، ناهيكم عن أن الارتكاب مدان بالأساس ومرفوض لإعتبارات سياسية وإنسانية وأخلاقية، وتحت أية مبررات، وقد رويت في مطالعتي عن عامر عبدالله الكثير من الحوادث التي يمكن الرجوع اليها.
ولعل هذا الموقف تكرر لاحقاً حين حمل الحزب الشيوعي السلاح ضد الحركة الكردية في فترة احتدام الصراع الكردي – الحكومي وذلك عشية انهيار التحالف الكردي- البعثي في العام 1974، وعندما انتهت المهمة التي أنجزت لصالح حكومة البعث، عاد الحزب الشيوعي وسلّم أسلحته بكل "ممنونية" للسلطة، التي لم تدّخر وسعاً في ملاحقة الكرد تحت باب " الجيب العميل". وعلى درجة أدنى كان موقفنا سلبياً من حركة خان النص العام 1977، التي اندفعت فيها جماهير ساخطة في النجف وكربلاء ضد حكومة البعث، فوقفنا ضدها، بل طالبت جريدة الحزب الرسمية " طريق الشعب" المزيد من الحزم ضد المؤامرة الرجعية المشبوهة، وليس ذلك سوى تحريض لأعمال عنفية، كانت الحكومة لا تحتاج إلى من يحرّضها عليها، فدارت عجلة الإعدامات وشملت 8 مواطنين، وأنزلت عقوبات غليظة بحق عشرات واعتقل المئات بتهمة الانتماء إلى الحركة الاسلامية، وذلك في أجواء بوليسية مرعبة، عادت بالضرر علينا، فبعد الهجوم على ما سمّي " إنتفاضة صفر" بعدّة أشهر، بدأ الهجوم ضد الحزب الشيوعي دون أن نجد من يقف معنا، فقد كنّا آخر حليف، و"لآخر قطرة" لحزب البعث!
كانت قيادة الحزب الشيوعي قبيل الثورة قد تمرّست في النضال والتضحيات في ظروف العمل السري، وحققت إنجازات مهمة منها توحيد الحزب العام 1956 وقيادة انتفاضة العام ذاته تضامناً مع الشقيقة مصر ضد العدوان الثلاثي، ثم تشكيل جبهة الاتحاد الوطني التي كان للحزب دور فعّال فيها العام 1957، ثم الاتصال بمنظمة الضباط الأحرار، ومع قيادة الثورة تحديداً من قبل رشيد مطلك (الوسيط) بين الحزب وقاسم، وعقد اتفاق مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، بعد رفض أحزاب الجبهة قبوله عضواً فيها بسبب مواقف بعضهم من القضية الكردية.
لكن العمل العلني فاجأ قيادة الحزب، التي اعتادت على العمل السري، ولم يكن لديها خبرة في شؤون الدولة والادارة، ناهيكم عن الأعداد الغفيرة التي إنخرطت في صفوف الحزب، وأحدثت نوعاً من الإرباك لدى القيادة، التي تصرّفت بطريقة غير موحدة، وببرنامج غير موحد أيضاً، بل يمكن القول دون برنامج واضح ومحدد، وتقاذفتها اتجاهات شتى، فمن جهة هناك تيار أقرب إلى قاسم مثّله عامر عبدالله وما سمي "كتلة الاربعة" لاحقاً التي ضمت زكي خيري وبهاء الدين نوري ومحمد حسين أبو العيس، وتيار آخر بقيادة الأمين العام سلام عادل وجمال الحيدري عضو المكتب السياسي، الأمر الذي عطّل بعض قرارات اللجنة المركزية وأدخلها في صراعات جانبية كثيرة.
كان تشكيل قيادة الحزب ما بعد الثورة قد جاء من ثلاثة روافد مهمة: الأول من السجون، حيث ضمّت سجناء قضوا سنوات طويلة في السجن مثل زكي خيري وعزيز الحاج وعزيز محمد وآرا خاجادور وبهاء الدين نوري وصادق الفلاحي وآخرين، والثاني من المنفيين الذين عادوا إلى الوطن، مثل محمد حسين أبو العيس وعبد القادر اسماعيل وغيرهم، أما الثالث فمن المختفين عن الأنظار في أوكار حزبية، مثل سلام عادل وعامر عبدالله وناصر عبود وجمال الحيدري وآخرين، أي أن الجميع منقطع عن الحياة العامة، ولا علاقة له بتصريف شؤون الحكم أو الدولة، كما أن مستوى الثقافة كان متدنّياً إلى حدود كبيرة، ناهيكم عن نظرة ستالينية جامدة إلى الحياة والمجتمع والتقدّم، كلّ ذلك أفرز تشدّداً وتطرّفاً مثلماً كان لدى الأخرين، بل أن الجميع شعروا أن المعركة، هي معركة كسر عظم، وعليهم أن يتخلّصوا من الآخر قبل أن يتخلص منهم، أي أراد كل فريق أن يتغدّى بالفريق الأخر بدلاً من أن يتعشى به.
في هذه الأجواء لعب قاسم لعبته، فبعد تقريب الحزب الشيوعي واستثماره "ماشة نار" للقضاء على خصومه في الجيش، لاسيما عبد السلام عارف، خصوصاً بحشوده المليونية وجماهيره الغفيرة وشعاراته الرنانة،لكنه استشعر الخوف منه لثلاثة أسباب:
السبب الأول هو تظاهرة الأول من أيار (مايو) 1959 والمطالبة: "الحزب الشيوعي بالحكم" للضغط على قاسم لتمثيل الحزب الشيوعي، ثم تنكّر واستنكر الحزب وقيادته بعد اجتماع موسع للجنة المركزية هذه السياسة وشعاراتها.
والسبب الثاني ما حدث في الموصل من أعمال قمع وتنكيل أعقبت حركة الشواف واتّهم بها الحزب الشيوعي لاسيما "محكمة الدملماجة" الشهيرة حين تردد إسم "عبد الرحمن القصاب"، عضو اللجنة المحلية في الموصل الذي قيل أنه كان يستلم التعليمات من مهدي حميد وبإشراف من حمزة سلمان الجبوري (عضو اللجنة المركزية)الذي كان موفداً من المكتب السياسي لهذه المهمة والذي كان يحمل رسالة خطية من المكتب السياسي كتبها له جمال الحيدري، مفادها إنزال الضربات بالخصم بأقسى ما يمكن، وقد عرضها في اجتماع اللجنة المركزية عندما أريد محاسبته على التشدد وأعمال العنف، وقد ألقي القبض عليه لاحقاً في زمن قاسم وأرسل إلى سجن نقرة السلمان، ثم استدعي بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) حيث قتل تحت التعذيب مثلما قتل مهدي حميد أيضاً بنفس الطريقة.
أما بخصوص محكمة الدملماجة التي تم تشكيلها بعد فشل حركة الشواف (آذار/مارس/1959) فقد تم إعدام 17 شخصاً دون محاكمة، ووفقاً لقرار محكمة صورية سمّيت ثورية، وتم تنفيذ حكم الاعدام بهم على الفور، ناهيكم عن أعمال عنف واعتقالات وتعذيب، ثم إنقلب الأمر على الشيوعيين في الموصل وألحق بهم من الخسائر والاغتيالات الشيء الكثير، وقد يكون فاق ما لحق بالآخرين خلال حركة الشواف وتمرّده ضد حكم قاسم.
والسبب الثالث أحداث كركوك التي استفزّت عبد الكريم قاسم، فوصفها بالفوضوية في خطابه الشهير بكنيسة مار يوسف، ويومها قال قاسم أن تلك الأعمال تذكّر بأعمال هولاكو، ولعل اندفاع الحزب الشيوعي مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، في صراع مع التركمان، لم يكن له من مبرر، الأمر الذي يعزوه البعض إلى أن قيادة منظمة كركوك للحزب من الكرد، بما يضفي على الصراع بُعداً قومياً، لاسيما في ظل بعض المشكلات والحساسيات في الماضي، تلك التي أصبحت تعبيراتها اليوم مختلفة، وإن كان جزء منها يعود إلى الماضي.
وعلى الرغم من التبريرات التي قيلت عن التدخلات الخارجية ودور مشبوه لشركات النفط، لكن سقوط ضحايا والقيام بارتكابات ليست بمعزل عن مسؤولية القوى المتنفّذة، لاسيما القريبة من الحكومة، دون استبعاد أن بعض القوى الرجعية كانت جزءًا من المشكلة، لكن الأمر تجاوز ما حصل في تظاهرة 14 تموز (يوليو) العام 1959، الأمر الذي لم يتم التوقف عنده ونقده على نحو جريء، وقد ساهمت أحداث كركوك الدموية في سوء العلاقة بين قاسم وبين الحزب الشيوعي وإلى حدّ ما بينه وبين الحركة الكردية.
يومها شعر قاسم بالغرور والقوة أيضاً، وتنكّر لوعوده بإنهاء الفترة الانتقالية وإجراء انتخابات وسنّ دستور دائم، وقد أدرك بحسّه الاحترازي وخشيته الأمنية أن الحزب الشيوعي القوي يمكن أن يهدد مواقعه فحاول إضعافه بعد إضعاف حزب البعث قبله، فضلاً عن ضعف الحركة القومية العربية عموماً، واستدار لشق الحزب الوطني الديمقراطي، يوم خرج محمد حديد نائب رئيس الحزب واستقل بحزب جديد إسمه "الحزب الوطني التقدمي"، وعندها شعر كامل الجادرجي بأن الطريق إلى التغيير الحقيقي بات صعباً، فجمّد حزبه .
كما أجاز قاسم مجموعة صغيرة بإسم الحزب الشيوعي بقيادة داود الصائغ ومنحها ترخيص إصدار جريدة " المبدأ"، في حين أغلقت اتحاد الشعب صحيفة الحزب الشيوعي الرسمية بالتدريج، حيث جرى حرمان سكان بعض المناطق من توزيعها إلى أن تم حجبها عن الصدور، فتحوّلت إلى جريدة سرية باسم " طريق الشعب"، وفي واقع الأمر ظلّت الحركة السياسية تراوح في مكانها، فالحزب الديمقراطي الكردستاني تحوّل إلى العمل المسلح بثورة ايلول (سبتمبر) 1961 بعد أن تعرّضت مناطق بارزان إلى القصف والحزب الجمهوري الذي أسسه عبد الفتاح ابراهيم والجواهري، أصبح يافطة، والحركة الاسلامية، على الرغم من تقدّمها للحصول على ترخيص لتأسيس حزب بإسم " حزب التحرير" وهو واجهة للأخوان المسلمين، ظلّت شكلية، كما أن الحركة الاسلامية الممثلة في جماعة العلماء وحزب الدعوة وتيار المرجعية الشيعية الممثل بالسيد محسن الحكيم، كانت مجرد ارهاصات سياسية في المشهد القائم، قبل أن تتبلور كتيار محدد في الوضع السياسي، ولعل الاعلان عن ذلك تم بإصدار الحكيم فتواه الشهيرة في مطلع العام 1960 والتي حرّمت الانتماء إلى الحزب الشيوعي، معتبرة "الشيوعية كفر وإلحاد".
كان عبد الكريم قاسم بقدر وطنيته سياسياً فاشلاً، فقد اتّجه بالحكم نحو الفردية والارتجال وتدريجياً أصبح دكتاتوراً فردياً، وإذا كانت النزعة الثأرية، الانتقامية، الكيدية قد سادت بعد الثورة، لاسيما من خلال محاكمات المهداوي لأقطاب العهد الملكي، لكن قاسم وخصوصاً بعد الأحداث الدموية في الموصل وكركوك بدى أقل دموية، بل أصبح ميّالاً إلى التسامح " عفا الله عما سلف"، حيث أطلق سراح الرئيس عبد السلام عارف بعد الحكم عليه وأطلق سراح من شارك بمحاولة اغتياله وإطلاق الرصاص عليه في شارع الرشيد. لكن سياسته أدّت إلى تقسيم الحركة الوطنية ودفعت بها إلى التناحر بين أطرافها، وأظنّ أن الخطأ بل والخطيئة التي وقع بها هي إعدام الجنرالين ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري، وهما من قادة الثورة، وذلك بعد حركة الشواف في الموصل، علماً بأنهما لم يكونا مشاركين في محاولة التمرد تلك، وقد يكون ذلك الأمر هو الذي دفعه للتفكير بطريقة مختلفة، لاسيما إزاء العقوبات الغليظة .
وإذا كان قاسم عابراً للطائفية، لكنه لم يضع حداً للظاهرة، التي تضمنها قانون الجنسية رقم 42 لسنة 1924، وكان يُفترض تعديله أو سنّ قانون جديد يكرّس المواطنة المتساوية، ومنح من كان القانون يستثنيه الجنسية العراقية على نحو متكافئ، مثل الأكراد الفيلية وغيرهم، من الذين حُرموا منها وهم مولودون في العراق أباً عن جد، لكنه لم يفعل ذلك، على الرغم من أنه تصرّف على نحو بعيد عن الطائفية التي انحسرت تأثيراتها كثيراً، سواءً في الوظائف العامة، لاسيما الحساسة منها أو في الجيش، وهو أمر يُحتسب له.
وإذا كان قاسم حساساً إزاء أوضاع الفقراء وسعى إلى تمكينهم، ببناء بعض البيوت لهم، وحاول إعمار بغداد وإعادة هندستها، لكن البنية التحتية ظلّت قاصرة، حتى أن مدينة الثورة التي خطط لها لتضم نحو 60 ألف عائلة بنى لهم دوراً فيها بعض المستلزمات الأولية قياساً بمناطق السكن العشوائي التي كان يعيشون فيها، الاّ أنها افتقرت إلى بعض الأساسات الضرورية كدورات الصرف الصحي وغيرها، واتّسعت المدينة التي ضمّت مهاجرين من الريف، لاسيما من ريف الجنوب إلى بغداد، لتصل اليوم إلى أكثر من مليونين يعانون ما يعانيه سكان مدينة لا تتسع إلى أكثر من 60 ألف عائلة، في حين تجلس المدينة على بحيرة من النفط والذهب الأسود، كما يقول الجيولوجيون.
باختصار لم يكن لقاسم أي مشروع للتغيير الداخلي، لاسيما بعد منجزات الثورة في العام الأول، وخصوصاً الخروج من حلف بغداد ونظام الكتلة الاسترلينية وإبرام معاهدات واتفاقيات اقتصادية مع الدول الاشتراكية، وحتى القوانين والقرارات التي إتّخذها بشأن مسألة النفط وغيرها، ظلّت عائمة في ظلّ سياسة التفرّد بالحكم ومعاداة جميع القوى الوطنية، ناهيكم عن التخبّط بخصوص قضية مطالبته بالكويت أو موقفه من الحركة الكردية.
وأظنّ أن ما عاناه العراق من فترة حكم قاسم تركت انطباعاتها على العقود الخمسة ونيّف اللاحقة، حتى أن البعض ما يزال يفكّر ومن جميع الأطراف بعقلية العام 1959 وما بعده (لاحظ ما ينشر أحياناً)، لاسيما التناحر والانشقاق الذي حصل في صفوف الحركة الوطنية العراقية.
لم يكن عبد الكريم قاسم كعسكري وضمن سياق مرحلته التاريخية يؤمن بصندوق الاقتراع، ليس هو
فحسب، بل الغالبية الساحقة من القوى السياسية. ولربما الاستثناء في ذلك هو كامل الجادرجي والحزب الوطني الديمقراطي، وعبد الفتاح ابراهيم وعدد من الشخصيات الوطنية، وحتى الانتخابات التي فرضت على قاسم بعد الثورة في قطاعات الطلبة والمعلمين والمحامين والمهندسين والاقتصاديين ونقابات العمال وغيرها، فقد حاول تطويعها لمقتضيات السلطة والتلاعب بنتائجها والتدخل بشؤونها، وقد ضاق صدره في السنتين الأخيرتين إلى حدود كبيرة ولم يعد يثق بأحد وكان يشعر أن الجميع يتآمر عليه، مثلما كان واهماً بأن أية مؤامرة ستواجهه ستحبط، وبسبب ذلك استحكم يوم 8 شباط (فبراير) 1963 في وزارة الدفاع ورفض تسليم السلاح للشيوعيين الذي أرادوا الدفاع عنه، خوفاً منهم، واعتقاداً منه بأن المؤامرة ستحبط لا محال، لكنه عندما شعر في اليوم الثاني (9 شباط/فبراير) أنه ظلّ محاصراً في وزارة الدفاع، التي تم قصفها وافق على تسليم نفسه، محتفظاً برباطة جأشه وحاور من اعتقله بمن فيهم عبد السلام عارف وقبيل اعدامه بمنطق رصين ولغة سليمة وواثقة .
وكان قاسم يأمل أن يتم العفو عنه، لكن القيادة البعثية، ومن معها من الشخصيات العسكرية المجتمعة في دار الاذاعة في الصالحية ببغداد (مدنيين وعسكريين) قررت بعد محكمة صورية إعدامه، ولم يكن هناك من صوت واحد قد ارتفع أو حتى طلب التأجيل أو تقديمه إلى محكمة قانونية، وذلك ما أخبرني به عدد من الذين كانوا قد حضروا تلك اللحظات، وعندما سألهم الرئيس الأسبق أحمد حسن البكر عن رأيهم، كان الجميع قد قالوا رأيهم بإعدامه، وقد واجه عبد الكريم قاسم الموت بشجاعة ورفض أن يتم عصب عينيه.
اسباب السقوط
ومع نزاهة قاسم الشخصية ونظافة يده الاّ أن سياساته كانت تدميرية، وهو ما حصدناه في وقت لاحق بصعود حكومات دكتاتورية ونزاعات دموية، لدرجة أن صديقنا الكاتب والروائي الساخر شمران الياسري المشهور بإسم "أبو كاطع"، قال وهو يصف الحكم في السبعينيات وبين الجد والهزل، انه نوع من "الفاشية الريفية" أو "الفاشية البدوية"، لاسيما تشابك الحكم بالبزنس، سواءً بإسم القطاع العام أو بإسم الانفتاح لاحقاً، حيث هيمن على السلطة والاعلام والمال والتجارة الخارجية والداخلية، والاستيراد والتصدير والثقافة والرياضة والسياحة وكل شيء!! وليس غريباً أن تصنّف بعض التصرفات والسلوك التسلطي، باعتباره "فاشية دينية" على ذات طريق أبو كَاطع حين لا يجد تفسيراً ضمن المنطق الكلاسيكي، خصوصاً إستقواء جماعة بفرض حكمها وطريقة عيشها ومنهجها على الآخرين بإسم "الاسلام السياسي"، في سياق لا علاقة له بالدين الإسلامي وتعاليمه السمحاء ومثله السامية وقيمه الأصيلة.
يمكنني القول أن هناك أربعة أسباب أساسية أدّت إلى الإطاحة بنظام قاسم: السبب الأول مطالبته بضمّ الكويت في العام 1961، وهذه أشبه بحكاية مشؤومة دفع العراق ثمنها لاحقاً بمغامرة صدام حسين العام 1990 بغزو الكويت، الأمر الذي ساهم في تدمير العراق وفرض حصار دولي عليه دام 13 عاماً، ومن ثم احتلاله في العام 2003، وقد كانت مطالبة قاسم تعني فيما تعنيه اللعب لتغيير الجيولوليتيك في منطقة ستراتيجية وغنيّة بالنفط وجزء من مناطق نفوذ القوى الغربية، وهو أمر غير مسموح به، بل محرّم في إطار السياسة الدولية.
السبب الثاني إصداره قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959 الذي منح المرأة بعض حقوقها فيما يتعلق بالإرث وغيرها، فسخّرت الأوساط الدينية والتقليدية والرجعية كل قواها ضده وعملت للإطاحة به. وقد جرت محاولة خلال مجلس الحكم الانتقالي للإطاحة بالقانون الذي هو مجمد من الناحية العملية، وتم التصويت على إلغائه، لكن بريمر الحاكم المدني الأمريكي في العراق لم يصدّق على ذلك، وطلب إعادة مناقشته والتصويت عليه، فكانت النتيجة الإبقاء عليه. وقد استثمرت الجماعات القومية فتوى السيد محسن الحكيم "الشيوعية كفر وإلحاد" فحشدت القوى ضد نظام قاسم والشيوعيين، لاسيما في إطار غطاء ديني.
والسبب الثالث- إصدار القانون رقم 80 لعام 1961 بخصوص استعادة 99 % من الأراضي العراقية من شركات النفط الاحتكارية، بحجب "حقها" بالتصرف غير القانوني في التنقيب. وقد فتح هذا القرار معركة ضارية ضده وتآمراً لا حدود له على نظام قاسم من جانب القوى الاستعمارية، التي تلقّت ضربة أخرى عند تأميم النفط العام 1972، الأمر الذي جعلها لا تستكين ولا تستسلم حتى تم إلغاء نتائجه على الرغم من أن موارده ذهبت لمغامرات عسكرية وأجهزة أمنية وثم تبديدها بشكل لا عقلاني، وزاد الأمر عندما تعرضت بعد العام 2003 للسرقات وعمليات النهب والابتزاز.
والسبب الرابع حرب قاسم ضد الثورة الكردية التي بدأت في 11 أيلول (سبتمبر) 1961 بشروعه بقصف مناطق البارزانيين، الأمر الذي فتح معركة مع الأكراد، وقبلها بالطبع كانت معركته مع نظام عبد الناصر والقوميين والبعثيين، ناهيكم عن تدهور علاقته مع الحزب الشيوعي وملاحقة قياداته وكوادره.
كل ذلك مهّد للإطاحة بقاسم في 8 شباط (فبراير) العام 1963 ومعه أطيح بما تبقى من مكتسبات الثورة. جدير بالذكر أن عدم حل الحركة الكردية بشكل عادل ويلبي طموحات الكرد، كان أحد أسباب ضعف الدولة العراقية واختلالها منذ تأسيسها، وكان عامل هدر وإنهاك للأنظمة العراقية الملكية والجمهورية


جريدة الناس العراقية 1/4/2012



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماذا بعد الربيع العربي!
- قراءتنا للماركسية كانت أقرب إلى -المحفوظات-
- المساءلة: عدالة أم انتقام؟
- الماركسية تحررت واستعادت عافيتها بعد تخلّصها من البطريركية ( ...
- حلبجة: العين والمخرز! - شهادة عربية حول حلبجة والأنفال
- “إسرائيل” . . من حل الصراع إلى إدارته
- البارزاني في ذكرى رحيله الثالثة والثلاثين..الكاريزما الشخصية ...
- الأمن أولا والحرية أخيراً.. والعنف بينهما
- العدالة وإرث الماضي
- الجنادرية والروح الجامعة
- العدالة الانتقالية وخصوصيات المنطقة العربية
- العدالة الانتقالية: مقاربات عربية للتجربة الدولية!
- كلام في ثقافة التغيير!
- الهوِيّة الوطنية والربيع العربي
- الربيع العربي منظور إليه استشراقياً
- فريضة التسامح وجدلية القطيعة والتواصل!
- مصير الإمام موسى الصدر: متى خاتمة الأحزان؟
- التواصل والقطيعة في فريضة التسامح
- مقهى وروّاد ومدينة: ذاكرة المكان ونستولوجيا التاريخ!
- العنف واللاعنف في الربيع العربي


المزيد.....




- تحقيق CNN يكشف ما وجد داخل صواريخ روسية استهدفت أوكرانيا
- ثعبان سافر مئات الأميال يُفاجئ عمال متجر في هاواي.. شاهد ما ...
- الصحة اللبنانية تكشف عدد قتلى الغارات الإسرائيلية على وسط بي ...
- غارة إسرائيلية -ضخمة- وسط بيروت، ووسائل إعلام تشير إلى أن ال ...
- مصادر لبنانية: غارات إسرائيلية جديدة استهدفت وسط وجنوب بيروت ...
- بالفيديو.. الغارة الإسرائيلية على البسطة الفوقا خلفت حفرة بع ...
- مشاهد جديدة توثق الدمار الهائل الذي لحق بمنطقة البسطة الفوقا ...
- كندا.. مظاهرات حاشدة تزامنا مع انعقاد الدروة الـ70 للجمعية ا ...
- مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في ...
- مصر.. ضبط شبكة دولية للاختراق الإلكتروني والاحتيال


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - الحركة الوطنية بقضّها وقضيضها لم تكن ناضجة